الفصل الثلاثون

أعقبَ ذلك ليلةٌ ثم يومٌ آخر من الترقُّب والانتظار المُعذِّب. أُحضِرَت المروحة، ولكن كان لا بد من تركيبها قبل فعل أي شيء. ونظرًا إلى استمرار تدفُّق الدخان الأسود الكثيف من البئر، غطَّوا فتحة الحفرة بإحكامٍ بالخشب والقماش؛ كان ذلك ضروريًّا كما قال الرؤساء، ولكنه بدا لهال ذروة الرعب. أن يُحبَس الرجال والفتيان هكذا في مكان مليء بالغازات القاتلة!

كان ثمة عذابٌ استثنائي يشعر به المرء عندما يتذكَّر وجود رجال محبوسين في المنجم؛ فقد كانوا تحت قدمَيه مباشرة، ولكنه من المستحيل الوصول إليهم، أو التواصُل معهم بأي شكلٍ من الأشكال! كان الناس في الأعلى يتوقون إليهم، وكانوا في الأسفل يتوقون إليهم أيضًا. لم يكن من السهل نسيانُهم ولو لبضع دقائق. أصبح الناس شاردي الذهن في أثناء حديثهم، ووقفوا يحدِّقون إلى الفراغ، وفجأة، في وسط الحشد، راحت امرأةٌ تدفن وجهَها بين يديها وأجهشت بالبكاء، ثم حذت الأخرياتُ جميعهن حذوَها.

قليلون هم مَن ذاقوا النومَ في نورث فالي في هاتَين الليلتَين. أقام الأهالي مراسم التعازي في منازلهم أو في الشوارع. وكان عليهم بالطبع القيام ببعض الأعمال المنزلية، لكن لم يترك أحدٌ شيئًا كان في إمكانه فِعله إلا وفَعَله. لم يكن الأطفال يلعبون، بل وقفوا صامتين شاحبين، كأنهم كبارٌ هرِمون، وقد أنضجتهم معرفة المتاعب قبل أوانهم. كانت أعصاب الجميع متوترة، وكانوا على شفا حفرة من فقدانهم لرباطة جأشهم.

كان الموقف بطبيعة الحال باعثًا على الكثير من الشائعات والقصص المُتخيَّلة، ووجدَ فيه أولئك الذين يميلون إلى قراءة العلامات والنُّذُر بُغيتَهم … مثل عرَّافي الأشباح، أو مُحضِّري الأرواح، أو قارئي الطالِع، أو غيرها من الهبات الغامضة. كان هناك بعض مِمَّن يعيشون في منطقة نائية في القرية قد أعلنوا أنهم سمعوا انفجاراتٍ تحت الأرض، عدة انفجارات في تتابُعٍ سريعٍ. كان الرجال تحت الأرض يفجِّرون الديناميتَ للإشارة إلى مكان وجودهم!

خلال اليوم الثاني، جلس هال مع ماري بيرك على دَرَج منزلها. كان العجوز باتريك يرقد في الداخل، بعدما عاد من حانة أوكالاهان وقد غيَّب الكحول ذهنه وأنساه واقع حاله. وكانا بين الحين والآخر يسمعان أنينَ السيدة زامبوني، التي كانت في كوخها مع أطفالها الصغار. وقد ذهبت ماري لإطعامهم؛ لأن الأم المشتَّتة تركتهم يتضوَّرون جوعًا ويبكون. كانت ماري منهَكة هي الأخرى؛ وقد شحبت بشرتُها الأيرلندية الجميلة، وذبلت شفتاها اللتان كانتا مُفعمَتين بالحيوية. كانا يجلسان في صمتٍ؛ لأنه لم يكن ثمة شيء يمكن الحديث عنه سوى الحادث … وقد قالا كلَّ ما كان في الإمكان قوله. لكن هال كان يفكِّر بينما كان يشاهد ماري.

قال أخيرًا: «اسمعي يا ماري، عندما ينتهي هذا الأمر، يجب حقًّا أن ترحلي من هنا. لقد فكَّرتُ في كل شيءٍ … لديَّ أصدقاء في ويسترن سيتي سيمنحونكِ عملًا، وبذلك يمكنك الاعتناء بنفسك، وبأخيك وأختك أيضًا. هل سترحلين؟»

لكنها لم تُجِبْ. وواصلت التحديقَ بلا مبالاة إلى الشارع الصغير المتسِخ.

تابع قائلًا: «صدِّقيني يا ماري. الحياة ليست فظيعة في كل مكان كما هي هنا. ارحلي بعيدًا! من الصعب أن تصدقي أنكِ ستنسَين كلَّ هذا. الناسُ يعانون، ولكن معاناتهم تنتهي بعد ذلك، هذا هو دأب الحياة … أن تنسيهم.»

قالت: «لطالما كان دأبُ الحياة معي هو أنها تعذِّبني حتى الموت.»

«أجل يا ماري. قد يصبح اليأس مرضًا، لكن ذلك لم يحدث معكِ. أنتِ فقط متعَبة. إذا حاولتِ أن تنهضي …» واقتربَ منها وأمسكَ بيدها محاوِلًا التصرُّف بطريقة مرحة. وقال: «ابتهجي يا ماري! ستُغادرين نورث فالي.»

التفتَت ونظرت إليه. وسألت بلا مبالاة: «هل سأُغادر حقًّا؟» وراحت تتفحَّص وجهَه. ثم سألته: «مَن أنت يا جو سميث؟ ماذا تفعل هنا؟»

ضحكَ، وهو لا يزال يحاول صرفَ انتباهِها، وقال: «أعمل في أحد مناجم الفحم.»

لكنها واصلتْ بجدية كما كانت من قبل. وقالت: «أنت لست عامِلًا، أعلم ذلك. ودائمًا ما تعرض عليَّ المساعدة! دائمًا ما تقول ما يمكنك فعله من أجلي!» توقَّفت برهة وظهر على وجهها بعضُ تحدِّيها القديم. ثم أردفت: «لا يمكن يا جو أن تتصوَّر المشاعر التي تملَّكتني الآن. أنا على أُهْبة الاستعداد لفعل شيءٍ مُتهوِّر؛ من الأفضل أن تتركني وحدي يا جو!»

«أعتقد أنني أفهمُكِ يا ماري. لن ألومكِ على أي شيء فعلتِه.»

كانت تنتظر كلماته بفارغ الصبر. ومن ثَمَّ، قالت: «أحقًّا يا جو؟ هل أنت متأكِّد؟ إذن ما أريده هو أن أعرف الحقيقة منك. أريدك أن تتحدَّث عن الأمر بصدقٍ!»

«حسنًا يا ماري. أيُّ أمر؟»

لكن تحدِّيها اختفى فجأة. غضَّت عينَيها، ورآها تنقر بأصابعها بتوتر على ثنية فستانها. قالت: «أنا وأنت يا جو. تراءى لي أحيانًا أنك تهتم بي. تراءى لي أنك أحببتَ أن تكون معي … ليس فقط لأنك تُشفِق عليَّ، بل لأجلي. لم أكن متأكدة، ولكني لا أستطيع منع نفسي من التفكير في الأمر على هذا النحو. أليس الأمر كذلك؟»

قال بشيءٍ من عدم اليقين: «بلى، إنه كذلك. أنا مهتم بكِ.»

«إذن ألا تهتم بتلك الفتاة الأخرى طوال الوقت؟»

قال: «لا، ليس الأمر كذلك.»

«أيمكنك أن تهتم بفتاتَين معًا في آنٍ واحد؟»

لم يكن يعرف ماذا يقول. لكنه أجابها: «يبدو أنه يمكنني ذلك يا ماري.»

رفعتْ عينَيها مرة أخرى، وتفحَّصت وجهَه. وقالت: «لقد أخبرتَني عن تلك الفتاة الأخرى، وكنت أتساءل عما إذا كنت قد قلتَ ذلك كي تُبْعِدَني عنك؟ ربما كان خطئي، لكني لم أكن أستطيع تصديق أمر تلك الفتاة الأخرى يا جو!»

أجاب بسرعة: «أنتِ مخطئة يا ماري. ما قلتُه لكِ حقيقي.»

قالت رغم غياب الاقتناع عن نبرة صوتها: «حسنًا، ربما هو كذلك، تبتعد عنها، ولا تذهب أبدًا إلى مكانها أو تراها … من الصعب أن أصدِّق أنك كنت ستفعل ذلك لو كنت قريبًا جدًّا منها. لا أعتقد أنك تحبها بالقدر الكافي. كما أنك تقول إنك تهتم بي بعض الشيء. لذلك، فكَّرتُ … تساءلتُ …»

توقَّفت وأجبرتْ نفسها على النظر في مواجهته: «لقد حاولتُ فهمَ الأمر! أعلم أنك أفضل مني بكثيرٍ، يا جو. لقد أتيتَ من مكان أفضل في الحياة، ومن حقك أن تأمل في امرأة أفضل مني …»

«الأمر ليس كذلك يا ماري!»

لكنها قاطعته. وقالت: «أعلم أن هذا صحيح! أنت فقط تحاول أن تحافظ على مشاعري. أعلم أنك أفضل مني! لقد حاولتُ جاهدة أن أُبقِي رأسي مرفوعًا كي لا أسمحَ لنفسي بالانهيار. حتى إنني حاولتُ أن أَبقى مبتهجة، وأخبرتُ نفسي أنني لا أريد أن أكون مثل السيدة زامبوني، الدائمة الشكوى. ولكن لا طائل من إخبار نفسك بالأكاذيب! لقد ذهبتُ إلى الكنيسة وسمعتُ القَسَّ سبراج يخبر الناس أنَّ الغني والفقير سواءٌ في عينَي الرب. وربما هذا صحيح، لكنني لست الرب، ولن أتظاهر أبدًا بأنني لا أخجلُ من العيش في مكان كهذا.»

شرع في الحديث قائلًا: «أنا متأكد من أن الرب لا يريدكِ أن تبقي هنا …»

لكنها قاطعته قائلة: «ما يجعل تحمُّل الأمر صعبًا للغاية هو المعرفة بوجود العديد من الأشياء الرائعة في العالَم، ولا يمكنك الحصول عليها أبدًا! إنها كما لو أنَّ عليك رؤيتها من خلال لوحٍ زجاجي، كما هو الحال في واجهات المتاجر. فكِّر فقط، يا جو سميث … ذات مرة، في كنيسة في شيريدان، سمعتُ سيدة تغني لحنًا جميلًا، مرة واحدة في حياتي كلها! هل تستطيع أن تتخيَّل ماذا يعنيه ذلك لي؟»

«نعم يا ماري، أستطيع.»

«لقد اكتشفتُ كلَّ ذلك بنفسي … منذ سنوات. عرفتُ الثمن الذي يجب أن تدفعه الفتاة العاملة مقابل مثل هذه الأشياء، وقلتُ لنفسي إنني لن أسمحَ لنفسي بالتفكير فيها. لقد كرهتُ هذا المكان، وأردتُ الابتعادَ عنه … ولكن ثمة طريقة واحدة فقط للرحيل، أن أدع رجلًا يصطحبني بعيدًا! ولذلك بقيتُ، والتزمتُ الطريقَ القويم، يا جو. أريدك أن تصدق ذلك.»

«بالطبع يا ماري!»

«لا! ليس ما أقصده أن تقول «بالطبع». ما أعنيه أنَّ عليك مكافحة الإغراءات. لقد نظرتُ كثيرًا إلى جيف كوتون، وفكَّرتُ في الأشياء التي أحتاج إليها! ولكني واصلتُ طريقي دونها! لكن ها هو الآن الشيء الذي تريده المرأة أكثر من كل الأشياء الأخرى في العالَم!»

توقفتْ، ولكن لحظة. ثم قالت: «يقولون إنَّ المرء حين يحبُّ، فعليه أن يحبَّ مَنْ ينتمي إلى طبقته الاجتماعية. لقد قالت لي والدتي العجوز ذلك قبل أن تموت. لكن ماذا إن لم يحدث ذلك؟ ماذا لو أنك توقَّفت قليلًا وفكَّرت فيما يعنيه ذلك، أن تنجب طفلًا تِلوَ الآخر، حتى تُنهَك وتموت … مثل أمي العجوز؟ ماذا لو كنت تستطيع تمييز الأخلاق الحميدة عندما تراها … تعرف الحديث الشيق عندما تسمعه!» شبَّكت يديها أمامها فجأة، وهي تصرخ: «آه، أنت مختلفٌ يا جو … مختلفٌ تمامًا عن أي شيء هنا! الطريقة التي تتحدَّث بها، الطريقة التي تتحرك بها، النظرة المرِحَة في عينَيك! لم يكن لدى أي عامِل منجم مثل هذه النظرة السعيدة يا جو؛ يكادُ قلبي يتوقَّف عندما تنظر إليَّ!» توقَّفتْ ملتقطة أنفاسها بحِدَّة، ورأى أنها كانت تحاول جاهدةً أن تكبح جماحَ نفسها. ثم صاحت بعد لحظة بتحدٍّ: «لكنهم سيقولون لي، كُوني حَذِرة، إياكِ أن تقعي في غرام هذا النوع من الرجال؛ لن تجني من وراء ذلك سوى انفطار فؤادك!»

سادَ الصمتُ. لم يكن لدى عالِم الاجتماع الهاوي حلٌّ لهذه المشكلة … سواء للسؤال النظري، أو لتطبيقه العملي!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤