الفصل الخامس والعشرون

هكذا تأجَّجت الذاتُ الغريزية في جيسي آرثر، نِتاجَ قسوةٍ متأصِّلة، لم يكن لدى هال فكرة عن وجودها. تراجعتْ إلى الخلف، وكان ثمة عجرفة هادئة في نبرة صوتها عندما تكلَّمت. «هال، تعالَ إلى هنا، من فضلك.»

أتى، وانتظرت حتى أصبح على مسافة تسمح بمحادثته بصوتٍ خافتٍ، ثم قالت: «هل نسيتَ أنك يجب أن تعيدني إلى القطار؟»

قال راجيًا: «ألا يُمكنكِ أن تأتي معي لبضع دقائق؟ سيكون لذلك أثرٌ جيد.»

أجابت، وارتجفَ صوتُها فجأة وترقرقت الدموعُ في عينَيها البُنِّيتَين: «لا أستطيعُ الذهابَ وسط ذلك الحشد. ألا تعلم يا هال أنني لا أستطيع تحمُّل مثل هذه المشاهد الفظيعة؟ هذه الفتاة المسكينة … إنها تعتادها … لقد اشتدَّ قلبُها! لكن أنا … أنا … أوه، خُذني بعيدًا، خُذني بعيدًا، عزيزي هال!» أحدثَ هذا التوسُّل النسائي طلبًا للحماية صدًى مألوفًا في ذهن هال. لم يتوانَ للتفكير … بل حرَّكته غريزتُه. أجل، لقد عرَّضَ الفتاةَ التي أحبَّها للمعاناة! لقد تعمَّد ذلك لمصلحتها، ولكن على الرغم من ذلك، كان الأمر قاسيًا!

وقفَ بالقرب منها، ورأى شعاعَ الحب في عينَيها؛ رأى الدموعَ، وارتعاشَ ذقنها الرقيق. مالت نحوه وأمسكها بين ذراعَيه … وحينئذٍ، أمام هؤلاء الحضور، جعلته يضمُّها إليه وهي تبكي وتهمس بحزنها. كانت تخجل من المداعبات حتى ذلك الحين؛ إذ كانت والدتُها الخبيرة تراقبها وتعاتبها، فمن المؤكَّد أنها لم تُقدِم من قبل على ما يمكن لخياله أن يعتبره، ولو من بعيدٍ، مبادرة حميمة منها. لكنها الآن تجرَّأت، وكان ثمة نداء انتصار في روحها عندما رأت استجابته لها. كان لا يزال ملكها … ويجب على هؤلاء الأشخاص الوضِيعِين أن يعرفوا ذلك، يجب أن تعرف هذه «الفتاة الأخرى» ذلك!

ولكن في خِضَم هذه البهجة، شعرت جيسي آرثر حقًّا بحزنٍ أعربت عنه على نساء نورث فالي؛ لقد شعرت حقًّا بالرعب في قصة السيدة زامبوني وزوجها المسكين، فهكذا هي روح المرأة، الشديدة التعقيد، وهكذا هي قدرتُها، مُحيِّرة وقديمة، قِدَم الزمان، تصيبها بالجنون وفي الوقت نفسه توجِّهها إلى استخدام هذا الجنون بحساباتٍ عميقة ولا مجالَ فيها للخطأ.

لكنها جعلت هال يدرك أنه يتعيَّن عليه أن يأخذها بعيدًا. التفتَ إلى ماري بيرك وقال: «قطار الآنسة آرثر سيغادر بعد قليلٍ. سأضطر إلى مرافقتها، وبعد ذلك سأذهبُ إلى فتحة المنجم معكِ لأرى ما يمكنني فعله.»

أجابت ماري، وكان صوتُها قاسيًا وباردًا: «جيد جدًّا.» لكن هال لم يلحظ هذا. لقد كان رجلًا، وغير قادر على مواكبة عواطف امرأة واحدة … فضلًا عن امرأتَين في وقتٍ واحد.

أخذَ جيسي بالخارج، وطوال طريق سيرهما إلى القطار كانت تكافح كفاحًا يائسًا لإبعاده عن هذا المكان. لم تعُد تقترح حتى أن يحصل على ملابس لائقة؛ فقد كانت تريده أن يأتي بهيئته التي كان عليها، ببذلة العمل الملطَّخة بالفحم، في قطار ابن ملك الفحم. لقد توسَّلت إليه باسم ما بينهما من عاطفة. وهدَّدته بأنه إذا لم يأتِ، فقد تكون هذه هي المرة الأخيرة التي سيلتقيان فيها. حتى إنها أجهشت بالبكاء وسط الشارع، وتركته واقفًا مكانه على مرأًى من زوجات عُمَّال المناجم وأطفالهم، وربما مُراسلي الصحف، وهو يُسندها بذراعَيه ويُهدِّئها.

كان هال في حيرة كبيرة، لكنه لم يكن ليستسلم. أصبحت فكرةُ المغادرة في قطار بيرسي هاريجان تبدو بغيضة من الناحية الأخلاقية بالنسبة إليه؛ قال إنه كره قطار بيرسي هاريجان، وبيرسي هاريجان نفسه. ورأت جيسي أن كلَّ ما تفعله هو أنها تُخرِجه عن صوابه … وأنه ربما سرعان ما يكرهها هي أيضًا. وبلباقتها الاجتماعية الفطرية، جعلته يقترحُ أنها قد تجد شخصًا لمرافقتها، وتبقى معه في نورث فالي حتى يُصبح هال مستعدًّا لمغادرة المكان.

طرِبَ قلبُ هال لذلك الاقتراح؛ لم يكن لديه أي فكرة عما كان يدور في ذهنها … فقد كان من المؤكَّد ألا تُقدِم أيٌّ من سيدات صُحبة هاريجان على الإساءة إلى مضيفها بالبقاء في مثل هذه الظروف.

صاحَ سعيدًا: «هل تعنين ذلك حقًّا يا حبيبتي؟»

أجابت: «أعني أنني أحبُّك يا هال.»

قال: «حسنًا يا عزيزتي! سنرى ما إذا كان في إمكاننا ترتيب ذلك.»

ولكن بينما كانا يسيران في طريقهما، تمكَّنت، دون أن يدرك، من جعله يفكِّر في عواقب بقائها. كانت على استعدادٍ للبقاء، إذا كان هذا ما أراده، لكن ذلك كان من شأنه أن يضرَّ بعلاقتها مع والدَيها، وربما على نحوٍ لا رجعة فيه. كانوا سيرسلون إليها في تلك الحالة برقية بأن تأتي على الفور، وإذا لم تُطِع الأمر، فقد كانوا سيأتون في أول قطار. وهكذا، حتى اضطر هال إلى التراجع عن اقتراحه. في نهاية المطاف، ما الفائدة من بقائها إذا كان ذهنُها مع أبناءِ موطنها، إذا كانت ستُعرِّضه للمتاعب؟ قبل أن تنتهي المحادثة، أصبح واضحًا في ذهن هال أن نورث فالي لم تكن مكانًا مناسبًا لجيسي آرثر، وأنه كان أحمق عندما ظنَّ أن في إمكانه أن يخلق ترابُطًا بين العالَمين.

حاولت إقناعَه أن يعِدَها بالمغادرة بمجرد أن يُخرِجوا آخِر رجل من المنجم. أجابَ بأنه كان ينوي الرحيل في تلك الحالة ما لم يطرأ أمرٌ جديد. حاولت الحصول على وعدٍ غير مشروط، ولكنها فشِلت في ذلك، وعندما أوشكا على الوصول إلى القطار، استسلمت تمامًا فجأة. فليفعل ما أراد … ولكن ليتذكَّر أنها أحبَّته، وأنها كانت في حاجة إليه، وأنها لم تكن تستطيع الاستغناءَ عنه. بغض النظر عما كان ربما سيفعله، وعما كان ربما سيقوله الناسُ عنه، كانت تؤمن به، وكانت ستقف بجانبه. تأثَّر هال بشدة، وأخذها بين ذراعَيه مرة أخرى وقبَّلها برقة تحت المظلَّة، فيما كان العديد من الفِتية الأشقياء من ذوي الوجوه الملطَّخة بالفحم ينظرون إليهما في دهشة. تعهَّد مُجدَّدًا بحُبِّه لها، مؤكِّدًا أنه لن يصرفه عنها أيُّ قدر من الاهتمام بمعسكرات التعدين.

ثم أدخلها القطار، وصافح الضيوف المغادرين. كان شديدَ التجهُّم، ويبدو عليه الضيقُ إلى درجة أن الشباب لم «يُمازِحوه» كعادتهم. وقفَ على رصيف المحطة ورأى القطار يتأرجَح مبتعدًا … وشعرَ في حيرة يائسة بأنه أصبح يكره أصدقاءَ طفولته وشبابه هؤلاء. احتجَّ عقلُه على ذلك؛ وقال لنفسه إنه لم يكن ثمة شيء في إمكانهم فعله، لم يكن ثمة سببٌ على وجه الأرض لبقائهم … ولكنه كرههم. كانوا يسارعون للرقص والمغازلة في النادي الريفي … بينما كان هو عائدًا إلى فتحة المنجم، كي يحاول أن يحصل للسيدة زامبوني على الإذن لتفقُّد أشلاء «زوجها»!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤