الفصل الرابع والأربعون

أيام البحر ولياليه

 باريس في ١١ يونيه سنة ١٩٢٨

صديقي …

أيدهشك — وقد تغير ما بيني وبينك وعصفت العواصف بذلك الود الوثيق — أن أكتب إليك من هذا البلد النائي البعيد؟

لا تدهش يا صديقي، فأنت تعلم أنني رجل لا أستطيب الحياة إلا إذا وجدت قلبًا يخفق بجانب قلبي، ولست والله بناس أيامك وعهودك، حين كنت تفيض بالبر وتذخر بالحنان. وإني لعاذرك فيما اجترحت من القطيعة وما جنيت من التغاضي، فقد تغير أو كاد من كنت أحسب أن ستغيض البحار وتزول الجبال، قبل أن يغيض الود من صدره، وقبل أن يمر بباله أن ما بيننا عرضة للزوال.

وإني لأحمد الله على أن وجدت أصدقائي لا يعدمون المعاذير حين يقدمون على هدم ما شقيت في بنائه من صروح الوداد، فإن أشد ما أخافه وأخشاه أن يتبينوا أنهم أساءوا إليَّ بغير حق، فيجدوا في قلوبهم مس الحزن ومرارة الندم الوجيع، وإني ليسرني أن تهدأ حرارة الإخلاص في صدور الذين أعزهم، وأحنو عليهم، وأضمر لهم أجمل الود وأصدق الوفاء، فليس يرضيني أن يقاسوا الذي أقاسي، وأن يبيتوا معذبين بفضل ما قدموا من صدق الولاء، فقد علمتني الأيام أن الإخلاص قد يكون جريمة، وأن الوفاء قد يفتح لصاحبه باب الخيبة والحرمان.

فإن كنت في ريب من ذلك فاذكر كيف يؤوّل النبل وكيف تُفسَّر السماحة عند بعض الناس، فقد رأيت من يعد الحياء ضعفًا، ومن يرى ضبط اللسان حَصَرًا وعِيًّا، ومن يضيف المجاملة إلى التملق والرياء، ورأيت من يحسب أنك لا تفي له — حين يكون الوفاء من سجاياك — إلا لأنك ترى أسباب رزقك تحت رحمة رضاه، وبفضل هؤلاء فهمت لأول مرة قول أبي فراس:

وفيتُ وفي بعض الوفاء مذلة
لإنسانة في الحي شيمتها الغدرُ

ومالي أبعد وفيك وحدك أصدق الشواهد وأصرح الأمثال، أفتستطيع أن تخبرني ماذا تملك من ضري ونفعي وأنا أحفظ عهدك، وأنسى غدرك، منذ عُقدت بيننا أواصر المودة طوال ما لا أدري كم أعدّ من السنين؟ إنك تعرف أنك لا تملك لي ضرًّا ولا نفعًا، ولعلك تجد كثيرًا من الجهد والمشقة حين تحاول تعليل ذلك العطف من رجل لا يخشى بأسك، ولا يرجو خيرك، ولا ينتظر أن تغير الأيام من طبعك فتكون من الصادقين.

وكل ما أرجوه أن لا تذهب بعيدًا في جورك وظلمك، فإن لك ساعات من النحس تحملني فيها عامدًا على مخاشنتك وتكاد تفلح، ولك الويلُ إن أفلحت في إثارتي إلى سخطك، فإن لمحة من بوارق الغضب إن غضبت لكافية لسحقك ومحقك وتبديد ما انتظم من أحلامك حين آثرت أن تجني على من لا ذنب له ولا تفريط فيه، اعتمادًا على أنك فلان بن فلان!

وما أنس لا أنس تلك اللحظات المظلمة التي تثور فيها نفسي وأكاد أهم بالطبش بك وأرمي بأيامك وعهودك في هاوية من العقوق، ثم يتراءى وجهك المشرق وكأنه لبغيه سماء شاتية مثقلة بالسحب السوداء، أو قلب جاحد رماه الغي بأوزار الضلال!

•••

ومهما يكن من شيء فقد ابتليت بك في دنياي، وأبى وفائي إلا أن أظل أسيرًا يمقت الحرية ويفزع من التفكير في يوم الخلاص، فاستمع إذًا حديثي إليك فقد يكون فيه عزاء لقلبي أو عطف لقلبك، وسبحان من لو شاء لفجر الصخر بالماء النمير.

•••

خليت مصر منذ أسبوع، وخليت ورائي فيها همومًا مريرة أثقلت كاهلي وأمضَّت عيشي وراضتني بعد الجموح، وكنت أحسبني أقسى وأصلب من أن أعترف بأن في الحياة غيومًا تحجب شمس النعيم من حين إلى حين، ثم قامت بنا الباخرة فلم تطرف عيني لفراق الإسكندرية ولم يخفق القلب لفراق الوطن العزيز ومرت بالنفس طوائف من الذكريات الحزينة تمثلتُ فيها كيف شقيتُ بأهلي وأصدقائي، وكيف ضن وادي النيل بنفحة من نسمات البر على من يشقى ليسعد، ومن يفنى ليقدم له أسباب الخلود. ثم أخذ قلبي يذخر ويفيض بألوان من الحزن الثائر العنيف إلى أن غابت معالم الإسكندرية وشيعتها بهتاف الوداع، وكم في الدنيا من ظالم محبوب!

ثم ماذا؟ هذا جرس يصلصل، وهذه أفواج من المسافرين تمضي إلى الغداء، وأنا كذلك أمضي إلى حيث يمضون بين الفتور والنشاط، ولكني ألفت منذ أزمان أن أهتم بغذاء عيني وقلبي وروحي ووجداني، قبل أن أهتم بما تطلب الأمعاء، فأخذت أترقب وأنتظر حتى أعرف من جليسي المختار على المائدة، ووقفت بعيدًا أدرس الوجوه والشمائل، وأتعرف مواقع الحسن في أعطاف من تقل السفينة من أسراب الظباء، وما هي ألا لمحة حتى وقع طائر قلبي على فتاة جسمها ريّان فينان كأنها من صبايا دمياط، ويا لوعة القلب من صبايا دمياط! وما كادت تختار مكانها من المائدة حتى رأتني أمامها وجهًا لوجه، وكأننا رفيقان يلتقيان.

لا تسل كيف طارت هموم صدري في تلك اللحظة، وكيف محا ذلك الوجه كل ما خط بقلبي من سطور الشجون، وكيف تناسيت ما رماني به أصدقائي من سهام العقوق، وكيف أقبلت أسألها من هي، وفي أي عش درجت، ومن أي نبع رويت. وقد عرفت أنها فرنسية نزحت إلى مصر، فأقسمت لها أن خصوبة جسمها هبة من هبات النيل، وأن مصر لذلك جديرة بالتقديس.

ثم كانت في البحر ليال وأيام استطعت فيها أن استبد بذلك الغصن الرطيب، واستطاع شيطاني أن ينفرد بها في ساعات الرقص فلم يخاصرها أحد سواي، ورأيت بعيني كيف يكون الحب والعذاب في حياة قصيرة لا تزيد عن خمسة أيام فوق بحر الروم.

ولكن أتدري ما الذي وقع بعد ذلك؟ لقد وقع أن أخذنا نتناجى في اليوم الخامس، ونراجع ما كان من حياتنا وما نرجو أن سيكون، فعرفت، ويا هول ما عرفت، أنها ليست حديثة العهد بالنضال، وأنها صرعت بمصر كثيرًا من النواب والوزراء، فانقبض صدري واستُطير فؤادي من الفزع. فجزعتْ وقالت: ما خطبك يا سيدي؟ فأجبت في هدوء مصنوع: لا شيء يا مولاتي ولكن لا يرضيني في هواك أن أكون الشهيد الأخير، وإن كان في ميدان الضحايا متسع للجميع!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤