الفصل الثامن والعشرون

انخفض صوت ماري، وفكر هال كم كان صوتها غنيًّا ودافئًا عندما تأثرت بشدة. وتابعت:

«لقد عشتُ طوال حياتي في معسكرات التعدين، يا جو سميث، ورأيتُ رجالًا يتعرضون للسرقة والضرب، ونساءً يبكين، وأطفالًا جوعى. رأيتُ الشركة، بهيئة وحوش ضارية ضخمة تلتهمهم. لكنني لم أعرف أبدًا السبب، أو المغزى من ذلك … حتى ذلك اليوم، هناك في منزل عائلة مينيتي. لقد قرأت عن السيدات النبيلات في الكُتُب، كما تعلم، لكني لم أتحدث مع إحداهن قطُّ، لم أضطر إلى تقبُّل إحداهن قطُّ، كما يمكنك القول. ولكن هناك حدث ذلك … وفجأة بدا أنني أعرف أين تذهب الأموال التي يجلبها عمال المناجم بعرقهم. عرفت لماذا كان الناس يسرقوننا ويطحنون حياتنا … من أجل السيدات الجميلات مثلها، لإبقائهن لامعات وناعمات للغاية! لم يكن ليصبح الأمر بهذا السوء لو لم تكن قد أتت في ذلك الوقت، بينما كان جميع هؤلاء الرجال والأولاد يموتون في حُفر المناجم … من أجل تلك البشرة البيضاء الناعمة، وتلك الأيدي البيضاء الناعمة، وكل تلك الأشياء الحريرية التي كانت تكتنفها. يا إلهي، يا جو … أتعرف كيف بدت لي؟ مثل قطة ناعمة ملساء التهمت للتوِّ جحرًا كاملًا مليئًا بصغار الفئران، التي لا يزال دمها يلطخ خدَيها.»

توقفت ماري ملتقطةً أنفاسها بصعوبة. والتزم هال الصمت، وتابعت مجددًا: «لقد أدركت الأمر بنفسي يا جو! لا أريدُكَ أن تعتقد فيَّ شيئًا أفضل مما أنا عليه بالفعل، وقد سألت نفسي هذا السؤال … هل تكرهينها إلى هذا الحد الفظيع بسبب ما حدث للرجال في المناجم؟ أم بسبب الرجل الوحيد الذي تُريدينه، وحصلت هي عليه؟ وقد عرفت الجواب عن ذلك! ولكنني سألت نفسي بعد ذلك سؤالًا آخر … هل ستكونين مثلها لو استطعتِ؟ هل ستفعلين ما تفعله الآن … هل ستتحمَّل رُوحُك ذلك؟ وبما أن الرب يسمعني يا جو، فالحق أقول لك … لم أكن لأفعل ذلك! كلَّا، لم أكن لأفعل ذلك بدافع الحب لأي رجلٍ مشى على هذه الأرض على الإطلاق!»

كانت قد رفعت قبضتها المشدودة وهي تتحدث. وتركتها تسقط مرة أخرى، وسارت بخطواتٍ واسعة دون أن تنظر إليه. «قد تحاول ألف سنة، يا جو، ولا تدرك الشعور الذي انتابني هناك في منزل مينيتي. العار الذي انطوى عليه الأمر … ليس بسبب ما فعلَتْه بي، ولكن بسبب ما جعلَتْني أبدو عليه أمام نفسي! أنا، ابنة عامل منجم عجوز مخمور، وهي … لا أعرف مَن هو والدها، لكنها أميرة من نوعٍ ما، وهي تعرف ذلك. وذلك هو ما يُهمُّ، يا جو! ليس أنها تمتلك الكثيرَ من المال، والكثيرَ من الأشياء الجميلة، أو لأنها تعرف كيف تتحدث، وأنا لا أعرف، وأن صوتها حُلو، وصوتي قبيح، عندما أغضب كما هو الحال الآن. لا … بل لأنها شديدة الثقة بنفسها! هذه هي الكلمة التي وجدتُها مناسبة، إنها واثقة … واثقة … واثقة! لديها الأشياء الجميلة، لطالما كانت تمتلكها، ولها الحق في أن تمتلكها! وليس لي الحق في شيء إلا المتاعب، يُطاردني البؤس والخوف طوال اليوم، لقد فقدتُ حتى السقف الذي يُظلُّني! جو، أنت تعلم أنني أتمتع بشيء من رباطة الجأش … ليس من السهل أن أُهزَم، ولكن تبيَّن لي المكان الذي أنتمي إليه، خرجت واختبأت ودفنت وجهي في الوحل من شدة غضبي الكريه! قلت لنفسي: هذا صحيح! هناك شيء فيها أفضل مني! إنها مخلوق أرقى نوعًا ما. انظر إلى هاتَين اليدَين!» مَدتهما بإيماءة محمومة سريعة. «ولذا، فإن لديها الحق في الظفر بالرجل الذي تحبه، وأنا حمقاء لأنني رفعت عيني إليه! يجب أن أراه يرحل بعيدًا، وأزحف عائدةً إلى كوخي القديم الذي تتسرَّب من سقفه مياه الأمطار! أجل، تلك هي الحقيقة! وعندما أُخبر الرجل بذلك، ماذا تظن أنه يقول لي؟ عجبًا، يقول لي بلطفٍ وطيبة إنني يجب أن أشعر بالأسف تجاهها! يا إلهي! هل سمعت بشيء كهذا من قبل؟»

ساد صمتٌ طويل. لم يكن في إمكان هال أن يقول أي شيء حينئذٍ حتى لو أراد ذلك. فقد كان يعلم أن هذا هو ما جاء للبحث عنه! كانت هذه هي الحقيقة العارية للحرب الطبقية!

اختتمت ماري كلامها قائلة، بيَدَين مضمومتَين ونبرة تتناسب وحال يديها: «الآن، لقد نأيتُ بنفسي عن هذا. لست أَمَة، لديَّ الحق في الحياة كأي سيدة نبيلة. أعلم أنني لن أحظى به أبدًا، بالطبع، لن أرتدي ملابس جيدة أبدًا، ولن أعيش في منزلٍ لائقٍ، ولن أكون مع الرجل الذي أريده، لكنني سأعرف أنني فعلت شيئًا للمساعدة في تحرير العُمال من العار الذي تعرضوا له. وهذا ما فعله الإضراب لي يا جو! لقد أنار لي الطريق. لقد هُزمنا هذه المرة، لكن ذلك لم يؤثر بالقدر الذي قد تعتقده. سأخوض المزيدَ من الإضرابات قبل أن أكُفَّ عن الكفاح، ولن تفشل جميعها!»

كانت تعتمل في داخله معركة من المشاعر المتضاربة. كانت رؤيته لها حقيقية بالفعل؛ كانت ستخوض المزيد من الإضرابات! وكان سعيدًا وفخورًا بذلك، ولكنه تذكَّر أنها هي، الفتاة، ستخوض الحرب المريرة، بينما هو، الرجل، سيكون في تلك الأثناء يتناول شرائح لحم البقر المشوي في النادي!

قال: «ماري، إنني أخجل من نفسي …»

«هذا ليس صحيحًا، يا جو! ليس لديك ما يدعو إلى الخجل. لم تختر مكان مولدك …»

«ربما هذا صحيح يا ماري. ولكن عندما يعلم المرء أنه لم يدفع قطُّ مقابل الأشياء التي استمتع بها طوال حياته، فبالتأكيد أقل ما يمكنه فعله هو أن يشعر بالخجل. أتمنى أن تُحاولي ألا تكرهيني كما تكرهين الآخرين.»

«لم أكرهْكَ قطُّ يا جو! ولا لحظة واحدة! أقول لك بصدقٍ وأمانة إن حُبي لك مثلما كان دائمًا. أستطيع أن أقول ذلك؛ لأنك لم تعُد لي الآن؛ لقد رأيت الفتاة الأخرى، وأعلم أنني لن أُرضِيَك أبدًا. لا أعرف ما إذا كان ينبغي لي أن أقول ذلك، لكنني أعتقد أيضًا أنها لن تُرضيَك تمام الرضا. لن تكون سعيدًا في كلتا الحالتَين … فليُساعدْكَ الرب!»

بهذا الكلام الأخير، توغلت الفتاة بعُمقٍ في أغوار رُوحه، بعمقٍ شديدٍ إلى درجة أن هال لم يمتلك الثقة للإجابة. كانا يمرَّان بمصباحٍ من مصابيح الإنارة في الشارع، ونظرت إليه للمرة الأولى منذ بدآ السير معًا، ورأت الحرج على وجهه. ظهرت فجأة نبرةٌ حنون في صوتها. قالت: «جو، تبدو في حالة سيئة. من الجيد أنك ستبتعد عن هذا المكان!»

حاول أن يبتسم، لكن جهده كان ضعيفًا.

تابعت قائلة: «جو، لقد طلبتَ مني أن أكون صديقتَك. حسنًا، سأكون كذلك!» ومدَّت يدها الكبيرة الخشنة.

فأخذها. وقال بصوتٍ مرتعشٍ: «لن ينسى أحدُنا الآخر يا ماري.»

صاحت: «بالطبع يا فتى! سنُنظم إضرابًا آخر في يومٍ من الأيام، تمامًا كما فعلنا في نورث فالي!»

ضغط هال على يدها الكبيرة، ولكنه عندما تذكر فجأة أن أخاه كان يتبعهما، لم يقل جميع الأشياء الجميلة التي كانت في ذهنه. وصفَ نفسه بالثائر، ولكنه لم يكن ثائرًا بما يكفي ليعبِّر عن مشاعره أمام إدوارد!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤