الفصل الأول

المشهد الأول

شيمان والفيرة
شيمان : أي الفيرة، هل خبّرتني الخبر اليقين، ولم تخفِ عليَّ شيئًا مما قاله أبي؟
الفيرة : كل جوارحي ما زالت تهتزُّ طربًا لما سمعته منه، وإن مكان لذريق من رعايته كمكانه من حُبّكِ، فَإن لَمْ أكن قد خُدعت في استطلاع طلع١ نفسه، فهو سيتقدم إليكِ بأن تجيبيه إلى هواه.
شيمان : إذن أعيدي عليّ، ولك الشكر، ما استدللتِ منه على أنه يستصوب اختياري، ثم زيديني علمًا بما أنوط به أملي، فليس هذا الحديث العذب مما يمج تكراره، وما من بشرى أحب إليَّ وإلى من أحب، من بشرى انطلاق اللواعج٢ الكمينة فينا يومًا، وشبوبها في الرائعة،٣ وبم أجابك عن المنافسة اللطيفة التي يتنافسها لديك دن سنش ودن لذريق؟ أولم تُظهري له، بما ينفي كل ريب، ما بينهما من تفاوت يجنح بي إلى أحدهما؟
الفيرة : لا، بل وصفتك له وصف الواقفة منهما موقفًا لا يشيد أملًا ولا يهدم أملًا، والناظرة إليهما نظرات لا مجافية ولا مواتية، ترقب أمر أبيها في اصطفاء قرين لها. ولقد سرّته منك هذه الرعاية لشأنه سرورًا تجلت آياته وشيكًا على فمه ومحيّاه. وما دمتِ مشوقة إلى سماع ما أردده من هذا الحديث فدونك ما قاله لي عاجلًا عنك وعنهما: «هي في حد الواجب، وكلاهما كفء لها، كلاهما من عنصر كريم فيه الشجاعة والوفاء وكلاهما مقتبل الشباب، تتلألأ في عينيه زواهر الفضائل التي تحلى بها أجداده الأمثلون، أخص بالذكر دن لذريق، فما من مَخِيلة في وجهه إلا وهي أجمل صورة لمروءته، تحدّر من أصل كثر فيه عديد أحلاس٤ الحرب، حتى لكأنهم يولدون بين أغصان الغار، أبوه تفرد في زمانه، بين أقرانه الصناديد، ببأس لزمه ما لزمته قوته، فضُربت به الأمثال، خطّت معاركه آياتها غضون جبهته، فهي تحدثنا إلى اليوم عما كان شأنه في عصره، ورجائي أن أرى من الولد ما رأيته من والده، فلا حرج على بنيّتي من قبلي أن تمنحه هواها.» قال هذا وقد حانت ساعة انصرافه إلى المجلس، فقطعتْ ذلك الحديث قبل مضيه فيه، ولكنني أستخلص من هذه الكلمات القلائل أن فكره غير متردد كثيرًا بين الخاطبين. ينظر الملك اليوم في اختيار مرشد لابنه، والى أبيك سيسند هذا المقام السامي، ذلك لا ريب فيه، فإن لم يكن له نظير في البأس والإقدام فهو اليوم بلا مناظر، وحقيقٌ به أن يُقَلَّد ذلك المنصب. ولما كان دن لذريق قد أقنع أباه بمفاتحة أبيكِ في هذا الشأن عند انقضاض المجلس، فاغتبطي بحسن انتهازه للفرصة، وابتهجي بتحقيق آمالك عن كثب.
شيمان : بيد أنه يغشى نفسي من الريب ما يغشى، فهي تخشى هذا السرور، وتنوء بوقره.
قد تطرأ طارئة بنت ساعتها تغيّر وجوه الأقدار.

وإنني لأوجس خيفة من فشل كبير ينجلي عنه هذا السعد الكبير.
الفيرة : سترين كيف تنجلي خَشية الفشل عن برد الأمل.
شيمان : هلمي بنا نرقب المصير، وليكن ما يشاء الله.

المشهد الثاني

بنت الملك وليونورة ووصيف
بنت الملك : اذهب يا وصيف إلى شيمان من قِبَلي، ونبهها إلى أنها اليوم تباطأت عن زيارتي، وأبلغها أن مودتي تأخذ عليها تمهلها.

(يتوارى الوصيف)

ليونورة : مولاتي، تجدّ بك الرغبة كل يوم، فتسألين شيمان — ما لَقِيتِها — عما أفضت إليه في غرامها.
بنت الملك : لا أسألها لغير ما سبب، أنا التي أهدفتها أو كادت للسهام التي أدمت مهجتها، فهي تحب دن لذريق وأنا التي أهدته إليها، وعلى يدي تمكن أن يستنزلها من معتصمها، فأما وقد أبرمت بينهما أسباب هذا الغرام، فيعنيني أن أرى نهاية ما يكابدان من الجوى.
ليونورة : على أنك يا مولاتي كلما لاحت بارقة نجاح تبدين أسفًا حتى يعود جزعًا، فهل ذلك الحب الذي يملأ قلبيهما جذلًا يوقد في قلبك جذوة تمس الصميم؟ وهل تلك العناية السمحة بهما تشقيك في حين تسعدهما؟ أراني قد جاوزت حدي، وأفضيت إلى الفضول.
بنت الملك : يضاعف حزني أنني لا أبوح به. أصغي إلي — نفِدَ صبري — واعلمي أي جهاد جاهدت، وأي كفاح ما زلت أكافح حتى لا تخونني عزيمتي. الغرام طاغية لا يُبقي على أحد، وهذا الفارس المقتبل الشباب، هذا العاشق الذي أهديه إلى سواي أُحبه.
ليونورة : تحبينه!
بنت الملك : ضعي يدك على قلبي، وتحسسي كيف يخفق لذكرى مالكه وكيف يعرف سلطانه عليه.
ليونورة : اغتفري لي يا مولاتي أن أتخطى واجب الإجلال، وأخطّئك في هذا الهوى؛ أتتمادى أميرة عظيمة في تناسي مقامها حتى تفسح مكانًا في قلبها لفارس من عامة الفرسان؟ وماذا يقول الملك؟ وماذا تقول قشتالة؟ أتذكرين، أم غاب عنك بنت من أنت؟
بنت الملك : أذكر ذلك، ولن يغيب عني أو أسفك دمي قبل أن أسف٥ إلى ما دون منزلتي، على أنني لو التمست المعاذير لصبوتي لأجبتك بأن من أبلَغَتْه نفسُه العلياءَ حقيق بأن يقع له من ذوات النفوس الزكية ما لا يقع منهن لأنداده بالمناسب، ولاستعنت بألف مثَل شهير على الترخص في هذه الاستباحة، غير أنني لا أريد أن أقتدي بقدوة تمس شرفي، ولن أمكّن سورةَ حواس من التغلب على إِبائي، بل أقول لنفسي في كل آن إنني بنت ملك، وإن كل رجل ما لم يكن رب تاج غير كفء لي، فلما وجدت أن قلبي قد أوشك أن يفقد منعته، أعطيت بيدي ما لم أكن لأجسر على أخذه بيدي، فجعلتُ شيمان بمكاني منه، وقيدتها بقيوده، وأوقدت نيرانهما لأطفئ نيراني، فلا تعجبي من أن نفسي المعذبة ترقب قرانهما بذاهب الصبر.
ومن ثمّ ترين أن راحتي بعد اليوم منوطة بهذا الزواج. يحيا الحب بحياة الأمل، ويموت بموت الأمل.

هو ضرام٦ يأكل نفسه إن لم يجد ما يأكل. لشد ما أعانيه من تبريح المحنة التي أنا فيها، فإذا عُقد لشيمان على لذريق يومًا قُضِيَ على أملي، وشُفِيَ عقلي.

على أنني في هذه الأثناء أكابد ما لا تدركه الظنون، وإلى أن يتم ذلك القران سيظل لذريق هواي، أعمل لفقده، وأجزع لفقده، ومن هنا مبعث شجوني، وإن أخفتها شئوني.

فواحر قلباه من الغرام، يصعد أنفاسي الحرّى شوقًا إلى من أزدريه، أشعر بقلبي وقد انشقّ شغافه، فشَطْرٌ بالشجاعة عَلَا، وشطر بالصبابة اسْتَعَر.

هذا الزواج قضاء عليَّ فأخشاه وأتمناه، وغاية ما آمل منه ليس إلا سرورًا منقوصًا.

شرفي وحبي يتنازعان لبي.

وسواء عليَّ أتم ذلك القران أم لم يتم، فإن نهاية حياتي إحدى النهايتين.
ليونورة : بعد هذا يا مولاتي لم يبقَ لي ما أقول سوى أنني أجد ما تجدين وآخذ من حزنك بنصيب.
كنت لك عاذلة فأصبحت عاذرة. وما دام في هذا المعترك العذب المرير لك جلَد تدرأين به صدمات الهوى، وتبطلين سحره، فهو سيعيد إليك صفاءك، ويجمع شتيت أفكارك، فارجي منه كل خير بمعونة الزمن، وارجي كل خير من الله جلَّ عدله عن الإغضاء عنك طويلًا، وأنت تعانين ما تعانين في الذود عن عرضك.
بنت الملك : أشهى رجاء إليّ هو أن أبقى بلا رجاء.
الوصيف : امتثالًا لأمرك حضرت شيمان.
بنت الملك (إلى ليونورة) : اذهبي واجلسي إليها في هذا الرواق.
ليونورة : أتبغين أن تمضي في هيام فكرك؟
بنت الملك : لا، وإنما أبغي على الكُره مني خلوة يسيرة لتطرية وجهي وسألحق بك.
يا رباه، من أية يد أستمد دوائي، أدركني من شقوة تمادت ورفّه عني. أعِد إليَّ السكينة، وأيّد شرفي. أنا أنشُد سعادتي في سعادة غيري. نحن ثلاثة يعنيهم هذا القران في آن، فعجِّل تحقيقه أو شدِّد عزيمتي، فإن ارتباط هذين العاشقين برباط الزواج يحطم قيودي ويمسح آلامي. أبطأت على شيمان فلأمضِ للقائها، ولأروِّح عني بحديثي معها.

المشهد الثالث

الكنت ودن دياج
الكنت : لقد آل إليك الحظ الأوفر، ورفعتك نعمة الملك إلى منصب كنت أنا الأحقّ به، فجعلك مرشدًا لأمير قشتالة.
دن دياج : هذا الشرف الذي أكرم به أسرتي يدل على أنه عادل، ويقدر ما قدمت من الخدمة حق قدره.
الكنت : مهما يكن الملوك كبارًا فهم ونحن شيء أحد، يجوز أن يخطئوا كما يخطئ سائر الأنام، وهذا الاختيار دليل لدى جميع المقربين على أن الملوك لا يحسنون جزاء الخدم العتيدة.
دن دياج : لندع الكلام في اختيار يثير بك الحفيظة، فقد يكون عن عطف، وقد يكون عن جدارة، وعلى الحالتين يجدر بنا، إجلالًا للسلطان المطلق، ألا نبحث في أمر وقد أراده الملك. أتزيدني شرفًا على الشرف الذي أضافه إليّ الملك فتصل بين بيتي وبيتك بصلة مقدسة؛ ليس لك إلا بنت، وليس لي إلا ولد.
فإذا اقترنا سمت صداقتنا إلى قربى لا تنفصم. أَوْلِنا هذا الفضل واتخذ ولدي صهرًا لك.
الكنت : حقيقٌ بهذا الشاب الجميل أن ينظر إلى ما هو أسمى، وخليق بالبهرج الجديد الذي زانك به منصبك أن يشغل قلبه بمطمع، فامضِ في شأن منصبك يا سيدي، وأرشد الأمير، أرِه كيف يصرف شئون دولته، ويخضع شعوبًا عن يدٍ لأحكام قانونه، ويفعم قلوب الأخيار محبة، وقلوب الأشرار رهبة. ثم أضف إلى تلك الفضائل مزية قائد الجيوش فبيِّن له كيف يجب أن يصبر على المكاره، وأن يتفوَّق على الأنداد في صناعة القتال، وأن يقضي الأيام والليالي الطوال على صهوة جواده، وأن يستريح مثقَّلًا بأسلحته، وأن يخترق الأسوار، وأن يأبى النصر إلا وهو كاسبه.
درِّبه بقدوتك، وأبلغه إلى الكمال، شارحًا له دروسك بوقعات يشهدها، وشواهد منك تؤيدها.
دن دياج : حسبه أسوةً — وإن كره الحاسدون — أن يطالع سيرتي وجريدة أحسابي، ويتابع السلسلة الطويلة من جسام فعالي فينجلي له كيف يُرَوّض الشعوب من عصيان، ويهاجم الحصون ويعبِّئ الفيالق، ويشيد شهرته البعيدة على ملاحم مجيدة.
الكنت : إن للقدوة الحية لسلطانًا آخر.
لا يحسن الأمير استذكار واجبه أن يقرأه في كتاب. وبعد، فهل فعلت في ذلك الردح الطويل من دهرك ما لم تضارعه فعالي في يوم من أيامي، لقد كنت شجاعًا وإني لكائنه اليوم، هذا الساعد هو أقوى ركن للمملكة.

ترتعد غرناطة والأرغون حين أنتضي حسامي.

ويقوم اسمي مقامَ السور المنيع دون قشتالة. لولاي لانتقلتم عاجلًا من ولاية قوم إلى ولاية آخرين، ولأصبح أعداؤكم بين ليلة وضحاها ملوكًا عليكم.

كل يوم أو بعض يوم يضيف إلى مجدي غارًا فوق غار، وفوزًا بعد فوز. ولو وجد الأمير بجانبي في الحومات لارتاض بأسه في ظل ذراعي، ولتعلم النصر وهو يشهد نصراتي، ولاستكمل وشيكًا خلقه العظيم برؤية …
دن دياج : أعرف أنك تحسن القيام بخدمة الملك، وقد نظرتك تكافح وتقود الجنود تحت إمرتي، فلما علت سني، وأسال الشيب صقيعه في أعصابي، أحلَّتك بسالتك النادرة إحلالًا كريمًا في مكاني، وعلى الجملة وتنكبًا عن الفضول، إنما أنت اليوم ما كنت أنا بالأمس، غير أنك رأيت في سانحة هذا اليوم أن الملك وجد موضعًا للتمييز بيني وبينك.
الكنت : قد غصبتَ مني ما كنتُ به أولى.
دن دياج : إنما آب بالغنم من كان به أولى.
الكنت : كان الأقدر على هذه المهمة بتولّيها أجدر.
دن دياج : لأمر ما لقيتَ المنع بدلًا من المنح.
الكنت : أظفرك بالمنصب ظهراؤك٧ لقدم عهدهم بالزلفى.٨
دن دياج : لم يكن لي ظهيرًا إلا ما سطع من آيات إقدامي.
الكنت : لنذكر بالأحرى أن الملك راعى كبر سنك.
دن دياج : إذا منح الملك رفعة قاسها إلى الكفاية.
الكنت : ومن ثَمَّ كنتُ أحق منك بتلك الرفعة.
دن دياج : من لم يحرزها لم يكن أهلًا لها.
الكنت : لم يكن لها أهلًا … أأنا؟
دن دياج : أنتَ.
الكنت : دونك أيها الهرم الجسور جزاء قحتك.

(يلطمه على وجهه)

دن دياج (آخذًا سيفه بيده) : أنجز وأجهز عليَّ بعد هذه الإهانة. هي أول وصمة ندى لها جبين في أسرتي.
الكنت : ما أنت فاعل مع ما يقعد بك من العجز؟
دن دياج : يا رباه، إن قوتي المتلاشية لتخونني في هذا الموقف.
الكنت (مسقطًا بطرف سيفه سيف خصمه) : سيفك لي … ولكنك قد تفخر وتزهى لو حملت بيدي هذا السَلَب المخجل. وداعًا … أقرئ الأمير — وإن كره الحساد — سيرة حياتك لاستكمال تهذيبه، وهذا العقاب الذي عوقبت به عن هُجرك في القول لا يدع أن يزيد تلك السيرة حلية صغيرة.

المشهد الرابع

دن دياج
دن دياج : يا للحنق … يا لليأس … يا للشيخوخة القهَّارة ألم تمتد بي أيامي إلا لتعلق بي هذه السُّبة، أو لم أشبَّ متمرسًا بآفات الحروب إلا لأرى في يوم كل ما علاني من أكاليل الغار ملطخًا بالعار.
أساعدي الذي تكبره إسبانيا جميعًا، أساعدي الذي أنقذ هذه المملكة من كل كريهة، وثبّت عرش صاحبها كلما تداعى، يخونني اليوم في خصومتي ولا يجديني فتيلًا؟

يا للذكرى الأليمة، ذكرى مجدي السالف الذي بُنِيَ في أيام عداد، وتقوّض في يوم واحد.

يا منصبي الجديد الذي كَبَا به طالع سعدي، فكان مهبطًا باذخًا سقط من عليائه شرفي.

أحقٌّ عليَّ أن أرى الكنت بعدوانه يطفئ سناك، وأن أموت بلا انتقام أو أعيش في شنار؟

أيها الكنت، كنت بعد هذا اليوم مرشد أميري.

هذا المقام السامي لا ينفسح لرجل ثُلم٩ شرفه.

حفزك الحسد والكبرياء فكسوتَني سبَّة نحَّتني عن ذلك المنصب ولم يغنِ عني معها اختيار الملك.

فأنت أيها النصلُ الذي كنت أداة مجيدة لحملاتي أصبحتَ زينةً غير مجدية لجسم قد خمدت عزيمته.

أيها الحديد الذي هابه الأعداء قديمًا، وفي هذه المذلة وجدتُه حلية للبهرجة لا أداة للدفاع، اذهب وفارق من اليوم أحقر من فوق الثرى، وانتقل — لتنتقم لي — إلى يد خير من يدي.

المشهد الخامس

دن دياج ودن لذريق
دن دياج : لذريق، ألك فؤاد؟
دن لذريق : لو سألني غير أبي لذاق بأسي وشيكًا.
دن دياج : نعمت الغضبة. ونعمت الحفيظة التي تلطف ألمي. لقد عرفتُ في هذه السَّورة١٠ دمي، وبُعث شبابي في هذه الفورة السريعة.
تعال يا ابني، يا دمي، تعال واثأر لوصمتي، تعال وانتقم لي.
دن لذريق : مِمَّ؟
دن دياج : من إهانة شديدة طُعن بها شرفنا الطعنة القاتلة، من لطمة في الوجه بيد وقحٍ ما كنت لأُبقي عليه لولا أن الهرم قد أخذ من عزيمتي الصادقة. وهذا الحسام الذي شلّ به زندي أدفعه إليك لتثأر لي وتعاقب الأثيم. فاذهب واختبر شجاعتك في مبارزته.
إن إهانة كهذه لا تُغسل إلا بالدم، فمُت أو اقتل. واعلم حذرَ الاغترار، إن الذي أدعوك إلى كفاحه رجل يُرهب جانبه، فقد شهدته مجلَّلًا بالدم والعِثْيَر،١١ يلقي الرعب في قلب جيش بأسره، ورأيت الجحافل تتمزَّق بصدماته. ولأزيدك علمًا به أقول إنه فوق العسكري الباسل، وفوق القائد الكبير، هو …
دن لذريق : رحماك أَتمم.
دن دياج : والد شيمان.
دن لذريق : الـ …
دن دياج : لا تحاور. أعرفُ هواك. ولكن الذي يطيق الحياة في ذلة غير جدير بالحياة. إنها لتشق المهانة علينا بقدر ما يكون مقترفها حبيبًا إلينا. فأما وقد عرفتَ الإساءة وبيدك الانتقام منها، فلن أقول لك غير ما قلت. خذ بثأري. خذ بثأرك. وأظهر أنك الابن البار الخليق بالانتساب إلى أبٍ مثلي. سأمضي وأنا أنوء بالمصائب التي صبَّها عليَّ القدر، فأبكي لما حلّ بي منها. وأنت فاذهب؛ توثَّب، طِر وانتقم لكلينا.

المشهد السادس

دن لذريق
دن لذريق : رُميتُ في صميم الفؤاد بسهم فاجأني فأصمى. أنا الطالب المسكين لثأر عادل، والهدف الذي تُبرح به صروف دهر ظالم، أقف بلا حراك وتستسلم نفسي مستضعفةً لضربة تودي بي.
أفي حين أوشكتُ أن أبلغ غرامي — واحرّ قلباه لمرارة خطبي — يكون في هذه الخصومة أبي الموتور،١٢ ويكون الواتر أبا شيمان! لشدّ ما أكابد من المعارك في نفسي حتى شرفي يحاربني دونه غرامي. يجب أن أنتقم لأبي، فإن أفعل أفقد ريحانة روحي؛ فنازعة تحفز قلبي، وأخرى تصد ذراعي. أفضيت إلى التخيُّر الأليم بين خيانة هواي أو الرضا بالهوان، ومن كلا الجانبين مصابي وراء كل مصاب، وا رحمتا لي من تأنق هذا العذاب!

أأدع الإساءة بلا عقاب، أم أقتص من المسيء وهو أبو شيمان؟ الوالد، المعشوقة، الشرف، الغرام، وأنا بين الطواعية للأمر الشريف القاسي أو الاستبداد المعذب.

بادت جميع مسراتي أو صُدع شرفي.

أحد الأمرين يردني شقيًّا، والثاني يُفقدني الحق في البقاء.

فيا أيها الأمل الحبيب البغيض الصادر عن نفس أبية للهوان مدلهة١٣ بالهوى في آن، إنك لأشرف عدو لأتمّ سعادة أطمع فيها. ويا سيفًا يسبب شقائي، أَقُلِّدْتُكَ لأثأر بك لشرفي؟

أقلدتك لأرزأ بك شيمان؟ أولى لي أن أهرع للقاء منيتي. أنا مدين لمحبوبتي كما أنا مدين لوالدي، فإذا انتقمت أثرت غضبها وبغضاءها، وإذا لم أنتقم كسبت ازدراءها.

فحالة تنقضُ ما عاهدت عليه أعزَّ آمالي، وحالة تجعلني غير كفء للتي أحبها. يتفاقم دائي بما ألتمس له من الشفاء، وكل شيء يزيد تباريحي، فتوطني يا نفس إذا لم يكن بدٌّ من الموت، على أن نَرِد حوضه من غير إساءة إلى شيمان. أأموت ولا أستأدي حسابي موتًا يقضي على شرفي شر قضاء، متحملًا أن تصِم إسبانيا ذكراي بأنني لم أرعَ كرامة بيتي!

أأوثر حبًّا تراه نفسي — وإن أضلَّها — صائرًا إلى الضياع! فلا تُصغِ إلى إغراء خادع لا يجدي عليَّ سوى مضاعفة آلامي. وهلم يا ساعدي ننقذ الشرف إذا لم يكن لنا بد من فقد شيمان.

أجل، كان عقلي قد اختبل، أنا مدين بكل شيء لأبي قبل معشوقتي. لأُجندل١٤ في الكفاح، أو لأهلك من الأسى، سأردّ دمي نقيًّا كما تلقيته، إني لأشكو نفسي من تَرَيُّثي.

بدارِ١٥ إلى الأخذ بالثأر. وا خجلتا من هذا التردد الطويل.

لا عليَّ، ووالدي هو الذي أُهين اليوم، إن الذي اعتدى عليه هو والد شيمان.
١  طلع: باطن.
٢  اللواعج: الهوى المحرق.
٣  الرائعة: الأول.
٤  أحلاس: شجعان.
٥  أسف: أدنو.
٦  ضرام: اشتعال.
٧  الظهير: المُعين.
٨  الزلفى: القربى.
٩  ثلم: طُعِن.
١٠  السورة: الحدة.
١١  العثير: غبار الحروب.
١٢  الموتور: من قُتِل له قتيل فلم يُدرِك بدمه.
١٣  مدلهة: ذهب عقلها من العشق.
١٤  أُجندل: أُصْرع.
١٥  بدار: أسرع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤