الفصل السابع والثلاثون

اختيال الطاووس

خواطر عن عالم الطير وعالم الحيوان

أول إبريل سنة ١٩٣١

ليس لدي ما يمنع من الاعتراف بأني لم أر الطاووس وهو ينشر جناحيه زهوًا واختيالًا إلا منذ يومين. وللقراء أن يسألوا أنفسهم متى رأوا مثل هذا المنظر الأخاذ بالأبصار والقلوب، فقد يكون فيهم ألوف لم يشهدوا الطاووس وهو يزهو ويختال.

ولقد أحيا في نفسي ذلك المشهد حسرة قديمة طالما غزتني بصنوف الآلام لتقصيري في دراسة الطير والحيوان. ثم سكنت قليلًا حين تذكرت أنني لم تفتني دراسة الحيوان جملة واحدة، فقد اهتممت كثيرًا بدراسة الحيوان الناطق الذي اسمه إنسان! وإني لأعلم عن ذلك الحيوان الذي يمشي على أربع وهو طفل، وعلى اثنتين وهو شاب، وعلى ثلاث وهو كهل، ما يندر أن يعرفه باحث سواي. فقد عرفت من أشتات الأصحاب والألّاف والزملاء والجيران والمنافسين والحاقدين والخصوم والأعداء ما يكفي في مادته لوضع كتاب في خمسين مجلدًا أو يزيد.

على أن الأدب الذي شُغلت بدرسه وقضيت فيه أنفس أعوام شبابي ليس شيئًا آخر غير دراسة أوهام الحيوان الناطق وأحلامه وتصوراته، وكيف يحب وكيف يحقد، وكيف يخطئ وكيف يصيب. وقد ابتلاني الله بطوائف كثيرة من الدساسين والكائدين واللئام فكانت فرصة عظيمة لفهم غرائز هذا الحيوان وطبائعه ونحائزه وميوله وأطماعه. ويظهر أن الله جلت قدرته قد شاء أن أكون على شيء من العلم بطبائع النوع الناطق من الحيوان، فأنا أستطيع أن أقرأ خواطر الناس في وجوههم وعيونهم، وأستطيع أن أفهم ما يضمرونه حتى عن أنفسهم، وما يدسونه بين السطور وفي ثنايا الحروف. وإني لأجد في درس بني آدم لذة لا تعدلها لذة، لأنهم قد يكونون أرقى أنواع الحيوان، فإن لم يكونوا أرقى فهم على الأقل يحسنون النفاق، والنفاق دليل الانحطاط ولكنه في الوقت نفسه دليل الذكاء.

وأي لذة أطيب وأشهى من أن ينافقنا إنسان وهو يحسب أنه أتقن دور الخداع، ثم ينصرف في اختيال الظافر في حين أننا فهمناه، وعرفنا ما كان من أمره وما سيكون!

على أنه ما الذي يفتننا ونحن ندرس الطير والحيوان؟

أليس مرجع تلك الفتنة العلمية ما نجده من الشمائل الإنسانية في عالم الطير وعالم الحيوان؟

ما الذي يروقنا من البلبل؟

إنه لا يروقنا منه إلا مظهر واحد هو قدرته على التلوين والتنويع في أغاريده بحيث يمكن أن يقال إنه فنان. فهو لا يسجع اتفاقًا وعلى وتيرة واحدة كما هو شأن الطير المغرد، ولكنه يفتنّ افتنانًا شائقًا ويتنقل من لحن إلى لحن، ومن صوت إلى صوت، وهو في ذلك كله يملك من أمره ما يملك الإنسان ذو الصوت الحنون.

وهناك حيوانات يفتننا درسها أشد الفتنة، وهي الحيوانات الماكرة الخبيثة التي تذكر بإخواننا بني آدم، عفا الله عنهم! فهل رأيتم الدبّ يا حضرات القراء؟

أما أنا فقد تشرفت بمقابلته اليوم وأنا أستعد لكتابة هذا المقال، وأغرب ما راقني منه أنه يبسط كفه من بين قضبان الحديد يلتمس بر الزائرين الذين عودوه قطع السكر والخبز والفطير، وتظهر على وجهه أمارات القلق والحيرة والعتب كلما أخلفه الناس ما عودوه. وقد انتظر طويلا في صباح هذا اليوم عطف المتفرجين ولكنه لم يفز بطائل، فمضى إلى الحوض يستحم! وهنا أحدثكم أنه كان يضع رأسه تحت صنابير الماء ثم يمد يديه فيمسح شعره ووجهه وأنفه بطريقة إنسانية محضة كادت تحملني على الاقتناع بأنه آدمي ممسوخ!

وقد تحدثت مع صديق لي عن هذا الدب الألوف الذي يخطب وداد الناس فقال: ألوف؟ احذر أن تتوهم ذلك؛ فقد قتل اثنين من الجنود في العام الفارط. فقلت: كيف؟ فأجاب: سقط من أحدهما شيء في هذه الحفيرة، ونزل يلتمسه فهجم عليه الدب وافترسه، ونزل رفيقه لإنقاذه ولكنه لم يسلم من مخالبه. وكانت لحظة فكرت فيها في هذا الدب الخائن الذي يبسط كفيه في ذلة يلتمس الطعام من أيدي الآدميين، حتى إذا كانوا عنده جزاهم شر الجزاء! أليست هذه شمائل إنسانية؟ قولوا الحق أيها القراء. فكم ناس وفينا لهم وفديناهم بأنفسنا سرًّا وعلانية، ثم كان مثلهم معنا مثل الدب مع الجندي المنكود!

وقد شغل العلماء أنفسهم بدرس القرابة بين الإنسان والقرد، ومثل هذا الدرس جدير بأن يقدم للباحث أمتع اللذات، ففي الحق أن القرد يملك كثيرًا من الشمائل والغرائز الإنسانية، وتكوين وجهه وحاجبيه وعينيه مما يقوي الشبهة في أن الإنسان قرد تطور إلى الرقي، أو أن القرد إنسان تطور إلى الانحطاط.

وإني لأذكر أن أحد الأصدقاء من أساتذة كلية العلوم في باريس حدثني مرة أنه لاحظ في إحدى سياحاته بالأصقاع الأفريقية أن طائفة من القرود تنتظر شروق الشمس بما يشبه صلاة الصبح عند الإنسان، وذلك أنها تقف وأيديها مرفوعة إلى السماء بما يشبه القنوت

أذكر هذا، وأذكر بجانبه أننا لا نعرف أشياء كثيرة عن الصلة بين القرد والإنسان، ولكننا لا نستطيع أن ننكر أن اهتمامنا بدراسة القرود مرجعه إلى ما ندهش له من شمائلها الإنسانية، وخاصة حين تتناول الطعام والشراب

وهناك عالم الطير، ذلك العالم العجيب الذي ملك أقطار الهواء.

ومن ذا الذي ينكر أننا حين ندرس الطير إنما نبحث عما بيننا وبينه من المشابهات والمقاربات، ألم تجر الأمثال في جميع اللغات بما يمثل غرائز الطير تمثيلًا يقربها كل التقريب من طبائع الناس؟

ألسنا نستأنس حين نرى طبائعنا مصورة في نحائز الطير: فهذا طائر جارح ينتزع غذاءه وهو يصول، وذلك طائر وديع يطلب غذاءه في رفق واحتيال، وتلك أسراب تغدو خماصًا وتروح بطانًا حيث يرزقها الله كما يفعل فريق من المتوكلين.

تلكم أيها القراء خواطر عللت بها نفسي حين رأيت قصوري عن فهم عالم الطير والحيوان، فالإنسان في رأيي هو مجموعة كاملة لشتى المخلوقات، وأنا قد عرفت الإنسان وفهمت غرائزه وميوله وسجاياه. وما قيمة القلم إن لم نستطع الدفاع عن جهلنا بما في هذا الوجود من طير أو حيوان أو نبات أو جماد؟ لقد فتحت الباب على مصراعيه لمن يريدون أن يخدعوا أنفسهم ليقنعوا بوهم الظن حين يفوتهم علم اليقين!

وأعود فأتكلم عن الطاووس الذي حملني على كتابة هذا المقال.

الطاووس طائر ذو جناحين، ولكنه لا يستطيع النهوض لأن ريشه عبء ثقيل، وهو طائر ذو كرامة ينفر من الابتذال، وهو الطائر الوحيد الذي رأيته في حديقة النباتات في باريس يتعفف عن هدايا الزائرين، فقد تلقى إليه قطع الحلوى فيتعامى عنها في أنفة وكبرياء.

وريش الطاووس مشهور بالحسن، ويكاد صدره يفعل بالناظرين ما تفعل الصهباء بالألباب، وليس شيء يجلّ عن الوصف بقدر ما يجل صدر الطاووس. والناظر الذي ألف ذوقه أن يقتات من الحسن لا يدري كيف يواجه تلك الفتنة العجيبة التي وهبها الله لذلك الطائر العزوف.

ولقد طال ارتيادي لوادي الطير في حديقة النباتات، وكان الطاووس في كل مرة هو أفتن ما أرى، ولكن كان يضايقني منه شيء واحد هو تعقله، والتعقل هو أشد ما يؤذينا من أهل الجمال

غير أني دهشت في الزورة الأخيرة؛ فقد رأيت الطواويس كلها في فرح يشبه الجنون لتوديع الشتاء واستقبال الربيع، ولأول مرة رأيت كيف يعجب الطاووس بنفسه وكيف يفهم أنه من أجمل المخلوقات … رأيته وهو ينشر جناحيه في زهو واختيال ثم يدور على قدميه ليراه الزائرون من جميع الجوانب، وفي هذا ما يدل على أنه يشعر بجماله، وأنه بذلك مفتون.

وله لحظات يقوم فيها برعشات كهربائية يسمع لها صرير يشبه حفيف الريح بين الأوراق. وأقول يشبه فقط؛ لأن تلك الرعشة الكهربائية التي يقوم بها الطاووس تعرض على الناظرين ألوانًا فتانة من ريشه الجميل. وهذا الجانب من زهو الطاووس يدق عن الوصف والتمثيل، ولا يدرك قيمته إلا من يراه، ولا يملك جمهور المتفرجين إلا جملة واحدة يكررونها في تواتر وانجذاب، إذ يقولون: ما أجمله! ما أجمله!

الطاووس طائر رقيق الذوق، وله عواطف وأهواء، وهو في عالم الطير يشبه الشاعر في عالم الإنسان.

ليس للطاووس قلم يستهوي به أهل الجمال كما يفعل فريق من الكتاب والشعراء، وليس لديه قيثارة يغزو بها القلوب كما يفعل الموفقون من أهل الفنون، ولكنه يملك تلك الرعشة الكهربائية حين يبسط جناحيه، فهو يتقرب بها إلى من يهوى في عالم الطواويس.

فيا ليت شعري وقد فهم كيف يكون الغزل، أهو أيضًا يفهم كيف يكون الأسى وكيف يكون الأنين؟ وهل كتب عليه يومًا أن يرى كيف تكون حسناته ذنوبًا عند بعض الأسراب؟

إني لأحنو على الطاووس أيها القراء، فهو فيما رأيت يُعنِّي نفسه في نشر محاسنه، وتظهر في سيماه علائم القلق في سبيل الوصل. فإن كان هو أيضًا يخفق كما يخفق بعض الناس فليست الدنيا إذًا إلا دار شقاء للجميع!

بك بعض ما بي أيها الطائر الجميل، وليس لديّ بعض ما لديك من آيات الحسن والإشراق.

أنت تملك ذلك الريش الأخضر البراق، وأنا أملك ذلك القلم الأسود المقصوف فيا بعد ما بيني وبينك حين تقوم النفائس والأعلاق!

كلانا غريب في هذه الديار، ولكن الحسان تسعى إليك أسرابًا أسرابًا في الضحى والأصيل، أما أنا فأتعقب الحسان من ملعب إلى ملعب، ومن بستان إلى بستان، ثم أعود وليس لدي ما أذهب به وحشة الليل غير ترتيل ما قال المعذبون من شعراء الوجدان …

وسلام الله على كل ساهر الجفن مفطور الفؤاد!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤