مقدمة الطبعة الأولى

بسم الله الرحمن الرحيم

وسلام على عباده الذين اصطفى
أما بعد: فهذا شرح ديوان المتنبي١ أُخرِجُه بعد شرحي ديوان حَسَّانِ الذي أخرجته في العام الماضي، ورآه القراء وعرَفوا من مقدمته ما كابدت فيه، وفي الحق: إني لم أعانِ في المتنبي ما عانيتُ في حسان — على بُعد ما بينهما — وذلك أنَّ المتنبي رب المعاني الدقاق — كما قال — فللذهن في شِعره جولان، وما دام هناك ذهنٌ يَلْفف، وذوق يستدقُّ، وملكة بيانية، وبصر بمذاهب الشعر: أمكن إدراكُ ما يترامى إليه مثلُ المتنبي، ولو بشيء من الجهد اللذِّ، والتعب المريح، ذلك إلى أن المتنبي مخدوم، وشروحه متوافرة، ومادته زاخرة، فكان شرحه لذلك يكاد يكون هينًا لينًا، لا إرهاق فيه لخاطر، ولا إعنات لروية.

وهنا قد يبدو لك أن تقول: وإذا كان المتنبي مخدومًا وشروحه متوافرة — كما تزعم — فعلام هذا الشرح، وما حاجتنا إليه؟ فعلى رِسلك يا هذا. فالمتنبي وإن كانت شروحه كثيرة إلا أنها كثرة قلة؛ ذلك أن المتنبي وإن كان من حسن حظه أن شَرَحَه وعَلَّقَ عليه، ونقدَه وتعصب له وعليه، نيِّفٌ وخمسون أديبًا، بيدَ أن المتداوَل من شروحه إنما هو العُكبري والواحدي واليازجي حسْبُ. أما الواحدي: فلأنه لم يُطبع إلا في أورُبَّة وفي الهند فقط، كانت لذلك نسخة قليلة التداول في أيدي الناطقين بالضاد لِنَدْرَته وغلاء ثمنه، ومن ثَمَّ كان في حكم غير المتداول. ثم هو — الواحدي — ومثله العكبري كلاهما موضوعٌ ذلكَ الوضعَ الخلق الباليَ العقيم — بعثرَة الأبيات وإثباتَ البيت ثم شرحه، وهكذا دواليك — وضعٌ لا يتفق ومزاج هذا الجيل، ولا سيما من يبتغي حفظ الديوان واستظهاره، هذا إلى التحريف الكثير الذي ألمَّ بالواحدي والعُكبري معًا، وهنا لا يسع المرء إلا أن يأسفَ كل الأسف وتتقطع نفسه حسَرَاتٍ جرَّاء ذلك الداء الخبيث العُياء الذي ألمَّ — ولا يزال يُلم — بالمطبوعات العربية — داء التصحيف والتحريف — حتى لا يكاد يسلم مِنه كتاب عربي، فذهب بجمال التواليف وشوَّه خلقَها، وصارَ بها إلى حيثُ تنبو عنها الأحداق، وتتجافى عن قراءتها الأذواق، ويتخاذل الذهن، ويتراجع الفكر، ولست أدري: ما مصدر هذا الداء، ولا من تقع عليه تبعةُ هذا الجرم: هل هو الناسخُ؟ — بل الماسخ — [ولقد حاولت — أخيرًا — أن أنسخ رسالة في سرقات المتنبي بدار الكتب المصرية، وكلفت أحد الناسخين في تلك الدار بنسخها، ولما أتمَّ نقلَ الكراسة الأولى ذهبت إليه وأخذنا نقابل ما نسخ على الأصل، فوجدت الأصل لا يكاد يوجد فيه بيت صحيح، ووجدت ما نسخ منه ضِغثًا على إبَّالةٍ … فما كان إلا أن انصرفتْ نفسي عن المسألة برُمتِها] … أم هو الطابعُ وجهله وتهاونه؟!

ولقد لقيت الألاقي في تصحيح «بروفات» — أو تجارب — المتنبي، ومن قبله حسان، حتى لا أكون مغاليًا إذا قلت: إن الجهد الذي يُبذل في سبيل التأليف أهونُ على المرء من الجهد الذي يقاسَى في سبيل التصحيح.

وتصوَّرْ مقدار ما يَعْرو الإنسان من المضض والامتعاض حين يرى الكتاب — بعد هذا العناء الذي يبذل في التصحيح — لم يسلم من الأغاليط، ولا تنس أن المؤلف قد لا يفطن إلى الخطإ المطبعي أثناء التصحيح ويمر به مرًّا، وعذره في ذلك واضح: وهو أنه إنما يقرأ ما في ذهنه، لا ما هو بين عينيه، ومن هنا كان له — للمؤلف — هو الآخر نصيب من هذا الخطأ وإن كان عذره في ذلك قائمًا …

أقول: إنَّ عيب الواحدي والعُكبري هو ما ذكرت: وضْع لا يتفق وروح العصر، وتحريف كثير شائع في الكتابين، ذلك إلى هفوات تلحق كلًّا على حِدَتِه، وقصورٍ أو تقصير أو إقصار يلِمُّ بساحته؛ فإذا أردت أن تجتزئ بالعكبري — مثلًا — وتستغنيَ به عن غيره فإنه لا يغني كل الغناء، وكذلك الواحدي، ويَزِيد الواحدي على العكبري أنه لا يَحفل بتفسير المفردات ولا بالإعراب، وبأنه لا يفسر كثيرًا من الأبيات، فكأنه موضوع للمنتهين، ولذلك لا يؤاتي الشادين. أما اليازجي أو اليازجيان — الشيخ ناصيف وابنه الشيخ إبراهيم — فهما — على فضلهما الذي لا ينكر، وعلى ما طنطن به الثاني في ذيل الشرح، مما قد يخرج منه القارئ وهو مفعم يقينًا بأن هذا الشرح هو سيد الشروح، وهو وحده الشرح الذي طبَّق المفصل وأصاب مقطع الحق وأوفى على الغاية، أقول: إنهما — على الرغم من ذلك — يَصْدُق عليهما قول الواحدي في ابن جِنِّيِّ: وأما ابن جني فإنه من الكبار في صنعة الإعراب والتصريف، والمحسنين في كل واحد منهما بالتصنيف، غير أنه إذا تكلم في المعاني تبلد حماره، ولجَّ به عثاره … نعم، وحسبك أن ترجع إلى ما قالاه — أي اليازجيان — في شرح هذا البيت على انسجامه ووضوحه وروعته:

لَحَا اللهُ ذِي الدُّنْيَا مُنَاخًا لِرَاكِبٍ
فَكُلُّ بَعِيدِ الْهَمِّ فِيهَا مُعَذَّبُ

قالا: يذم الدنيا. يعني أنها دار شقاء حتى إن من لا همَّ له لا يخلو فيها من العذاب، فما الظن بصاحب الهموم؟! ولست أدري: كيف لم يفطنا إلى معنى هذا البيت وهو من الوضوح والجلاء، كما ترى؟ … على أنهما — في شرحهما عامة، لا في شرح هذا البيت — لم يحيدا عن الواحدي والعكبري قيدَ أُنملة؛ فهما عمدتاهما، وعليهما معولهما، فإذا هما حاولا أن يتفصَّيَا منهما، ويستقلَّا بالشرح دونهما، ويأتيا بشيء من عندهما: زلت قدماهما، وكبا جواداهما، أو تبلد حماراهما، ووقعا في مثل ما وقعا في هذا البيت …

ذلك: إلى أن القسم الذي تولى شرحه الشيخ ناصيف قصَّر فيه ومَرَّض ولم يتعرض لشرح المعاني، وإنما اقتصر على شرح المفردات، وإلى أنهما — اليازجيين — تركا كثيرًا من شعر المتنبي الذي يريان فيه خمشًا لوجه الأدب، وإلى أنهما لم يتعرضا لسرقات المتنبي وذكر الأشباه والنظائر أصلًا، وهذه مزية من المزايا قد وفيناها حقها في هذا الشرح …

على أنَّا لا نبخس الناس أشياءهم، ولا ننكر خصائص الطبائع البشرية وما قد يعروها الخَطْرَةَ بعدَ الخَطْرَةَ: من الفتور والانتكاس، وانغلاق الذهن، وتبلد الحس، وإظلام البصيرة، وغئُور الروح، وخمود الذكاء، حتى لقد يخفى أحيانًا على العليم الألمعي وجه الصواب وهو منه على حبل الذراع وطرف الثمام — كما يقولون — فيعتسف الطريق، ويتخبط تخبط العشواء …

وهذا ابن جني — الإمام العالم المجتهد الثبت الثقة، بل فيلسوف اللغة العربية، العليم بخصائصها، الطَّبُّ البصير بدقائقها — تراه في شرحه على المتنبي على الرغم من ذلك، ومن أنه كان معاصرًا للمتنبي — متعصبًا له محاميًا عنه، وكان إذا سأل المتنبي سائل عن معنى بيت من أبياته يقول: اسألوا الشارح — يعني ابن جني — وكان ابن جني يراجع المتنبي في كثير من شعره ويستوضحه المعنى الذي يغزوه، وبرغم ذلك تراه في كثير من المواضع — كما قال الواحدي — وقد تبلد حماره، ولجَّ به عثاره.

وهكذا تتبعت جميع من تعرض للمتنبي بالشرح أو النقد — كابن فورجَه، والعروضي، والتبريزي، وابن وكيع، وابن القطاع، وابن الأفليلى — فوجدت لهم جميعًا بجانب حسناتهم سيئات، وإلى سدَادهم زلات وهفوات.

وهذا حقًّا من غريب طبائع البشر؛ فسبحان من تفرد بالكمال!

ولقد وجدت ذلك من نفسي؛ مع أن الطريق معبد، والمادة متوافرة؛ فقد أكون — في بعض الأوقات — مستجمًّا، نشيطًا، مهزوزًا، مرهفَ الطبعِ، مصقُولَ الذهن، صافي الحس، منبسط النفس؛ فأشرح ما أشرح — من قوافي المتنبي — فآتي بما أرضى به عن نفسي، ويعروني له من الطرب ما يستخفني، وأكون في أوقات أخرى منقبض النفس، مظلم الحس، مغلق الذهن، فَدما، بليدًا، لا أكاد أذهَنُ شيئًا، وأكون مضطرًا إلى العمل؛ فأشرح — وأنا على هذه الحال — بعض الأبيات، ثم أعود في وقت أكون فيه على جمامٍ من نفسي إلى ما شرحت، وأنظر ماذا قلتُ، فأدهش: كيف يصدر هذا من رجل له بقية من فهم؟ وأتهم نفسي، حتى لا أكاد أصدق أن شيئًا من هذا ندَّ به القلم …

ثم لا تنس اختلاف القرائح والأفهام والنزعات، وأن هذا ينزع في تفكيره نزعة لغوية، وذاك نزعة نحوية، وذلك نزعة فلسفية منطقية، وآخر قد تأثر بالأدب والفن وحسن التخيل، وأن هذا أصح تمييزًا من ذاك، وأنفذ بصيرة، وأبعد مدارك، وأصفى نفسًا، وألطف حسًّا، وأكثر ألمعية، إذا أذِنَتْ أذناه شيئًا شاءهما ذهنه. فإذا هم أراغوا تأويل بيت من أبيات المعاني الدقاق: تشعبت آراؤهم، وذهب كلٌّ في تأويله مذهبًا قد يباين مذهب الآخر، تبعًا لتباين قرائحهم ومحصولاتهم، كما قال المتنبي:

وَلَكِنْ تَأْخُذُ الْآذَانُ مِنْهُ
عَلَى قَدْرِ الْقَرَائِحِ وَالْعُلُومِ

وإليك شيئًا يحور إليه سر هذا التباين الذي نرى بين الشراح في تأويلاتهم لمثل شعر أبي الطيب. ذلك أن المتنبي كان رجلاً ماكرا باقعة داهية، فكان من دهائه يعمد إلى بعض المعاني التي سُبق إليها، فيحاول أن يبعد بها عن أصلها ويُعميها على الناظر فيها ويريغها ويديرها عن ذلك حتى لا يفطن إلى أن غيره أبو عذر هذا المعنى، فيلجأ إلى التعمية والجمجمة والتعقيد والإبهام؛ لأن تلك طريقته — كما سنبينه — فيجيء البيت متنافر اللحمة متناثر التعبير، لا يشف ظاهره عن باطنه، ولا يتجاوب أوله وآخره، حتى لكأنه ضرب من الرقى، فيظن بعض الشراح أن هناك معنًى دقيقًا عميقًا فيكد ذهنه، ويجهد فكره، ويسافر في طلب المعنى أميالا، وهو لا يفوت أطراف بنانه، وينضي إليه رواحل ذهنه وهو على حبل ذراعه، فيعتسف ويشتط وينحرف عن جادة الصواب، كما قال المتنبي:

أبلغ ما يُطلب النجاحُ به الطـ
ـبعُ وعند التعمُّق الزللُ

وهاك شيئًا يرجع إليه ذلك التعقيد الذي نراه في بعض شعر المتنبي. هو أن أبا الطيب له حساد كثيرون من أهل الفضل ومن فحولة الشعراء وأعيان البيان يتعثر بهم على أبواب سيف الدولة في حلب، وتقع عينه عليهم أنى ذهب — في الشام وفي مصر وفي بغداد وفي فارس — وكانوا له بالمرصاد يتلمسون له الهفوة والمأخذ. وكان كثير ممن يمدحهم كذلك شعراء أدباء — وناهيك بسيف الدولة وابن العميد — فكان لذلك كله — يحتشد لكثير من قصائده ويتعمل لها، ويتنطس في ألفاظه ومعانيه، ويحتفل، ويمعن في الاحتفال إلى ما وراء طبعه؛ فيجيء بعض نظمه كزًّا جافًّا معقدًا حُرم طلاوة الطبع ورونقه، وفقدَ نصف الجمال الشعري.

وهنا لا نرى مندوحة من أن نعرض لشيء لم يفطن إليه أحد، أو فطنوا إليه ولم يصِفوه، أو وصفوه ولكن لم يصفوه الوصف الذي هو به أليق، ذلك أن المتنبي — للأسباب التي أسلفناها، ولسبب آخر سنبينه — تراه في أكثر شعره ينقصه التعبير الشعري، ويظهر لك ذلك إذا أنت وازنت بينه وبين إمامه في الصنعة والاحتفال بالمعنى — وهو أبو تمام.

وإني لأذكر كلمة لأحد نقدة العرب وهي: «إنما حبيب أبو تمام كالقاضي العدل: يضع اللفظ موضعها، ويعطي المعنى حقَّه، بعد طول النظر، والبحث عن البينة، أو كالفقيه الورع: يتحرى في كلامه، ويتحرج خوفًا على دينه، وأبو الطيب كالملك الجبار: يأخذ ما حوله قهرًا وعَنوة، كالشجاع الجريء: يهجم ما يريده، ولا يبالي ما لقي ولا حيث وقع.» ا.ﻫ.

فأنت إذا نظرت إلى أبي تمام تجد الفحولة والجزالة والقوة، وترى المعاني الدقاق وترى الصنعة — من الجناس والمطابقة وما إليهما — وترى — مع ذلك كله — التعبير الشعري؛ أي ترى النصاعة والإشراق، ووضوح المعالم، واطراد النظام، وتساوق الأغراض، وإحكام الأداء، والروعة، والجمال، والروح القوي الذي يطالعك من بين فِقَره، ومن هنا يفضل أبو تمام أبا الطيب.

قال ابن الأثير: «وهؤلاء الثلاثة — أبو تمام، والبحتري، والمتنبي — هم لات الشعر، وعُزَّاه، ومناتُه، الذين ظهرت على أيديهم حسناته ومستحسناته، وجمعت بين الأمثال السائرة وحكمة الحكماء، وقد حوت أشعارهم غرابة المحدثين إلى فصاحة القدماء.

أما أبو تمام: فإنه رب معانٍ، وصيقل ألباب وأذهان، وقد شُهد له بكل معنى مبتكر، لم يمشِ فيه على أثر، فهو غير مدافع عن مقام الإغراب، الذي برز فيه على الأضراب، ولقد مارست من الشعر كل أول وأخير، ولم أقل ما أقول فيه إلا عن تنقيب وتنقير، فمن حفظ شعر الرجل وكشف عن غامضه، وراض فكره برائضه، أطاعته أعنَّةُ الكلام، وكان قوله في البلاغة ما قالت حذام، فخذ مني في ذلك قول حكيم، وتعلَّم، ففوق كل ذي علم عليم.

وأما أبو عبادة البحتري: فإنه أحسن في سبك اللفظ على المعنى، وأراد أن يشعر فغنَّى، ولقد حاز طرفَيِ الرقة والجزالة على الإطلاق، فبينا يكون في شظف نجد إذ تشبث بريف العراق، وسُئل أبو الطيب المتنبي عنه وعن أبي تمام وعن نفسه فقال: «أنا وأبو تمام حكيمان، والشاعر البحتري.» ولعمري إنه أنصف في حكمه، وأعرب بقوله هذا عن متانة علمه، فإن أبا عبادة أتى في شعره بالمعنى المقدود من الصخرة الصماء، في اللفظ المصوغ من سلاسة الماء، فأدرك بذلك بعد المرام، مع قربه إلى الأفهام، وما أقول إلا أنه أتى في معانيه بأخلاط الغالية، ورقى في ديباجة لفظه إلى الدرجة العالية.

وأما أبو الطيب المتنبي: فإنه أراد أن يسلك مسلك أبي تمام فقصرت عنه خطاه، ولم يعطه الشعر من قياده ما أعطاه، لكنه حظي في شعره بالحكم والأمثال، واختص بالإبداع في وصف مواقف القتال، وأنا أقول قولًا لست فيه متأثمًا، ولا منه متلثمًا: وذاك أنه إذا خاض في وصف معركة كان لسانه أمضى من نصالها، وأشجع من أبطالها، وقامت أقواله للسامع مقام أفعالها، حتى تظن الفريقين قد تقابلا، والسلاحين قد تواصلا، فطريقه في ذلك تضل بسالكه وتقوم بعذر تاركه، ولا شك أنه كان يشهد الحروب مع سيف الدولة فيصف لسانه، ما أدى إليه عِيانه، وعلى الحقيقة فإنه خاتم الشعراء، ومهما وُصف به فهو فوق الوصف وفوق الإطراء، ولقد صدق في قوله من أبيات يمدح بها سيف الدولة:

لَا تَطْلُبَنَّ كَرِيمًا بَعْدَ رُؤْيَتِهِ
إِنَّ الْكِرَامَ بِأَسْخَاهُمْ يَدًا خُتِمُوا
وَلَا تُبَالِ بِشِعْرٍ بَعْدَ شَاعِرِهِ
قَدْ أُفْسِدَ الْقَوْلُ حَتَّى أُحْمِدَ الصَّمَمُ

ولما تأملتُ شعره بعين المعدلة البعيدة عن الهوى، وعين المعرفة التي ما ضل صاحبها وما غوى، وجدته أقسامًا خمسة: خمس في الغاية التي انفرد بها دون غيره، وخمس من جيد الشعر الذي يساويه فيه غيره، وخمس من متوسط الشعر، وخمس دون ذلك، وخمس في الغاية المتقهقرة التي لا يُعبأ بها، وعدمها خير من وجودها، ولو لم يقلها أبو الطيب لوقاه الله شرها؛ فإنها هي التي ألبسته لباس الملام، وجعلت عرضَه غرضًا لسهام الأقوام.» ا.ﻫ. كلام ابن الأثير.

وقد آن لنا أن نقول: إن هذا الذي يعاب على أبي الطيب ويُظن أنه يَتَخَوَّنه ويَشِينُه: هو على الحقيقة سر من أسرار شاعريته؛ لأن مرجعه التوليد الذي لا يؤتاه إلا الشاعر المطلق، فالكلام إنما هو من الكلام وإنما يستحق الشاعر هذا اللقب بالتوليد، وبطريقته في التوليد تقوم طريقته في الشعر؛ فمن ثم يختلف الشعراء، ويمتاز واحد من واحد، وتَبين طريقة من طريقة وإن تواردوا جميعًا على معنى واحد يأخذه الآخر منهم عن الأول.

ولقد يأتي مائة شاعر بالمعنى الذي لا يختلف في الطبيعة ولا في السياق ولا في الفهم، فيديرونه في مائة بيت تكون في مائة ديوان، ومع ذلك ترى أحوالهم فيه متباينة، وصناعتهم في أخذه مختلفة، وتراهم قد تناولوه بوجوه كثيرة تُحقق فيه عمل أمزجتهم، وتلقي عليه اختلاف أزمانهم، وتجري به في طرق حوادثهم، كأنه مع كل منهم قد ولد ونشأ٢ فهو مع هذا قوي، ومع الآخر جبار، ومع الثالث ضعيف، ومع رابع متهالك، وتارة بدين، وأخرى هزيل، وثالثة بينهما، وهكذا، ولولا ذلك لم يكن الكلام إلا تكرارًا، وبطل فيه عمل العقل، وأصبح رثًا باليًا، وذهب مع الذاهبين الأولين، ولم يبقَ فيه لشاعر إلا إقامة الوزن، ولو كان هذا لنسخ لقب الشاعر من الأرض، ولم تعد للبيان صناعة، ولا بقيت في القرائح مادة إلهية من الإلهام.

وشأن المتنبي كالشأن في نوابغ الدنيا: فالشاعر النابغة لا يمهر بإرادته، ولا ينبغ بأن يخلق في نفسه مادة ليست فيها، وإنما هو يولد مُهيئًا بقوى لا تكون إلا فيه وفي أمثاله، وهو زائد بها على غيره ممن لم يرزق النبوغ — كما يزيد الجوهر على الحجر أو الفولاذ على الحديد، أو الذهب على النحاس — ثم تتفاوت هذه القوى في النوابغ؛ فتتنوع وتتباين، وتعمل فيها أحوالهم وأزمانهم وحوادثهم، ومن ثم يجتمع لكل منهم شخصية، ويستقل منها بطريقة ومذهب؛ فإذا تناول معنًى من المعاني تناوله على طريقته: فإما حذف منه، وإما زاد فيه، وإما غيَّره وقلبَه، وإما صبَّ على حذوه معنى جديدًا يلم به أو يشبهه، أو لا يكون فيه إلا أنه جاء على طريقه حسب. فكثيرًا ما يقرأ النابغة كلامًا لغيره، أو يتأمل خاطرًا، أو يشهد أمرًا؛ فإذا كل ذلك قد أوحي إليه وانعكس على مرآة ذهنه بمعان مبتكرة طريفة لا تشبه ما كان بسبيله وجهًا من الشبه — لا قريبًا ولا بعيدًا — وليس فيها إلا أنها جاءت من ذلك الطريق، وهو بعدُ لم يتعمل لها ولم يتكلف ولم يصنع شيئًا، وإنما هو تلقى من ذهنه وتلقى ذهنه من قوة لا يدري ما هي ولا أين هي؟

وكما يُختار النبي يُختار النابغة — وليس كل الناس أنبياء، ولا كلهم نوابغ — ولا يصنع النبي أكثر من أن يتلقى عن الوحي، وكذلك يتلقى النابغة عن البصيرة، وهي تكون فيه هو وحده بمقام المَلك من الملائكة أو الشيطان من الشياطين، على حين تكون في سواه بمقام الإنسان من الناس، فالرجل الذكي أشبه بإنسانين: أحدهما هو، والآخر بصيرته، وهو بذلك أقوى من غيره، ولكن النابغة — وبصيرته أشبه بإنسان وملك، أو إنسان وشيطان — فهو دائمًا أقوى من القوة، وهو دائمًا متصل بشيء فوق الإنسانية.

وإذا تقرر هذا: فليس للنابغة اختيار فيما يأتي به، وليس عليه إلا أن يأخذ ما يؤتاه كما يتهيأ له على طريقته، ومن هنا ترى المتنبي يأتي أحيانًا بالتعقيد المستكره واللفظ المتكلف، وتراه يتعسف ويتخبط ويُسِفُّ، ومع ذلك لا ينفي مثل هذا من شعره ولا يحذفه، وهو قادر على أن يَغْنَى عنه وليس في حاجة إليه، ولكنه بعض طريقته التي انطبع عليها، فلا يستطيع حين يجيئه الرديء أن يجعله جيدًا، وليس إلا أن يأخذه كما هو؛ لأنه هو الذي انبثق له عن الجيد، كما تضرم النار من مادة، فإذا هي شُعَل ودخان، ثم تضرمها من مادة أخرى فإذا هي لهب صاف يتألق؛ ولو أنك أردتها من المادة الأولى كما تجيء من الثانية لأطفأتها وذهب دخانها ونارها معًا.

وهذا سرٌّ لم يتنبَّه إليه أحد ممن كتبوا عن المتنبي، فاشدُدْ يدك عليه، وادرس المتنبي على هذه الطريقة، فستجده نابغة في جيده ورديئه، وستجده لا يستطيع غير المستطاع، وستجد طريقته كأنما فرضت عليه فرضًا؛ لأنه كذلك ألهم، وعلى ذلك ركب طبعه، وكان ظلامه ظلامًا؛ لتسطع فيه النجوم.

•••

أما الإفاضة في ترجمة المتنبي ونشأته وأخلاقه وما إلى ذلك، فلا يأتي أحد بجديد … وقد أصبح المتنبي — دون غيره من شعراء العربية — كأنه في غير حاجة إلى الترجمة؛ إذ هو كالقطعة من تاريخ الأدب، فالكلام عنه متداول مشهور، وهذا بعض ما اختص به؛ فقد تحتاج مع شعر كل شاعر إلى ترجمته، ولكنك لا تحتاج من أبي الطيب إلا إلى شعره، وترى شعره ترجمة روحه، ولذلك اجتزأنا في هذه الكلمة بيان سره الشعريِّ، ثم أنت — بعد ذلك — في حقيقة الرجل؛ أي شعره وشرح شعره الذي نقدمه إليك …

•••

وبعد؛ فأما هذا الشرح فلا يلقينَّ في رُوعك أنه بدْع في الشروح، وأنه شيء مبتكر جديد، وهل غادر الشُّرَّاحُ من متردَّمِ؟ وإنما كل مزية هذا الشرح أنه تلاقت فيه كل الشروح بعد شيء من التهذيب والتنقيح والتحوير، أو بعد أن خلصت من عَكَرِها خلاص الخمر من نسجِ الفِدَام — كما يقول أبو الطيب — وبذلك توافر فيه ما لم يتوافر لأي شرح من شروح المتنبي على حدته، فليس يغني عنه شرح، ولكنه هو — بحمد الله — يغني عن سائر الشروح؛ فهو كما يقول أبو الطيب:

يُدِلُّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ كُلُّ فَاخِرٍ
وَقَدْ جَمَعَ الرَّحْمَنُ فِيهِ الْمَعَانِيَا
عبد الرحمن البرقوقي
١٢ جمادى الأولى ١٣٤٩ﻫ
٥ أكتوبر سنة ١٩٣٠م

هوامش

(١) أبو الطيب المتنبي: هو أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي الكندي الكوفي، ولد بالكوفة سنة ثلاث وثلاثمائة في محلة تسمى كندة، فنسب إليها، وليس هو من كندة التي هي قبيلة؛ بل هو جعفي القبيلة — بضم الجيم وسكون العين — وهو جعفي بن سعد العشيرة بن مذحج — واسمه مالك — بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان. نشأ بالكوفة — كما ترى — ويقال: إن أباه كان سقاء بالكوفة، ثم انتقل إلى الشام بولده، ونشأ ولده بالشام، وإلى هذا أشار بعض الشعراء في هجو المتنبي حيث قال:
أَيُّ فَضْلٍ لِشَاعِرٍ يَطْلُبُ الْفَضـْ
ـلَ مِنَ النَّاسِ بُكْرَةً وَعَشِيَّا
عَاشَ حِينًا يَبِبيعُ فِي الْكُوفَةِ الْمَا
ءَ وَحِينًا يَبِيعُ مَاءَ الْمُحَيَّا
قدم الشام في صباه، وجال في أقطاره، وما زال إلى أن ادعى النبوة في بادية السماوة، وتبعه خلق كثير من بني كلب وغيرهم، فخرج إليه لؤلؤ — أمير حمص نائب الأخشيدية — فأسره، وتفرق أصحابه، وحبسه طويلًا؛ ثم استتابه وأطلقه، ومن ثَمَّ سُمِّيَ المتنبي؛ ثم التحق بالأمير سيف الدولة بن حمدان — سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة — وما زال منقطعًا له حتى وقع بين المتنبي وبين ابن خالويه — النحوي — كلام في مجلس من مجالس سيف الدولة، فوثب ابن خالويه على المتنبي، فضرب وجهه بمفتاح كان معه، فشجه، وخرج ودمه يسيل على ثيابه، فغضب، وفارق سيف الدولة، وذهب إلى مصر سنة ست وأربعين وثلاثمائة، ومدح كافور الأخشيدي، وكان يقف بين يدي كافور، وفي رجليه خفان، وفي وسطه سيف ومنطقة، ويركب بحاجبين من مماليكه، وهما بالسيوف والمناطق، ولما لم يرضه كافور هجاه وفارقه ليلة عيد النحر سنة خمسين وثلاثمائة، ووجه كافور خلفه رواحل إلى جهاتٍ شتى، فلم يلحق، وكان كافور وعده بولاية بعض أعماله، فلما رأى تغاليه في شعره وسموه بنفسه، خافه، وعوتب فيه، فقال: يا قوم من ادعى النبوة بعد محمد أما يدعى المملكة مع كافور؟ فحسبكم، ولما كان بمصر مرض، وكان له صديق يغشاه في علته، فلما أبل انقطع عنه، فكتب إليه: وصلتني — وصلك الله — معتلًّا وقطعتني مبلا، فإن رأيت أن لا تحبب العلة إليَّ، ولا تكدر الصحة عليَّ، فعلت إن شاء الله، ولما رحل عن كافور قصد بلاد فارس ومدح عضد الدولة بن بويه الديلمي، فأجزل جائزته — وكذلك مدح ابن العميد — ولما رجع من عند عضد الدولة قاصدًا بغداد ثم إلى الكوفة في شعبان لثمانية خلون منه، عرض له فاتك بن الجهل الأسدي في عدة من أصحابه، وكان مع المتنبي أيضًا جماعة من أصحابه، فقاتلوهم، فقتل المتنبي وابنه محسد وغلامه مفلح بالقرب من النعمانية في موضع يقال له: الصافية، وقيل: جبال الصافية — من الجانب الغربي من سواد بغداد عند دير العاقول — وذلك يوم الأربعاء لست بقين — وقيل لثلاث بقين، وقيل لليلتين بقيتا — من شهر رمضان سنة أربع وخمسين وثلاثمائة، ولما قتل: رثاه أبو القاسم مظفر بن علي الطبسي بقوله:
لَا رَعَى اللهُ سِرْبَ هَذَا الزَّمَانِ
إِذَا دَهَانَا فِي مِثْلِ ذَاكَ اللِّسَانِ
مَا رَأَى النَّاسُ ثَانِيَ الْمُتَنَبِّي
أَيُّ ثَانٍ يَرَى لِبِكْرِ الزَّمَانِ
كَانَ مِنْ نَفْسِهِ الْكَبِيرَةِ فِي جَيـْ
ـشٍ وَفِي كِبْرِيَاءِ ذِي سُلْطَانِ
هُوَ فِي شِعْرِهِ نَبِيٌّ وَلَكِنْ
ظَهَرَتْ مُعْجِزَاتُهُ فِي الْمَعَانِي
«ا.ﻫ ملخصًا من ابن خلكان.»

شيء من أخلاقه وشمائله

حدث علي بن حمزة قال: بلوت من أبي الطيب ثلاث خلال محمودة، وذلك أنه ما كذب ولا زنى ولا لاط، وبلوت منه ثلاث خلال مذمومة، وذلك أنه ما صام ولا صلى ولا قرأ القرآن … أما هذه الأخيرة — وهي أنه ما قرأ القرآن — فإني أظن الراوي يريد أنه ما قرأ القرآن تهجدًا وتعبدًا، وإلا فإن مثل المتنبي في فضله وأدبه ودهائه لا يفوته أن يقرأ القرآن الكريم ويتدارسه ويستظهره! وأي قيمة لأديب لم يقرأ القرآن؟! وقال ابن فورجه: كان المتنبي رجلًا داهية مر اللسان، شجاعًا، حافظًا للآداب، عارفًا بأخلاق الملوك، ولم يكن فيه ما يشينه إلا بخله وشرهه على المال …
أقول: وهذا بخل المتنبي هو على الحقيقة مما استتبعه طماحه وكبرياؤه وسموه إلى الرفعة والمجد والعلاء، وقد سئل في ذلك فقال: إن للبخل سببًا، وذلك أني أذكر — وقد وردت في صباي من الكوفة إلى بغداد — فاتخذت خمسة دراهم في جانب منديل، وخرجت أمشي في أسواق بغداد، فمررت بصاحب دكان يبيع الفاكهة، فرأيت خمس بطيخات باكورة فاستحسنتها ونويت أن أشتريها بالدراهم التي معي، فتقدمت إليه، وقلت: بكم هذه الخمس بطاطيخ؟ فقال — بغير اكتراث — اذهب، فليس هذا من أكلك؛ فتماسكت معه، وقلت: أيها الرجل: دع ما يغيظ واقصد الثمن، فقال: ثمنها عشرة دراهم؛ فلشدة ما جبهني به ما استطعت أن أخاطبه في المساومة، فوقفت حائرًا، ودفعت له خمسة دراهم فلم يقبل، وإذا بشيخ من التجار قد خرج من الحان ذاهبًا إلى داره، فوثب إليه صاحب البطيخ من دكانه ودعا له وقال: يا مولاي، ها بطيخ باكورة بإجازتك أحمله إلى منزلك، فقال الشيخ: ويحك! بكم هذا؟ فقال: بخمسة دراهم، فقال: بل بدرهمين، فباعه الخمسة بدرهمين، وحملها إلى داره ودعا له، وعاد إلى دكانه مسرورًا بما فعل؛ فقلت: يا هذا ما رأيت أعجب من جهلك! استمت علي في هذا البطيخ وفعلت فعلتك التي فعلت، وكنت قد أعطيتك في ثمنه خمسة دراهم فبعته بدرهمين محمولًا! فقال اسكت: هذا يملك مائة ألف دينار … وأنا لا أزال على ما تراه حتى أسمع الناس يقولون: إن أبا الطيب قد ملك مائة ألف دينار …
وقد كان أبو الطيب مغرورًا إلى أقصى حدود الغرور، وكان ذا طماح وزهو وكبرياء؛ بل كان لا يطاق غطرسة وشموخًا وخيلاء، ولا تنس قصته مع الحاتمي وما جره عليه هذا الكبر، وكان أبو الطيب مصابًا بذلك الداء: داء جنون العظمة — وكثيرًا ما يصيب هذا الداء النوابغ والعبقريين — ولك أن تجعله علة، ولك أن تجعله معلولًا … وقد كان أبو الطيب عزهاة لا تطَّبيه النساء، وكان لا يشرب الخمر. وجملة القول أن أبا الطيب كان ذا شخصية من الشخصيات الغريبة، وكان عظيمًا، وكان عبقريًّا، وكانت حياته لذلك زاخرة بكل ما يجلب له الحب والإشفاق والإجلال من قوم، وبكل ما يجلب عليه الحسد والبغض والعداء من آخرين: شأن كل عبقري عظيم، والله أعلم.
(٢) ومن هنا لا ينبغي لك أن تظن حين ترى في شرحنا هذا مثل قولنا — بعد شرح بعض الأبيات: إن هذا المعنى مأخوذ من قول فلان أو منقول منه أو ينظر إليه: أنا نقصد بذلك إلى أن أبا الطيب سرقه كما يسرق ضعاف الشعراء، وإنما هو التوليد الذي هو من خصائص النوابغ: وإنما ذكرنا هذه الأشباه والنظائر؛ هو لترى كيف يكون التوليد، ولتختار ما يحلو.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤