الفصل الثالث والعشرون

هكذا مرَّ الوقت في استمتاعٍ. وفازت جيسي بمقصده تمامًا بفضل هذا المشاكس الإيطالي الصغير، على الرغم من كل ما تلفَّظ به من السِّباب المروِّع، ورأى هال أنها أيضًا استفادت، وكان سعيدًا بنجاح تجربة الاندماج الاجتماعي هذه. لم يستطِع معرفة ما يدور في ذهن جيسي، أو أن يدرك أن وراء فرحتها الحقيقية يكمن تحفُّظٌ نابع من تحيُّزها، تلك القسوة الغريزية التي يتَّسم بها أبناءُ طبقتها الاجتماعية. أجل، كان فتى المنجم الصغير كملائكة الكروب، هذا الآن، ولكن ماذا سيصبح عندما يكبر؟ سيصبح قبيحًا وفظَّ المظهر، وفي غضون عشر سنواتٍ لن يُمكن التعرُّف عليه وسط رجال القرية الفظِّين والقذرين الآخرين. ترى جيسي أن حقيقة كون الأشخاص العاديين يصبحون قبيحين عندما ينضجون دليلًا على أنهم، على نحوٍ مترسِّخ ودائم، أقل شأنًا مِمن هم أرقى منهم. كان هال يضيع وقته وقوته محاولًا تحويلهم إلى شيء من الواضح أن الطبيعة لم تكن تقصد أن يكونوا عليه! قررَتْ أن توضِّح هذا الأمر لهال في طريق عودتهما إلى القطار. أدركت أنه أحضرها إلى هنا لتعليمها، وبما أن التعليم بالإجبار كان مثيرًا لاستيائها، مثلها في ذلك مثل أي شخص آخر، فقد كانت تأمل في تغيير مجرى الأمور والتمكُّن من تعليم هال.

سرعان ما انتهت روزا من إرضاع الطفل، ولاحظت جيسي عينَيه السوداوَين. كسرَ هذا الموضوعُ حاجزَ خجل الأم، وتحدَّثوا بسرورٍ، ولكنهم سمعوا فجأة أصواتًا في الخارج أصابتهم بالفزع، كان صخبًا من أصوات النساء، وقفز هال وروزا إلى الباب. كان الوقتُ حرجًا؛ فقد كان الجميع على أُهْبة الاستعداد لمعرفة الأخبار.

فتح هال الباب ونادى مَن بالخارج: «ما الأمر؟» أتى الردُّ بصوتِ امرأة: «لقد عثروا على رافيرتي!»

«أهو حي؟»

«لا أحدَ يعرف بعد.»

«أين؟»

«في الغرفة السابعة عشرة. أحد عشر منهم … رافيرتي، والشاب فلاناجان، ويوهانسون، السويدي. يقولون إنهم على وشك الموت … ولا يستطيعون الكلام. لن يسمحوا لأحدٍ بالاقتراب منهم.»

تداخلت أصواتٌ أخرى، لكن الصوت الذي أجاب هال كان مختلفًا؛ فقد كان صوتًا دافئًا ورخيمًا، أيرلنديًّا لا شك، وقد لفتَ انتباهَ جيسي. «لقد وضعوهم في غرفة المَقلَب، والنساء يُرِدن أن يعرفن أحوال أزواجهن، ولن يُخبروهن. إنهم يضربونهن لإرجاعهن وإبعادهن كما لو كُنَّ كلابًا!»

كان هناك ضجيجٌ من البكاء، وخرج هال من الكوخ، وبعد دقيقة أو نحو ذلك دخل مرة أخرى، ساندًا بذراعه فتاة، ترتدي فستانًا قطنيًّا أزرق اللون باهتًا، وذات شعر أحمر لافت للغاية. بدت كأنها على وشك الإغماء، وظلَّت تتأوَّه قائلة إن الأمر كان فظيعًا، شديد الفظاعة. قادها هال إلى كرسي، فغاصت فيه وأخفت وجهَها بين يديها، باكيةً، ومتحدِّثةً على نحوٍ غير متماسكٍ وسط تنهداتها.

وقفت جيسي تنظر إلى هذه الفتاة. وشعرت بشدة انفعالها، وشاركتها إياه، ولكن في الوقت نفسه كان ثمة شيء استاءت منه جيسي. لم تكن ترغب في أن تنزعج من أشياء كهذه، الأمر الذي لم تستطع منعه. بالطبع كان هؤلاء الأشخاص التُّعساء يعانون، ولكن … يا لها من ضجة صادمة كانت تُحدِثها تلك الفتاة المسكينة! كان الغضبُ جزءًا من انفعالها، وأدركت جيسي ذلك، واستاءت منه أكثر. كان الأمر كما لو كان تحديًا شخصيًّا لها، تلك المشاعر الاجتماعية الضارية نفسها التي اجتاحت هال، والتي أذهلتها وصدمَتْها بشدة.

كرَّرت الفتاة: «إنهم يضربونهن لإرجاعهن وإبعادهن كما لو كنَّ كلابًا!»

قال هال، وهو يحاول تهدئتها: «ماري، سيفعل الأطباءُ كلَّ ما في وسعهم. لم تستطع النساءُ تصوُّر أن يحتشدن حول الجثث!»

«ربما لم يستطعن، ولكن هذا ليس كل شيء يا جو، وأنت تعرف ذلك! لقد كانوا يجلبون الجثث إلى السطح، عثروا على بعضها حيث كان الانفجار … فجَّرها إلى أشلاء. ولن يسمحوا لأحدٍ برؤيتها. هل هذا بسبب الأطباء؟ لا، ليس كذلك! كان ذلك لأنهم يريدون أن يكذبوا بخصوص عدد القتلى! يريدون أن يعدُّوا أربع أو خمس أرجُلٍ لجثة واحدة! وذلك ما يقود النساء إلى الجنون! رأيت السيدة زامبوني تحاول النزول إلى السفح، وأمسكها بيت هانون من ذراعَيها ودفعها إلى الخلف. صرخت: «أريدُ زوجي!» وجاءها الردُّ: «حسنًا، ماذا تريدين أن تفعلي به؟ ما هو إلا أشلاء!» فصاحت مجدَّدًا: «أريد أشلاءَه!» وسألها الصوتُ مرة أخرى: «فيما ستنفعكِ؟ هل ستأكلينها؟»»

عَلَتْ حينئذٍ صرخاتُ رعبٍ، حتى من جيسي، وخبَّأت الفتاةُ الغريبة وجهها بين يديها وأجهشت بالبكاء مجدَّدًا. وضع هال يدَه بلطفٍ على ذراعها.

توسَّل قائلًا: «ماري، الأمرُ ليس سيئًا للغاية … فهم يُخرجون الناسَ على الأقل.»

«كيف لَك أن تعرف ماذا يفعلون؟ ربما يُغلقون أجزاءً من المنجم بالأسفل! هذا ما يجعل الأمر فظيعًا للغاية … لا أحدَ يعرف ماذا يحدث! كان يجب أن تسمع صراخَ السيدة رافيرتي المسكينة. لقد اخترقني كالسكين يا جو. فقط فكِّر، لقد مرَّت نصفُ ساعة منذ أن أحضروه إلى السطح، ولا تستطيع السيدة المسكينة معرفة ما إذا كان زوجُها على قيد الحياة أم لا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤