الفصل الأربعون

عيد الملاح في باريس

٢٣ إبريل سنة ١٩٣١

شهدت اليوم عيد الملاح وهو عيد تأخر عن موعده في هذا العام انتظارًا لصفاء الجو، وهو في الأصل عيد ديني، ثم تحول إلى عيد دنيوي، لأن الدنيا غلبت الدين في جميع البقاع، وتكاد أعياد العالم كله ترجع إلى أصول دينية ثم تحولت مع الزمن إلى أعياد دنيوية، فإن الإنسان فيما يظهر يؤثر العاجلة على الآجلة، ولا يدرك كيف يصح التفريط في الرغد الحاضر استبقاء لما وُعد به من نعيم مجهول. ولسنا بهذا ندعو إلى إيثار الدنيا على الدين، ولكننا نثبت هذه الملاحظة لنسجل بعض التغيرات العقلية والروحية التي أثرت عن إخواننا بني آدم الذين يزعمون أن الله شرف بهم الأرض وفضلهم على سكان الماء والهواء.

وما أنا منهمو بالعيش فيهم
ولكن موطن الذهب الرَّغامُ

وبعد فما الذي رأيت في موكب الملاح؟

رأيت الجمهور الباريسي وقد اصطف شبابه وكهوله من رجال ونساء على جانبي الجران بُلفار. وازدحمت الشرفات والنوافذ والسطوح بالمتطلعين المترقبين لمفاتن الحسن وملاعب الجمال.

وما هي إلا لحظات حتى علا الضجيج والهتاف في استقبال الموكب المرموق.

هذه إذًا ملكات الجمال؟ إي والله، هذه ملكات الجمال، وتلك هي الأذرع البضة، وتلك هي القامات الممشوقة التي تفضح الغصون الرِّطاب، وتلك هي البسمات العذاب تُلقى في سخاء لجميع المتفرجين في عدل وإنصاف، فلا ظالم ولا مظلوم في هذا اليوم المشهود!

أي جمال هذا يا رباه!

لقد كنت أتهم فرنسا بالإقفار من الحسن، فمن أين ظفرت بكل هذه الظباء؟ ومن أي واد من أودية السحر استطاعت باريس أن تقنص كل هذه الشوارد لتعرضها على الناظرين في مثل هذا العيد؟

لقد كنت أعرف أن الحسن في فرنسا شخت ضئيل، وكنت أرثي للمرأة الفرنسية حين تمدد على السرير كعود الخلال أو كالدمية المسخوطة، أو كالمومياء تتقدم إلينا من وراء التاريخ!

فما الذي جدَّ في مظاهر التطور حتى رأينا في باريس فتيات لهن معاصم ونحور، وقدود ونهود؟

ما الذي جد في عالمكم يا أهل باريس، لقد أثرتم أشجاني بما عرضتم في هذا اليوم، وأنا رجل طالما نعيت عليكم فقركم إلا من بوادر الظرف والذكاء، وطالما أسيت لبؤس فتياتكم كلما تخطرتْ في شوارعكم عذارى فينا وبرلين!

أفي الحق أنكم تملكون مثل هذه الكنوز؟ وهل في منازلكم ومقاصيركم وملاهيكم أمثال لهذه الأجسام الفينانة التي ترد الحليم وهو غويٌّ أثيم؟ أأنتم إذًا تفهمون كما كان يفهم العرب والمصريون واليونان والرومان أن المرأة يجب أن لا يقل حظها من جمال الجسم عن حظها من جمال الروح؟

•••

ويلاه! ما هذا الذي تراه عيناي في موكب الملاح؟

هؤلاء صبايا يخطرن في نضرة الزهر، ورقة النسيم، ولكنهن جميعًا مسوقات للإعلان! فكل سرب منهن قد قُرن إلى سيارة مزدانة بالأزهار والتصاوير في سبيل التنويه بالمتاجر العمومية، فهذه سيارة اللوفر، وتلك سيارة البون مارشيه، وهاتيك سيارة السماريتين، وهذه عجلة سينما مونج، وتلك عجلة مسرح بيجال!

أكذلك يُعرض الحسن في سوقكم يا أهل باريس؟

وقفت أتأمل هذا الحسن المعروض في حسرات وزفرات، لأني أعلم أن كل معروض مَهين، والحسن أجدر بأن يرفع عن مواطن الهوان

ثم مرّ بالنفس خاطر بدد من آفاقها سحائب الحزن، ذلك أن الجمال لئيم، ومن ذا الذي يجهل لؤم أهل الجمال؟

الجمال لئيم، لأنه لا يؤمن بغير الجاه والمال، ونحن قوم لم نرزق غير الشعر والأدب والخيال، فلاحظ لنا ولا خلاق في دولة الجمال، فليخضع الحسن صاغرًا لأصحاب المتاجر والملاهي لأنهم يملكون منابع الثروة، ولننظر إليه لاهين شامتين بما رزئ به من التسخير الشائن في شوارع باريس

أيها الجمال!

أنت لا تعرف من يعبدك، ولكنك تعرف من يملكك، أنت لا تعرف من يسهر ليله ويشقى نهاره في التسبيح بحمدك، والثناء على لألائك، ولكنك تعرف من يملأ جيبك ثم يسوقك في مدارج الذلة بلا رحمة ولا إشفاق.

أنت لا تعرف من ينسج في سبيلك روائع القصائد والرسائل، ولكنك تخضع في ضراعة لمن يحوك لك مبهرج الأثواب، فامض في هوان أيها الجمال اللئيم إلى حيث يشاء اللئام من أرباب المال.

أنت لئيم أيها الجمال، ونحن مع ذلك نعبدك في لؤمك، وكم على ظهر الأرض من لئيم معبود!

أيكون معنى هذا أننا نعبد اللؤم طائعين؟

هيهات نحن نعرف أن الحياة قست عليك، ونعرف أن المال صير الأرذال آلهة يعبدون، ومن أجل هذا نرحمك، ونرثي لك، لأن من حقك أن تعيش، وعواطف الشعراء لن تعود عليك بنفع جزيل ولا ضئيل

وهؤلاء الفرنسيون الذين عُرفوا برقة الطبع معذورون حين يرون الجمال سلعة تباع في الأسواق؛ لأن الحياة قست عليهم كما قست علينا وعليك، فليغفر الله للجميع!

•••

عدت إلى المنزل الذي أقيم فيه بعد شهود موكب الملاح، وكان همي أن أسأل معبودتي هناك كيف تخلفت عن ذلك الموكب المشهود، ولكنني رأيت في المنزل عجوزًا فانية لم أرها قبل ذلك، فما كدت أفتتح الحديث عن الحسن حتى ابتدرتني قائلة: أين أنت يا بني من حقائق الحياة؟ أتحسب باريس هي كل ما شهدت ورأيت في الجران بولفار؟ إن في باريس عالمًا آخر، هو عالم الجد أو عالم الحزن إن شئت، فليس في باريس غير قسوة الجد ومرارة الأحزان

صدمتي تلك العجوز بهذه الكلمات، غير أني تجلدت وأقبلت على معبودتي أداعبها في نزق وطيش، فعادت العجوز تقول:

دع هذا يا بني، واستمع إلى حديثي فقد عركت الزمان، وعرفت ما ستعرف من أهوال الوجود. إن الحسن الذي تتغنى به باب من أبواب الشر، وأنه ليجني على أهله قبل أن يجني على الناس، وأولئك الفتيات اللاتي سحرن لبك في موكب اليوم ستكون لهن هموم وأشجان (وعما قليل ليصبحن نادمين) فلا تحسب أن الدنيا ستبقي على تلك البسمات، أو سترحم سحر تلك العيون. إنها أيام ثم تصبح كل جميلة سيدة مسئولة، بين طفل يتدلل، وزوج يتحكم، ودهر يطغى ويجور!

ثم زلقتني تلك العجوز ببصرها وقالت: أمتزوج أنت؟

فأجبت: لا، يا سيدتي!

وهنا انبرت تلك الصغيرة الفتانة وقالت: اخدع سوانا يا مسيو مبارك! لقد سألت عنك مواطنيك فأخبروني أنك متأهل وأن عندك خمسة أطفال! فلا تقل إني خطيبتك بعد اليوم

فتراجعت وقلت: إنها دسيسة يا معبودتي، وما أشنع ما يكيد المواطنون بعضهم لبعض حتى في بلاد الغربة!

ثم صعدت إلى غرفتي وقد اقتنعت أنني في باريس أشد جنونًا من أهل باريس. فليرحم الله ذلك العاقل المجنون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤