الفصل الخمسون

ألوان من اتجاهات الأذواق

 باريس في ٢٥ مارس سنة ١٩٣١

صديقي …

تذكر أني أرسلت إليك رسالة عن الرشد والغواية، وتذكر أني وعدتك بالعودة إلى مثل ذلك الحديث، فالآن أوجه إليك القول مرة ثانية على شريطة أن تفهم أني لا أدعوك إلى ترك التحفظ والوقار، ونبذ ما أنت عليه من إيثار الصمت والتورع عن الفضول.

أنت تعرف ما بيني وبين صديقنا «ب»، وتعرف أن إخاءنا بُني على أساس المجاملة، وترك ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، وتعرف أن لدينا من التسامح ما يكفي لإغضاء العين على بعض الأقذاء، فلست منه وليس مني، ونحن مع ذلك إخوان في السراء والضراء.

غير أني لا أنكر عليك أني أحب أن (أنكد عليه) ولو مرة واحدة، وهو انتقام طفيف ترضاه نفسي، ولا سبيل إلى ذلك إلا إذاعة بعض ما يلهو به في باريس.

وقد تسأل: وما موجب ذلك؟ وأجيبك في صراحة: إني أحقد عليه لأنه يجد من الفراغ ومن المال ما يمكنه من إحياء عهد عمر بن أبي ربيعة، وكنت أحب أن أكون ذلك الرجل لو ساعفتني المقادير، وهو فوق ذلك ينغص عليَّ تلك المتعة العقلية التي شاء الله أن تكون أجمل ما أطمح إليه من طيبات الأرزاق.

وإني لأذكر أنه صادفني مرة في حديقة لكسمبور ومعي كتاب موضوعه «روح القرن السابع عشر» فأخذ يندد بإقبالي على الماضي، وإغفالي ما في العصر الحاضر من مفاتن ومغريات … وكان (المضروب) يقول ذلك ويده في خصر فتاة لو وقعت عليها عينك لدارت بك الأرض وتخاذلت من عزمك الأوصال!

وله من نوع هذا الجنون مناكر كثيرة حملتني على مطاردته والتصميم على هتك ستره لدى قراء (المساء)، وقد أنذرته بالفعل فهو منذ ثلاثة أشهر يصابح موزع المساء في باريس وبماسيه، وأنا أقسم أنه سيلقى مني ما يكره. ولكن ما الذي يكره هذا الخبيث؟

إنه لا يخشى إلا خطرًا واحدًا، ذلك أن له أبًا صالحًا يصلي الفجر في سيدنا الحسين، والظهر في السيدة زينب، والعصر في السيدة فاطمة النبوية، والمغرب في السيدة سُكينة، والعشاء في مسجد قاضي الشريعة الإمام الشافعي الذي قضى بين أمه وأبيه، رضوان الله عليهم أجمعين! وهذا الأب الصالح يرسل إلى ابنه في باريس ثلاثين جنيهًا شهريًّا، وهو مبلغ ضئيل لا يتناسب مع ثروة ذلك الشيخ الجليل، ولكنه يؤثر التقتير على ابنه لئلا يفسد في بلاد الفساد، والابن من جانبه لا يزال يكاتب أباه شاكيًا باكيًا، لأن الثلاثين جنيهًا لا تكفي الخبز القفار! والوالد يقرأ تلك الرسائل في اطمئنان، لأنه يعلم أن الثلاثين جنيهًا كافية، وأن عيشة الخشونة أنفع له، وأجدر بأن تحمله على الانقطاع للدرس ليجتاز امتحان السنة الأولى في كلية الحقوق بعد أن قضى فيها أربعة أعوام!

وهذه الإشارة كافية لأن تقدر كيف يضطرب كلما هددته بالكتابة عنه، وهو هداه الله يقول في خشوع: إن حالي يشبه حال فلان! وفلان هذا الذي يعنيه شاب مصري تعجزه الامتحانات لأنه لا يتلقى الدروس إلا في قهوة داركور! وهو يخشى أن يستقدمه أبوه إلى مصر، فهو لذلك يقول لمحادثيه وهو يتوجع:

أنا جالس على تل من البارود، وهناك شرارة نار تقترب ثم تبتعد، وتقرب ثم تبعد، وأخشى أن تمس البارود؟

وهذا كما ترى من الخيالات الشعرية البديعة، وأستبعد أن يكون تلميذ قهوة داركور هو صاحب هذا الخيال.

وقد صممت أخيرًا على الكتابة عنه، ولكن سأطوي اسمه عن القراء لئلا يكون فيهم من يصلي مع أبيه في السيدة زينب أو سيدنا الحسين، وبذلك تظل شرارة النار بعيدة عن تل البارود إلى حين!

ولست أرجو بذلك أن يقلع عن الغواية، فذلك شأن لا يهمني على الإطلاق، وإنما يهمني فقط أن يكف عن مغايظتي فلا يقرأ عليَّ رسائل الحب التي تصله من خليلاته، ولا يأتي لزيارتي ومعه ثلاث بنات من الكواعب الملاح، كبراهن رفيقته، والوسطى بنت عمتها، والصغرى بنت خالتها. فتلك أشياء تذهب بالرشد وتغري بالجنون.

وهذا إنذار لا يغني فيه أن يعتذر بأنه يقرأ عليَّ تلك الرسائل الدنسة لأشرح له بعض ما يخفى عليه من التعابير التي تدق عن فهمه، لأني لست مترجمًا في دائرة أبيه حتى يضطرني إلى توضيح تلك المشكلات، وإن كنت اعترف بأني أستزيده أحيانًا من تلك الرسائل التي كان مِدادُها من لُعاب إبليس، والتي تحمل القارئ والسامع على تصديق من يقول:

أرى طِيب الحلال عليَّ خبثًا
وطيب العيش في خبث الحرامِ

•••

لصاحبنا هذا طرق كثيرة في الصيد، فلنذكر بعضها هنا تمهيدًا للمفاجآت التي سنكف بها من طِماحه إذا مضى يتلمس أسباب اللهو في باريس.

وأخبث طريقة كانت له ما وقع منه يوم نشر في إحدى الصحف الأسبوعية إعلانًا هذه ترجمته:

(شاب مصري مستقيم يقضي نهاره في الدرس ويحتاج إلى فتاة مقبولة الصورة متينة الأخلاق، ترافقه في بعض السهرات لتذهب وحشته وتعينه على فهم الروايات الكلاسيك التي تمثل في الأوديون وفي الكوميدي فرانسيز).

وقد أطلعني على هذا الإعلان قبل نشره وكلمة (مستقيم) أضيفت باقتراحي؛ وقد كاد يرفض لظنه أن هذه الكلمة قد تنفر بعض الملاح، ولكني أقنعته بأنها ضرورية، على الأقل لحفظ سمعة مصر في الخارج، ولأنها فوق هذا كلمة طالما انتفع بها المنافقون الذين يضمرون الإفك ويظهرون الصلاح، وهي بعد ذلك كله تنفي عن الإعلان صبغة المجون، وتضيفه إلى الشئون الجدية، وتلك تحفظات قد يحتاج إليها بعد حين.

وفي صبيحة يوم دق التليفون فاستمعت، وإذا صاحبنا يقول: احضر حالًا فقد تسلمت اليوم أكثر من خمسين رسالة؛ وأحب أن أدرسها معك فلا تتأخر، أرجوك.

خمسون رسالة! يا ابن الخنزير! «أستغفر الله، فإن أباه من الصائمين القائمين».

وما هي إلا لحظات حتى كنت عنده وقلت: (هات يا ولد، هات، حتى نشوف الخبر إيه!)

وفي مثل هذه المواقف تظهر براعة الفتيات الفرنسيات، فإن اللغة الفرنسية من أغنى لغات العالم بالأوصاف، والمرأة الفرنسية من أعرف النساء بالصياغة الفنية لعبارات التودد والتلطف والإقبال.

وقد جلس صاحبنا بجانبي وأنا أقرأ بصوت مرتفع، وهو يقاطعني من لحظة إلى لحظة قائلًا: «يعني إيه؟» أو قائلًا: «وإيه رأيك في البنت دي؟» أو قائلًا في لؤم: «دي مش قد كده، خليها لك!»

وكانت الرسائل تختلف اختلافًا ظاهرًا في مراميها وأغراضها باختلاف الكاتبات. وقد وجدت في بعضها نوعًا من الصدق؛ لأن هناك فتيات محرومات من نعمة الألفة ومرافقة الفتيان، هؤلاء كتبن في صراحة أنهن في حاجة إلى الرفيق، ولا يشترطن إلا العفاف، وكتبت إحداهن تعلن رغبتها في مصادقة (صاحبنا) حبًّا في مصر ذات النخيل! ومنهن من قالت إنها تود أن ترافق فتى مصريًّا شاء له حسن الطالع أن يركب الجمل في صباه!

وهناك بنت ملعونة كتبت رسالة في غاية من الخلاعة، وقد زعمت أنها أجمل مخلوقة مشت في شوارع باريس، وأنها بالرغم من جمالها الساحر لم تخضع لمخلوق، ولم يذق شهدها أحد من العالمين، وقد ختمت الرسالة بقصيدة من نظمها في وصف عفافها الفائق وجمالها الفتان، وهي قصيدة تتوافق كل التوافق مع الأغنية المصرية التي تقول:

إيه رأيك في خفافْتي
إيه رأيك في لطافتي
مُش خِفّه شربات
مُش رقّه دلكات
إيه تِسْوَى الجنهات
جنب البرلنتي
دا جمالي ما وَرَدْشِي
ومثالي ما صدفشي
حوريَّة م الجنة
هربانه بالْعِنْيَه
لناس تتهنّا
لوصالي تتمنى

•••

حبِّيبَهْ بالمِيِّه
تعجبني الحريه
يدوبوا ما اسألشي
بوصالي ما اسمحشي
على نارهم خلِّيهم
بدلالي أكويهم
من صغري ألاموده
لجمالي معبوده
عشاقي تِتزلل
عن تقلي ما اتحول
كده طبعي يا لطافه
كده ذوقي يا خفافه
مش خفه شربات
مش رقه دلكات

ومن أغرب ما جاء في تلك الرسائل ما كتبته إحدى البنات تسأل صاحبنا عن مستقبل وزارة صدقي باشا، وعن رأيه في الدستور الجديد. وقد قررنا في الحال إبعاد صاحبة هذه الرسالة؛ لأنها «غلباوية» ولأنه يحتمل أن تكون من الجواسيس، وصاحبنا كما تعلم جالس على تل من البارود، وقد يرسل إليه صدقي باشا بعض الصواريخ، جعل الله كلامنا خفيفًا عليه، آمين

قرأنا الرسائل بعناية، وميزنا ما رأيناه جديرًا بالجواب، وأجبنا على سبع وعشرين رسالة من بين ثلاث وخمسين

ولكن ما الذي وقع بعد ذلك، انتظر انتظر، إن الله مع الصابرين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤