الفصل العاشر

تعرَّف هال بمرور الوقت على هؤلاء الأشخاص؛ ولم يعُد يراهم مجرد شِرذمةٍ تثير الاحتقار أو الشفقة مجتمعةً، بل أفرادًا مُنفَردين، لكل منهم مِزاجُه ومشكلاته الشخصية، تمامًا مثلما هو الحال لدى جميع البشر في أنحاء العالم المتَنَعِّم في ضوء الشمس. ماري بيرك وتيم رافيرتي والكوري تشو والكرواتي مادفيك … وقد حفر كلٌّ من هؤلاء الأفراد، واحدًا تلو الآخر، شخصيته في صدارة الصورة الذهنية لدى هال، فأصبحت صورة حيَّة في ذهنه تدفعه إلى التعاطُف والمودَّة. من المؤكد أن بعض هؤلاء الأشخاص كانوا يُعانون إحساسًا بالدونية والتبلُّد أوصلهم إلى درجة القُبح الدنيء للروح والجسد … ولكن من ناحية أخرى، كان بعضُهم صغارًا في السن، ويحملون بصيصَ الأمل في قلوبهم، وشرارةَ التمرُّد.

كان هناك «آندي»، وهو صبيٌّ من أصل يُوناني؛ فقد كان أندروكولوس هو اسمه الحقيقي … ولكن كان من المستبعَد أن يفهمه أحدٌ في معسكرٍ للفحم. شاهده هال في المتجر، وأذهله جمالُ ملامحه والنظرةُ الحزينة في عينَيه السوداوين الكبيرتَين. أخذا يتحدَّثان، واكتشفَ آندي أن هال لم يقضِ كُلَّ وقته في معسكرات الفحم، ولكنه رأى العالَم الكبير. كانت الإثارة في صوته مثيرة للشفقة؛ لقد كان يشتاق إلى الحياة، بمَبَاهجها ومغامراتها … وكان قَدَره أن يجلس عشر ساعاتٍ في اليوم بجانب بئر المنجَم، يسمع قعقعة الفحم مُدَوِّية في أذنيه، ويستشعر غبار الفحم في أنفه، ويلتقط بأصابعه صفائح الحجر الصخري (الأردواز). كان واحدًا من العديد من عشرات «صبية تكسير الفحم».

سأله هال: «لماذا لا ترحل عن هنا؟»

«يا إلهي! كيف أرحل؟ إن لي أُمًّا وشقيقتَين.»

«وماذا عن أبيك؟» ثم اكتشف هال أن والِد آندي كان بين تلك الجثث التي تحتَّم تقطيعها إلى أشلاء لإخراجها عبر بئر المنجم. أصبح الابن الآن مُقيَّدًا في مكان أبيه حتى يأتيه قدره هو الآخر!

صاحَ الصبي: «لا أريد أن أكون عامل مناجم! لا أريد أن أُقتَل!»

ثم راحَ يسأل هال، على استحياءٍ، عما يعتقد أن في إمكانه فِعله إذا هرب بعيدًا عن عائلته، وجرَّب حظَّه في العالَم الخارجي. لم يستطِع هال، الذي حاول جاهدًا أن يتذكَّر أين رأى يونانيين من ذوي البشرة الزيتونية اللون والعيون السوداء الكبيرة في أرض الحرية الجميلة هذه؛ أن يتوقَّع شيئًا أفضل من جلوسه في إحدى الردهات ماسحًا للأحذية أو مُنظِّفًا للأحواض في مرحاضِ أحد الفنادق، مُسلِّمًا البقشيش إلى رئيسه البدين.

كان آندي قد ذهب إلى المدرسة، وتعلَّم قراءة اللغة الإنجليزية، وقد أعاره مُعلِّمه كتبًا ومجلات تحتوي على صور رائعة، لكنه الآن يريد أكثر من مجرد صور، يريد الأشياء التي تُصوِّرها. هكذا وجد هال نفسه أمام إحدى المشكلات التي يتسبَّب فيها أصحابُ المناجم. لقد جمعوا عددًا كبيرًا من العبيد متواضعي الحال والمختارين من عشرين أو ثلاثين عِرقًا من عبيدٍ بالوراثة، ولكن نظرًا إلى العادة الأمريكية السخيفة المتمثِّلة في إقامة مدارس عامَّة، تعلَّم أبناء هؤلاء الناس التحدُّث باللغة الإنجليزية، بل وقراءتها. ومن ثَم فطنوا إلى حقيقة الحياة، ما جعلهم عاجزين عن تقبُّل قدرهم فيها، ثم يتسلَّل أحدُ المغرضين ويتجوَّل داخل المعسكر، وفجأة تنفتح أبوابُ الجحيم. ومن هنا، كان لا بد من وجود شكلٍ آخر من «مسئولي الحرائق» في كل معسكر للفحم، مهمتُه حراسة المعسكر من نوعٍ آخر من الانفجارات … ليس من انفجارات أول أكسيد الكربون، بل من انفجارات الروح البشرية وانفلات زمام الأمور.

انتقلت المهام المباشرة لهذه الوظيفة في نورث فالي إلى جيف كوتون، قائد المعسكر. لم يكن على الإطلاق بالهيئة التي يتوقَّعها المرءُ من شخصٍ في وظيفته … رجلٌ نحيف، بل وذو مظهر مميَّز، رجلٌ ربما يحسبه المرءُ إذا رآه في ملابس السهرة دبلوماسيًّا. لكن فمه يصبح قبيحًا عندما يكون مُستاءً، وكان يحمل مسدسًا بستِّ طلقات، كما كان يرتدي شارة نائب رئيس شرطة؛ لتمنحه حصانة تُخوِّل له إطلاق المزيد من الطلقات. عندما يتصادف وجود جيف كوتون في مكان ما، فإن أي شخص — حتى وإن كان سريع الغضب والانفعال بطبعه — كان يتجنَّب إظهار غضبه، ويكبح جِماح نفسه أمامه. وهكذا كان هناك «نظامٌ» من الضبط والربط في نورث فالي، يُطبَّق فقط يومَ السبت وفي ليالي الأحد؛ حيث يتوجَّب قمعُ السُّكارَى، أو في صباح يوم الإثنين؛ حيث يستدعي الأمرُ جرَّهم وركلَهم لمعاودة العمل في المناجم، وهو ما يجعل المرءُ يُدرك الأساسَ الذي كان يرتكز عليه هذا «النظام».

إلى جانب جيف كوتون، ومساعِده «بُود» آدامز، اللذَين كانا يرتديان الشارات، وكانا معروفَين، كان هناك مساعدون آخرون لا يرتدون أيَّ شارات، وكان من المفترض ألا يكونوا معروفين. ذات مساءٍ، عندما كان هال خارجًا من المنجم في القفص، ذكرَ شيئًا لسائِس البِغال الكُرواتي، مادفيك، حول ارتفاع سعر بضائع متجر الشركة، وفوجئ بركلة حادة تهوي على كاحله. بعد ذلك، عندما كانا في طريقهما لتناول العشاء، أخبره مادفيك بالسبب. «إنه ذلك الوغد ذو الوجه الأحمر، جاس. احترس منه … إنه جاسوس للشركة.»

قال هال باهتمامٍ: «أهذا صحيح؟ كيف عرفت؟»

«إنني أعرف. الكلُّ يعرف.»

قال هال … الذي تشكَّلت أفكاره حول المحقِّقين من شخصية شيرلوك هولمز: «لا يبدو أنه يتمتع بالقدر الكافي من الذكاء.»

«إنها مسألةٌ لا تتطلَّب كثيرًا من الذَّكاء. اذهب إلى رئيس العُمَّال وقُل له: «إن الوغد جو يتحدَّث كثيرًا. ويقول إنَّ المتجر قد سَرَقَه.» يمكن لأي أحمق سخيف أن يفعل ذلك. أليس كذلك؟»

أقرَّ هال قائلًا: «بالطبع، وهل تدفع الشركة له مقابل ذلك؟»

«يدفع له رئيس العُمَّال. ربما يُعطيه شرابًا، أو ربما عملتَين معدنيتَين. ثم يأتيك رئيس العُمَّال، قائلًا: «لقد تجاوزت في كلامك المدى أيها الوَغد. اخرج من هنا بحق الجحيم!» هل تدرك حجم الأمور؟»

أدركَ هال الأمر.

«وهكذا ستنزل من الوادي. ثم ربما تذهب إلى منجمٍ آخر. ويقول لك رئيسك: «أين سبق لك العمل؟» فتقول: «نورث فالي.» فيقول: «ما اسمك؟» فتقول: «جو سميث.» فيقول: «انتظر.» ويدخل وينظر في الأوراق، ثم يخرج، ويقول: «ليس لدينا عمل.» فتقول: «لماذا؟» فيقول: «إنك كثير الكلام، أيها الوغد. اخرج من هنا بحق الجحيم!» هل تدرك؟»

قال هال: «أتقصد أنَّ هناك قائمة سوداء.»

«بالطبع، هناك قائمة سوداء. سيكتشفون كلَّ شيءٍ عنك، ربما عبر الهاتف. إذا فعلت أيَّ شيءٍ سيئ، مثل الحديث عن أمور الاتحادات والنقابات …» خفضَ مادفيك صوتَه، وهمسَ بكلمة «الاتحاد» … «يرسلون صورتَك، ولا تحصل على وظيفة في أي مكان في الولاية. ما رأيك؟»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤