الفصل التاسع والعشرون

مرسيليا

 باريس في ٦ أكتوبر سنة ١٩٣٠

مرسيليا مدينة عظيمة من كبريات المدن التي شهدت فجر المدنية على البحر الأبيض المتوسط، ولا يعرف جلالها وعظمتها وكبرياءها غير القادم إليها من البحر؛ أما الذي يصل إليها عن طريق البر فلا يكاد يرى من جمالها إلا القليل.

يبحر المسافر من الإسكندرية فيقضي في البحر أربعة أيام أو خمسة أيام، تبعًا لاختلاف السفن البخارية في المقدرة على العبور، وفي تلك الأيام يكون المسافر قد عرف كل شيء من بأساء الحياة ولينها، فهي أيام معدودة ولكنها في طولها أعوام، ففيها بؤس ونعيم، وسعادة وشقاء. ولعل أغرب ما فيها — بعد قسوة الرياح والأعاصير وما ينتاب المسافرين من مرض البحر المزعج الثقيل الذي أعياء الأطباء — لعل أغرب ما فيها حوادث الحب والوجد والاشتياق، وكم لُمت شوقي على أن قال:

نظرةٌ فابتسامة فسلام
فكلام فموعد فلقاء

لمته على هذا البيت؛ لأنه جعل حوادث الحب أشبه بالمناظر السينمائية، تتجمع وتتفرق في سرعة البرق، مع أن الحب كسائر الأمراض له أدوار مختلفة يعالجها المصاب رويدًا رويدًا إلى أن يعز الشفاء، فلما عرفت البحر واصطدمت بأيامه ولياليه فهمت لأول مرة سنة ١٩٢٧ أن الحب قد يستكمل طفولته وحداثته وشبابه في أربعة أيام، وأن اللحظة الواحدة قد تقدر بأعوام، وأن يومًا في البحر كألف سنة على البر عند من شهدوا الحياتين وعرفوا ما بينهما من شتى الفروق.

البحر مهما طابت أيامه وصفت لياليه سجن موحش يرهق المسافرين بما فيه من مظاهر التكلف والتوقر في بيئة مرغمة على مراعاة طائفة كبيرة من مختلف التقاليد، والبواخر سجون متحركة تطفو على وجه الماء، والمسافر يعد اللحظات ويسأل نفسه بعد كل غداة وكل عشي: متى أصل؟ متى أصل؟ فسفره هو الليل، ووصوله هو الصباح، وقلقه أشد من قلق حندج المري حين قال:

متى أرى الصبح قد لاحت مخايلهُ
والليل قد مزقت عنه السرابيلُ

والقطع المتناثرة من الجزائر التي تصادفه في الطريق لا تذهب وحشته إلا قليلًا، ثم تغيب وكأنها لمعات البرق في الليلة الظلماء، ولا يكاد يقترب المسافر من مرسيليا حتى يبعث روحه وتغازله الحياة من جديد، وفرح المسافر بمرسيليا يشبه فرح كريستوف كولومب حين وقعت عينه بعد اليأس على شواطئ أمريكا فصاح صيحة الجنون: أرض! أرض!

إي والله! هذه مرسيليا! وهذا شاتوديف! وهذه نوتردام دي لاجارد!

ويتجمع المسافرون، وقد خرجوا من أبراجهم وأقفاصهم، فلا يزالون ينهبون بأعينهم وأنفسهم أعلام مرسيليا نحو ساعتين كاملتين وهم في هرج ومرج يستعدون لمصافحة الشاطئ الأمين. وفي تلك اللحظة المرحة يتلفت الرفيق إلى رفيقه، ويتلفت الفتى إلى الفتاة التي بددت من نفسه ظلمات الوحشة في سجن البحر، فيتبادلون التحيات ويقيدون العناوين ويتساءلون متى يكون التلاقي إذا فرقهم الميناء. كل هذا يجري تجاه مرسيليا التي لا يعلم إلا الله كم استقبلت من ضيف، وكم هدت من حائر، وكم آوت من شريد. ولو نطق الجماد لصاحت تلك الصخور: ادخلوها بسلام آمنين!

•••

لا يعرف أحد متى أنشئت مرسيليا فهي مدينة قديمة جدًّا غابت أيامها الأولى في ظلمات التاريخ. وإنما يعرف المؤرخون أن الفينيقيين كانوا قد احتلوها منذ نحو خمسة وعشرين قرنًا. والفينيقيون قوم أسيويون كانوا إنجليز زمانهم، جابوا القفار، وخاضوا البحار وأنشئوا ما أنشئوا من المدن في الشرق والغرب، وكان لهم في العالم القديم سلطان عظيم. ثم احتلها اليونان بعد ذلك وسادوا فيها نحو ستة قرون، وكانت اللغة اليونانية لغة المرسيليين مدة طويلة، وكانت عادات اليونان وتقاليدهم وثقافتهم هي السائدة هناك.

وقد اهتم الباحثون طويلًا بمعرفة ما بقي من آثار الفينيقيين واليونان في تلك المدينة، ولكنهم لم يعثروا على شيء يستحق الذكر. ذلك بأن الفينيقيين كانوا يهتمون أولًا وقبل كل شيء بالتجارة؛ فلهذا لم يعرف لهم في تلك المدينة آثار باقية كالآثار التي تتركها الأمم فيما احتلت من البلاد. أما اليونان فأمرهم أعجب لأنهم لم يتركوا في مرسيليا أثرًا واحدًا من الآثار العجيبة التي عُرفت بهم وعرفوا بها منذ أجيال، غير أن الآثار المادية ليست شيئًا بجانب ما تركوا فيها من الآثار الأدبية، وإليك بعض البيان:

لا تزال مرسيليا إلى اليوم محتلة احتلالًا اجتماعيًّا بطوائف كثيرة من الجالية اليونانية، فالحلاقون مثلًا في مرسيليا كلهم من اليونان، والصيادون كذلك يونان، وأكثر البحارة من اليونان، ولهجة المارسيليين الذين يحترفون المهن البحرية كالصيد والنقل وعمل السفن تحتوي على كلمات كثيرة ترجع في أصولها مباشرة إلى اللغة اليونانية. والأدلاء الذين يهدون المسافرين كلهم يونان، واللاهون الذين يعينون على بعض حوادث الليل أكثرهم يونان، وأصحاب الحانات والقهوات الصغيرة والعظيمة يرجعون إلى أصول يونانية. وعلى الجملة أهل مرسيليا في عاداتهم وتقاليدهم الاجتماعية مصبوغون بصيغة يونانية في الغالب. ويرجح الباحثون أن ميل المرسيليين إلى اللهو واللعب والاستهتار والإباحة يرجع في الأصل إلى أنهم ورثوا عن اليونان عبادة اللذات وتقديس الشهوات وتفدية الجمال.

وقد ورث المرسيليون عن اليونان حب المبالغة والمغالاة بنوع خاص. وما كتبه الفرنسيون عن مرسيليا مملوء بالنكت المستطرفة عن مبالغة المرسيليين، وإلى القارئ هذا الشاهد الطريف:

وقف مرسيلي على الشاطئ يتصيد الأسماك، ولكن صنارته كانت تجلب إليه أسماكًا صغيرة جدًّا كأطراف الأصابع، وكان بجانبه مرسيلي آخر يشهد ما يصيد، فقال له: إن هذه الأسماك ضئيلة وصيدها لا يشعر الصائد بأية لذة.

الصائد : كيف تقول إنها ضئيلة، وأنت لو اصطدت مثلها لحسبت نفسك من أسعد الناس.
المتفرج : أنا؟ أنا أصطاد هذه الحقائر؟ هيهات! ماذا تظن؟
الصائد : أنت تصطاد أكبر من هذه؟ ماذا تصطاد إذن؟
المتفرج : أنا اصطاد أسماكًا كبيرة جدًّا، أنا اصطاد الحوت.
الصائد : الحوت! الحوت! وأي شيء هذا الحوت عندي؟ إنني أتخذ الحوت أحيانًا «طعمًا». هل فهمت؟

مرسيليا أعظم مدينة فرنسية بعد باريس، ومع هذا يكاد الفرنسيون يعدونها أجنبية عنهم، ويتنادرون فيما بينهم بذلك، إذ يقول أحدهم لصاحبه: أنت فرنسي أم مرسيلي! وإذا أراد بعضهم أن يحقر أحد مواطنيه قال: ماذا تنتظر من رجل نشأ في مرسيليا! لأن مرسيليا عندهم مجموعة أوشاب من سائر الأجناس.

واهتمام المرسيليين بالفنون قليل جدًّا، مع أن المدن الفرنسية من أغنى المدن في هذا الباب، وليس فيها فيما سمعت حانوت واحد لبيع العاديات، فهي مدينة اليوم الحاضر والساعة الراهنة، ولا يهمها الماضي في شيء.

وأهل مرسيليا كسالى قانعون، والفرنسيون يعللون ذلك بقربها من الشرق، لأن الشرق عندهم مهد البطالة والفراغ!

والفرنسيون يحدون أهل مرسيليا على شيء واحد هو طعام (البويابيس) وقد أكلت منه مرة، والحمد لله! وهو طعام خاص يصنع من مختلف الأسماك، وله شهرة عظيمة جدًّا تجلب إليه أصحاب الأذواق، والمرسيليون يضنون أشد الضن بالبوح بأسرار هذا الطعام، ولا يساويه في الشهرة إلا طعام «الكاسوليه» الذي انفرد به أهل تولوز.

حدثنا مرة أحد الأساتذة الفرنسيين عن طعام البويابيس فقال: «إن الإدام الذي يسري فيه يشبه خيوط نور القمر! — وما أشهى هذا التشبيه البديع! — وإن الإنسان إذا أكل البويابيس وخرج وقع أسير الحب لأول امرأة تصادفه في الطريق!»

وهذا صحيح من بعض الوجوه، فإنني أذكر أنني وجدت طعام البويابيس في نهاية اللطف، وليس من المستغرب أن يشبَّه إدامه بخيوط نور القمر. ولكني مع ذلك أذكر أني أكلته ثم تركت مرسيليا خلي القلب، إلا من ذكراه!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤