الفصل الخامس عشر

نزل هال عن مِنبَره، وأفسح له الحشد الطريق، وخرج إلى الشارع وشقيقه إلى جانبه مُتَّجِهًا إلى المبنى الإداري، الذي كان الحراس يقفون في مدخله. تقدَّم تقدُّمَ المنتصر؛ وهتفت الأصوات الخشنة بكلمات التشجيع في أُذنَيه، وتدافع العُمال وتزاحموا لمصافحته أو التربيت على ظهره؛ حتى إنهم ربتوا على ظهر إدوارد وحاولوا مصافحته لأنه كان مع هال، وبدا أنه يحظى بثقته. حسِب هال بعد ذلك أن الأمر قد انتهى وكان سعيدًا. يا لها من مغامرة لإدوارد!

صعد الشاب درَج المبنى وتحدَّث إلى الحراس. وقال: «أريد أن أرى السيد كارترايت.»

أجاب أحدهم بنبرة غير ودودة: «إنه بالداخل.» دخل هال وإدوارد يتبعه وقادوهما إلى مكتب المشرف.

نظرًا إلى كون هال رجلًا عاملًا وذا وعي بالطبقات الاجتماعية، فقد كان مُراعيًا لسلوك المشرفين على المناجم؛ ولاحظ أن كارترايت قد انحنى بأدبٍ لإدوارد، لكنه لم يشمل شقيق إدوارد في هذه التحية. قال: «سيد كارترايت، جئتُ لك مُفوَّضًا من عمال هذا المعسكر.»

لم يبدُ أن المشرف قد أعجبه هذا الإعلان.

«لقد تلقيتُ تعليمات بأن أقول إن العُمال يطالبون بالفصل في أربع مظالم قبل العودة إلى العمل. أولًا …»

هنا تحدث كارترايت بطريقته السريعة والحادة. وقال: «لا جدوى من المتابعة يا سيدي. هذه الشركة سوف تتعامل مع رجالها كأفرادٍ فحسب. ولن تعترف بأي نُوَّاب عنهم.»

جاءت إجابة هال بالسرعة نفسها. فقال: «حسنًا يا سيد كارترايت. في هذه الحالة، فقد جئت إليك بصفتي فردًا.»

للحظة بدا المشرف في حيرة.

«أودُّ أن أطالب بأربعة حقوق تمنحها لي قوانين هذه الولاية. أولًا: الحق في الانتساب إلى اتحادٍ نقابي دون أن أُطرَد لمطالبتي بهذا الحق.»

استعاد الآخر أسلوبه القيادي الهادئ. وقال: «تملك هذا الحق يا سيدي، لقد كنت دائمًا تمتلكه. وتعلم جيدًا أن الشركة لم تطرد أحدًا بسبب انتمائه إلى اتحاد نقابي.»

راحَ الرجل ينظر إلى هال، وبدأت مبارزة بالعيون بينهما. حرَّك هال غضبٌ غير محموم. كان قد استنفد قدرته على تحمُّل مثل هذه الأمور. قال: «سيد كارترايت، أنت خادمٌ لواحدٍ من أعظم الممثلين في العالم؛ وتدعمه بمهارة.»

احمرَّ وجه الآخر غضبًا وتراجع، فتدخَّل إدوارد على الفور قائلًا: «هال، لا جدوى من هذا الكلام!»

أصرَّ هال قائلًا: «العالَم كله جمهوره. إنه يلعب أكثر أدوار الكوميديا الهزلية روعةً … هو وجميع مُمثِّليه يضعون مثل هذه الأقنعة المهيبة!»

قال إدوارد بوقارٍ: «سيد كارترايت، أنا على ثقة بأنك تفهم أنني فعلتُ كلَّ ما في وُسعي لكبح جماح أخي.»

أجاب المشرف: «بالطبع يا سيد وارنر. ويجب أن تعرف أنني، من جهتي، فعلتُ كلَّ شيء لإظهار الاحترام لأخيك.»

صاح هال: «مجددًا! هذا الممثل عبقري!»

«هال، إذا كان لديك شأن مع السيد كارترايت …»

«لقد أظهر لي الاحترام بإرسال مُسلَّحِيه للقبض عليَّ ليلًا، وسحبي من أحد الأكواخ، وكادوا يخلعون ذراعي! يا له من مرحٍ لم يسبق له مثيل!»

حاول كارترايت التحدث … ولكنه كان ينظر إلى إدوارد، وليس إلى هال. وأردف قائلًا: «في ذلك الوقت …»

«لقد أظهر لي الاحترام بحبسي في السجن وإطعامي الخبز والماء لمدة ليلتين ويوم كامل! هل يمكنك تحمُّل ذلك القدر من المرح؟»

«في ذلك الوقت لم أكن أعرف …»

«زوَّرتم اسمي على رسالة وأمرتم بتداولها في المعسكر! وأخيرًا … الأكثر احترامًا على الإطلاق … أخبرتم أحد الصحفيين بأنني أغوَيتُ فتاةً هنا!»

كان احمرار وجه المشرف لا يزال أكثر توهُّجًا. قال: «لا!»

صاح هال: «ماذا؟ ألم تخبر بيلي كيتينج من صحيفة «جازيت» أنني أغويت فتاة في نورث فالي؟ ألم تصف له الفتاة … فتاة أيرلندية ذات شعر أحمر؟»

«لم أقُل يا سيد وارنر غير أنني سمعت بعض الشائعات …»

«بعض الشائعات يا سيد كارترايت؟ لقد أكدتَ الأمر! لقد قدَّمت تقريرًا مفصلًا وصريحًا للسيد كيتينج …»

قال الآخر: «لم أفعل!»

«سأُثبت ذلك قريبًا!» واتَّجه هال نحو الهاتف على مكتب كارترايت.

«ماذا ستفعل يا هال؟»

«سوف أتصل ببيلي كيتينج، وسأدعُك تسمع كلامه.»

صاح إدوارد: «أوه، دعك من هذا يا هال! لا أهتم إطلاقًا بكلام كيتينج. أنت تعلم أنه في ذلك الوقت لم يكن لدى السيد كارترايت أي وسيلة لمعرفة مَن أنت.»

سارع كارترايت إلى تأكيد هذا الدعم. وقال: «بلى بالطبع يا سيد وارنر! لقد جاء أخوك إلى هنا متظاهرًا بأنه صبي عامل …»

صاح هال: «أوه؟ إذن ذلك هو بيت القصيد! تعتقد أنه من الصحيح تداول الافتراءات حول الصبية العاملين في معسكرك؟»

«لقد قضيتَ هنا فترة كافية لتعرف فيها طبيعة أخلاق هؤلاء الصبية.»

«لقد قضيتُ هنا فترة كافية يا سيد كارترايت مكَّنتني من معرفة أنك إذا أردت الخوض في مسألة الأخلاق في نورث فالي، فعليك أن تبدأ بالرؤساء والحراس الذين تضعهم في السلطة، وتسمح لهم بافتراس النساء.»

قاطعه إدوارد: «هال، لا جدوى من مواصلة هذه المحادثة. إذا كان لديك أي مسألة تريد تسويتها هنا، فانتهِ منها بالله عليك!»

بذل هال جهدًا لاستعادة رباطة جأشه. وعاد إلى مطالب الإضراب … ولكنه وجد أنه قد استنفد رباطة جأش المشرف. قال كارترايت: «لقد أعطيتُك إجابتي. وأرفض تمامًا أي مناقشة أخرى.»

قال هال: «حسنًا، بما أنك رفضت السماح لي — مُفَوَّضًا عن رجالك — بالتعامل معك بطريقة واضحة واحترافية، فيجب أن أبلغك — باعتباري فردًا — أن كلَّ فردٍ آخر في معسكرك يرفض العمل عندك.»

لم يدع المشرف نفسه ليتأثر بهذا الإسهاب في السخرية. وقال: «كل ما لديَّ لأقوله لك يا سيدي هو أنه سيُستأنَف العمل في المنجم رقم ٢ في الصباح، وأن أي شخصٍ سيرفض العمل سيُطرَد من الوادي قبل حلول الليل.»

«أبهذه السرعة يا سيد كارترايت؟ لقد استأجروا منازلهم من الشركة، وأنت تعلم أنه وفقًا لعقد الإيجار الخاص بالشركة، فإن لهم الحق في الحصول على إشعارٍ قبل ثلاثة أيامٍ من الإخلاء!»

لم يكن كارترايت يتمتع بالقدر الكافي من الحكمة لمجادلته. وكان يعلم أن إدوارد كان يستمع إلى الحديث، وأراد أن يبرئ ساحته. ومن ثَم، قال: «لن تطردهم الشركة. بل ستتعامل معهم سلطات المدينة.»

«أتلك التي ترأسها أنت نفسك؟»

«لقد انتُخِب عمدة نورث فالي.»

«وبصفتك عمدة نورث فالي، أوضحتَ لأخي أنك سوف تطردُني، أليس كذلك؟»

«لقد طلبت من أخيك أن يقنعك بالمغادرة.»

«لكنك أوضحت أنه إذا لم يتمكَّن من ذلك، فسوف تطردني، أليس كذلك؟»

«بلى، ذلك صحيح.»

«والسبب الذي قدمتَه هو أنك تلقيتَ تعليماتٍ عن طريق برقية من السيد بيتر هاريجان. هل لي أن أسأل عن المنصب الذي انتُخِب السيد هاريجان ليَشغَلَه في بلدتك؟»

أدرك كارترايت المأزق الذي كان فيه. قال بفظاظة: «لقد أساء أخوك فَهمي.»

«هل أسأتَ فهمه يا إدوارد؟»

كان إدوارد قد مشى إلى النافذة وهو يشعر بالاشمئزاز؛ حيث كان ينظر إلى علب الطماطم وأكوام الرماد، ولم يرَ أنه من المناسب أن يلتفت. لكن المشرف قد علم أنه كان يستمع، ورأى أنه من الضروري أن يُغطِّي الخلل في حُجته. قال: «أيها الشاب، لقد انتهكتَ العديد من قوانين هذه المدينة.»

«هل يوجد قانونٌ يمنع تنظيمَ اتحادٍ نقابي لعمال المناجم؟»

«لا؛ ولكن يوجد قانونٌ يمنع إلقاء الخطب في الشوارع.»

«مَن أصدر هذا القانون، إن جاز لي أن أسأل؟»

«مجلس المدينة.»

«الذي يتكوَّن من جونسون مدير مكتب البريد وموظف متجر الشركة، وإليسون محاسب الشركة، وشتراوس رئيس عمال بالشركة، وأوكالاهان صاحب حانة الشركة. هل القائمة صحيحة؟»

لم يُجِب كارترايت.

«والعضو الخامس في مجلس المدينة هو أنت، بحكم منصبك … السيد إينوس كارترايت، العمدة وأحد المشرفين في الشركة.»

مرة أخرى لم يتلقَّ ردًّا.

«لديك قانون يمنع إلقاء الخطب في الشوارع، وفي الوقت نفسه تمتلك شركتك مباني الحانات، والنُّزل والكنيسة، والمدرسة. أين تتوقع أن يُلقي المواطنون أحاديثهم؟»

«سوف تُصبح محاميًا جيدًا أيها الشاب. ولكن نحن المسئولون هنا نعرف جيدًا ما تعنيه ﺑ «الخطب»!»

«أنت لا توافق إذن على عقد المواطنين للاجتماعات؟»

«أعني أننا لا نعتبر أنه من الضروري إتاحة الفرصة للمُحرِّضين لتحريض موظفينا.»

«هل لي أن أسأل يا سيد كارترايت عما إذا كنتَ تتحدث بصفتك عمدة مجتمع أمريكي أم بصفتك مُشرفًا على منجم للفحم؟»

كان وجه كارترايت يزداد احمرارًا باستمرارٍ. قال موجهًا حديثه إلى إدوارد مرة أخرى: «لا أرى أيَّ سببٍ لضرورة استمرارنا في هذا.»

وافقه إدوارد الرأي. التفت. «حقًّا يا هال …»

«لكن يا إدوارد! رجلٌ يتهم أخاك بأنه منتهِكٌ للقانون! هل تعلم حتى الآن بوجود أي ميول إجرامية في عائلتنا؟»

التفتَ إدوارد إلى النافذة مرة أخرى، واستأنف تأمُّلَه لأكوام الرماد وعلب الطماطم. لقد كان شجارًا مبتَذَلًا وغبيًّا، لكنه كان يعلم جيدًا طباع هال، ومن ثَم يدرك أنه سيستمر في ذلك ما دام مَن يخاطبه من الحماقة بمكان للرد عليه.

«أنت تقول، يا سيد كارترايت، إنني انتهكتُ القانون الذي يمنع إلقاء الخطب في الشوارع. هل لي أن أسأل ما العقوبة التي ينصُّ عليها هذا القانون؟»

«سوف تعرف عندما تُفرَض عليك.»

ضحك هال. وقال: «مما قلته للتوِّ، أعتقد أن العقوبة هي الطرد من المدينة! حسب فهمي للإجراءات القانونية، كان ينبغي أن أمثُل أمام قاضي الصلح … الذي تصادف أنه موظفٌ آخر في الشركة. ولكن بدلًا من ذلك، فإن العمدة يتولى إصدار الحكم ضدي … أم ينبغي أن أقول مشرف الشركة؟ هل لي أن أسأل كيف يحدث ذلك؟»

«هذا بسبب احترامي …»

«متى طلبت منك الاحترام؟»

«أعني احترامي لأخيك.»

«أوه! إذن، فإن قانونك ينصُّ على أن العمدة … أم هل هو المشرف؟ … يجوز له أن يحترم شقيق المخالِف للقانون، وذلك بتغيير عقوبته إلى الطرد من المدينة. أكان احترامك لتومي بيرك هو ما جعلك تطرد أخته من الوادي؟»

قبض كارترايت يديه. وقال: «لقد تحمَّلتُ هذا بما فيه الكفاية!»

كان يُخاطب إدوارد مرة أخرى الذي كان في ذلك الوقت ينظر عبر النافذة؛ فالتفتَ إدوارد وأجاب: «لا ألومك يا سيدي.» ثم قال لهال: «أعتقد حقًّا أنك قلتَ ما يكفي!»

أجاب هال: «أتمنى أن أكون قد قلتُ ما يكفي … لإقناعكَ بأن التظاهر باحترام القانون الأمريكي في معسكر الفحم هذا هو مهزلة سخيفة، إهانة وإذلال لأي رجلٍ يحترم مؤسسات دولته.»

قال المشرف لإدوارد: «أنت يا سيد وارنر لديك خبرة في إدارة مناجم الفحم. وتعرف ماذا يعني التعامل مع الأجانب الجاهلين، الذين لا يفهمون القانون الأمريكي …»

انفجر هال في الضحك. «أنت إذن تُعلِّمهم القانون الأمريكي! تُعلِّمهم بأن تطأ بالأقدام كل قانون لمدينتك وولايتك، وكل الضمانات الدستورية … وتُحلُّ محلها التعليمات التي تتلقَّاها عبر برقية من بيتر هاريجان!» استدار كارترايت ومشى إلى الباب، وقال في قلقٍ: «أيها الشاب، سيكون من الضروري أن تغادر نورث فالي هذا الصباح. يا ليت أخاك يستطيع إقناعك بالمغادرة دون عناء.» وكان صوت إغلاق الباب بعنفٍ هو الوداع الوحيد للمشرف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤