الفصل الثاني والثلاثون

انتحار شاعر مصري

في سنة ١٩٢٦ تقدم إليَّ أحد طلبة كلية الآداب بالجامعة المصرية وقال: أتسمح أن أتعرف إليك؟ قلت: مع السرور. قال أنا أحمد العاصي، كنت طالبًا بكلية الطب، ثم هجرتها، لأن أعصابي أضعف من أن تحتمل مناظر التشريح وحدتني آمالي على الانتساب لكلية الآداب، راجيًا أن يكون في الأدب والفلسفة جوٌّ أهدأ وأدعى لراحة الأعصاب … فابتسمت وقلت: لشدّ ما خدعت نفسك بهذا التغيير والانتقال من قيد إلى قيد! لأننا في كلية الآداب نعالج نفس الطريقة التي يعالجها الأساتذة في كلية الطب، وهم يسمون عملهم التشريح ونحن نسميه التحليل، والفرق بيننا وبينهم أنهم يشرّحون الأجسام ونحن نشرح الأعراض، هم يشرحون أجسامًا فانية، ونحن نشرح أعراضًا غالية، كان ينبغي لها الصون التام في ظلال الخلود. وليس شق الجسم الميت الذي يحوله قصر العيني إلى مشرحة كلية الطب بأقسى وأفظع من اهتمام أساتذة كلية الآداب بإثبات أن أبا نواس كان سيئ الأخلاق، وأن البحتري كان قذر الثياب، وأن المعري كان من الملحدين، وأن المتنبي كان صعلوكًا يتصيد المال وهو يدعي سمو الملوك، إلى آخر ما توجبه الدراسات الأدبية من هذا الهذر الممقوت. وأنت لو مضيت في دراسة الطب لصرت مع الزمن طبيبًا يخدم الإنسانية ولكنك حين تمضي في دراسة الأدب تصبح مع الزمن أديبًا والعياذ بالله! ورجال الأدب قوم يعيشون في ظلمات بعضها فوق بعض، ولا ينجح من بينهم إلا من يحسن القيل والقال، وجوهم في الأغلب جو فتن ودسائس ونذالات يندى لها الجبين، والبارز فيهم هو الرجل الوقح الذي يعرف كيف يخلق الأكاذيب للنكاية بزملائه الأبرياء.

وهنا ازداد الشاب صفرة إلى صفرته التي كانت تغشِّي وجهه بما يشبه صفرة الموت، وقال: أنا لا أنتظر منك أن تحملني على الرجوع مرة ثانية إلى مناظر الدماء في كلية الطب.

فأجبت: خير! امض في دراسة الأدب وأنا سعيد بأن أراك بين طلبة كلية الآداب.

•••

كان أحمد العاصي هذا شابًّا قصيرًا يبدو كأنه بدين وليس بذاك. وكان صوته خافتًا أشد الخفوت يكلمك وكأنه يناجيك، وكانت عيناه مثقلة بالتعب والخمود، وكان يحضر الدروس بقلب غائب وفكر عازب، ولا هم له إلا قرض الشعر فيما يمر بخاطره من مختلف الشئون. وكنت أمازحه أحيانًا حين أراه مكبًّا على كراسه يدوّن فيه غير ما يسمع أثناء الدرس. فكان يتكلف الرضا بالمزاح، ثم تأتيني الأخبار بعد ذلك بأنه بكى بعد انصرافه حتى رحمه زملاؤه الطلبة وصاحبوه رفقًا به طول الطريق. فعرفت منذ ذاك أنه مريض، وأن من الخير لا أن يلام على تفريط أو إهمال.

وفي نهاية العام الأول من دراسته بكلية الآداب قدم إليَّ رواية ألفها ونشرها، اسمها غادة لبنان، ولست أدري ما الذي أودعه تلك الرواية، لأنني شغلت عن تصفحها، وفي العام الثاني أعد مجموعة طيبة من شعره وقدمها إلى الشاعر شوقي بك، فلما قرأها شوقي أعجب بها وشجعه على نشرها وأهداه أبياتًا قدم بها ديوانه إلى القراء.

إن أبيات شوقي التي قدم بها (ديوان العاصي) إلى الجمهور تنطق بما كان ينتظر من مصير ذلك الشاعر المسكين، فقد ارتاع شوقي لإدمان ذلك الشاب على نظم الشعر في التبرم بالحياة وما فيها من دواعي الضجر والهم والقنوط، وقد ضاعت تلك الأبيات من ذاكرتي، وليس يحضرني منها إلا هذا البيت:

ولتعلمن إذا السنون تطاولت
أن التشكي كان قبل أوانه

وقد مضى الفتى في دراسته وهو في نظر زملائه وأساتذته شاعر حتى ظفر بإجازة الليسانس في الآداب، ثم عين في مكتبة الجامعة المصرية، ولقيته في الأيام الأخيرة فحسبته شفي من مرضه، إلى أن وصلني العدد الأخير من جريدة الصباح فعرفت أنه انتحر وأنه لم ينتظر أوان التشكي الذي أشار إليه شوقي، فرحمة الله على ذلك الجسد الذي لم يستطع مطاولة الأيام!

لا أحسب أن الجرائد المصرية تلفتت إلى وفاة هذا الشاب، وجريدة الصباح نشرت خبر وفاته منقولًا فيما أظن عن محاضر البوليس، وقد نشرت الخبر لأن فيه جوانب طريفة تشوق بعض القراء، وخلاصة الخبر أن أحمد العاصي الموظف بمكتبة الجامعة المصرية كان يقيم في المنزل رقم ١٢ بشارع سعفان بالعباسية مع خادمة له، وكان لا يسليه في وحدته غير كتابه أو قلمه، وأن أحاديثه مع خادمته القروية كانت تدل على أنه ينظر إلى الحياة نظرة غير طبيعية، إذ كان يجري بينهم مثل هذا الحديث:

– أنت أسعد مني يا فاطمة في هذه الحياة!

– وليه بقى يا سيدي؟

– لأن لك أهلًا يحوطونك بالرعاية، أما أنا فلا أهل لي!

– بعيد الشر يا سيدي، وأهلك جرى فيهم إيه؟

– أنا خلقت من غير أهل، وفي رأيي أن الموت هو أشهى ثمرة يقتطفها كل راغب في السعادة!

وقد انتحر أحمد العاصي إذ سكب على جسمه كمية كبيرة من مادة كاوية نفذت إلى ثنايا قلبه. وقد وجد رجال البوليس بجانب مقعده رسالة مغلفة عنوانها «إلى من يهمهم أمري»، فلما فتحت وجدت مكتوبة باللغة الإنجليزية وفيها هذه العبارات:

جبان من يكره الموت! جبان من لا يرحب بهذا الملاك الطاهر! إنني أستعذب الموت الذي هو كالرائحة الذكية عندي.

ثم وضع اسمه كاملًا وذيله بكلمة (ليسانسيه في الآداب)

•••

لا أدري كيف بدا لي أن أتأمل الصفحة التي نشر فيها هذا الخبر من جريدة الصباح فقد رأيت بجانبه في الصفحة نفسها إعلانًا عنوانه (افتتاح موسم الموسيقى والطرب)، وإعلانًا آخر عنوانه (هل تريد جسمًا جميلًا؟) وكذلك تشابهت أمامي مناظر الحياة، سعادة يجاورها شقاء وبؤس يجاوره نعيم. والدنيا حلم قصير تزعجه يقظة الموت.

كنت أمازح أحمد العاصي فأقول: اسمع يا عاصي! فيجيب: أنا العاصي للشيطان. ولعله لذلك أطاع الموت لأنه سماه الملاك الطاهر، ولو ظنه شيطانًا لعصاه.

لست ممن يظنون أن المنتحرين يبوءون بغضب ربهم، لأنهم في الواقع ضعفاء خانهم الصبر، وأفناهم اليأس، ولم تبق فيهم بقية من الجلد يفهمون بها ما يجب أن يتحلى به الرجل الشجاع. وفي انتحار هذا الذي شكا أنه لا أهل له فرصة للتأمل في قيمة الحقائق المعنوية، فذلك شاب موظف مستقر ما كان ينقصه الرزق، ولكنه كان شديد الفقر إلى العطف والحنان، ولو كان بجانبه أب يواسيه أو أم تحنو عليه، أو زوجة تصاحبه، لطاب له العيش، وابتسمت في وجهه الحياة. ونحن في الواقع نعيش أسرى عافيتنا وأعصابنا، وليس بين الشقي والسعيد إلا متانة الجسم وقوة الأعصاب، والروح وحده لا يكفي لسعادة الإنسان، وإنما المرء جسم وروح. ولعل السر في تقدم الإنجليز أنهم يؤثرون الألعاب الرياضية على العلوم النظرية، أما نحن فنفكر أولًا في حشو الدماغ بأنواع المعارف والعلوم ونرى في تمرين الجسم وتجديده وتنشيطه علامة من علائم النزق والطيش، والميل إلى البطالة والفراغ. وقد يكون اهتمامنا بالجسم نوعًا من المحاكاة والتقليد، لا أثرًا للاقتناع بما له من المزايا في تكوين الشعوب.

لا يزال يتمثل أمامي أحمد العاصي يوم رأيته لأول مرة في أوائل سنة ١٩٢٦ ويوم رأيته لآخر مرة في أوائل الربيع الماضي، فإليه في عالم الأرواح أهدي هذه الكلمة، وما كان ينتظرها مني، ولكن الحر من راعى وداد لحظة، فكيف وقد كان رحمه الله من تلامذتي الأبرار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤