الفصل الثالث والعشرون

انطلق جيف كوتون أمامه. وصاح: «قِفْ!»

لكن هال لم يتوقَّف.

صاح قائد المعسكر: «اسمع أيها الشاب! لا تتمادى في هذه المزحة!» وهَمَّ ناحية الباب، ليصبح أمام سجينه مباشرة. تحرَّكتْ يدُه نحو مسدَّسه.

قال هال: «اسحب مسدسك يا كوتون»، وعندما سحب قائد المعسكر مسدسَه، قال هال: «الآن سأتوقَّف. ولتَعلم أنني لن أُطيعك مستقبلًا إلا تحت تهديد السلاح.»

استشاط قائد المعسكر غضبًا. وقال: «ستعرف أنه في هذا البلد عندما يُشهَر السلاح في وجه امرئ، فإنه لا يُعطَى فرصةً لأن يطيع أو لا يطيع!»

أجاب هال: «لقد شرحت موقفي. بماذا تأمرني؟»

«عُدْ واجلس على هذا الكرسي.»

جلس هال، واتجه قائد المعسكر إلى مكتبه، ورفعَ سماعة الهاتف. ثم قال: «رقم ٧»، وانتظر لحظة. ثم أردفَ: «أهذا أنتَ يا توم؟ أحضِر السيارة على الفور.»

وضعَ السماعة، وأعقبَت ذلك فترة من الصمت، ثم تساءل هال أخيرًا: «هل سأذهب إلى بيدرو؟»

لم يجد ردًّا.

قال هال: «أرى أنني أَثَرتُ أعصابَك. لكنني لا أعتقد أنه قد خطر ببالك أنك أخذتَ أموالي في الليلة الماضية. كما أن لديَّ حسابًا لدى الشركة، وأجني بعضَ المال من عملي. ما رأيك في ذلك؟»

رفع قائد المعسكر السماعة وطلبَ رقمًا آخر. وقال: «مرحبًا! سيمبسون. معك كوتون. احسب أجر جو سميث، المساعِد في المنجم رقم ٢، عن الفترة التي عمل فيها لدينا، وأرسِل إليَّ النقود. وأحضِر حسابه في المتجر، وأسرع، نحن في انتظارك. سيغادر على الفور.» ثم وضع السماعة مرة أخرى.

قال هال: «أخبرني، هل تحمَّلت عناءَ فعل ذلك أيضًا مع مايك سيكوريا؟»

سادَ الصمتُ.

قال هال: «دعني أقترحُ عليك أن تعطيني جزءًا من أجري في صورة صكوك مالية عندما تحصل عليه. أريدُ أن أحتفظ بها كتذكارٍ.»

ما زال الصمتُ سائدًا.

أجهدَ السجينُ كوتون بإلحاحه: «أتدري، هناك قانون يحظر دفع الأجور في صورة صكوك.»

استُحِثَّ قائدُ المعسكر على الكلام. وقال: «نحن لا ندفع صكوكًا مالية.»

«لكنك تفعل ذلك يا رجل! تعلم أنك تفعل ذلك!»

«نحن نعطيها عندما يطلب العُمَّال أموالهم مُقدَّمًا.»

«يطالبك القانونُ أن تدفع لهم مرتَين في الشهر، وأنت لا تفعل ذلك. بل تدفع لهم مرة واحدة في الشهر، وفي أثناء ذلك، إذا احتاجوا إلى المال، فيمكنك أن تعطيهم هذه الأموال الزائفة!»

«حسنًا، إذا كان ذلك يُرضيهم، فأين موضع اعتراضك؟»

«وإذا لم يكن يرضيهم، هل ستضعهم في القطار وتشحنهم خارج الوادي؟»

جلسَ قائد المعسكر صامتًا، وهو ينقر بأصابعه على مكتبه وقد نفدَ صبره.

استهلَّ هال الحديث مجدَّدًا: «يا كوتون، أنا هنا لأتعلَّم، وثمة شيءٌ أودُّ منك أن تشرحه لي … مسألة في علم النفس البشري. عندما يعقد المرءُ صفقة كهذه، ماذا يقول لنفسه عنها؟»

قال قائد المعسكر: «أيها الشاب، إذا سمحت لي، لقد بدأتَ تُشعرني بالملل.»

«أوه، ولكن لا تزال أمامنا رحلة بالسيارة! بالطبع لا يمكننا الجلوس في صمتٍ طوال الطريق!» وأضافَ بعد برهة، بنبرة مُداهنة: «أريد حقًّا أن أتعلَّم، كما تعرف. ربما يمكنُك إقناعِي.»

قال كوتون على الفور: «كلَّا! لن أخوضَ في أي شيء كهذا!»

«ولكن لِمَ لا؟»

«لأنني لا أُضاهيكَ في الاسترسال في الكلام. لقد سمعتُ أمثالك من المحرِّضين من قبل، جميعكم متشابهون؛ تعتقدون أن العالَم يُدار بالكلام … لكنه ليس كذلك.»

أدرك هال أنه لن يصل إلى شيء في هذه المبارزة مع قائد المعسكر. لقد بذلَ كلَّ جهده للوصول إلى شيء؛ جادلَ، وهدَّد، ومارسَ الخداع، حتى إنه غنَّى أغاني للقائد! لكن ها هو القائد سيُرحِّله، هذا كلُّ ما خرج به من الأمر.

واصل هال الجدال، لا لشيء إلا لأنه كان عليه انتظار السيارة، ولأنه تحمَّل الإهانات، وكان عليه التنفيس عن غضبه وخيبة أمله. لكنه توقَّف الآن عن الجدال فجأة. لفتت انتباهه كلماتُ قائد المعسكر: «تعتقدون أن العالَم يُدار بالكلام!» كانت تلك هي الكلمات التي كان شقيقُ هال يستخدمها دائمًا! كما قال قائد المعسكر أيضًا: «أنتم المحرِّضون!» لسنواتٍ كانت هذه إحدى العبارات التهكُّمية التي كان يسمعها هال من أخيه: «ستتحوَّل إلى واحدٍ من هؤلاء المحرِّضين!» أجاب هال بعنادٍ صبياني: «لا يُهمُّني إن كنتُ كذلك بالفعل!» والآن، كان قائد المعسكر هنا يعدُّه محرِّضًا، آخِذًا الأمر على محمل الجدِّ، دون استماحة عُذر، ودون وجود قرابة دم تُجيز ذلك. كرَّر الكلمات: «هذا ما يُثير غضبي منكم أيها المحرِّضون … تأتون إلى هنا وتحاولون إثارة هؤلاء الناس …»

هكذا كانت نظرة «الشركة العامة للوقود» إلى هال! لقد أتى إلى هنا وهو ينوي أن يكون مُشاهدًا، أن يقف على سطح السفينة البخارية ويشاهد محيط البؤس الاجتماعي الممتد أمامه. لقد فكَّر في كل خطوة بعناية فائقة قبل أن يخطوها! وكلُّ ما حاول فعله هو أن يصبح مراقبًا للأوزان ليس إلا! لقد أخبر توم أولسون أنه لن يشارك في نظام اتحاد عُمَّالي؛ لم يكن يثق بمنظِّمي الاتحادات النقابية، بالمحرِّضين بجميع أنواعهم … إنهم أناسٌ متهوِّرون، غير مسئولين، يثيرون مشاعر خطيرة أينما حلُّوا. لقد أُعجِبَ بتوم أولسون … لكنْ كلُّ ما عاد عليه من ذلك هو أنه تخلَّص من تحيُّزاته بعض الشيء؛ فلم يكن أولسون إلا واحدًا من المحرِّضين، ولم يكن يمثِّلهم جميعًا!

لكن كل اعتباراته فيما يخصُّ الشركة قد ذهب سُدًى، وكذلك جميع جهوده لإقناع قائد المعسكر بأنه شخصٌ من الطبقة المترفة. فعلى الرغم من جميع «آداب حفل الشاي» التي تبعها هال، قال قائد المعسكر: «أنتم المحرِّضون!» وتساءل هال على أي أساس استندَ في حُكمه. هل أصبح، هال وارنر، أشبه بأولئك المحرِّضين المتهوِّرين غير المسئولين؟ حان الوقتُ لتقييم نفسه!

هل غيَّره شهران من «العمل المتدنِّي غير الآدمي» في أحشاء الأرض إلى هذا الحَدِّ؟ لا بد أن هذه الفكرة كانت مُقلِقة لشاب مثله طالما كان مفضَّلًا لدى النساء! هل أصبح يتحدث بطريقتهم؟ … وهو الذي كان يمتلك القدرة على الحديث المعبِّر المقنِع كمَن «قبَّل حجر بلارني!» قال قائد المعسكر إنه كان «يُسهب في الحديث!» حسنًا، من المؤكَّد أنه قد تحدَّث كثيرًا، ولكن ماذا عساه كان يتوقع؟ … وقد أودَعه في السجن لمدة يوم وليلتَين دون شيء للتفكير فيه سوى مظالمه وشكاواه! هل كانت هذه هي الطريقة التي يتحوَّل بها المرء إلى محرِّض فعلي … أن يُسجَن مع مظالمه فلا يشغَل تفكيره سواها؟

تذكَّر هال الأفكار التي راودته في السجن. كان يشعر بالمرارة، لم يكن يكترث لأمر نورث فالي وما كان يهدِّدها من هيمنة الاتحادات العُمَّالية عليها. لكن كان كل ذلك مجرد شعور، تمامًا مثل رده على أخيه؛ لقد كانت سيكولوجية السجن جزءًا من دورته الصيفية في علم الاجتماع التطبيقي. لقد تجاهلَ ذلك، ولكن من الواضح أنه تركَ فيه انطباعًا أعمق مما كان يدرك. لقد غيَّره جسديًّا! جعله يبدو مثل المحرِّضين صوتًا وصورةً! جعله «غير مسئول»، «متهوِّرًا»!

نعم، كان هذا كلَّ شيء! كل هذه القذارة، والجهل، والمرض، وهذا الخبث والقمع، هذا التشويه للرجال جسديًّا وروحيًّا في معسكرات الفحم الأمريكية … كل هذا لم يكن موجودًا … لقد كانت هَلوَسة دماغ «غير مسئول»! ها هو الدليل على صحة كلام شقيق هال وقائد المعسكر، ها هو الدليل على ما يقوله العالم بأسره! لا يمكن أن يكون قائدُ المعسكر وشقيقُه والعالَمُ كله «مُتَهوِّرين»! وإذا تحدَّثتَ معهم عن هذه الأحوال، فإنهم كانوا يهزُّون أكتافهم، ويصفونك ﺑ«الحالِم»، «المهوُوس»، ويقولون إنك «مجنون»، أو يستشيطون غضبًا، ويسخرون منك ويتهكَّمون عليك، وينبزونك بالألقاب؛ فيقولون: «أنتم المحرِّضون!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤