الفصل الثاني والخمسون

في ليلة العيد

صديقي

لست أكتمك أني شرعت أتزود لهذه الليلة منذ أسابيع، وزادي كما تعرف هو اجترار الأشجان، فقد مرت سنون وأنا أنتقل من شجَن إلى شجَن، وكادت تمحى أوقات السرور من ألواح الذكريات. وكان الخيال الذي تشبثت به وأعددته لهذه الليلة هو ذكرى تلك الفتاة التي رحلت عن سنتريس في يوم عيد، فقد أذكر أنها خلتني غريبًا بين أهلي، ولم تترك لي ما أوقد به نار الأسى غير تقليب صفحات البحتري، فقد انقطعت إليه يوم ذاك وأخذت أنشره وأطويه بين الجوى والبكاء.

وكذلك مضيت فاستعرت ذلك الديوان من أحد الأصدقاء في باريس، وأقبلت عليه أتصفحه لأتذكر به ذلك الغرام المفقود، فماذا وجدت؟ وبم شعرت؟

لقد وجدت شعر البحتري خاليًا من المعاني الوجدانية، وكدت أومن بأنني خلقت لنفسي ذلك الشاعر يوم كنت أحب، فلما انقضت اللوعة مضى معها سحره، وعادت قصائده وكأنها أبدان بلا أرواح.

أهذا هو البحتري الذي كنت أحب لأجله كل من اتصل بالبلاد السورية، وأعبد من أجله ساكني منبج والشهباء؟

أين شعره؟ وأين روحه؟ وأين غرامه؟

لقد كانت كل كلمة في ديوانه تفعل في قلبي ما تفعل النار في القصباء، فمالي أقرؤه فأراه خامدًا لا روح فيه، وأبحث عن بيت يروقني فلا أجد، وتشقى عيناي في البحث بين ألفه وبائه بلا طائل ولا غناء!

ثم كان صباح هذا اليوم فذهبت إلى الكولليج دي فرانس؛ لأسمع محاضرة المسيو ماسينيون عن الهوى العذري، وانطلق الرجل يتكلم بلغة عذبة تغلب عليها النبرات الباريسية الجذابة التي يعرف سحرها من عاشر أهل باريس الأصلاء، وكانت بداية الحديث خاصة بالمحبين الذين زعموا أن هواهم باق لا يزول، وكيف كانوا في دعواهم كاذبين، فكدت أذوب من الخجل وأحسست جبيني يتندى من الحياء، فقد أقسمت ألف مرة أو تزيد لأحفظن ذكريات فتحية على مر العشي وكر الغداة، ثم قهرتني الأيام على تناسيها، فلم أذهب لزيارتها منذ تسع سنين.

ولكن المسيو ماسينيون عاد فأشار إلى أن أكثر المحبين يظلون أسرى لذكريات النظرة الأولى، وأنهم ينسون ما ينسون ثم يهتاجون لأطياف الماضي البعيد، ويعودون فيقاسون لوعة الحنين.

وهنا غلبني الدمع وكدت أفزع إلى النشيج، ولكن كيف والمسيو ماسينيون يوجه إليَّ نظره وحديثه في عناية والتفات؟ وكذلك أخذت أحول نظارتي وأداري دمعي متمثلًا بقول ابن الأحنف.

كم من صديق لي أسا
رقه البكاءَ من الحياءِ
فإذا تلفت لامني
فأقول ما بي من بكاء
لكن ذهبت لأرتدي
فطرفت عيني بالرداء

ولم تكد تنتهي المحاضرة حتى اطمأننت إلى أن القلب لا تزال فيه بقية من الجوى؛ ومضيت فصافحت المسيو ماسينيون وذكرته بقول البحتري:

وأود أني ما قضيت لبانتي
منكم ولا أني شفيت غليلي
وأعد برئي من هواك جناية
والبرء أعظم غاية المخبول

والرجل لا يدرى ما أريد لأن صبابة البحتري لم تخطر له على بال، ولأن الشاكي من السلامة لم يكن رجلًا سواي!

ثم انطلقت أَهيم في شوارع باريس وأنا فرح جذلان، لأني عرفت أن فتحية لا تزال تثير دمعي، وأنني خليق بأن أراجع معالم النظرة الأولى، يوم كنت أقول فيها:

يا طفلة الحسناء
والدرة العصماء
ما خدك الفتانُ
وطرفك الوسنان
إلا بقايا الأمِّ
ذات اللثات الحُمِّ
أشبهتها في الدلِّ
وجفنها المعتلِّ
وخدها الأسيلِ
وخصرها النحيلِ
فاستوصفيها الحبا
واستودعيها الربا
فقد تناهى العمرُ
ونال منها الدهرُ

•••

يا زهرةً في العينِ
ونغمةً في الأُذْنِ
وطفلةً في المنظَر
وغادة في المخبر
لا مسَّك الغرامُ
فإنه ظلَّامُ

ثم تناولت غدائي في طمأنينة المحب الموصول، وإن كنت لا أدري أين تكون اليوم فتحية، وكيف حال أجفانها السود، وكفها المخضوب، وحديثها المعسول.

لقد كنت سمعت أنها تشكو مرض القلب، فكيف حالها اليوم، وكيف أهلها الأعزاء.

ومن بينات الحب أنْ كان أهلُها
أحبَّ إلى قلبي وعينيّ من أهلي

إني لأغدر الناس إن لم أختص هذه المظلومة بما أملك من رفق وحنان، فقد مر عهد كنت لها كل شيء، وكانت لي كل شيء، ولا يعلم إلا الله كيف أضاءت هذه الفتاة قلبي وحياتي مدة من الزمان، ثم تناسى كلانا صاحبه، منذ تبدى لنا الدهر وهو أضن وأبخل من أن يهجع عن المحبين السعداء.

صديقي

ذلك هو حديثي عن ليلة العيد، فقد تناسيت أشجاني، وقصرت ليلي على التسبيح بذكرى فتحية، فليت شعري أيمر بخاطرها في هذه الليلة طيف ودادنا القديم؟ أم تراها فتحت قلبها لشواغل الحياة، واطمأنت إلى أن عهدنا كان حلمًا فذهب، وكان أملًا فضاع؟

ولنعد الآن إلى البحتري لنرى كيف راجعته الحياة، حين راجعنا الشوق، ولننظر كيف يقول:

أنبيك عن عيني وطول سهادها
ووحدة نفسي بالأسى وانفرادها
وإن الهموم اعتدن بعدك مضجعي
وأنت التي وكلتني باعتيادها
خليليَّ إني ذاكر عهد خُلةٍ
تولّت ولم أذمم حميد ودادها
فوا عجبي ما كان أنضر عهدها
لديّ وأدنى قربها من بعادها
وكنت أرى أن الردى قبل بينها
وأن افتقاد العيش دون افتقادها
بنفسيَ من عاديت من أجل فقدهِ
بلادي ولولا فقده لم أعادها

وهذه يا صديقي أبيات لم أبحث عنها، ولكنها واجهتني صارخة حين فتحت الديوان، ولننظر كيف يقول من قصيدة ثانية:

ضمانٌ على عينيك أني لا أسلو
وأن فؤادي من جوًى بك لا يخلو
ولو شئت يوم الجزع بلَّ غليلهُ
محبٌ بوصل منك إن أمكن الوصلُ
ألا إن وِردًا لو يذاد به الصدى
وإن شفاء لو يصاب به الخَبْل
وما النائل المطلوب منك بمعوز
لديك بل الإسعاف يعوز والبذل
أطاع لها دَلٌّ غرير وواضحٌ
شتيتٌ وقدٌّ مرهف وشوًى خَدْل
وألحاظ عين ما علقن بفارغ
فخلينه حتى يكون له شغل
وعندي أحشاء تساق صبابة
إليها وقلب من هوى غيرها غفل
وما باعد النأي المسافة بيننا
فيفرط شوق في الجوانح أو يغلو

هذا هو البحتري الذي قضيت أسابيع أقلب ديوانه فلا أرى فيه غير أشباح، فيا عجبًا كيف عاودته الروح وكيف عاد إليه سحره القديم! إن في ذلك لدليلًا على أن الشعراء لا يحيون إلا على ألسنة القراء، والشاعر الذي يجد قارئًا يفهمه كالمغني الذي يجد سامعًا يتذوق أغانيه، ومن هنا كان الشعراء يتفاوتون في حظوظهم عند الناس، فهذا يثير عاطفة طال غزوها للقلوب، وذاك يثير خالجة لا تطيف بالنفوس إلا لمامًا، وبقدر تغني الشعراء بهواجس الأحاسيس يكون نصيبهم من الخلود.

•••

صديقي! لقد غفت العيون، وطوى الليل تحت سدوله أرباب النعيم وأنضاء الشقاء، فكم من قلب يتذوق أكواب الحب، وكم من كبد تتنزى فوق جمرات البؤس، وأنا في دنيا صاخبة من أشجاني وأحزاني، فهذا وجدٌ فتيٌّ، وذاك وجد قديم، وتلك صبابة دفنتها منذ عشر سنين وبعثتها ليلة العيد، كل أولئك يغزو قلبي في قسوة دونها قسوة الحظ العاثر على الرجل النبيل، وأين أنا يا رباه ممن أحنو عليهم وأذيب في حبهم لفائف الفؤاد؟

وما يدريني لعلي منسيٌّ من جميع من أشتاق إليهم وأبدد بذكراهم لجب النهار وهدوء الليل!

لا تزال عندي من الشوق بقايا، فهل عند من أهواهم من العطف بقية؟

أم كتب عليَّ أن أقضي العمر في التغني بقول بعض الشعراء:

سيذكرني الناسون يوم تشوكهم
شمائلُ من بعض الخلائق سُودُ
سيذكرني الناسون حين تروعهم
صنائع من ذكرى هواي شهود
فوالله ما أسلمت عهدي لغدرة
ولا شاب نفسي في الغرام جحودُ
ولا شهد الناسون مني جناية
على الحب إلا أن يقال شهيد

وإليك يا صديقي أقدم أطيب الأماني بأن يعيد الله عليك أمثال هذا العيد، وأنت على ما أحب لك من عافية البدن، ونعيم القلب، وهدوء البال. والسلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤