نَوَادِرُ الْخُلَفَاءِ

(١) إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ وَالْمَأْمُونُ

١

إِنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْمَهْدِيِّ أَخَا هَارُونَ الرَّشِيدِ، لَمَّا آلَتِ الْخِلَافَةُ إلى الْمَأْمُونِ — ابْنِ أَخِيهِ هَارُونَ الرَّشيدِ — لَمْ يُوَافِقْ عَلَى ذَلِكَ، وذَهَبَ إِلَى بَلْدَةِ «الرَّيِّ» وَادَّعَى فِيهَا الْخِلَافَةَ لِنَفْسِهِ، وَأَقَامَ فِيهَا نَحْوَ سَنَتَيْنِ، وَابْنُ أَخِيهِ الْمَأْمُونُ يَنْتَظِرُ مِنْهُ الطَّاعَةَ وَالِانْتِظَامَ فِي سِلْكِ الْجَمَاعَةِ حَتَّى يَئِسَ مِنْ عَوْدَتِهِ.

فَرَكِبَ وَذَهَبَ بِجَيْشِهِ إِلَى «الرَّيِّ» وحَاصَرَهَا وَافْتَتَحَهَا وَدَخَلَهَا؛ فَخَافَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ وَخَرَجَ مُسْرِعًا مِنْ دَارِهِ عِندَ الظُّهْرِ، وَهُوَ لَا يَدْرِي إِلَى أَيْنَ يَذْهَبُ!

وَكَانَ الْمَأْمُونُ قَدْ جَعَلَ لِمَنْ أَتَاهُ بِهِ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَفَيمَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ سَائِرًا فِي الطَّرِيقِ رَأَى زُقَاقًا فَمَشَى فِيهِ، فَوَجَدَهُ غَيْرَ نَافِذٍ، فَقَالَ: إِنْ رَجَعْتُ يَرْتَابُ النَّاسُ فِي أَمْرِي، وَالشَّارِعُ غَيْرُ نَافِذٍ، فَمَا الْحِيلَةُ؟!

٢

ثُمَّ نَظَرْتُ فَرَأَيْتُ فِي صَدْرِ الشَّارِعِ عَبْدًا أَسْوَدَ وَاقِفًا عَلَى بَابِ بَيْتِهِ، فَتَقَدَّمْتُ إلَيهِ، وَقُلْتُ لَهُ: هَلْ عِنْدَكَ مَوْضِعٌ أُقِيمُ فِيهِ سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ؟ قَالَ: نَعَم. وَفَتَحَ الْبَابَ، فَدَخَلْتُ إِلَى بَيْتٍ نَظِيفٍ فِيهِ حَصِيرٌ وَبِسَاطٌ وَوِسَادَةٌ نَظِيفَةٌ، ثُمَّ أَغْلَقَ الْعَبْدُ عَلَيَّ الْبَابَ وَذَهَبَ.

فَخَطَرَ لِي أَنَّهُ سَمِعَ بِالْمُكَافَأَةِ الَّتِي خَصَّصَهَا الْمَأْمُونُ لِمَنْ يَجِيئُهُ بِي، وَطَمِعَ بِهَا وَخَرَجَ لِيَدُلَّهُ عَلَيَّ، فَبَقِيتُ خَائِفًا حَائِرًا فِي أَمْرِي، وَبَينَمَا كُنْتُ أُفَكِّرُ فِي ذَلِكَ إِذْ جَاءَنِيَ الْعَبْدُ وَمَعَهُ حَمَّالٌ يَحْمِلُ كُلَّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيهِ مِنْ خُبْزٍ وَلَحْمٍ وَفَاكِهَةٍ، فَأَنْزَلَهَا عَنْ ظَهْرِ الْحَمَّالِ وَقَالَ لَهُ: اِمْضِ بِخَيْرٍ. فَخَرَجَ وَأَقْفَلَ وَرَاءَهُ بَابَ الدَّارِ.

ثُمَّ جَاءَنِي الْعَبْدُ وَقَالَ لِي: جُعِلْتُ فِدَاكَ يَا مَوْلَايَ، إِنِّي رَجُلٌ فَقِيرٌ، وَأَعْلَمُ أَنَّكَ رُبَّمَا تَجَنَّبْتَ قَذَارَتِي؛ فَأَتَيْتُكَ بِأَشْيَاءَ مِنْ خَارِجِ الْبَيْتِ.

٣

قَالَ إِبْرَاهِيمُ: وَكُنْتُ شَدِيدَ الْجُوعِ وَبِي حَاجَةٌ عَظِيمَةٌ إِلَى الطَّعَامِ، فَطَنَخْتُ لِنَفْسِي قِدْرًا لَمْ أَدْرِ أَنِّي أَكَلْتُ أَلَذَّ مِنْهَا فِي حَيَاتِي، فَلَمَّا انْتَهَيْتُ مِنَ الطَّعَامِ، قَالَ لِيَ الْعَبْدُ: هَلْ لَكَ يَا مَوْلَايَ فِي شَرَابٍ يُزِيلُ الْهَمَّ؟ قُلْتُ: لَا بَأْسَ، فَإِنِّي أَرْغَبُ فِي مُؤَانَسَتِكَ.

فَمَضَى وَجَاءَنِي بِشَرَابٍ مُعَطَّرٍ، ثُمَّ قَدَّمَ لِي بَعْضَ الْفَاكِهَةِ، وَقَالَ لِي: أَتَأْذَنُ لِي يَا مَوْلَايَ بِالْجُلُوسِ بِجَانِبِكَ؟ فَقُلْتُ لَهُ: اِجْلِسْ، ثُمَّ فَتَحَ خِزَانَةً، وَأَحْضَرَ مِنْهَا عُودًا، وَقَالَ لِي: لَا أَجْسُرُ أَنْ أَطْلُبَ مِنْكَ الْغِنَاءَ، فَهَلْ تَسْمَحُ لِي يَا مَوْلَايَ أَنْ أُغَنِّي؟ فَقُلْتُ لَهُ: وَمِنْ أَيْنَ عَلِمْتَ أَنِّي أُحْسِنُ الْغِنَاءَ؟

فَقَالَ: سُبْحَانَ اللهِ! مَوْلَايَ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يَخْفَى، أَلَسْتَ أَنْتَ سَيِّدِي إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْمَهْدِيِّ خَلِيفَتَنَا بِالْأَمْسِ، وَالَّذِي جَعَلَ الْمَأْمُونُ لِمَنْ دَلَّهُ عَلَيهِ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ؟!

٤

فَلَمَّا سَمِعْتُ ذَلِكَ عَظُمَ الرَّجُلُ فِي عَيْنَيَّ، وَثَبُتَتْ لِي مُرُوءَتُهُ، فَتَنَاوَلْتُ الْعُودَ، وَقَدْ تَذَكَّرْتُ فِرَاقَ أَهْلِي وَأَوْلَادِي وَوَطَنِي؛ فَغَنَّيْتُ:

وَعَسَى الَّذِي أَهْدَى لِيُوسُفَ أَهْلَهُ
وَأَعَزَّهُ فِي السِّجْنِ وَهْوَ أَسِيرُ
أَنْ يَسْتَجِيبَ لَنَا وَيَجْمَعَ شَمْلَنَا
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَدِيرُ

فَطَرِبَ، وَقَالَ: أَتَأَذَنُ لِي يَا مَوْلَايَ أَنْ أُغَنِّيَ مَا خَطَرَ بِبَالِي؟ وَإِنْ كُنْتُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ هَذَا الْفَنِّ! فَقُلْتُ: وَهَذَا مِنْ زِيَادَةِ أَدَبِكَ وَمُرُوءَتِكَ، فَأَخَذَ الْعُودَ وَأَنْشَدَ:

تُعَيِّرُنَا أَنَّا قَلِيلٌ عَدِيدُنَا
فَقُلْتُ لَهَا: إِنَّ الْكِرَامَ قَلِيلُ

فَطَرِبْتُ، وَنِمْتُ، وَلَمْ أَسْتَيْقِظْ إِلَّا بَعْدَ الْعِشَاءِ، فَعُدْتُ أُفَكِّرُ فِي كَرَمِ هَذَا الرَّجُلِ وَحُسْنِ أَدَبِهِ، فَقُمْتُ وَأَخَذْتُ كِيسًا كَانَ مَعِي فِيهِ دَنَانِيرُ، فَقَدَّمْتُهُ لَهُ، وَقُلْتُ: أَسْتَوْدِعُكَ اللهَ، وَأَسْأَلُكَ أَنْ تَقْبَلَ مِنِّي هَذِهِ الْهَدِيَّةَ.

فَرَفَضَ أَخْذَهَا وَأَعَادَهَا إِلَيَّ قَائِلًا: يَا مَوْلَايَ، إِنَّنَا نَحْنُ الصَّعَالِيكُ لَا قَدْرَ لَنَا عِنْدَكُمْ، فَهَلْ آخُذُ مُكَافَأَةً عَلَى مَا وَهَبَنِي إِيَّاهُ الزَّمَانُ؟! إِنَّ قُرْبَكَ وَتَشْرِيفَكَ مَنْزِلِي أَعْظَمُ مِنَ الْغِنَى، وَاللهِ لَوْ رَاجَعْتَنِي بِهَا لَقَتَلْتُ نَفْسِي!

٥

فَأَعَدْتُ الْكِيسَ وَانْصَرَفْتُ، وَلَمَّا وَصَلْتُ إِلَى الْبَابِ قَالَ لِي: يَا سَيِّدِي، إِنَّ هَذَا الْمَكَانَ أَخْفَى لَكَ مِنْ غَيْرِهِ، فَابْقَ عِنْدِي إِلَى أَنْ يُفَرِجَ اللهُ عَنْكَ. فَقُلْتُ لَهُ: بِشَرْطِ أَنْ تَصْرِفَ مِمَّا فِي الْكِيسِ. فَتَظَاهَرَ بِالْقَبُولِ، فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ أَيَّامًا وَأَنَا عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ فِي أَلذِّ عَيْشٍ، وَهُوَ لَمْ يَصْرِفْ مِنَ الْكِيسِ شَيْئًا.

فَتَضَايَقْتُ مِنَ الْبَقَاءِ فِي بَيْتِهِ وَخِفْتُ مِنَ التَثْقِيلِ عَلَيهِ؛ فَلَبِسْتُ زِيَّ النِّسَاءِ وَوَدَّعْتُهُ وَخَرَجْتُ، فَلَمَّا صِرْتُ فِي الطَّرِيقِ دَاخَلَنِي مِنَ الْخَوْفِ أَمْرٌ شَدِيدٌ وَجِئْتُ لِأَعْبُرَ الْجِسْرَ، فَنَظَرَنِي جُنْدِيٌّ كَانَ يَخْدِمُنِي، فَصَاحَ قَائِلًا: هَذَا حَاجَةُ الْمَأْمُونِ. وَقَبَضَ عَلَيَّ، فَدَفَعْتُهُ هُوَ وَفَرَسَهُ؛ فَوَقَعَا فِي حُفْرَةٍ.

فَتَجَمَّعَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَأَسْرَعْتُ فِي الْمَشْيِ حَتَّى قَطَعْتُ الْجِسْرَ، فَدَخَلْتُ شَارِعًا فَوَجَدْتُ بَابَ مَنْزِلٍ وَامْرَأَةً وَاقِفَةً فِي الدِّهْلِيزِ، فَقُلْتُ لَهَا: يَا سَيِّدَةَ النِّسَاءِ، أَنْقِذِي حَيَاتِي؛ فِإنِّي رَجُلٌ خَائِفٌ. فَقَالَتْ: عَلَى الرَّحْبِ وَالسَّعَةِ، وَأَطْلَعَتْنِي إِلَي غُرْفَةٍ مَفْرُوشَةٍ وَقَدَّمَتْ لِي طَعَامًا، وَقَالَتْ: لَا تَخَفْ؛ فَمَا عَلِمَ بِكَ أَحَدٌ.

فَبَيْنَمَا هِيَ كَذَلِكَ إِذَا بِالْبَابِ يَطْرُقُ طَرْقًا شَدِيدًا؛ فَخَرَجَتْ وَفَتَحَتِ الْبَابَ، وَإِذَا بِالْجُنْدِيِّ الذِي دَفَعْتُهُ عَلَى الْجِسْرِ وَهُوَ مَجْرُوحُ الرَّأْسِ، وَدَمُهُ يَسِيلُ عَلَى ثِيَابِهِ، وَلَيسَ مَعَهُ فَرَسٌ. فَقَالَتْ: يَا هَذَا، مَاذَا أَصَابَكَ؟ قَالَ: إِنِّي حَصَلْتُ عَلَى الْغِنَى وَأَفْلَتَ مِنِّي، وَأَخْبَرَهَا بِمَا جَرَى لَهُ، فَأَخْرَجَتْ لَهُ عِصَابَةً عَصَبَتْ بِهَا رَأْسَهُ وَفَرَشَتْ لَهُ فَنَامَ.

٦

فَطَلَعَتْ إِلَيَّ وَقَالَتْ: أَظُنُّ أَنَّكَ أَنْتَ صَاحِبُ الْقِصَّةِ. فَقُلْتُ لَهَا: نَعَمْ. فَقَالَتْ: لَا بَأْسَ عَلَيْكَ، فَلَا تَخَفْ. فَأَقَمْتُ عِنْدَهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ قَالَتْ لِي: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ، وَأَشَارَتْ إِلَى زَوْجِهَا؛ لِئَلَّا يَرَاكَ فَيُبَلِّغَ عَنْكَ، فَأَرَى أَنْ تَنْجُوَ بِنَفْسِكَ. فَسَأَلْتُهَا الْمُهْلَةَ إِلَى اللَّيلِ، فَقَالَتْ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ.

فَلَمَّا جَاءَ اللَّيلُ لَبِسْتُ زِيَّ النِّسَاءِ، وَخَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهَا، وَأَتَيْتُ إِلَى بَيْتِ جَارِيَةٍ لِي، فَلَمَّا رَأَتْنِي بَكَتْ وَتَوَجَّعَتْ وَحَمَدَتِ اللهَ عَلَى سَلَامَتِي وَخَرَجَتْ، وَهِيَ تُوهِمُنِي أَنَّهَا ذَاهِبَةٌ إِلَى السُّوقِ لِلِاهْتِمَامِ بِالضِّيَافَةِ، وَظَنَنْتُ بِهَا خَيْرًا.

وَلَمْ يَمْضِ قَلِيلٌ حَتَّى رَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ الْمَوْصِلِيَّ قَدْ أَقْبَلَ بِجُنُودِهِ، وَالْجَارِيَةُ مَعَهُ، فَأَسْلَمَتْنِي إِلَيْهِ، فَرَأَيْتُ الْمَوْتَ عِيَانًا، فَحَمَلُونِي بِالزِّيِّ الذِي أَنَا فِيهِ إِلَى الْمَأْمُونِ، فَعَقَدَ مَجْلِسًا عَامًّا وَأَدْخَلَنِي إِلَيْهِ.

فَلَمَّا وَقَفْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ بِالْخِلَافَةِ، فَقَالَ: لَا حَيَّاكَ اللهُ وَلَا رَعَاكَ. فَقُلْتُ لَهُ: مَهْلًا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ ذَنْبِي يَسْتَوْجِبُ الْقِصَاصَ، وَلَكِنَّ الْعَفْوَ مِنْ شَأْنِ الْكِرَامِ، وَقَدْ جَعَلَكَ فَوْقَ كُلِّ عَفْوٍ، كَمَا جَعَلَ ذَنْبِي فَوْقَ كُلِّ ذَنْبٍ، فَإِنْ تَقْتُلْ فَبِعَدْلِكَ، وَإِنْ تَعْفُ فَمِنْ فَضْلِكَ، ثُمَّ أَنْشَدْتُ:

ذَنْبِي إِلَيْكَ عَظْيمٌ
وَأَنْتَ أَعْظَمُ مِنْهُ
فَخُذْ بِحَقِّكَ أَوْ لَا
فَاصْفَحْ بِحِلْمِكَ عَنْهُ١
إِنْ لَمْ أَكُنْ عِنْدَ فِعْلِي
بَيْنَ الْكِرَامِ فَكُنْهُ

فَرَفَعَ الْمَأْمُونُ رَأْسَهُ، وَنَظَرَ إِلَيَّ، فَعَاجَلْتُهُ قَائِلًا:

أَتَيْتُ ذَنْبًا عَظِيمًا
وَأَنْتَ لِلْعَفْوِ أَهْلُ
فِإِنْ عَفَوْتَ فَمَنٌّ٢
وَإِنْ قَتَلْتَ فَعَدْلُ

فَرَقَّ لِيَ الْمَأْمُونُ وَابْتَسَمَ فِي وَجْهِي، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى الْعَبَّاسِ وَأَخِيهِ أَبِي الْحَسَنِ وَجَمِيعِ مَنْ حَضَرَ مِنْ خَاصَّتِهِ، وَقَالَ لَهُمْ: مَاذَا تَرَوْنَ فِي أَمْرِهِ؟ فَأَشَارَ كُلٌّ مِنْهُمْ بِقَتْلِي.

٧

فَقَالَ الْمَأْمُونُ لَأَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ: مَاذَا تَقُولُ يَا أَحْمَدُ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ قَتَلْتَهُ فَقَدْ وَجَدْنَا مِثْلَكَ قَدْ قَتَلَ مِثْلَهُ، وَإِنْ عَفَوْتَ عَنْهُ لَمْ نَجِدْ مِثْلَكَ قَدْ عَفَا عَنْ مِثْلِهِ. فَأَطْرَقَ الْمَأْمُونُ رَأْسَهُ إِلَى الْأَرْضِ سَاعَةً، ثُمَّ رَفَعَهُ وَأَنْشَدَ:

قَوْمِي هُمُ قَتَلُوا الْأَمِينَ أَخِي
فِإذَا رَمَيْتُ يُصِيبُنِي سَهْمِي

فَأَحْنَيْتُ رَأْسِي، وَكَبَّرْتُ فَرِحًا، وَقُلْتُ: عَفَا وَاللهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ الْمَأْمُونُ: لَا بَأْسَ عَلَيْكَ يَا عَمَّاهُ. فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ذَنْبِي أَعْظَمُ مِنْ أَنْ أَطْلُبَ مِنْكَ الْعُذْرَ، وَعَفْوُكَ أَعْظَمُ مِنَ أَنْ أَنْطِقَ مَعَهُ بِشُكْرٍ. فَقَالَ الْمَأْمُونُ: لَا لَوْمَ عَلَيْكَ، وَقَدْ عَفَوْتُ عَنْكَ وَأَعَدْتُ إِلَيْكَ مَالَكَ وَضِيَاعَكَ كُلَّهَا؛ فَقَبَّلْتُ الْأَرْضَ، وَأَنْشَدْتُ:

figure
فَقَالَ الْمَأْمُونُ: لَا لَومَ عَلَيْكَ، وَقَدْ عَفَوْتُ عَنْكَ.
رَدَدْتَ مَالِي وَلَمْ تَبْخَلْ عَلَيَّ بِهِ
وَقَبْلَ رَدِّكَ مَالِي قَدْ حَقَنْتَ دَمِي٣
فَقَالَ الْمَأْمُونُ: إِنَّ مِنَ الْكَلَامِ مَا هُوَ أَغْلَى مِنَ الْجَوَاهِرِ. ثُمَّ قَدَّمَ لِيَ الْهَدَايَا، وَقَالَ: يَا عَمُّ، إِنَّ أَبَا إِسْحَاقَ وأَخِيَ الْعَبَّاسَ أَشَارَا عَلَيَّ بِقَتْلِكَ. فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُمَا نَصَحَاكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ بِمَا أَنْتَ أَهْلُهُ. فَقَالَ الْمَأْمُونُ: قَدْ عَفَوْتُ عَنْكَ، وَلَمْ أُذِقْكَ مَرَارَةَ شَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ.٤

٨

ثُمَّ إِنَّ الْمَأْمُونَ سَجَدَ وَقَبَّلَ الْأَرْضَ وَرَفَعَ رَأْسَهُ وَقَالَ لِي: يَا عَمُّ، أَتَدْرِي لِمَاذَا سَجَدْتُ وَقَبَّلْتُ الْأَرْضَ؟

فَقُلْتُ: نَعَمْ، أَظُنُّهُ شُكْرًا للهِ تَعَالَى الَّذِي سَاعَدَكَ عَلَى الظَّفَرِ٥ بِعَدُوِّ دَوْلَتِكَ. فَقَالَ: مَا أَرَدْتُ هَذَا، وَلَكِنْ شُكْرًا للهِ تَعَالَى الَّذِي أَلْهَمَنِيَ الْعَفْوَ عَنْكَ، فَحَدِّثْنِي الْآنَ عَمَّا جَرَى لَكَ مُدَّةَ اخْتِفَائِكَ.
فَشَرَحْتُ لَهُ مَا جَرَى لِيَ مَعَ الْعَبْدِ وَالْجُنْدِيِّ وَامْرَأَتِهِ، وَمَا جَرَى لِي مَعَ جَارِيَتِي، فَأَمَرَ بِإِحْضَارِهِمْ، فَدَعَا جَارِيَتِي — وَكَانَتْ تَنْتَظِرُ الْجَائِزَةَ — فَقَالَ لَهَا: مَا حَمَلَكِ عَلَى مَا فَعَلْتِ بِسَيِّدِكِ؟ فَقَالَتْ: الرَّغْبَةُ فِي الْمَالِ. فَقَالَ لَهَا الْمَأْمُونُ: هَلْ لَكِ وَلَدٌ وَزَوْجٌ؟ قَالَتْ: لَا. فَأَمَرَ بِضَرْبِهَا مِائَةَ سَوْطٍ.٦

ثُمَّ أَحْضَرَ الْجُنْدِيَّ وَامْرَأَتَهُ وَالْعَبْدَ، فَسَأَلَ الْجُنْدِيَّ: مَا حَمَلَهُ عَلَى مَا فَعَلَ؟ فَقَالَ: الرَّغْبَةُ فِي الْمَالِ. فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُونُ: أَمَرْنَا بِطَرْدِكَ مِنَ الْجُنْدِيَّةِ. ثُمَّ أَكْرَمَ زَوْجَتَهُ وَأَمَرَ بِدُخُولِهَا قَصْرَهُ، وَقَالَ: هَذِهِ تَصْلُحُ لِلْمُهِمَّاتِ. ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى الْعَبْدِ وَقَالَ: لَقَدْ ظَهَرَ مِنْ مُرُوْءَتِكَ مَا يُوجِبُ الْمُبَالَغَةَ فِي إِكْرَامِكَ. وَسَلَّمَ إِلَيهِ دَارَ الْجُنْدِيِّ بِمَا فِيهَا، وَخَصَّصَ لَهُ أَلْفَ دِينَارٍ كُلَّ سَنَةٍ.

«وَالْعَفْوُ مِنْ شِيَمِ الْكِرَامِ، وَلَا بُدَّ أَنْ تُجْزَى الْمُرُوءَةُ بِمِثْلِهَا.»

(٢) جَعْفَرٌ وَالرَّشِيدُ

أَرِقَ الرَّشِيْدُ ذَاتَ لَيْلَةٍ أَرَقًا شَدِيدًا؛ فَاسْتَدْعَى جَعْفَرًا، وَقَالَ: أُرِيْدُ مِنْكَ أَنْ تُزِيلَ مَا بِقَلْبِي مِنَ الضَّجَرِ. فَقَالَ الْوَزِيرُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، كَيْفَ يَكُونُ عَلَى قَلْبِكَ ضَجَرٌ، وَقَدْ خَلَقَ اللهُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً تُزِيلُ الْهَمَّ عَنِ الْمَهْمُومِ، وَأَنْتَ قَادِرٌ عَلَيْهَا؟ فَقَالَ الرَّشِيدُ: وَمَا هِيَ يَا جَعْفَرُ؟

فَقَالَ لَهُ: قُمْ بِنَا الْآنَ حَتَّى نَطْلَعَ إِلَى فَوْقِ سَطْحِ هَذَا الْقَصْرِ؛ فَنَتَفَرَّجَ عَلَى النُّجُومِ وَاشْتِبَاكِهَا وَارْتِفَاعِهَا، وَالْقَمَرِ وَحُسْنِ طَلْعَتِهِ.

فَقَالَ الرَّشِيدُ: يَا جَعْفَرُ، مَا تَمِيلُ نَفْسِي إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذلِكَ. فَقَالَ: يَا أَمَيرَ الْمُؤْمِنِينَ، افْتَحْ شُبَّاكَ الْقَصْرِ الَّذِي يُطِلُّ عَلَى الْبُسْتَانِ، وَتَفَرَّجْ عَلى حُسْنِ تِلْكَ الْأَشْجَارِ، وَاسْمَعْ صَوْتَ تَغْرِيدِ٧ الْأَطْيَارِ، وَانْظُرْ إِلَى هَدِيرِ الْأَنْهَارِ،٨ وَشُمَّ رَوَائِحَ تِلْكَ الْأَزْهَارِ. فَقَالَ: يَا جَعْفَرُ، مَا تَمِيلُ نَفْسِي إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.

فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، افْتَحْ الشُّبَّاكَ الذِي يُطِلُّ عَلَى دِجْلَةَ حَتَّى تَتَفَرَّجَ عَلَى تِلْكَ الْمَرَاكِبِ وَالْمَلَّاحِينَ، فَهَذَا يُصَفِّقُ، وَهَذَا يُنْشِدُ مَوَالِيَ. فَقَالَ الرَّشِيدُ: مَا تَمِيلُ نَفْسِي إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ جَعْفَرٌ: قُمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى نَنْزِلَ إِلَى الِاصْطَبْلِ الْخَاصِّ، وَنَنْظُرَ إِلَى الْخَيْلِ الْعَرَبِيَّاتِ، وَنَتَفَرَّجَ عَلَى حُسْنِ أَلْوَانِهَا مَا بَيْنَ أَسْوَدَ كَالليْلِ إِذَا أَظْلَمَ، وَأَشْقَرَ، وَأَحْمَرَ، وَأَبْيَضَ، وَأَصْفَرَ، وَأَلْوَانٍ تُحَيِّرُ الْعُقُولَ. فَقَالَ الرَّشِيدُ: مَا تَمِيلُ نَفْسِي إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.

فَقَالَ جَعْفَرٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا بَقِيَ إِلَّا ضَرْبُ عُنُقِ مَمْلُوكِكَ جَعْفَرٍ؛ فَإنِّي وَاللهِ قَدْ عَجَزْتُ عَنْ إِزَالَةِ هَمِّ مَوْلَانَا. فَضَحِكَ الرَّشِيدُ، وَطَابَتْ نَفْسُهُ، وَزَالَ عَنْهُ الضَّجَرُ.

«مَبَاهِجُ الطَّبِيعَةِ تَشْرَحُ صَدْرَ الْمُؤْمِنِ بِقُدْرَةِ اللهِ.»

(٣) مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَنَصِيبٌ الشَّاعِرُ

قَالَ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ لِنَصِيبٍ الشَّاعِرِ: هَلْ مَدَحْتَ فُلَانًا؟ وَذَكَرَ لَهُ اسْمَ أَحَدِ أَقَارِبِهِ. فَقَالَ نَصِيبٌ: لَقَدْ فَعَلْتُ. فَقَالَ مُسْلِمَةُ: وَهَلْ حَرَمَكَ مِنَ الْجَزَاءِ؟ فَقَالَ نَصِيبٌ: نَعَمْ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ مَسْلَمَةُ: فَهَلْ هَجَوْتَهُ؟ فَقَالَ نَصِيبٌ: لَا، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.

قَالَ مَسْلَمَةُ: وَلِمَاذَا لَمْ تَفْعَلْ وَقَدْ حَرَمَكَ الْجَزَاءَ؟ فَقَالَ نَصِيبٌ: لِأَنِّي كُنْتُ أَحَقُّ بِالذَّمِّ مِنْهُ؛ لِأَنِّي ظَنَنْتُهُ يَسْتَحِقُّ مَدْحِي. فَأُعْجِبَ بِهِ مَسْلَمَةُ، وَقَالَ: اسْأَلْنِي يَا نَصِيبُ. فَقَالَ نَصِيبٌ: إِنَّ كَفَّكَ بِالْعَطَاءِ أَجْوَدُ مِنْ لِسَانِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.

«مَنْ مَدَحَ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْمَدِيحَ كَانَ الْأَوْلَى بِلَوْمِ نَفْسِهِ.»

(٤) الْمَأْمُونُ وَالصَّائِغُ

حَدَّثَ سُلَيْمَانُ الْوَرَّاقُ قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَعْظَمَ حِلْمًا مِنَ الْمَأْمُونِ، دَخَلْتُ عَلَيهِ يَوْمًا وَفِي يَدِهِ فَصٌّ مُسْتَطِيلٌ مِنْ يَاقُوتٍ أَحْمَرَ، لَهُ شُعَاعٌ قَدْ أَضَاءَ لَهُ الْمَجْلِسُ، وَهُوَ يُقَلِّبُهُ بِيَدِهِ وَيَسْتَحْسِنُهُ، ثُمَّ دَعَا بِرَجُلٍ صَائِغٍ وَقَالَ لَهُ: اصْنَعْ بِهَذَا الْفَصِّ كَذَا وَكَذَا، وأَحْلِلْ فِيهِ كَذَا وكَذَا، وَعَرَّفَهُ كَيْفَ يَعْمَلُ بِهِ، فَأَخَذَهُ الصَّائِغُ وَانْصَرَفَ.

ثُمَّ عُدْتُ إِلَى الْمَأْمُونِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَتَذَكَّرَهُ فَاسْتَدْعَى بِالصَّائِغِ، فَأُتِيَ بِهِ وَهُوَ خَائِفٌ وَقَدِ اصْفَرَّ لَوْنُهُ، فَقَالَ الْمَأْمُونُ: مَا فَعَلْتَ بِالْفَصِّ؟ فَارْتَبَكَ الرَّجُلُ وَلَمْ يَنْطِقْ بِكَلَامٍ، فَفَهِمَ الْمَأْمُونُ بِالْفَرَاسَةِ أَنَّهُ حَصَلَ فِيهِ خَلَلٌ، فَوَلَّى وَجْهَهُ عَنْهُ حَتَّى هَدَأَ بَالُهُ.

ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيهِ وَأَعَادَ الْقَوْلَ، فَقَالَ: الْأَمَانَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: لَكَ الْأَمَانُ. فَأَخْرَجَ الْفَصَّ أَرْبَعَ قِطَعٍ، وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، سَقَطَ مِنْ يَدِي عَلَى السِّنْدَانِ، فَصَارَ كَمَا تَرَى. فَقَالَ الْمَأْمُونُ: لَا بَأْسَ عَلَيْكَ، اصْنَعْ بِهِ أَرْبَعَ خَوَاتِمَ. وَأَلْطَفَ فِي الْكَلَامِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ كَانَ يَشْتَهِيَ الْفَصَّ عَلَى أَرْبَعِ قِطَعٍ، فَلَمَّا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ: أَتَدْرُونَ كَمْ قِيمَةُ هَذَا الْفَصِّ؟ قُلْنَا: لَا. قَالَ: اشْتَرَاهُ الرَّشِيدُ بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ أَلْفًا.

«الْحِلْمُ سَيِّدُ الْأَخْلَاقِ.»

(٥) الْمَأْمُونُ وَرَاثِي الْبَرَامِكَةِ

١

قَالَ خَادِمُ الْمَأْمُونِ: طَلَبَنِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَيْلَةً، وَقَدْ مَضَى مِنَ اللَّيْلِ ثُلُثُهُ، فَقَالَ لِي: خُذْ مَعَكَ فُلَانًا وَفُلَانًا — وَسَمَّاهُمَا لِي؛ أَحَدُهُمَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَالَآخَرُ دِينَارٌ الْخَادِمُ — وَاذْهَبْ مُسْرِعًا لِمَا أَقُولُ لَكَ؛ فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ شَيخًا يَحْضُرُ لَيْلًا إِلَى آثَارِ دُورِ الْبَرَامِكَةِ، وَيُنْشِدُ شِعْرًا يَذْكُرُهُمْ وَيَنْدُبُهُمْ وَيَبْكِي عَلَيْهِمْ ثُمَّ يَنْصَرِفُ، فَامْضِ أَنْتَ وَعَلِيٌّ وَدِينَارٌ حَتَّى تَصِلُوا إِلَى تِلْكَ الْخَرِبَاتِ فَاسْتَتِرُوا وَرَاءَ بَعْضِ جُدْرَانِهَا، فَإِذَا رَأَيْتُمُ الشَّيْخَ قَدْ جَاءَ وَنَدَبَ وَأَنْشَدَ أَبْيَاتًا فَأْتُونِي بِهِ.

فَأَخَذْتُهُمَا وَمَضَيْنَا حَتَّى أَتَيْنَا الْخَرِبَاتِ، فَإذَا بِغُلَامٍ قَدْ أَتَى وَمَعَهُ بِسَاطٌ وَكُرْسِيٌّ مِنْ حَدِيدٍ بِرُفْقَتِهِ شَيْخٌ جَمِيلُ الطَّلْعَةِ لَطِيفٌ مُهَذَّبٌ، فَجَلَسَ عَلَى الْكُرْسِيِّ وَجَعَلَ يَبْكِي وَيَقُولُ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ:

وَلَمَّا رَأَيْتُ السَّيْفَ جَنْدَلَ٩ جَعْفَرًا
وَنَادَى مُنَادٍ لِلْخَلِيفَةِ فِي يَحْيَى
بَكَيْتُ عَلَى الدُّنْيَا وَزَادَ تَأَسُّفِي
عَلَيْهِمْ، وَقُلْتُ: الْآنَ لَا تَنْفَعُ الدُّنْيَا

مَعَ أَبْيَاتٍ أَطَالَهَا. فَلَمَّا فَرَغَ قَبَضْنَا عَلَيْهِ، وَقُلْنَا لَهُ: أَجِبْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَفَزِعَ فَزَعًا شَدِيدًا، وَقَالَ: دَعُونِي حَتَّى أُوصِيَ بِوَصِيَّةٍ؛ فَإِنِّي لَا أَضْمَنُ بَعْدَهَا حَيَاتِي. ثُمَّ تَقَدَّمَ إِلَي بَعْضِ الدَّكَاكِينِ وَأَخَذَ وَرَقَةً وَكَتَبَ فِيهَا وَصِيَّةً وَسَلَّمَهَا إِلَى غُلَامِهِ، ثُمَّ سِرْنَا بِهِ، فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ لِي: مَنْ أَنْتَ؟ وَبِمَا اسْتَوْجَبَتْ مِنْكَ الْبَرَامِكَةُ مَا تَفْعَلُهُ فِي خَرَائِبِ دُورِهِمْ؟

قَالَ الشَّيْخُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ لِلْبَرَامِكَةِ أَيَدِيَ خَطِيرَةً عِنْدِي، فَأْذَنْ لِي أَنْ أُحَدِّثَكَ بِحَالِي مَعَهُمْ. قَالَ: قُلْ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَا الْمُنْذِرُ بْنُ الْمُغِيرَةِ مِنْ أَوْلَادِ الْمُلُوكِ، وَقَدْ زَالَتْ عَنِّي نِعْمَتِي، فَلَمَّا رَكِبَنِي الدَّيْنُ وَاحْتَجْتُ إِلَى بَيْعِ مَسْقَطِ رَأْسِي، أَشَارَ عَلَيَّ الْأَهْلُ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْبَرَامِكَةِ.

٢

فَخَرَجْتُ مِنْ دِمَشْقَ مَعَ ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِي، وَلَيْسَ مَعَنَا مَا يُبَاعُ أَوْ يُوهَبُ حَتَّى دَخَلْنَا بَغْدَادَ، وَنَزَلْنَا فِي بَعْضِ الْمَسَاجِدِ فَاسْتَتَرْتُ بِثِيَابٍ أَعْدَدْتُهَا، وَتَرَكْتُهُمْ جِيَاعًا لَا شَيْءَ عِنْدَهُمْ، وَدَخَلْتُ شَوَارِعَ بَغْدَادَ سَائِلًا عَنِ الْبَرَامِكَةِ، فَإِذَا أَنَا بِجَامِعٍ مُزَخْرَفٍ يَغُصُّ بِالْجُلُوسِ وَفِي جَانِبِهِ شَيْخٌ بِأَحْسَنِ زِيٍّ وَزِينَةٍ، وَعَلَى الْبَابِ خَادِمَانِ، فَطُفْتُ فِي الْقَوْمِ، وَدَخَلْتُ الْمَسْجِدَ وَجَلَسْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَأَنَا أُقَدِّمُ رِجْلًا وَأُؤَخِّرُ أُخْرَى، وَالْعَرَقُ يَسِيلُ مِنِّي؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ صَنْعَتِي، وَإِذَا بِالْخَادِمِ مُقْبِلًا يَدْعُو الْقَوْمَ؛ فَقَامُوا وَأَنَا مَعَهُمْ، فَدَخَلُوا دَارَ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ، فَدَخَلْتُ مَعَهُمْ، وَإِذَا بِدَكَّةٍ لَهُ وَسَطَ بُسْتَانٍ، فَسَلَّمْنَا وَهُوَ يَعُدُّنَا مِائَةً وَوَاحِدًا، وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَشَرَةٌ مِنْ أَوْلَادِهِ.

وَإِذَا بِمِائَةٍ وَاثْنَيْ عَشَرَ خَادِمًا قَدْ أَقْبَلُوا، وَمَعَ كَلِّ خَادِمٍ صِينِيَّةٌ، فَرَأَيْتُ الْقَاضِيَ وَالْمَشَايِخَ يَصُبُّونَ الدَّنَانِيرَ فِي أَكْمَامِهِمْ، وَيَجْعَلُونَ الصَّوَانِيَ تَحْتَ آبَاطِهِمْ، يَقُومُ الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ حَتَّى بَقِيتُ وَحْدِي لَا أَجْسُرُ عَلَى أَخْذِ الصِّينِيَّةِ، فَغَمَزَنِي الْخَادِمُ؛ فَجَسَرْتُ وَأَخَذْتُهَا، وَجَعَلْتُ الذَّهَبَ فِي كُمِّي وَالصِّينِيَّةَ فِي يَدِي، وَقُمْتُ وَأَنَا أَتَلَفَّتُ إِلَى وَرَاءِي؛ مَخَافَةَ أَنْ أُمْنَعَ مِنَ الذَّهَابِ، فَوَصَلْتُ إِلَى صَحْنِ الدَّارِ وَيَحْيَى يُلَاحِظُنِي، فَقَالَ لِلْخَادِمِ: اِئْتِنِي بِهَذَا الرَّجُلِ؛ فَأَتَى بِي، فَقَالَ: مَا لِي أَرَاكَ تَتَلَفَّتُ يَمِينًا وَشِمَالًا؟ فَقَصَصْتُ عَلَيهِ قِصَّتِي.

فَقَالَ لِلْخَادِمِ: اِئْتِنِي بِوَلَدِي مُوسَى؛ فَأَتَاهُ بِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ، هَذَا رَجُلٌ غَرِيبٌ، خُذْهُ إِلَيْكَ وَاحْفَظْهُ بِنَفْسِكَ وَنِعْمَتِكَ. فَقَبَضَ مُوسَى وَلَدُهُ عَلَى يَدَيَّ، وَأَدْخَلَنِي إِلَى دَارٍ لَهُ، فَأَكْرَمَنِي غَايَةَ الْإِكْرَامِ، وَأَقَمْتُ عِنْدَهُ يَوْمِي وَلَيْلَتِي فِي أَلَذِّ عَيْشٍ وَأَتَمِّ سُرُورٍ، فَلَمَّا أَصْبَحَ دَعَا بِأَخِيهِ الْعَبَّاسِ وَقَالَ لَهُ: الْوَزِيرُ أَمَرَنِي بِالْعَطْفِ عَلَى هَذَا الْفَتَى، وَقَدْ عَلِمْتَ اشْتِغَالِي فِي بَيْتِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَاقْبَلْهُ عِنْدَكَ وَأَكْرِمْهُ، فَفَعَلَ ذَلِكَ وَأَكْرَمَنِي غَايَةَ الْإِكْرَامِ، وَفِي الْغَدِ سَلَّمَنِي لِأَخِيهِ أَحْمَدَ، وَلَمْ أَزَلْ فِي أَيْدِي الْقَوْمِ يَتَدَاوَلُونَنِي تِبَاعًا مُدَّةَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ لَا أَعْرِفُ شَيْئًا عَنْ عِيَالِي، أَمْوَاتًا هُمْ أَمْ أَحْيَاءً.

٣

فَلَمَّا كَانَ اليَوْمُ الْحَادِيَ عَشَرَ جَاءَنِي خَادِمٌ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْخَدَمِ، فَقَالُوا: قُمْ فَاخْرُجْ إِلَى عِيَالِكَ بِسَلَامٍ. فَقُلْتُ: وَيْلَاهُ! سُلِبَتِ الدَّنَانِيرُ وَالصِّينِيَّةُ، وَأَخْرُجُ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ، إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ! فَرُفِعَ السِّتْرُ الْأَوَّلُ ثُمَّ الثَّانِي ثُمَّ الثَّالِثُ ثُمَّ الرَّابِعُ، فَلَمَّا رَفَعَ الْخَادِمُ الْأَخِيرَ، قَالَ لِي: مَهْمَا كَانَ لَكَ مِنَ الْحَوَائِجِ فَارْفَعْهَا إِليَّ؛ فَإِنِّي مَأْمُورٌ بِقَضَاءِ جَمِيعِ مَا تَأْمُرُنِي بِهِ، فَلَمَّا رُفِعَ السِّتْرُ الْأَخِيرُ رَأَيْتُ حُجْرَةً كَالشَّمْسِ حُسْنًا وَنُورًا، وَاسْتَقْبَلَتْنِي مِنَهَا رَائِحَةُ النَّدِّ وَالْعُودِ وَنَفَحَاتُ الْمِسْكِ.

figure
وَإِذَا بِصِبْيَانِي وَعِيَالِي يَتَقَلَّبُونَ فِي الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ.
وَإِذَا بِصِبْيَانِي وَعِيَالِي يَتَقَلَّبُونَ فِي الْحَرِيرِ، وَحَمَلَ إِلَيَّ عَشَرَةَ آلَافِ دِينَارٍ وَمَنْشُورًا بِضَيْعَتَيْنِ وَتِلْكَ الصِّينِيَّةَ التِي كُنْتُ أَخَذْتُهَا بِمَا فِيهَا مِنَ الدَّنَانِيرِ. وَأَقَمْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ الْبَرَامِكَةِ فِي دُورِهِمْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، لَا يَعْلَمُ النَّاسُ أَمِنَ الْبَرَامِكَةِ أَنَا أَمْ رَجُلٌ غَرِيبٌ. فَلَمَّا دَهَتْهُمُ الْبَلِيَّةُ وَنَزَلَ بِهِمْ مَا نَزَلَ مِنَ الرَّشِيدِ أَلْزَمَنِي عَمْرُو بْنُ مَسْعَدَةَ بِدَفْعِ خَرَاجٍ١٠ عَلَى هَاتَيْنِ الضَّيْعَتَيْنِ لَا يَفِي دَخْلُهُمَا بِهِ، فَلَمَّا تَحَامَلَ عَلَيَّ الدَّهْرُ كُنْتُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ أَقْصِدُ خَرِبَاتِ دُورِهِمْ، فَأَنْدُبُهُمْ وَأَذْكُرُ حُسْنَ صُنْعِهِمْ إِلَيَّ وَأَبْكِي عَلَى إِحْسَانِهِمْ.
قَالَ الْمَأْمُونُ: اِئْتُونِي بِعَمْرِو بْنِ مَسْعَدَةَ، فَلَمَّا أُتِيَ بِهِ، قَالَ لَهُ: أَتَعْرِفُ هَذَا الرَّجُلَ؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هُوَ بَعْضُ صَنَائِعِ الْبَرَامِكَةِ، قَالَ كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ لَهُ: رُدَّ إِلَيْهِ كُلَّ مَا أَخَذْتَهُ مِنْهُ فِي مُدَّتِهِ؛ لِيَكُونَ لَهُ وَلِأَوْلَادِهِ مِنْ بَعْدِهِ. وَلِلْحَالِ عَلَا نَحِيبُ١١ الرَّجُلِ.

فَلَمَّا رَأَى الْمَأْمُونُ كَثْرَةَ بُكَائِهِ؛ قَالَ لَهُ: يَا هَذَا، قَدْ أَحْسَنَّا إِلَيْكَ، فَمَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا أَيْضًا مِنْ صَنِيعِ الْبَرَامِكَةِ، لَوْ لَمْ آتِ خَرِبَاتِهِمْ فَأَبْكِيَهُمْ وَأَنْدُبَهُمْ لَمَا اتَّصَلَ خَبَرِي إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَفَعَلَ بِي مَا فَعَلَ.

فَمَا كَادَ يَنْتَهِي مِنْ كَلَامِهِ حَتَّى فَاضَتْ عَبَرَاتُ١٢ الْمَأْمُونِ، وَظَهَرَ عَلَيْهِ الْحُزْنُ، وَقَالَ: لَعَمْرِي، هَذَا مِنْ صَنِيعِ الْبَرَامِكَةِ، فَعَلَى مِثْلِهِم يُبْكَى وَإِيَّاهُم يُشْكَرُ وَلَهُم يُوَفَّى وَلِإِحْسَانِهِم يُذْكَرُ.

«يَمُوتُ الْكَرِيمُ وَذِكْرُهُ حَيٌّ بَيْنَ مَنْ شَمَلَهُمْ إِحْسَانُهُ.»

(٦) هَارُونُ الرَّشِيدُ وَأَحَدُ الْكُرَمَاءِ

١

حَكَى الْأَصْمَعِيُّ قَالَ: قَصَدْتُ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ رَجُلًا كُنْتُ آتِيهِ أَحْيَانًا كَثِيرَةً؛ لِكَرَمِهِ وَجُودِهِ، فَلَمَّا أَتَيْتُ دَارَهُ وَجَدْتُ عَلَى بَابِهِ بَوَّابًا، فَمَنَعَنِي مِنَ الدُّخُولِ إِلَيْهِ، وَقَالَ لِي: وَاللهِ يَا أَصْمَعِيُّ، مَا أَوْقَفَنِي عَلَى بَابِهِ لِأَمْنَعَ مِثْلَكَ إِلَّا لِرِقَّةِ حَالِهِ وَقُصُورِ يَدِهِ، وَمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الضِّيقِ. فَقُلْتُ لَهُ: أُرِيدُ أَنْ أَكْتُبَ لَهُ رُقْعَةً،١٣ أَتُوصِلُهَا إِلَيهِ؟ فَقَالَ: سَمْعًا وَطَاعَةً. فَأَحْضَرَ لِي وَرَقَةً وَقَلَمًا وَدَوَاةً، فَأَخَذْتُ وَكَتَبْتُ لَهُ شِعْرًا:
إِذَا كَانَ الْكَرِيمُ لَهُ حِجَابٌ
فَمَا فَضْلُ الْكَرِيمِ عَلَى اللَّئِيمِ

ثُمَّ طَوَيْتُ الرُّقْعَةَ وَدَفَعْتُهَا إِلَى الْحَاجِبِ، وَقُلْتُ لَهُ: أَوْصِلْ هَذِهِ الرُّقْعَةَ إِلَيْهِ. فَفَعَلَ وَمَضَى بِالرُّقْعَةِ قَلِيلًا ثُمَّ عَادَ إِلَيَّ بِالرُّقْعَةِ عَيْنِهَا وَقَدْ كَتَبَ تَحْتَ شِعْرِي جَوَابًا شِعْرًا:

إِذَا كَانَ الْكَرِيمُ قَلِيلَ مَالٍ
تَحَجَّبَ بِالْحِجَابِ عَنِ الْغَرِيمِ
وَمَعَ الرُّقْعَةِ صُرَّةٌ فِيهَا خَمْسُمِائَةِ دِينَارٍ، فَتَعَجَّبْتُ مِنْ سَخَائِهِ مَعْ قِلَّةِ مَا بِيَدِهِ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: وَاللهِ، لَأُتْحِفَنَّ١٤ هَارُونَ الرَّشِيدَ بِهَذَا الْخَبَرِ، فَانْطَلَقْتُ حَتَّى أَتَيْتُ قَصْرَ الْخِلَافَةِ، فَاسْتَأْذَنْتُ وَدَخَلْتُ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ بِالْخِلَافَةِ.

٢

فَلَمَّا رَآنِي قَالَ لِي: مِنْ أَيْنَ يَا أَصْمَعِيُّ؟ قُلْتُ: مِنْ عِنْدِ رَجُلٍ مِنْ أَكْرَمِ الْأَحْيَاءِ مِنْ بَعْدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: وَمَنْ هُوَ؟ فَدَفَعْتُ لَهُ الصُّرَّةَ وَسَرَدْتُ عَلَيْهِ الْخَبَرَ، فَلَمَّا رَأَى الصُّرَّةَ قَالَ: هَذِهِ مِنْ بَيْتِ مَالِي وَلَا بُدَّ لِي مِنَ الرَّجُلِ. فَقُلْتُ: وَاللهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي أَسْتَحِي أَنْ أَكُونَ سَبَبَ كَدَرِهِ بِإِرْسَالِكَ إِلَيْهِ. فَقَالَ: لَا يَغُمُّكَ ذَلِكَ. ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى بَعْضِ خَاصَّتِهِ، وَقَالَ لَهُ: اِمْضِ مَعَ الْأَصْمَعِيِّ، فَإِذَا أَرَاكَ دَارًا فَادْخُلْ، وَقُلْ لِصَاحِبِهِ: أَجِبْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلْتَكُنْ دَعْوَتُكَ لَهُ بِلَطَافَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُزْعِجَهُ.

figure
وَلَكِنِّي اسْتَحَيْتُ مِنَ اللهِ تَعَالَى أَنْ أُعِيدَ قَاصِدِي إِلَّا كَمَا أَعَادَنِي أَمِيرُ الْمُؤمِنِينَ.

قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: فَمَضَيْنَا، وَدَعَوْنَا الرَّجُلَ، فَجَاءَ وَدَخَلَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَسَلَّمَ بِالْخِلَافَةِ، فَقَالَ لَهُ هَارُونُ الرَّشِيدُ: أَلَسْتَ أَنْتَ الَّذِي وَقَفْتَ لَنَا بِالْأَمْسِ، وَشَكَوْتَ لَنَا رِقَّةَ حَالِكَ، وَقُلْتَ: إِنَّكَ فِي ضِيقٍ شَدِيدٍ مِنَ الِاحْتِيَاجِ؛ فَرَحِمْنَاكَ، وَوَهَبْنَا لَكَ هَذِهِ الصُّرَّةَ؛ لِتُصْلِحَ بِهَا حَالَكَ، وَقَدْ قَصَدَكَ الْأَصْمَعِيُّ بِبَيْتٍ مِنَ الشِّعْرِ؛ فَدَفَعْتَهَا لَهُ؟

فَقَالَ: نَعَمْ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَاللهِ مَا كَذَبْتُ فِيمَا شَكَوْتُهُ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ رِقَّةِ حَالِي وَشِدَّةِ احْتِيَاجِي! وَلَكِنِّي اسْتَحَيْتُ مِنَ اللهِ تَعَالَى أَنْ أُعِيدَ قَاصِدِي إِلَّا كَمَا أَعَادَنِي أَمِيرُ الْمَؤْمِنِينَ.

فَقَالَ هَارُونُ الرَّشِيدُ: للهِ دَرُّ بَطْنٍ أَتَاكَ! فَمَا وَلَدَتِ الْعَرَبُ أَكْرَمَ مِنْكَ. ثُمَّ بَالَغَ بِإكْرَامِهِ وَخَلَعَ عَلَيْهِ١٥ وَجَعَلَهُ مِنْ خَاصَّتِهِ.

«مَنْ تَشَبَّهَ بِالْكِرَامِ رغْمَ فَقْرِهِ أَغْنَاهُ اللهُ.»

(٧) الْمَهْدِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ

كَانَ لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ جَرَايَةٌ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَاخِرَةٌ، وَكَانَ يَسْخَرُ بِذَلِكَ، فَسُئِلَ يَوْمًا فِي مَجْلِسِ الْخَلِيفَةِ، فَقَالَ: لَا أَدْرِي. فَقَالُوا: تَأْخُذُ فِي كُلِّ يَوْمٍ كَذَا وَكَذَا، وَلَا تُحْسِنُ مَسْأَلَةً! فَقَالَ: إِنَّمَا أَخَذْتُ عَلَى مَا أُحْسِنُ، وَلَوْ آخُذُ عَلَى مَا لَا أُحْسِنُ لَفَنِيَ بَيْتُ الْمَالِ، وَلَا يَفْنَى مَا لَا أَدْرِي. فَأَعْجَبَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ جَوَابُهُ، وَأَمَرَ لَهُ بِجَائِزَةٍ وَزَادَ فِي جَرَايَتِهِ.

(٨) الْمَهْدِيُّ وَأَبُو الْعَتَاهِيَةِ الشَّاعِرُ

قَالَ أَشْجَعُ السِّلْمِيُّ الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ: أَذِنَ الْخَلِيفَةُ الْمَهْدِيُّ لِلنَّاسِ فِي الدُّخُولِ عَلَيْهِ، فَدَخَلْنَا مَعَ أَبِي الْعَتَاهِيَةِ، فَأُمِرْنَا بِالْجُلُوسِ، فَاتَّفَقَ أَنْ جَلَسَ بِجَنْبِي بَشَّارُ فَقَالَ لِي: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: أَبُو الْعَتَاهِيَةِ. فَقَالَ: أَتُرَاهُ يُنْشِدُ فِي هَذَا الْمَحْفَلِ؟ فَقُلْتُ: أَحْسَبُهُ سَيَفْعَلُ. قَالَ: فَأَمَرَهُ الْمَهْدِيُّ؛ فَأَنْشَدَ:

أَتَتْهُ الْخِلَافَةُ مُنْقَادَةً
إِلَيْهِ تُجَرِّرُ أَذْيَالَهَا
فَلَمْ تَكُ تَصْلُحُ إِلَّا لَهُ
وَلَمْ يَكُ يَصْلُحُ إِلَّا لَهَا
وَلَوْ رَامَهَا أَحَدٌ غَيْرُهُ
لَزُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا
وَلَوْ لَمْ تُطِعْهُ جَمِيعُ الْقُلُوبِ
لَمَا قَبِلَ اللهُ أَعْمَالَهَا

فَقَالَ لِي بَشَّارٌ: انْظُرْ، وَيْحَكَ يَا أَشْجَعُ! هَلْ طَارَ الْخَلِيفَةُ عَنْ فِرَاشِهِ؟ قَالَ أَشْجَعُ: فَوَاللهِ، مَا انْصَرَفَ أَحَدٌ عَنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ بِجَائِزَةٍ غَيْرُ أَبِي الْعَتَاهِيَةِ.

(٩) ذَكَاءُ الْمَأْمُونِ

حُكِيَ أَنَّ أُمَّ جَعْفَرٍ عَاتَبَتِ الرَّشِيدَ فِي مَدْحِهِ لِلْمَأْمُونِ دُوْنَ الْأَمِينِ وَلَدِهَا، فَدَعَا خَادِمًا وَقَالَ لَهُ: وَجِّهْ إِلَى الْأَمِينِ وَالْمَأْمُونِ خَادِمًا يَقُولُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْخَلْوَةِ: مَا تَفْعَلُ بِي إِذَا أَفْضَتِ١٦ الْخِلَافَةُ إِلَيْكَ؟ فَأَمَّا الْأَمِينُ فَقَالَ لِلْخَادِمِ: أُعْطِيكَ أَرْضًا وَمَالًا.

وَأَمَّا الْمَأْمُونُ فِإنَّهُ قَامَ إِلَى الْخَادِمِ بِدَوَاةٍ كَانَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقَالَ: أَتَسْأَلُنِي عَمَّا أَفْعَلُ بِكَ يَوْمَ يَمُوتُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَخَلِيفَةُ رَبِّ الْعَالَمِينَ؟! إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ نَكُونَ جَمِيعًا فِدَاءً لَهُ.

فَقَالَ الرَّشِيدُ لِأُمِّ جَعْفَرٍ: كَيْفَ تَرَيْنَ؟ فَسَكَتَتْ عَنِ الْجَوَابِ.

«مَنْ بَرَّ بِوَالِدَيْهِ اسْتَحَقَّ الْجَزَاءَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.»

(١٠) عُبَيْدُ اللهِ وَالْمُتَوَكِّلُ

أَبْطَأَ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ يَحْيَى عَنِ الدِّيوَانِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمُتَوَكِّلُ يَتَعَرَّفُ خَبَرَهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ:

عَلِيلٌ مِنْ مَكَانَيْنِ
مِنَ الْإِفْلَاسِ وَالدَّيْنِ
فَفِي هَذَيْنِ لِي شُغْلٌ
وَحَسْبِي شُغْلُ هَذَيْنِ

فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِأَلْفِ دِينَارٍ.

(١١) الْمَهْدِيُّ وَأَبُو دُلَامَةَ

تَوَاطَأَ أَبُو دُلَامَةَ مَعْ أُمِّ دُلَامَةَ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ هُوَ الْمَهْدِيَّ فَيَنْعِيَهَا، وَتَأْتِيَ عَلَى الْخَيْزُرَانِ فَتَنْعِيَهُ. فَأَتَى أَبُو دُلَامَةَ الْمَهْدِيَّ وَهُوَ يَبْكِي.

فَقَالَ لَهُ: مَا بَالُكَ؟ فَقَالَ: مَاتَتْ أُمُّ دُلَامَةَ، وَإِنِّي أَحْتَاجُ إِلَى تَجْهِيزِهَا.١٧ فَدَفَعَ لَهُ مَالًا. وَأَتَتْ أُمُّ دُلَامَةَ الْخَيْزُرَانَ وَقَالَتْ: إِنَّ أَبَا دُلَامَةَ مَضَى لِسَبِيلِهِ.١٨ فَاغْتَمَّتْ وَأَمَرَتْ لَهَا بِمَالٍ وَأَعْطَتْهَا ثِيَابًا وَطِيبًا. وَلَمَّا دَخَلَ الْمَهْدِيُّ عَلَى الْخَيْزُرَانِ قَالَتْ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ أَبَا دُلَامَةَ مَضَى لِسَبِيلِهِ، أَبْقَى اللهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! وَأُمُّ دُلَامَةَ كَانَتْ عِنْدِيَ السَّاعَةَ، فَأَعْطَيْتُهَا التَّجْهِيزَ لِزَوْجِهَا. فَقَالَ الْمَهْدِيُّ: إِنَّ أُمَّ دُلَامَةَ مَاتَتْ، وَكَانَ عِنْدِي أَبُو دُلَامَةَ السَّاعَةَ، وَأَعْطَيْتُهُ نَفَقَةَ تَجْهِيزِهَا.

فَعَجِبَا وَلَمْ يُصَدِّقَا حَتَّى ذَهَبَا إِلَيْهِمَا، فَنَظَرَ الْمَهْدِيُّ فَإِذَا بِهِمَا طَرِيحَانِ فِي أَرْضِ الدَّارِ، فَقَالَ: لَا بُدَّ مِنْ أَنَّ أُمَّ دُلَامَةَ مَاتَتْ قَبْلَ زَوْجِهَا. قَالَتْ: بَلْ أَبُو دُلَامَةَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ وَقَدْ رَأَيْتُهُ السَّاعَةَ؟! فَلَمَّا اشْتَدَّ الْخِصَامُ قَالَ الْمَهْدِيُّ: أُقْسِمُ بِشَرَفِي أَنَّ لِمَنْ أَطْلَعَنِي عَلَى الْحَقِيقَةِ خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ. فَنَهَضَ أَبُو دُلَامَةَ وَقَالَ: أُمُّ دُلَامَةَ مَاتَتْ قَبْلِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَضَحِكَ الْمَهْدِيُّ، وَدَفَعَ إِلَيْهِ الْمَالَ.

(١٢) إِجَارَةُ مَعْنٍ لِرَجُلٍ اسْتَجَارَ بِهِ

١

رُوِيَ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْمَنْصُورَ أَمَرَ بِالْقَبْضِ عَلَى رَجُلٍ كَانَ يَسْعَى بِفَسَادِ دَوْلَتِهِ مَعَ الْخَوَارِجِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَجَعَلَ لِمَنْ دَلَّ عَلَيْهِ أَوْ جَاءَ بِهِ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ إِنَّ الرَّجُلَ ظَهَرَ فِي بَغْدَادَ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَمْشِي مُخْتَفِيًا فِي بَعْضِ نَوَاحِيهَا رَآهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَعَرَفَهُ، فَأَخَذَ بِمَجَامِعِ ثِيَابِهِ، وَقَالَ: هَذَا طَلَبُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ.

فَبَيْنَمَا الرَّجُلُ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ إِذْ سَمِعَ وَقْعَ حَوَافِرِ الْخَيْلِ؛ فَالْتَفَتَ فَإذَا مَعْنُ بْنُ زَائِدَةَ، فَاسْتَغَاثَ بِهِ وَقَالَ لَهُ: أَجِرْنِي، أَجَارَكَ اللهُ! فَالْتَفَتَ مَعْنٌ إِلَى الرَّجُلِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ وَقَالَ لَهُ: مَا شَأْنُكَ وَهَذَا؟ فَقَالَ لَهُ: إِنَّهُ طَلَبُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِي أَمَرَهُ بَالْقَبْضِ عَلَيْهِ، وَجَعَلَ لِمَنْ دَلَّ عَلَيْهِ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ. فَقَالَ: دَعْهُ. وَقَالَ لِغُلَامِهِ: انْزِلْ عَنْ دَابَّتِكَ، وَاحْمِلِ الرَّجُلَ عَلَيْهَا. فَصَاحَ الرَّجُلُ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ، وَصَرَخَ، وَاسْتَجَارَ بِالنَّاسِ، وَقَالَ: أَيُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَ بُغْيَةِ١٩ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ لَهُ مَعْنٌ: اذْهَبْ فَقُلْ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَخْبِرْهُ أَنَّهُ عِنْدِي.
فَانْطَلَقَ٢٠ الرَّجُلُ إِلَى الْمَنْصُورِ وَأَخْبَرَهُ، فَأَمَرَ الْمَنْصُورُ بِإِحْضَارِ مَعْنٍ فِي السَّاعَةِ، فَلَمَّا وَصَلَ أَمْرُ الْمَنْصُورِ إِلَى مَعْنٍ، دَعَا جَمِيعَ أَهْلِ بَيْتِهِ وَأَوْلَادِهِ وَأَقَارِبِهِ وَحَاشِيَتِهِ وَجَمِيعَ مَنْ يَلُوذُ بِهِ، وَقَالَ لَهُمْ: أُقْسِمُ عَلَيْكُمْ بِأَلَّا يَصِلَ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ مَكْرُوهٌ أَبَدًا وَفِيكُمْ عَيْنٌ تَطْرِفُ.

٢

figure
فَأَطْرَقَ الْمَنْصُورُ سَاعَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، وَقَالَ لَهُ: قَدْ أَجَرْنَاهُ لَكَ يَا مَعْنُ.

ثُمَّ إنَّه سَارَ إِلَى الْمَنْصُورِ فَدَخَلَ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ الْمَنْصُورُ السَّلَامَ، وَقَالَ لَهُ: يَا مَعْنُ، أَتَتَجَرَّأُ عَلَيَّ؟ قَالَ: نَعَمْ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ الْمَنْصُورُ: وَنَعَمْ أَيْضًا؟! وَقَدِ اشْتَدَّ غَضَبُهُ. فَقَالَ مَعْنٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، كَمْ مِنْ مَرَّةٍ تَقَدَّمَ فِي دَوْلَتِكُمْ بَلَائِي وَحُسْنُ جِهَادِي! وَكَمْ مِنْ مَرَّةٍ خَاطَرْتُ بِدَمِي! أَفَمَا رَأَيْتُمُونِي أَهْلًا بِأَنْ يُوْهَبَ لِي رَجُلٌ وَاحِدٌ اسْتَجَارَ بِي بَيْنَ النَّاسِ، بِوَهْمِهِ أَنِّي عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَذَلِكَ هُوَ؟ فَمُرْ بِمَا شِئْتَ، هَا أَنَا بَيْنَ يَدَيْكَ.

فَأَطْرَقَ٢١ الْمَنْصُورُ سَاعَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَقَدْ سَكَنَ مَا بِهِ مِنَ الْغَضَبِ، وَقَالَ لَهُ: قَدْ أَجَرْنَاهُ لَكَ يَا مَعْنُ. فَقَالَ لَهُ مَعْنٌ: إِنْ رَأَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْأَجْرَيْنِ، فَيَأْمُرَ لَهُ بِمُكَافَأَةٍ فَيَكُونُ قَدْ أَحْيَاهُ وَأَغْنَاهُ. فَقَالَ الْمَنْصُورُ: قَدْ أَمَرْنَا لَهُ بِخَمْسِينَ أَلْفِ دِرْهَمٍ.

فَقَالَ لَهُ مَعْنٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ صِلَاتِ الْخُلَفَاءِ عَلَى قَدْرِ جِنَايَاتِ الرَّعِيَّةِ، وَإِنَّ ذَنْبَ الرَّجُلِ عَظِيمٌ، فَأَجْزِلْ لَهُ الْعَطَاءَ. قَالَ: قَدْ أَمَرْنَا لَهُ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. فَقَالَ لَهُ مَعْنٌ: عَجِّلْهَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَإِنَّ خَيْرَ الْبِرِّ عَاجِلُهُ. فَأَمَرَ بِتَعْجِيلِهَا فَحَمَلَهَا وَانْصَرَفَ، وَأَتَى مَنْزِلَهُ، وَقَالَ لِلرَّجُلِ: يَا رَجُلُ، خُذْ مُكَافَأَتَكَ، وَالْحَقْ بِأَهْلِكَ، وَإِيَّاكَ وَمُخَالَفَةَ الْخُلَفَاءِ فِي أُمُورِهِمْ بَعْدَ هَذِهِ.

(١٣) هِشَامٌ وَدَرْوَاسُ

حَصَلَتْ فِي عَهْدِ هِشَامٍ مَجَاعَةٌ عَظِيمَةٌ؛ فَدَخَلَ إِلَيْهِ وُجُوهُ النَّاسِ مِنَ الْأَحْيَاءِ وَفِي جُمْلَتِهِمْ دَرْوَاسُ بْنُ حَبِيبٍ الْعِجِليُّ وَعَلَيْهِ جُبَّةُ صُوْفٍ، فَنَظَرَ هِشَامٌ إِلَى صَاحِبِهِ نَظْرَةَ لَائِمٍ فِي دُخُولِ دَرْوَاسَ إِلَيْهِ، وَقَالَ: أَيَدْخُلُ عَلَيَّ كُلُّ مَنْ أَرَادَ الدُّخُولَ؟ وَكَانَ دَرْوَاسُ حَكِيمًا فَعَلِمَ أَنَّهُ عَنَاهُ، فَقَالَ دَرْوَاسُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا أَخَلَّ لَكَ دُخُولِي عَلَيْكَ، وَلَقَدْ شَرَّفَنِي وَرَفَعَ قَدْرِي تَمَكُّنِي مِنْ مَجْلِسِكَ، وَقَدْ رَأَيْتُ النَّاسَ دَخَلُوا لِأَمْرٍ عَدَلُوا عَنْهُ، فَإِنْ أَذِنْتَ فِي الْكَلَامِ تَكَلَّمْتُ. فَقَالَ هِشَامٌ: للهِ دَرُّكَ! تَكَلَّمْ؛ فَمَا رَأَى صَاحِبُ الْقَوْمِ غَيْرَكَ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، تَتَابَعَتْ عَلَيْنَا سُنُونٌ ثَلَاثٌ، أَمَّا الْأُولَى فَأَذَابَتِ الشَّحْمَ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَأَكَلَتِ اللَّحْمَ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَأَتْعَبَتِ الْمُخَّ وَمَصَّتِ الْعَظْمَ، وَللهِ فِي أَيْدِيكُمْ أَمْوَالٌ، فِإنْ تَكُنْ للهِ فَاعْطِفُوا بِهَا عَلَى عِبَادِ اللهِ، وَإِنْ تَكُنْ لَهُمْ فَعَلَامَ تَحْجُبُونَهَا عَنْهُم، وَإِنْ تَكُنْ لَكُمْ فَتَصَدَّقُوا بِهَا عَلَيْهِم؛ فَإِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ، وَلَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ.

فَقَالَ هِشَامٌ: للهِ أَنْتَ! مَا تَرَكْتَ وَاحِدَةً مِنْ ثَلَاثٍ. وَأَمَرَ بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَقُسِّمَتْ فِي النَّاسِ، وَأَمَرَ لِدَرْوَاسَ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَلِكُلِّ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلُهَا؟ قَالَ: لَا، وَلَا يَقَومُ بِذَلِكَ بَيْتُ الْمَالِ. فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِيمَا يَبْعَثُ عَلَى ذَمِّكَ.

فَلَمَّا عَادَ إِلَى دَارِهِ أَمَرَ بِذَلِكَ، فَبُعِثَ إِلَيْهِ، فَقَسَّمَ تِسْعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فِي تِسْعَةٍ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ وَأَبْقَى عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ هِشَامًا، فَقَالَ: للهِ دَرُّهُ! إِنَّ صَنِيعَ مِثْلِهِ يُعَلِّمُ النَّاسَ الْعَدَالَةَ.

«الْمُسَاوَاةُ فِي الْعَطَاءِ عُنْوَانُ الْعَدَالَةِ.»

(١٤) إِنَّ لِلْعَالَمِ خَالِقًا

حُكِيَ أَنَّ رَجُلًا يُنْكِرُ وُجُودَ اللهِ جَاءَ إِلَى هَارُونَ الرَّشيدِ، وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَدِ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ عَصْرِكَ مِثْلُ أَبِي حَنيفَةَ، عَلَى أَنَّ لِلْعَالَمِ صَانِعًا، فَمَنْ كَانَ فَاضِلًا مِنْ هَؤُلَاءِ فَمُرْهُ أَنْ يَحْضُرَ هَا هُنَا، حَتَّى أَبْحَثَ مَعَهُ بَيْنَ يَدَيْكَ، وَأُثْبِتَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَالَمِ صَانِعٌ.

فَأَرْسَلَ هَارُونُ الرَّشِيدُ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَفْضَلَ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ: يَا إمَامَ الْمُسْلِمِينَ، اعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ إلَيْنَا كَافِرٌ وهُو يَدَّعِي نَفْيَ الصَّانِعِ، وَيَدْعُوكَ إلى الْمُنَاظَرَةِ. فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَذْهَبُ بَعْدَ الظُّهْرِ. فَجَاءَ رَسُولُ الْخَلِيفَةِ وَأَخْبَرَ بِمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، فَأَرْسَلَ ثَانِيًا، فَقَامَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَتَى إِلَى هَارُونَ الرَّشِيدِ، فَاسْتَقْبَلَهُ هَارُونُ وَجَاءَ بِهِ وَأَجْلَسَهُ فِي الصَّدْرِ، وَقَدِ اجْتَمَعَ الْأَكَابِرُ وَالْأَعْيَانُ.

فَقَالَ الْكَافِرُ: يَا أَبَا حَنِيفَةَ، لِمَ أَبْطَأْتَ فِي مَجِيئِكَ؟ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: قَدْ حَصَلَ لِي أَمْرٌ عَجِيبٌ؛ فَلِذَلِكَ أَبْطَأْتُ، وَذَلِكَ أَنَّ بَيتِي وَرَاءَ دِجْلَةَ، فَخَرَجْتُ مِنْ مَنْزِلِي وَجِئْتُ إِلَى جَنْبِ دِجْلَةَ حَتَّى أَعْبُرَهَا، فَرَأَيْتُ بِجَنْبِ دِجْلَةَ سَفِينَةً عَتِيقَةً مُقَطَّعَةً قَدِ افْتَرَقَتْ أَلْوَاحُهَا، فَلَمَّا وَقَعَ بَصرِي عَلَيْهَا اضْطرَبَتِ الْأَلْوَاحُ وَتَحَرَّكَتْ وَاجْتَمَعتْ وَتَوَصَّلَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَصَارَتِ السَّفِينَةُ صَحِيحَةً بِلَا نَجَّارٍ وَلَا عَمَلِ عَامِلٍ، فَقَعَدْتُ عَلَيْهَا وَعَبَرْتُ الْمَاءَ وَجِئْتُ هَا هُنَا.

فَقَالَ الْكَافِرُ: اسْمَعُوا أَيُّهَا الْأَعْيَانُ مَا يَقُولُ إِمَامُكُمْ وَأَفْضَلُ زَمَانِكُمْ، فَهَلْ سَمِعْتُمْ كَلَامًا أَكْذَبَ مِنْ هَذَا؟ كَيْفَ تَحْصُلُ السَّفِينَةُ الْمَكْسُورَةُ بِلَا عَمَلِ نَجَّارٍ، فَهُوَ كَذِبٌ مَحْضٌ قَدْ ظَهَرَ مِنْ أَفْضَلِ عُلَمَائِكُمْ. فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَيُّهَا الْكَافِرُ، إذَا لَم تَحْصُلِ السَّفَيِنَةُ بِلَا صَانِعٍ وَنجَّارٍ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ هَذَا الْعَالَمُ مِنْ غَيْرِ صَانِعٍ، أَمْ كَيْفَ تَقُولُ بَعَدَمِ وُجُودِ الصَّانِعِ؟ فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ الرَّشِيدُ بِضَرْبِ عُنُقِ الْكَافِرِ فَقَتَلُوهُ.

«إِنَّ عَظَمَةَ هَذَا الْكَوْنِ تَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ صَانِعِهِ.»

(١٥) الشَّرَاهَةُ

حَضَرَ أَعْرَابِيٌّ مَعَ بَعْضِ النَّاسِ عِنْدَ الْحَجَّاجِ، فَقُدِّمَ الطَّعَامُ فَأَكَلُوا مِنْهُ، ثُمَّ قُدِّمَتِ الْحَلْوَى، فَتَرَكَ الْحَجَّاجُ الْأَعْرَابِيَّ حَتَّى أَكَلَ مِنْهَا لُقْمَةً، فَقَالَ: مَنْ أَكَلَ مِنَ الْحَلْوَى ضَرَبْتُ عُنُقَهُ. فَامْتَنَعُوا عَنْ أَكْلِهَا، وَبَقِيَ الْأَعْرَابِيُّ ينْظُرُ تَارَةً إِلَى الْحَجَّاجِ وَتَارَةً إِلَى الْحَلْوَى، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، أُوصِيكَ بِأَوْلَادِي خَيْرًا، وَابْتَدَأَ بِالْأَكْلِ؛ فَضَحِكَ الْحَجَّاجُ وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ.

(١٦) الْأَعْرَابِيُّ الشَّاعِرُ وَالْخَلِيفَةُ

اسْتَدْعَى بَعْضُ الْخُلَفَاءِ شُعَرَاءَ مِصْرَ، فَصَادَفَهُم شَاعِرٌ فَقِيرٌ بِيَدِهِ جَرَّةٌ فَارِغَةٌ، ذَاهِبًا بِهَا إِلَى الْبَحْرِ؛ لِيَمْلَأَهَا مَاءً، فَتَبِعَهُمْ إِلَى أَنْ وَصَلُوا إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، فَبَالَغَ فِي إِكْرَامِهِمْ وَالْإِنْعَامِ عَلَيْهِمْ، وَرَأَى ذَلِكَ الرَّجُلَ وَالْجَرَّةَ عَلَى كَتِفِهِ، وَنَظَرَ إِلَى ثِيَابِهِ الْقَدِيمَةِ، وَقَالَ: مَنْ أَنْتَ وَمَا حَاجَتُكَ؟ فَأَنْشَدَ:

وَلَمَّا رَأَيْتُ الْقَوْمَ شَدُّوا رِحَالَهُمْ٢٢
إِلَى بَحْرِكَ الطَّامِي٢٣ أَتَيْتُ بِجَرَّتِي

فَقَالَ الْخَليفَةُ: امْلَئُوا لَهُ الْجَرَّةَ ذَهَبًا وَفِضَّةً؛ فَحَسَدَهُ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ، وَقَالَ: هَذَا رَجُلٌ فَقِيرٌ مَجْنُونٌ لَا يَعْرِفُ قِيمَةَ هَذَا الْمَالِ، وَرُبَّمَا أَتْلَفَهُ وَضَيَّعَهُ.

فَقَالَ الْخَلِيفَةُ: هُوَ مَالُهُ يَفْعَلُ بِهِ مَا شَاءَ، فَمُلِئَتْ لَهُ ذَهَبًا وَخَرَجَ إِلَى الْبَابِ، فَفَرَّقَ مَا بِهَا، وَبَلَغَ الْخَلِيفَةَ ذَلِكَ فَاسْتَدْعَاهُ وَعَاتَبَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ:

يَجُودُ عَلَيْنَا الْخَيِّرُونَ بِمَالِهِمْ
وَنَحْنُ بِمَالِ الْخَيِّرِينَ نَجُودُ

فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ، وَأَمَرَ أَنْ تُمْلَأَ لَهُ عَشَرَ مَرَّاتٍ، وَقَالَ: «الْحَسَنَةُ بِعَشَرَةِ أَمْثَالِهَا.»

(١٧) نَبَاهَةُ امْرَأَةٍ

دَخَلَتْ عَلَى هَارُونَ الرَّشِيدِ يَوْمًا امْرَأَةٌ مِنْ نِسَاءِ الْبَرَامِكَةِ، وَقَالَتْ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَقَرَّ٢٤ اللهُ عَيْنَيْكَ، وَفَرَّحَكَ بِمَا أَعْطَاكَ! لَقَدْ حَكَمْتَ فَأَقْسَطْتَ،٢٥ زَادَكَ اللهُ رِفْعَةً! فَقَالَ لَهَا: مَنْ تَكُونِينَ أَيَّتُهَا الْمَرْأَةُ؟ قَالَتْ لَهُ: مِنْ آلِ بَرْمَكٍ الَّذِينَ قَتَلْتَ رِجَالَهُمْ، وَأَخَذْتَ أَمْوَالَهُمْ. قَالَ: أَمَّا الرِّجَالُ فَقَدْ نَفَذَ بِهِمْ أَمْرُ اللهِ، وَأَمَّا الْمَالُ فَمَرْدُودٌ عَلَيْكِ، وَأَمَرَ بِرَدِّ مَالِهَا.

وَقَالَ لِجُلَسَائِهِ: إِنَّهَا دَعَتْ عَلَيْنَا دُعَاءً عَظِيمًا. قَالُوا: وَمَا هُوَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: فَمِنْ قَوْلِهَا: أَقَرَّ اللهُ عَيْنَيْكَ، أَيْ أَسْكَنَ حَرَكَتَهُمَا، وَإِذَا سَكَنَتِ الْعَيْنُ مِنَ الْحَرَكَةِ فَتَكُونُ قَدْ عَمِيَتْ، وَمِنْ قَوْلِهَا: فَرَّحَكَ اللهُ بِمَا أَعْطَاكَ، أَخَذَتْهُ مِنْ قَوْلِ الْقُرْآنِ إِذْ يَقُولُ: حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً، وَقَوْلُهَا: حَكَمْتَ فَأَقْسَطْتَ، أَخَذَتْهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا، وَقَوْلُهَا: زَادَكَ اللهُ رِفْعَةً، أَيْ: بَعْدَ الرِّفْعَةِ يَكُونُ الْهُبُوطُ.

(١٨) هَارُونُ الرَّشِيدُ وَالشَّيْخُ الْبَدَوِيُّ

خَرَجَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ هَارُونُ الرَّشِيدُ يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ، هُوَ وَأَبُو يَعْقُوبَ النَّدِيمُ وَجَعْفَرٌ الْبَرْمَكِيُّ وأَبُو نُوَاسٍ، وَسَارُوا فِي الصَّحَرَاءِ، فَرَأَوْا شَيْخًا مُتَّكِئًا عَلَى حِمَارٍ لَهُ، فَقَالَ هَارُونُ الرَّشِيدُ لِجَعْفَرٍ: اسْأَلْ هَذَا الشَّيْخَ مِنْ أَيْنَ هُوَ.

فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ: مِنْ أَيْنَ جِئْتَ؟ قَالَ: مِنَ الْبَصْرَةِ. قَالَ لَهُ جَعْفَرٌ: وَإِلَى أَيْنَ سَيْرُكَ؟ قَالَ: إِلَى بَغْدَادَ. قَالَ لَهُ: وَمَا تَصْنَعُ فِيهَا؟ قَالَ: أَلْتَمِسُ دَوَاءً لِعَيْنِي. فَقَالَ هَارُونُ الرَّشِيدُ: يَا جَعْفَرُ، مَازِحْهُ. فَقَالَ: إِذَا مَازَحْتُهُ أَسْمَعُ مِنْهُ مَا أَكْرَهُ. فَقَالَ: بِحَقِّي عَلَيْكَ أَنْ تُمَازِحَهُ.

فَقَالَ جَعْفَرٌ لِلشَّيْخِ: إِنْ وَصَفْتُ لَكَ دَوَاءً يَنْفَعُكَ، فَمَا الَّذِي تُكَافِئُنِي بِهِ؟ فَقَالَ لَهُ: اللهُ تَعَالَى يُكَافِئُكَ عَنِّي بِمَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْ مُكَافَأَتِي. فَقَالَ: أَنْصِتْ إليَّ حَتَّى أَصِفَ لَكَ هَذَا الدَّوَاءَ الَّذِي لَا أَصِفُهُ لِأَحَدٍ غَيْرَكَ. فَقَالَ لَهُ: وَمَا هُوَ؟

فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ: خُذْ لَكَ ثَلَاثَ أَوَاقٍ مِنْ هُبُوبِ الرِّيحِ، وَثَلَاثَ أَوَاقٍ مِنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ، وَثَلَاثَ أَوَاقٍ مِنْ زَهْرِ الْقَمَرِ، وَثَلَاثَ أَوَاقٍ مِنْ نُورِ السِّرَاجِ، وَاجْمَعِ الْجَمِيعَ، وَضَعْهَا فِي الْهَوَاءِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ ضَعْهَا فِي هَاوِنٍ بِلَا قَعْرٍ ودُقَّهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، فَإِذَا دَقَقْتَهَا فَضَعْهَا فِي وِعَاءٍ مَشْقُوقٍ وَضَعِ الْوِعَاءَ فِي الْهَوَاءِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ اسْتَعْمِلْ هَذَا الدَّوَاءَ فِي كُلِّ يَوْمٍ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ عِنْدَ النَّوْمِ، وَاسْتَمِرَّ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّك تُعَافَى إِنْ شَاءَ اللهُ.

فَلَمَّا سَمِعَ الشَّيْخُ كَلَامَ جَعْفَرٍ قَالَ: لَا عَفَاكَ اللهُ، خُذْ مِنِّي هَذِهِ الَّلطْمَةَ مُكَافَأَةً لَكَ عَلى وَصْفِكَ هَذَا الدَّوَاءَ، وَبَادَرَهُ بِضَرْبَةٍ عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ. فَضَحِكَ هَارُونُ الرَّشِيدُ حَتَّى اسْتَلْقَى، وَأَمَرَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ بِثَلَاثَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ.

«مَنْ قَالَ كَلَامًا لَا يَعْنِيهِ، سمِعَ كَلَامًا لَا يُرْضِيهِ.»

(١٩) رَسُولُ قَيْصَرَ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ

أَرْسَلَ قَيْصَرُ رَسُولًا إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ؛ لِيَنْظُرَ أَحْوَالَهُ، وَيُشَاهِدَ أَفْعَالَهُ، فَلَمَّا دَخَلَ الْمَدِينَةَ سَأَلَ أَهْلَهَا وَقَالَ: أَيْنَ مَلِكُكُمْ؟ فَقَالُوا: مَا لَنَا مَلِكٌ، بَلْ لَنَا أَمِيرٌ قَدْ خَرَجَ إِلَى ظَاهِرِ الْمَدِينَةِ. فَخَرَجَ الرَّسُولُ فِي طَلَبِهِ، فَرَآهُ نَائِمًا فِي الشَّمْسِ عَلَى الْأَرْضِ فَوْقَ الرَّمْلِ الْحَارِّ، وَقَدْ وَضَعَ صُرَّةً كَالْوِسَادَةِ، وَالْعَرَقُ يَسْقُطُ مِنْ جَبِينِهِ إِلَى أَنْ بَلَّ الْأَرْضَ.

فَلَمَّا رَآهُ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ؛ وَقَعَ الْخُشُوعُ فِي قَلْبِهِ، وَقَالَ: رَجُلٌ يَكُونُ جَمِيعُ الْمُلُوكِ لَا يَقِرُّ لَهُمْ قَرَارٌ فِي هَيْبَتِهِ، وَتَكُونُ هَذِهِ حَالُه! وَلَكِنَّكَ يَا عُمَرُ عَدَلْتَ؛ فَأَمِنْتَ؛ فَنِمْتَ، وَمَلِكُنَا يَجُورُ، فَلَا جَرَمَ أَنَّهُ لَا يَزَالُ سَاهِرًا خَائِفًا.

(٢٠) أَبُو جَعْفَرٍ وَمَعْنٌ

دَخَلَ مَعْنُ بْنُ زَائِدَةَ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ فَقَالَ لَهُ: كَبُرْتَ يَا مَعْنُ. قَالَ: فِي طَاعَتِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: وَإِنَّكَ تَتَجَلَّدُ. قَالَ: عَلَى أَعْدَائِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: وَإِنَّ فِيكَ لَبَقِيَّةً. قَالَ: هِيَ لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: أَيُّ الدَّوْلَتَيْنِ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَوْ أَبْغَضُ، أَدَوْلَتُنَا أَمْ دَوْلَةُ بَنِي أُمَيَّةَ؟ قَالَ: ذَلِكَ إِلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ زَادَ بِرُّكَ٢٦ عَلَى بِرِّهِمْ كَانَتْ دَوْلَتُكَ أَحَبَّ إِلَيَّ، وَإِنْ زَادَ بِرُّهُمْ عَلَى بِرِّكَ كَانَتْ دَوْلَتُهُمْ أَحَبَّ إِلَيَّ. قَالَ: صَدَقْتَ.

(٢١) عُرْوَةُ وَعَبْدُ الْمَلِكِ

دَخَلَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ مَعَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ إِلَى بُسْتَانٍ، وَكَانَ عُرْوَةُ مُعْرِضًا عَنِ الدُّنيَا، فَحِينَ رَأَى فِي الْبُسْتَانِ مَا رَأَى قَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا الْبُسْتَانَ! فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ: أَنْتَ وَاللهِ أَحْسَنُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يُؤْتِي أُكُلَهُ كُلَّ عَامٍ، وَأَنْتَ تُؤْتِي أُكُلَكَ كلَّ يَوْمٍ.

(٢٢) أَبُو دُلَامَةَ وَالْخَلِيفَةُ السَّفَّاحُ

كَانَ أَبُو دُلَامَةَ الشَّاعِرُ وَاقِفًا بَيْنَ يَدَيِ السَّفَّاحِ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ، فَقَالَ لَهُ الْخَلِيفَةُ: سَلْنِي حَاجَتَكَ. فَقَالَ لَهُ أَبُو دُلَامَةَ: أَرُيدُ كَلْبَ صَيْدٍ. فَقَالَ: أَعْطُوهُ إيَّاهُ. فَقَالَ: وَأُرِيدُ دَابَّةً أَتَصَيَّدُ عَلَيْهَا. قَالَ: أَعْطُوهُ إيَّاهَا. قَالَ: وَغُلَامًا يَقُودُ الْكَلْبَ، وَيَصِيدُ بِهِ. قَالَ: أَعْطُوهُ غُلَامًا. قَالَ: وَجَارِيَةً تُصلِحُ الصَّيْدَ وَتُطْعِمُنَا مِنْهُ. قَالَ: أَعْطُوهُ جَارِيَةً. قَالَ: هَؤُلَاءِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَبِيدُكَ، فَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ دَارٍ يَسْكُنُونَهَا. فَقَالَ: أَعْطُوهُ دَارًا تَجْمَعُهُمْ. قَالَ: وَإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ضَيْعَةٌ، فَمِنْ أَيْنَ يَعِيشُونَ؟ قَالَ: وَهَبْتُكَ عَشْرَ ضِيَاعٍ غَامِرَةٍ. قَالَ: وَمَا الْغَامِرَةُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: مَا لَا نَبَاتَ فِيهَا. قَالَ: قَدْ أَقْطَعْتُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِائَةَ ضَيعَةٍ غَامِرَةٍ مِنْ فَيَافِي بَنِي أَسدٍ. فَضَحِكَ مِنْهُ، وَقَالَ: اجْعَلُوهَا كُلَّهَا عَامِرَةً.

١  صَفَحَ: سَامَحَ.
٢  مَنٌّ: كَرَمٌ.
٣  حَقَنْتَ دَمِي: عَفَوْتَ عَنِّي.
٤  شَفَاعَة: إِجَارَة.
٥  ظَفَرَ بِه: قَبَضَ عَلَيْه
٦  سَوْط: كُرْبَاج.
٧  تَغْرِيد: غِنَاء.
٨  هَدِيرُ الْأَنْهَارِ: صَوْتُ تَسَاقُطِ مِيَاهِهَا.
٩  جَنْدَلَ: قَتَلَ.
١٠  خَرَاج: ضَرِيبَة.
١١  نَحِيب: بُكَاء.
١٢  عَبَرَات: دُمُوع.
١٣  رُقْعَة: وَرَقَة.
١٤  أَتْحَفَ: قَدَّمَ.
١٥  خَلَعَ عَلَيهِ: أَنْعَمَ عَلَيهِ.
١٦  أَفْضَتْ إِلَيْهِ: أَتَتْ إِلَيْهِ.
١٧  التَّجْهِيزُ: إِلْبَاسُ الْمَيِّتِ الْكَفَنَ.
١٨  مَضَى لِسَبِيلِهِ: مَاتَ.
١٩  بُغْيَة: طَلَب.
٢٠  انْطَلَقَ: ذَهَبَ.
٢١  أَطْرَقَ: سَكَتَ.
٢٢  شَدُّوا رِحَالَهُمْ: أَعَدُّوا رَكَائِبَهُمْ.
٢٣  الطَّامِي: الْفَائِضُ.
٢٤  أَقَرَّ: أَسْكَنَ.
٢٥  أَقْسَطْتَ: عَدَلْتَ.
٢٦  الْبِرُّ: الصَّلَاحُ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤