يقظة ونهضة

(١) الخيال اللبناني

ليس للبنان اليومَ أساطيلُ ماء وهواء، ولكنَّ له في دولة الفكر فضلًا يعرفه ذوو الألباب.

وبعدُ، فعندما نظم الله قصيدته الفريدة في ستة أيام، كان أشد إعجابًا بالبيت السادس؛ الإنسان، لأنه نفخ فيه شيئًا من روحه، وبعد أيام — واليومُ في عين الله كألف جيلٍ في عيوننا اللوزية — بدا لذي الجلال أن يجوِّد البيتَ الذي رآه حسنًا جدًّا، فاستودع فكرته سفينة نوح حرصًا عليها، ومحا بطوفان عرمرم قصيدتَه العصماء ليُعِيدها أحسن سبكًا.

وبعد لحظة من تقويم الخلود، استنشق الأب القديم الأجيالَ قُتارَ ذبائحِ نوح ومحرقاته، فطاب نَفسًا وقرَّ عينًا، وقال: «لا أعود إلى لعنة الأرض من أجل الإنسان؛ لأن تصوُّر قلبه شرير منذ حداثته.»

وحانَت منه التفاتةٌ فرأى جبل أرارط ينظر بغطرسة إلى سهول الشرق، والكبرياء عدوة الله الغَيُور، فغمز بعينه ابنتَه المجنونة فأخرجت أثقالها، فاصطفَّت جبال لبنان كمعسكر من العماليق في جبهة الوجود.

وشفى الربُّ نفسَه من ركاكة ثانية، فالمثول والنتوء ملاك الفن الرفيع:

لبنان والخلد اختراعُ الله لم
يُوسم بأزين منهما ملكوته

هكذا زعم شوقي، ولكن أيهما نُسِخ عن الآخَر يا تُرى؟ لبنان أم جنة الخلد؟! هذه مسألة تشغل حيِّزًا من دماغي ولا أقول كبيرًا لئلا أُتَّهَم بالمبالَغة.

وتمرَّد الخيال اللبناني فحقَّق ظن الله بالإنسان، خلق الآلهة وسرَّحهم قطعانًا تتصارع وتتناطح في بطاحه وعلى روابيه، وكانت بينهم حروب كالتي نشبت بين الملائكة في البدء، وكان من شروط هُدْنتها استعمارُ الشياطين للأرض.

الخيال خلعة الله السنية على مَن خلقه على صورته ومثاله، وهودج تُنسِينا زركشةُ سجوفه هولَ الطريق والمركب الوعر. إذا جرَّدنا الإنسانَ من خياله أنكَرَ ما يحيط به وأمسى كالمُنْبَتِّ، لا يذكر الأمس ولا يحلم بالغد.

والخيال ينمو في بقعة كلبنان، فولولةُ رياحه وعربدة شلالاته، وهَمْس ينابيعه وأنهاره، وهدير بحره، ووَشْوشة أشجاره، وقَصْف رعوده، وومض بروقه، وعُواء سِباعه، وصَرْصرة بئزانه، وصفير نسوره، وتغريد طيوره؛ تنصب وفودًا وفودًا في حناجر أوديته وأشداق كهوفه، فتؤلِّف موسيقى داخلية لا تجدها في غيره.

فمَن لا يرتعش متى استيقظ مع الفجر ورأى بقية نور القرص الفضي تنسكب على رُبى لبنان الحالمة، فتخلق ظلالًا كئيبة وأشباحًا حائرة، سينماء الله الأزلية تتزين بألف لون وتنطق بألف لسان قبل بزوغ القرص الذهبي وعند غروبه.

وما ظنُّك بجبَّار نسجَت عمامتَه عوانسُ كانون، وحاك آذارُ عباءتَه المفوَّقة، وطرَّزَ نيسان قميصَه، ونمنمت طيلسانَه عرائسُ نوار، والبحر يغنِّي عند قدمَيه، والضباب يؤزِّره ليحلم، أَفَلا يَلِد خيالُه أساطيرَ كانت أمَّ الثقافة العالمية؟!

لبنان هو الأولمب الأول، وقد فاق جوفانس لما جعله الصوفيون مقرًّا لأبدالهم، إنه آدم الخيال الإنساني وحواؤه، فمن قِمَمه المتمردة رفع بنوه عرشًا لهركيل، ومسرحًا لأدونيس، وخِدرًا للزُّهرة، ومن طيوبه صنعوا عُشًّا لفينيق رمز القيامة والحياة المتجددة؛ رموز عبقرية أفرغها الخيال اللبناني على الحقيقة فنعم بها الإنسان زمنًا.

مُنًى إن تكن حقًّا فتلك هي المُنى
وإلا فقد عِشْنا بها زمنًا رغدا

للثقافة منبعان: دِينٌ حافل بالرموز والأسرار، وخيالٌ يحلم بالجمال فيخلقه، وكلاهما انبثقا من لبنان فعمَّا البحار وما وراءها، أبصر اللبناني جبلًا قلق المجاز وبحرًا مكارًا لا يُؤخَذ بالعنف، فشرع يحتال للنفوذ في ذلك المضيق.

وتحرَّك الخيال اللبناني الأول فكانت فتنة بين أبناء الهواء وبنات الماء، صرعت فأس اللبناني عمالقة الأرز وجعلها مراكبَ فدَانَ له البحر، ورأى المستقبل مظلمًا فتحرك خياله أيضًا فخلق الأبطال والآلهة، وتحرك أيضًا وأيضًا فكان البناء والأرجوان والزجاج والطرف والتحف.

وتحرك أخيرًا خيال الطموح فمشى البحَّارةُ أبناءُ الشمس فاستعمروا الشرق والغرب، وفتحوا الدنيا سوقًا لحضارتهم وفنونهم، فحق لهم أن يرددوا قول ابن عمهم عمرو بن كلثوم ولا ابتهار:

كأنَّا والجواري منشآت
ولدنا الناس طرًّا أجمعينا
ملأنا البحرَ حتى ضاق عنَّا
وظهر البحر نملؤه سفينا
وأبى الخيالُ اللبناني أن يستريح فأنشأ سِفر التكوين الأول، وعلَّم أفلاطون حقيقة «الوجود الفاهم» وافترض «الجواهر الفردة» لحل عقدة الهيولى، ووضع «أبجديته» مستودع الثقافة الحاضرة، ولا يزال بعضها كما رتَّبوه هم منذ خمسة آلاف سنة أبجد ABCD   كلمن KLMN   قرشت QRST.

فليست الثقافة اللبنانية وهمًا من الأوهام، ولكنها حقيقة تقدم كل الكائنات حديثها، ولا قبلها قبل كخمرة ابن الفارض.

تقدمت موسى وحمورابي، وألهمت هومير وماريني وشكسبير، ولا يزال بعضها حيًّا في أقدس أمانينا، فمن هذه المزرعة المنتشرة على سيف بحرنا، من هذا المليمتر من مصور الدنيا الضخم، خرج خيال جبار كسا العُراة برفيرًا وأرجوانًا، وبدَّل بالكهوف القصورَ والهياكل الرفيعة العماد، وصار معلم القرون الأولى.

فمَن يصدِّق أن شعبًا عبقريًّا كشف أسرارَ الكون لا يدرك سرَّ احمرار مياه نهر إبراهيم؟ إن منطق المعتقدات يجتاح دنيا العقول ويكتسحها، هنيئًا لهم مجدهم الفَذ، فلا يَشُوب فخرَنا بهم شيء إلا أنهم لم يعشوا إلى ضوء نار الهدى مثلنا، فضلُّوا وتاهوا، وأنهم يُعذَّبون اليومَ في جنهم، وا أسفاه!

أتقولون إن إحسانهم إلى الإنسانية لم يشفع لهم عند ربهم؟ فلولا أبجديتهم ما قرأنا كُتبَه المنزَّلة، ناهيك أن جهنم عُرِفت بعدهم، والقانون لا يشمل ما قبله مدنيًّا ولاهوتيًّا، الجاهل معذور، وأخيرًا أقول: ما لنا وللجدل العقيم! فَلْنسلم مشاطِرين الأب مرتين اليسوعي — صاحب تاريخ لبنان — أسفَه العميق لهلاك نفوس أوائل اللبنانيين، ممدِّني البشرية.

كلما بلغتُ نهر إبراهيم أتخيَّل نساءَ بلادي باكيات على تموز، وكلما دخلت جبيل أتمثَّل الكهنة يندبونه في الشوارع، حتى إذا بلغتُ عين كفاع ومررت بكنيستها البعلبكية الأساس أقول في نفسي: من هنا طرد زين الآلهة أدونيس ليحلَّ محلَّه ابن أراراط؛ أي مار روحانا، الجالس سعيدًا فوق مذبح كنيستنا.

وتتداعى الأفكار فتنبري كلمة الأخطل: هو الدين يا أخا العرب، فاصمت.

غريب إيحاء بلادي، كل حجر من حجارتها سِفر جليل، وإن قيل: أبهذه الخرافات تفتخر؟! أجبت: مَن منا بلا خطيئة فَلْيرجمها بحجر.

خُلِقت العين البشرية جمالًا قيل له كُن فكان، أما العين واليد اللبنانيتان فاستلهمتا خيالًا لا يضل كالحك الذي اخترعوه، فأبدعتا كونًا جديدًا حافلًا بطرف الفن وروائع الفكر.

وأراهم خيالهم السامي أن التطور سُنة الحياة وأقدس نواميسها، فداروا مع الزمن محتفظين بخواصِّهم الاكتسابية والغريزية، فعدوا عن لغتهم الهَرِمة، وخطبوا لغةَ بني عمهم الجميلة، نصروها عزيزةً وأحبُّوها مقهورة، فبينا كانت كُتبُها تتدهور في دجلة والفرات وتُحمى بها الأفران والحمامات، كانوا يخبئونها في أحشاء كهوفهم — وهل كانت الديورة إلا كهوفًا! — وتنكَّر لها الناس حتى بَنُوها الخلصاء، فآووها هم ونصروها، وأفرغوها حلةً قشيبة على كتابهم المقدس، فاحتبت ناعمة البال عن يمين المذبح، وأمست لغة خيالهم وأحلامهم.

تصوَّروا راهبًا لبنانيًّا — المطران جرمانوس فرحات — ينتقل في أواخر القرن السادس عشر، بين أعمدة جامع قرطبة ومحرابه، يتأمل بإعجاب وإجلال آثارَ ذلك الفردوس المفقود. أَمَا مات ذلك الراهب عشرَ موتات قبل بلوغ الأندلس؟

وتحرك الخيال اللبناني بعد حين، فرأينا كاهنًا آخر يركب البحر بينما كان شاعرنا العربي يقول:

لا أركب البحرَ أخشى
عليَّ منه المعاطب
طينٌ أنا وهو ماء
والطين في الماء ذائب

إلى رومة أبحَرَ السمعاني حاملًا على سفن أجداده حاصِلاتنا الثقافية، وفي مكتبة الفاتيكان هدأ روع العربية الملهوفة، وهناك خلَّدت ذِكر السمعاني كما خلَّد السمعاني ذِكر العرب بما ترجَمَ للبابا إكليمنضوس الحادي عشر. هذا حديث البحر، وقد أحتاج إلى معجم كلاروس إذا عمدتُ إلى ذِكر الأعلام، فَلْنختصر.

اللبناني قديمًا وحديثًا، مطبوعٌ على الأخذ والعطاء، وفلسفة النفس الحديثة تثبت أن للوراثة والجنس تأثيرًا في العبقرية، فإذا ورث الرجل عن أبوَيه تخيلًا شديدًا، هيَّأه هذا الاستعدادُ للشعر أو للتجارة أو المالية. وصورةُ العبقرية تختلف بحسب المحيط، وهذا ما عملَته العبقرية اللبنانية، تعلِّم اللبناني لغات الغرب، وعلم الغرب لغات الشرق فكان تبادُل الثقافات — كتبادُل البضائع — يُنعِش الأسواق، وهكذا انتعشت اللغة العربية ووُجِد المتمشرقون.

ثابت علميًّا أن التطعيم خير الوسائل وأجداها لترقية الأنواع، وهذا ما عمله الخيال اللبناني المعاصر في الأدب العربي، طعَّمه بالثقافات الأخرى فأتمَّ ما بدأ به العباسيون الأوائل. والثقافة كالمتجر تنمو وتزداد بالتبادُل والعمل المنتج، واللبناني تاجر عبقري، وصورة الثقافة كما قالوا تختلف باختلاف المحيط والزمان.

اعترى لغتنا الجميلة شللٌ كاد يذهب بحياتها وجمالها، فتحرَّك الخيال اللبناني فإذا باليازجي يقف بإزاء الحريري.

ثم تحرَّك الخيال اللبناني وانتفض ذلك العِرق الأصيل في أحمد فارس الشدياق، فخلق الأدب الجديد في الفارياق وكشف المخبأ، وأخرج لسان العرب من سراديب الحريري ودهاليز القاضي الفاضل.

وتحرَّك الخيال أيضًا فكان الكشف والإشراق على عقل الشدياق النيِّر فأبدع سر الليال، ثم نفخ في الصحافة نفخة أحيتها وكان من ذريته النبيلة إسحاق والحداد وعبده وصروف وزيدان وتقلا وغيرهم ممن أعجز عن عدِّهم.

وأبى اللبناني أن يستقر فعاد مارون النقاش من أوروبا يحمل إلينا المسرح، وكان بيته أولَ مسرح عربي.

وهَبَّ المعلم بطرس البستاني يطعِّم ويلقِّح، فأخرج من «جِنانه» ثمارًا جديدة شهية، وجاءنا بالمحيط «الهادئ» و«الدائرة» التي جعلت منه جماعة في رجل.

ثم ضاقت بالخيال اللبناني أرضُه، كما ضاقت من قبلُ، فكانت الهجرة الثانية إلى الأقطار التي اكتشفها اللبناني الأول، فحمل لغته في قلبه ولسانه، وهبَّ ينشرها في قارات الدنيا الخمس.

للأديان رُسل ومبشِّرون، واللبناني رسولُ لغتِه لا دِينه، ينقل منها وإليها، وكما نشر اللبناني الأول أبجديتَه واختراعاته في دنيا الأمس، فها هو ذا لبناني اليوم ينشر لسانه العربي مبشِّرًا برسالته الخالدة.

وأبى الخيال اللبناني أن يهدأ فكانت المدرسة الرومنطيكية الرمزية، فخلقت القصة والشعر والنثر الجديدين.

إنه لَدمٌ جديد لقَّحت به مدرسة جبران والريحاني أدبَنا العربي الحديث فوهَبَته مناعة ووقاية.

وأبى الخيال اللبناني أن يستقر فكانت في لبنان مدرسة شعر جديدة، فيها ازرقاق البحر، واخضرار الأرز، وابيضاض الثلج، واحمرار الشفق، ووحي الغَسَق، والموسيقى البعيدة القرار.

ولا يزال الخيال اللبناني عاملًا لا يستقر ولن يستقر، فالسديم يصير نَجمًا، والنَّجم يُمسِي كوكبًا، ثم ينطفئ ليشعَّ غيره. لا يتوارى نظام شمسي حتى يظهر وراءه نظامٌ آخَر، إن الأرض لا تظلم ما دام الخيال ساطعًا.

وكأني بالقارئ ينتفض قائلًا: هاتِ لنا مثالًا لخيال لا وجودَ له إلا في خيالك. وأنا أجيب: على رأسي ثم عيني.

إن جبران خيرُ مثالٍ للعِرق والبيئة اللبنانيَّين، قديمًا وحديثًا، فالشوق والضباب الجبرانيان من عمل الخيال اللبناني الأول؛ فسِفر التكوين اللبناني، وهو أقدم الأسفار عهدًا، افترض الشوق فاعلًا والضباب منفعلًا، فجبران في خَلْقه وخُلُقه لبناني أصيل، يدين بالروح والحب، ولكنهما ماديان كما تخيَّلهما اللبنانيون الأول، فما المطرة نبي جبران غير ميترا روح النور الإلهي، وكأني بالعِرْق اللبناني قد تجمَّع كله في هذا الرجل ليجعله مثالًا لثقافته وخياله في عهدَيهما، ويرى الناس تطوُّرهما في مسالك العصور.

عندما خطر لي هذا الموضوع خفت جماح العاطفة، فاقترضت عدة ديكارت هنيهةً وقلت: ماذا يحدث لو امَّحى لبنان من سِفر الوجود؟

فرأيتُ السهول أقفرَت، والجِنان صارت هشيمًا، والقُرى والمدن والمدارس أمست خرابًا، فقلت: حقًّا إن لبنان خزان الله العظيم.

ثم وثب الخيال وثبةً أخرى فافترضت أن نسور هذا الجبل الملهم لم تَطِر أفواجًا أفواجًا إلى آسيا وأفريقيا وأوروبا وأميركا، فرأيت ظل العربية يتقلَّص بعد انتشاره، وخلت الدهر يمشي القهقرى، فارتعت كمَن دهمه الغروب صلاة الظهر، فقلت: إذن والله نحن موجودون وليس ما أزعم تبجُّحًا وابتهارًا.

فإلى التفكير والتأمل أدعو الشباب المثقَّف والكهول العاملين، والشيوخ الذين لم يعدموا طراوة النفس، إن الخلق يقتضيكم تأمُّلًا عميقًا، ونقاشًا صارمًا وانتقادًا مرًّا، وسعيًا متصلًا. العبقريةُ هِبَةُ اجتهادٍ وثقافة، والإشراق لا يدركه إلا المتأملون.

قال ريبو: المصادَفات السعيدة لا تعرض إلا لمستحقِّيها. ففكِّروا لكي تستحقوها وتنتجوا ثمارًا شهية تضعونها بكل فخر على مائدة أدبنا العربي الخالد، وإلا فإنكم تقطعون الجاه الطويل العريض الذي خلعه الخيال اللبناني على لساننا العربي المبين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤