الفصل الثالث

تحرَّك الحشدُ في الشارع، وهم يصرخون ويسبُّون في أثناء سيرهم. بدأ أحدهم في غناءِ النشيد الوطني الفرنسي، وانضم إليه آخرون، وتردَّد صدى الكلمات عاليًا بقوة:

«إلى السلاح! إلى السلاح أيُّها الشجعان!
تقدَّموا، تقدَّموا، كلُّ القلوب عازمة
على النصر أو الموت!»

كان في هذا الحشد مظلومون من عدة دول؛ غنوا بعشرات اللغات، لكنها كانت الأغنية نفسها. كانوا يتغنَّون ببعض العبارات، لكنها كانت تتوه وسط صياح الآخرين. «تقدَّموا! تقدَّموا! كلُّ القلوب عازمة!» اندفعَ بعضُهم في شتى الاتجاهات لنشر الأخبار، وسرعان ما تجمَّع جميعُ سكان القرية في المكان، ولوَّح الرجالُ بقُبعاتهم، ورفعت النساءُ أيديهن صارخات … أو وَقفن مرعوبات، مدركات أنَّ الغناء الثوري لن يسدَّ جوع أطفالهن.

رفعَ الحشدُ تيم رافيرتي على الأكتافِ، وجعلوه يروي قصتَه مرة أخرى. وبينما كان يرويها، جاءت والدتُه العجوز تركض، وعلت صرخاتُها الصخب: «تيم! تيم! انزل من هناك! ماذا جرى لك!» كانت تعتصر يديها في خوفٍ مميتٍ، وعندما رأت هال، أسرعت إليه. «اجعله ينزل يا جو! لقد أُصيبَ الفتى بالجنون لا شك! سيتسبَّب في طردنا من المعسكر، يا إلهي، ماذا حلَّ بالفتى؟» نادت تيم مجددًا، لكنه لم يُرعِها انتباهًا، هذا إن كان قد سمعها من الأساس. كان تيم كمَن كانوا في مسيرة الثورة الفرنسية إلى قصر فِرساي!

صاح أحدهم أنهم سيذهبون إلى المستشفى لحماية الرجال المصابين من «المحامين الملعونين». كان هذا مَسعًى محدَّدًا، وتحرَّك الحشدُ في ذلك الاتجاه، وتبِعه هال مع مَن تخلَّفوا عن الركب، من النساء والأطفال، والرجال الأقل جرأة. لاحظَ وجودَ بعض كتبة الشركة وموظفيها النظاميين، وها هو الآن يرى جيف كوتون مرة أخرى، ويسمعه وهو يأمر هؤلاء الرجال بالحضور إلى المكتب لجلب المسدسات.

جاء ديفيد «جاك الكبير» مع جيري مينيتي، وعاد هال أدراجه للتشاور معهما. كان جيري شديدَ الحماس. ها هي الثورة التي كان يتطلَّع إليها لسنواتٍ تندلع أمام عينَيه! لماذا لم يُلقوا الخطابات، للسيطرة على الرجال وتنظيمهم؟

أعربَ جاك ديفيد عن شكوكه. ذلك أنه كان عليهم أن يفكروا فيما إذا كانت هذه الموجة في إمكانها أن تصبح حركة دائمة.

أجاب جيري أنها ستصبح ما سيختارون لها أن تكون. إذا تحمَّلوا المسئولية، فسوف يتسنَّى لهم توجيه الرجال وتوحيدهم. ألم يكن هذا ما أراده توم أولسون؟ أجاب الويلزي الكبير بالنفي، وقال إن أولسون كان يحاول تنظيم الرجال سِرًّا، تمهيدًا لاندلاع الثورة في جميع المعسكرات. كان ذلك مغايرًا تمامًا لمفهوم الحركة العلنية، التي تقتصر على معسكرٍ واحدٍ. هل من أملٍ في نجاح حركة كهذه؟ إذا لم يكن من أملٍ في نجاحها، فسيكون من الحماقة أن يَشرعوا فيها؛ إذ لن يضمنوا بذلك إلا طردهم.

توجَّه جيري إلى هال. فيمَ كان يُفكِّر؟

وهكذا جاء دورُ هال ليتكلم أخيرًا. قال إنه كان من الصعب عليه الحُكم. فلم يكن يعرف إلا القليل عن أمور العمل. وقد جاءَ إلى نورث فالي ليتعلَّمها. كان من الصعب أن ينصح الرجال بالخضوع للمعاملة التي كانوا يتلقَّونها، ولكن من ناحية أخرى، كان في إمكان أي أحدٍ أن يعرف أن فشل الثورة كان من شأنه أن يُثبِّط عزيمة الجميع، ويجعل تنظيمهم أصعبَ من أي وقتٍ مضى.

تحدَّث هال كثيرًا، غير أنه كان لا يزال هناك الكثير من الكلام في ذِهنه لم يستطع أن يقوله. لم يستطع أن يقول لهؤلاء الرجال: «أنا صديقكم، لكني أيضًا صديقُ عدوكم، وفي هذه الأزمة لا أستطيع أن أتخذ قراري إلى أي جانب أدين بالولاء. أنا ملزَمٌ بالتزامٍ أدبي تجاه أسياد قوت يومكم، كما أنني حريصٌ على عدم مضايقة الفتاة التي سأتزوجها!» كلَّا، لم يستطع أن يقول كلامًا كهذا. شعر بأنه خائنٌ لأنه فكَّر في هذا الكلام، ولم يستطع أن يحمل نفسه على النظر في أعين هؤلاء الرجال. عرف جيري أن له صلة بآل هاريجان، وربما أخبر بقية أصدقاء هال، وقد ناقشوا الأمر وتكهَّنوا حول ما يعنيه. ماذا لو ظنُّوا أنه كان جاسوسًا؟

لذلك شعر هال بالارتياح عندما تحدَّث جاك ديفيد بحزمٍ. سيُقدمون النصر للعدو على طبقٍ من ذهبٍ إذا سمحوا لأنفسهم بالانجرار إلى النزاع قبل أوانه. عليهم أن يأخذوا بنصيحة توم أولسون.

ولكن أين كان أولسون؟ كان هذا سؤال هال، وأوضح ديفيد أنه في اليوم الذي طُرِدَ فيه هال من المعسكر، حصل أولسون على أجر ما قضى من «وقتٍ» وانطلقَ إلى شيريدان؛ حيث المقر المحلي للنقابة، للإبلاغ عن الوضع. ربما لم يكن ليعود، فقد حشدَ مجموعته الصغيرة؛ لقد زرع بذرة الثورة في نورث فالي.

ناقشوا مِرارًا وتكرارًا مسألة الحصول على المشورة. كان من المستحيل إجراء اتصال هاتفي من نورث فالي دون أن يتنصت أحدٌ إلى كل ما يقولونه، ولكن القطار المسائي المتجه إلى بيدرو كان من المقرر أن يغادر بعد بضع دقائق، وقال «جاك الكبير» إنه على أحدهم أن يستقلَّه. لم تكن شيريدان تبعد سوى خمسة عشر أو عشرين ميلًا عن بيدرو، وكان هناك مسئولٌ نقابي هناك لتقديم المشورة لهم، أو قد يجرون مكالمة خارجية، ويقنعون أحد قادة الاتحاد النقابي في ويسترن سيتي أن يستقلَّ قطار منتصف الليل، ويذهب إلى بيدرو في صباح اليوم التالي.

مرَّر هال، الذي كان لا يزال يأمل في الانسحاب، هذه المهمة إلى جاك ديفيد. أفرغوا محتويات جيوبهم كي يحصل على ما يكفي من المال للرحلة، وانطلقَ الويلزي الكبير للَّحاق بالقطار. في هذه الأثناء، وافقَ جيري وهال على البقاء في الخلفية والعثور على أعضاء مجموعتهما وحثِّهم على فعل الشيء نفسه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤