الفصل الثامن والعشرون

حياة العمال في باريس

 باريس في ١٠ سبتمبر سنة ١٩٣٠

يفد الناس على باريس من جميع أقطار العالم فيعجبون لما فيها من القصور الشواهق، والميادين الفِيح، والبروج الشوامخ. ويزيد عجبهم كلما توغلوا في أرجائها فرأوا التماثيل العديدة التي تزخر بها الحدائق والمتاحف والميادين، ويقفون حيارى ذاهلين أمام السكك الحديدية التي تسير تحت الأرض ومن فوقها المنازل والشوارع ونهر السين. ويكاد يظن زوار باريس أنها هكذا خُلقت، وأن الباريسيين قوم أنعم الله عليهم بهذه المدينة العجيبة التي لم يُخلق مثلُها في البلاد، وكأنه لم يَشْق في بنائها ساعد ولم يعرق جبين.

والواقع أن من الباريسيين أنفسهم من لم يفكر لحظة واحدة في ماضي باريس وحاضر باريس، فالأجانب معذورون إذا فاتهم أن يتأملوا ما تكلفت هذه المدينة الخالدة من المصاعب والمشاق حتى صارت مضرب المثل في العظمة والجمال.

باريس هذه التي فتنت من فتنت، وأضلّت من أضلّت، وهدت من هدت، مدينة لشعب عظيم هو شعب العمال، وكلمة عامل التي تبدو متواضعة صغيرة هي السر كل السر في مجد باريس. وإذا كان في مصر والشرق من لا يقدر قيمة العامل فمرجع ذلك أن المصريين والشرقيين مضت عليهم أحقاب وهم يعيشون في ظلال ما ترك الآباء والأجداد. أما الباريسيون فهم يعلمون حق العلم أنهم بنوا مدينتهم بأيديهم، وأن باريس قبل قرنين اثنين لم تكن إلا مدينة صغيرة قذرة تزعج النفوس وتقذي العيون، ولولا نابليون الثالث ووزيره البارون هوسمان لما استطاعت باريس أن تستطيل على لندن وبرلين.

العمال في باريس شعب قائم بذاته، له وطنه وتقاليده ولغته وزيه وفلسفته وفهمه الخاص للحياة، والذين يعيشون في باريس عيشة سطحية خالية من التأمل والدرس والتفكير العميق يحسبون أن الباريسيين هم أصحاب المطاعم والقهوات، وطلبة المدارس والمعاهد والكليات، ويظنون أن اللغة التي يقرءون بها الكتب والجرائد والمجلات، ويسمعون بها الخطب والمحاضرات، ويتفاهمون بها في صالات الرقص ومسارح التمثيل، هي اللغة الفرنسية للشعب كله من جميع الطبقات، وذلك خطأ مبين.

إذا مشيت في باريس ولمحت رجلًا مجعد الوجه قذر الثياب وفي يده (بيبه) يتذوق أنفاسها، وعليه أمارات القلق والذهول، وقد أسند ظهره إلى الحائط ينتظر عودة زميله من الحانة حتى يستأنفا جهدهما الشاق الموصول، فأعلم أن هذا إنسان يشاركك في بعض معاني الحياة، ويخالفك في أشياء كثيرة جدًّا أقلها أن فضله عليك أعظم من فضلك عليه، وأنه أعرف بواجبه، وأحرص على درهمه، وأملك لحرفته، وأسلك في سبل الحياة من كثير من أدعياء اللباقة والكياسة والتدبير.

وإذا ركبت المترو يوم الأحد وجاورك شاب أنيق اللباس، حسن الهندام، مصقول الوجه والعارضين، يتموّج شعره فوق رأسه كأنه الجدائل الذهبية، وفي يده سيجارة يداعب أنفاسها من حين إلى حين، وإلى جانبه فتاة هيفاء، كحيلة الطرف، أسيلة الخد مشرقة الجبين، تميل عليه لحظة بعد لحظة فتكاد تحرقه بقبلاتها الملتهبة، والناس من حولهما ينظرون راضين معجبين، إذا رأيت ذلك الشاب الناعم المترف الجميل، فحذارِ أن تجزم بأنه تلميذ في مدرسة ثانوية أو طالب في مدرسة عالية، فقد يكون في أكثر الأحيان عاملًا صغيرًا جدًّا خلى ثياب العمل في ركن من أركان غرفته، ثم أخذ زينته ليوم الأحد، وخرج يتلمس أسباب الأنس والحظ في مدينة الجمال.

العمال هم الذين خلقوا باريس. ولكني أعيذك أيها القارئ أن تظن أن معنى ذلك أنهم نهضوا بمبانيها العظيمة، وشقوا طرقها الواسعة، لا غير، لا تحسب ذلك فأنا أريد أنهم خلقوا باريس في كل معانيها، فهي مدينة لهم في كل شيء، فالحرية السياسية التي يتمتع بها الشعب الفرنسي كله يرجع الفضل فيها إلى عمال باريس، فهم الذين أشعلوا جميع الثورات بلا استثناء، ولا نعرف في فرنسا ثورة صغيرة أو كبيرة لم يكن العمال هم الذين شبوا ضرامها وقدموا لها من أنفسهم وأموالهم وعزائمهم ما تتطلب من الوقود. وكانت باريس في جميع أدوار تاريخها السياسي مصدر النهضات القومية والدستورية، وكان عمال باريس عماد الحركات الثورية جميعها، وكان تأثيرهم يمتد فهيج لهياجهم ليون ومرسيليا وبوردو، من بين المدن والحواضر الفرنسية.

قلت إن العامل الفرنسي له وطنه وتقاليده ولغته وزيه وفلسفته وفهمه الخاص للحياة، وأنا أقدر أن من القراء في مصر من يدهش لذلك، والحقيقة أن العمال الباريسيين لهم أحياء بل مدن خاصة بهم في ضواحي باريس، ويندر من بينهم من يسكن المدينة بسبب الغلاء الفاحش الذي يهدد أكثرية السكان، ولهم تقاليدهم، ولهم لغة تكاد تكون مستقلة عن اللغة الفصيحة، والبون شاسع جدًّا بين لهجات العمال ولهجات الطلبة مثلًا، إلى حد أنهم قد لا يستطيعون التفاهم في بعض الأحيان. ونحن نظن في مصر أن اللغة العامية بعيدة من اللغة الفصيحة، فليفهم من يريد أن يفهم أن لغة الجماهير العاملة في فرنسا أبعد من لغة الطبقات المستنيرة بعدًا هائلًا لا يمكن أن يقارن بما بين اللغة الدارجة واللغة الفصيحة في مصر من الفروق. وفي مدن العمال الباريسيين أوساط غريبة يدهش المصريين أن يعرفوا أخبارها، فنحن في مصر لا نسمح لمن يحضر الروايات التمثيلية بأن يتدخل مع الممثلين، بل يغيظنا من يكرر «آه» أو «الله» ونعد ذلك من ضروب الفضول والانحطاط، ولكني حضرت في (بل فيل) إحدى مدن العمال رواية رأيت فيها المتفرجين يشاركون الممثلين في الغناء كلما مر بالمسرح ما يحمل الممثل على الغناء، ورأيت المتفرجين يستعيدون الممثلين بعض القطع الوجدانية، ويزيدون أحيانًا فيقولون للمثل أصبت أو أخطأت، حسبما يقتضي الذوق عند أولئك المتمدنين المتوحشين!

ومن جانب الحياة قد يرضى العامل الباريسي بما لا يرضى به العامل الصعيدي في مصر، فقد أخبرني أحد الأساتذة الكبار أن لديه بيانات وافية عن حياة العمال، من بعضها أنه قد يسكن الغرفة الواحدة اثنا عشر شخصًا، وهم مع ذلك في صحة جيدة، كما قال، ومنهم من يكتفي بأكلة واحدة لليله ونهاره، ومنهم من لا يعرف أين تكون الحمامات، ومنهم من لا يخلع الثوب حتى يبلى، وهم جميعًا مع هذا البؤس يذهبون إلى أعمالهم في الساعة السادسة صباحًا ويعودون في الثامنة مساء.

ولعل السر في أن العامل الباريسي لا تفنيه الأيام بسرعة مع هذه البأساء أنه من بين عمال العالم كثير الدعابة والمجون، إنه يسخر من كل شيء، ويستهين بكل شيء، وكأس واحدة كافية لأن تذهب بأشجانه وأحزانه وتسلمه إلى الجذل والمرح والجنون. ولا يكاد العمال الباريسيون يلتقون في مطعم أو حانة حتى يتبادلوا الطرف والنكت في هزل ساخر جذاب لا يبقي ولا يذر من أسباب اليأس والقنوط. ولو فقد العمال الباريسيون جنونهم لحظة واحدة لأفناهم التعقل والتأمل وقضى عليهم الإدراك. وما أحسب الجنون كان نعمة إلا في مثل هذه الأحوال، وعند أمثال هؤلاء الناس.

ورجال فرنسا اليوم يعرفون حال العامل الباريسي وبؤسه وشقاءه. ومن أجل هذا أكثروا من المكاتب والمتنزهات في أحياء العمال، وقد لوحظ أن العمال يقرءون بشره عظيم، ومنهم من يستعير من مكتبة الحي الذي يقيم به كتابين في كل يوم. ولوحظ أيضًا أن العمال يقبلون بنوع خاص على المؤلفات العظيمة المحترمة، وقد يكون حالهم أفضل من حال بعض الطلبة المصريين الذين لا يستعيرون من المكاتب العامة غير روايات الهزل والمجون.

وعمال باريس يمتازون بالصبر والجلد والارتياب من الناس، فقد يصعب أن يصل الباحث إلى شيء من مكنونات أنفسهم، ويقل فيهم من يعطي اسمه ولقبه حتى في بعض الشئون الرسمية. وسر ذلك أنهم يحقدون على الأغنياء وأرباب الأموال. وليس فيهم من يحب عمله إلا العامل الذي تبيح له طبيعة العمل أن يذكي مواهبه ويعطي شيئًا من نفسه، كالنجارة والحدادة وصنع الساعات. أما العامل الذي يقوم بنقل الأحمال والأثقال، وشق الطرق، ورصف الميادين، فهو في الأغلب رجل مبتئس متبرم بالحياة، يحمله الضجر على بغض ما تمسه يده، وتراه عينه، من مختلف الأشياء.

المخاطرة

إن داء المصريين والشرقيين أنهم لا ينتقلون إلا إذا كانت خطواتهم مضمونة النفع، مأمونة العواقب. مع أن المجد من نصيب المخاطرين.

وفي رأيي أن الرجل الذي يخاطر فيخفق خير من الرجل الذي يخاطر فينجح؛ لأن الإخفاق أدعى إلى تقويم الرجال وإرهاف العزائم من النجاح … والمال والكسب من الحظوظ الثانوية في ميادين النضال.

على أن الرجل المخاطر إن أخفق اليوم فسينجح غدًا. والعاقبة للصابرين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤