الفصل السادس

كانت محكمة المقاطعة منعقدة، وجلس هال قليلًا في قاعة المحكمة، يشاهِد القاضي دينتون. ها هو رجلٌ نبيل آخر مُترَف وبَدين، ذو وجه متورِّد يُشِع تألُّقًا في ردائه الحريري الأسود. وجد عامل المنجم الشاب نفسَه ينظر إلى كلٍّ من الرداء والوجه بريبة. هل أصبح هال صاحب حسٍّ ناقِد وبدأ يفقد الثقة بالبشر؟ ما كان يفكِّر فيه، فيما يتعلق بمظهر القاضي، هو أن هناك من كان يكسب عيشَه من اعتلاءِ مِنَصَّة المحكمة، بينما كان شريكُه يَمثُل أمام المنصة بصفته مستشارًا لشركة الفحم!

في الاستراحة، تحدَّث هال إلى كاتِب الجلسة، وأخبره الكاتب أنه يمكنه مقابلة القاضي في الساعة الرابعة والنصف، غير أنه لم يمضِ بضعُ دقائق حتى دخلَ بيت هانون وتحدَّثَ هامِسًا إلى هذا الكاتب. نظر الكاتِبُ إلى هال، ثم ذهبَ وهمسَ إلى القاضي. في الساعة الرابعة والنصف، عندما أُعْلِنَ رفع الجلسة، نهضَ القاضي واختفى في مكتبه الخاص، وعندما ذهب هال إلى الكاتب، أخبره الأخير بأن القاضي دينتون مشغول للغاية ولن يتمكَّن من رؤيته.

غير أنه لم يكن من الممكن التخلُّص من هال بهذه السهولة. كان هناك بابٌ جانبي لقاعة المحكمة، بممرٍّ خلفه، وبينما كان هال يقف مجادِلًا الكاتِب لمحَ وجهَ القاضي المتورِّد يمرُّ مُسرِعًا.

اندفعَ يتبعُه. لم يصرخ أو يُحدِث أي جَلَبة، لكن عندما أصبح قريبًا من ضحيته، قال بهدوء: «أيها القاضي دينتون، أُناشدُكَ العدالة!»

التفتَ القاضي، ونظر إليه وقد بدا على وجهه الانزعاج. وسأله: «ماذا تريد؟»

كانت لحظة حَرجة؛ لأن بيت هانون كان في أعقاب هال، وكان يكفي أن يُومِئ القاضي برأسه ليلقي بيت القبض على هال. غير أن القاضي أُخِذَ على حين غرة، فلم يجد مفرًّا أمامه من التحدُّث مع عامل المنجم الشاب؛ وتردَّد المحقِّق، ثم تراجعَ أخيرًا خطوة أو خطوتَين.

كرَّر هال التماسَه. وقال: «يا سيادة القاضي، هناك مائة وسبعة من الرجال والفتيان يحتضِرون الآن في منجم نورث فالي. إنهم يُقتَلون عَمدًا، وأنا أحاول إنقاذَ حياتهم!»

قال القاضي: «أيها الشاب، لديَّ أمرٌ عاجل يستوجب مني الرحيل.»

أجاب هال: «حسنًا سأسيرُ معك وأخبرك في أثناء ذلك.» ولم يمنح «سيادته» الفرصة للتعبير عما إذا كان هذا القرار يُرضيه أم لا؛ إذ انطلقَ بجانبه، بينما كان بيت هانون والرجلان الآخران على مسافة نحو عشر ياردات خلفهما.

روى هال القصة كما رواها للسيد ريتشارد باركر، وتلقَّى الرد نفسه. لم يكن من السهل اتخاذ قرارٍ بشأن مثل هذه الأمور؛ فلم يكن ذلك من شأن القاضي. كان هناك مسئولٌ حكومي في المنجم، وكان له أن يقرِّر وجود انتهاك للقانون من عدمه.

كرَّر هال إفادته بأن الرجل الذي تقدَّم بشكوى إلى هذا المسئول قد طُرِد من المعسكر. وأضافَ: «وقد طردوني أنا أيضًا، يا سيادة القاضي.»

«لماذا؟»

«لم يُخبرني أحدٌ بالسبب.»

«كلام فارغ أيها الشاب! إنهم لا يطردون العُمَّال دون إخبارهم بالسبب!»

«لكنهم يفعلون خلاف ذلك يا حضرة القاضي! وقبل ذلك بقليلٍ حبسوني، واحتجزوني لمدة ست وثلاثين ساعة دون أي مبرِّر مُعلَن.»

«لا بد أنك كنت تفعل شيئًا ما!»

«ما فعلتُه هو أن لجنة من عمَّال المناجم قد اختاروني لأكونَ مراقِبًا لأوزانهم.»

«مراقِبًا لأوزانهم؟»

«نعم يا سيادة القاضي. لقد علمتُ أن هناك قانونًا ينصُّ على أنه عندما يطالب العُمَّال بتعيين مراقِب للأوزان، ويَعرضون دفع أُجرته من حسابهم، فلا بد أن تسمح له الشركة بالتحقُّق من الأوزان. هل ذلك صحيح؟»

«إنه كذلك، على ما أعتقد.»

«وهل من عقوبة لمَن يخالِف ذلك؟»

«القانون دائمًا يفرض عقوبة أيها الشاب.»

«أخبَروني أنَّ القانونَ موجود في كتب التشريع منذ خمسة عشر أو ستة عشر عامًا، وأنَّ العقوبة هي غرامة تتراوح ما بين خمس وعشرين دولارًا وخمسمائة دولار. إنه أمرٌ لا جدال فيه يا حضرة القاضي … أبلغَ عُمَّالُ المناجم المشرفَ برغبتهم في أن أكون مراقبًا للأوزان، وعندما حضرتُ في المَقلَب، رفضوا تمكيني من الوصول إلى الموازين؛ ثم ألقوا القبض عليَّ وزجُّوا بي في السجن، وفي نهاية المطاف طردوني من المعسكر. لقد قدَّمتُ إفادة بهذه الحقائق، وأعتقد أن لديَّ الحق في المطالبة بإصدار أمرٍ قضائي بحق المذنِبين.»

«هل يمكنك أن تأتي بشهودٍ لإثباتِ أقوالك؟»

«يمكنني يا سيادة القاضي. أحدُ أعضاء لجنة عُمَّال المناجم، جون إدستروم، وهو الآن في بيدرو، طُرِدَ من منزله الذي كان قد استأجره ودفعَ إيجاره. والآخر، مايك سيكوريا، طُرِدَ أيضًا من المعسكر. وهناك الكثير غيرهم في نورث فالي ممن يعرفون كلَّ شيء عن الأمر.»

سادَ الصمتُ مؤقتًا. تطلَّع القاضي دينتون جيدًا لأول مرة في عامِل المنجم الشاب الواقف بجواره، ثم عقدَ حاجبَيه مستغرقًا في التفكير، وأصبح صوتُه عميقًا ومؤثِّرًا. ثم قال: «سآخذُ الأمرَ بعين الاعتبار. ما اسمك، وأين تقيم؟»

«جو سميث، يا حضرة القاضي. وأقيم في منزل إدوارد ماكيلار، لكنني لا أعرف إلى متى سأتمكَّن من البقاء هناك. فهناك بلطجية للشركة يراقبون المكان طوال الوقت.»

قال القاضي بنفاد صبرٍ: «هذا تجاوز وافتراء!»

قال هال: «في الواقع، يتبعنا ثلاثة منهم في هذه اللحظة … أحدُهم هو بيت هانون نفسه الذي ساعد في طردي من نورث فالي. إذا استدرتَ برأسك، فسوف تراهم خلفنا.»

لكن القاضي البدين لم يُدِر رأسَه.

تابع هال: «لقد قِيل لي إنني أخاطرُ بحياتي إذا مضيتُ في طريقي الحالي. أعتقد أنه يحقُّ لي أن أطلبَ الحماية.»

«ماذا تريدني أن أفعل؟»

«بدايةً، أودُّ منك أن تأمر بإلقاء القبض على الرجال الذين يتتبَّعونني.»

«ليس من شأني أن أصدر أوامر اعتقال من هذا القبيل. عليك التقدُّم بطلبك إلى الشرطة.»

«لا أرى أيَّ رجال شرطة. هلَّا أخبرتني أين أجد أيًّا منهم؟»

ازدادَ ضجرُ سيادته من هذا الإصرار. وقال: «أيها الشاب، مشكلتُك هي أنك تقرأ الروايات الرخيصة، وقد أثَّرت فيك!»

«لكن الرجال ورائي مباشرة يا حضرة القاضي! انظر بنفسك!»

«لقد أخبرتُك أن هذا ليس من شأني أيها الشاب!»

«لكن يا حضرة القاضي، قبل أن أتمكَّن من العثور على شرطي لأبلغه بالأمر، سأكون قد لقيتُ حتفي!»

لم يبدُ على الآخر الانزعاج من هذا الاحتمال.

«وفي أثناء دراستك للأمور وتفحُّصها يا سيادة القاضي، سيكون الرجال في المنجم قد ماتوا!»

مرة أخرى لم يجد ردًّا.

قال هال: «لديَّ بعضُ الإفادات هنا. هل ترغب في الاطلاع عليها؟»

قال الآخر: «يمكنك أن تعطيني إياها إذا أردت.»

«ألن تستفسر مني عنها؟»

«ليس بعد.»

«إذن هل لي بسؤالٍ أخير … إذا سمحت لي، يا حضرة القاضي. هل يمكنك أن تخبرني أين أستطيع أن أجد محاميًا نزيهًا في هذه المدينة … رجلًا يكون على استعدادٍ لرفع قضية ضد الشركة العامة للوقود؟»

خيَّم الصمتُ … طويلًا. سار القاضي دينتون، من شركة دينتون وفاجلمان، وهو يحدَّق أمامه مباشرة في أثناء سيره. على الرغم مما كان يجُول في ذهنه من عمليات تفكير معقَّدة، فلم يكشف عنها وجهُه الذي احتفظَ بملامح القُضاة الجادَّة. وقال أخيرًا: «لا أيها الشاب، ليس من شأني أن أقدِّم لك معلوماتٍ عن المحامين.» وبهذا انصرفَ القاضي سريعًا ودلفَ إلى نادي إيلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤