قافية السين

وقال وقد أذن المؤذن، فوضع سيف الدولة الكأس من يده، فقال أبو الطيب ارتجالًا:

أَلَا أَذِّنْ فَمَا أَذْكَرْتَ نَاسِي
وَلَا لَيَّنْتَ قَلْبًا وَهْوَ قَاسِ١
وَلَا شُغِلَ الْأَمِيرُ عَنِ الْمَعَالِي
وَلَا عَنْ حَقِّ خَالِقِهِ بِكَاسِ٢

وقال يمدح عبيد الله بن خلكان الطرابلسي:

أَظَبْيَةَ الْوَحْشِ لَوْلَا ظَبْيَةُ الْأَنْسِ
لَمَا غَدَوْتُ بِجَدٍّ فِي الْهَوَى تَعِسِ٣
وَلَا سَقَيْتُ الثَّرَى وَالْمُزْنُ مُخْلِفَةٌ
دَمْعًا يُنَشِّفُهُ مِنْ لَوْعَةٍ نَفَسِي٤
وَلَا وَقَفْتُ بِجِسْمٍ مُسْيَ ثَالِثَةٍ
ذِي أَرْسُمٍ دُرُسٍ فِي الْأَرْسُمِ الدُّرُسِ٥
صَرِيعَ مُقْلَتِهَا سَآَّلَ دِمْنَتِهَا
قَتِيلَ تَكْسِيرِ ذَاكِ الْجَفْنِ وَاللَّعَسِ٦
خَرِيدَةٌ لَوْ رَأَتْهَا الشَّمْسُ مَا طَلَعَتْ
وَلَوْ رَآهَا قَضِيبُ الْبَانِ لَمْ يَمِسِ٧
مَا ضَاقَ قَبْلَكِ خَلْخَالٌ عَلَى رَشَأٍ
وَلَا سَمِعْتُ بِدِيبَاجٍ عَلَى كَنَسِ٨
إِنْ تَرْمِنِي نَكَبَاتُ الدَّهْرِ عَنْ كَثَبٍ
تَرْمِ امْرَأً غَيْرَ رِعْدِيدٍ وَلَا نَكِسِ٩
يَفْدِي بَنِيكَ عُبَيْدَ اللهِ حَاسِدُهُمْ
بِجَبْهَةِ الْعَيْرِ يُفْدَى حَافِرُ الْفَرَسِ١٠
أَبَا الْغَطَارِفَةِ الْحَامِينَ جَارَهُمُ
وَتَارِكِي اللَّيْثِ كَلْبًا غَيْرَ مُفْتَرِسِ١١
مِنْ كُلِّ أَبْيَضَ وَضَّاحٍ عِمَامَتُهُ
كَأَنَّمَا اشْتَمَلَتْ نُورًا عَلَى قَبَسِ١٢
دَانٍ بَعِيدٍ مُحِبٍّ مُبْغِضٍ بَهِجٍ
أَغَرَّ حُلْوٍ مُمِرٍّ لَيِّنٍ شَرِسِ١٣
نَدٍ أَبِيٍّ غَرٍ وَافٍ أَخِي ثِقَةٍ
جَعْدٍ سَرِيٍّ نَهٍ نَدْبٍ رَضٍ نَدُسِ١٤
لَوْ كَانَ فَيْضُ يَدَيْهِ مَاءَ غَادِيَةٍ
عَزَّ الْقَطَا فِي الْفَيَافِي مَوْضِعُ الْيَبَسِ١٥
أَكَارِمٌ حَسَدَ الْأَرْضَ السَّمَاءُ بِهِمْ
وَقَصَّرَتْ كُلُّ مِصْرٍ عَنْ طَرَابُلْسِ١٦
أَيُّ الْمُلُوكِ — وَهُمْ قَصْدِي — أُحَاذِرُهُ؟!
وَأَيُّ قِرْنٍ وَهُمْ سَيْفِي وَهُمْ تُرُسِي؟!١٧

وسأله صديق له يعرف بأبي ضبيس الشراب معه فامتنع وقال ارتجالًا:

أَلَذُّ مِنَ الْمُدَامِ الْخَنْدَرِيسِ
وَأَحْلَى مِنْ مُعَاطَاةِ الْكُئُوسِ
مُعَاطَاةُ الصَّفَائِحِ وَالْعَوَالِي
وَإِقْحَامِي خَمِيسًا فِي خَمِيسِ١٨
فَمَوْتِيَ فِي الْوَغَى أَرَبِي لِأَنِّي
رَأَيْتُ الْعَيْشَ فِي أَرَبِ النُّفُوسِ١٩
وَلَوْ سُقِّيتُهَا بِيَدَيْ نَدِيمٍ
أُسَرُّ بِهِ لَكَانَ أَبَا ضَبِيسِ٢٠

وقال يمدح محمد بن زريق الطرسوسي:

هَذِي بَرَزْتِ لَنَا فَهِجْتِ رَسِيسَا
مِمَّ انْثَنَيْتِ وَمَا شَفَيْتِ نَسِيسَا٢١
وَجَعَلْتِ حَظِّي مِنْكِ حَظِّي فِي الْكَرَى
وَتَرَكْتِنِي لِلْفَرْقَدَيْنِ جَلِيسَا٢٢
قَطَّعْتِ ذَيَّاكِ الْخُمَارَ بِسَكْرَةٍ
وَأَدَرْتِ مِنْ خَمْرِ الْفِرَاقِ كُئُوسَا٢٣
إِنْ كُنْتِ ظَاعِنَةً فَإِنَّ مَدَامِعِي
تَكْفِي مَزَادَكُمُ وَتَرْوِي الْعِيسَا٢٤
حَاشَا لِمِثْلِكِ أَنْ تَكُونَ بَخِيلَةً
وَلِمِثْلِ وَجْهِكِ أَنْ يَكُونَ عَبُوسَا
وَلِمِثْلِ وَصْلِكِ أَنْ يَكُونَ مُمَنَّعًا
وَلِمِثْلِ نَيْلِكِ أَنْ يَكُونَ خَسِيسَا٢٥
خَوْدٌ جَنَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ عَوَاذِلِي
حَرْبًا وَغَادَرَتِ الْفُؤَادَ وَطِيسَا٢٦
بَيْضَاءُ يَمْنَعُهَا تَكَلَّمَ دَلُّهَا
تِيهًا وَيَمْنَعُهَا الْحَيَاءُ تَمِيسَا٢٧
لَمَّا وَجَدْتُ دَوَاءَ دَائِي عِنْدَهَا
هَانَتْ عَلَيَّ صِفَاتُ جَالِينُوسَا٢٨
أَبْقَى زُرَيْقٌ لِلثُّغُورِ مُحَمَّدًا
أَبْقَى نَفِيسٌ لِلنَّفِيسِ نَفِيسًا٢٩
إِنْ حَلَّ فَارَقَتِ الْخَزَائِنُ مَالَهُ
أَوْ سَارَ فَارَقَتِ الْجُسُومُ الرُّوسَا٣٠
مَلِكٌ إِذَا عَادَيْتَ نَفْسَكَ عَادِهِ
وَرَضِيتَ أَوْحَشَ مَا كَرِهْتَ أَنِيسَا٣١
الْخَائِضَ الْغَمَرَاتِ غَيْرَ مُدَافَعٍ
وَالشَّمَّرِيَّ الْمِطْعَنَ الدِّعِّيسَا٣٢
كَشَّفْتُ جَمْهَرَة الْعِبَادِ فَلَمْ أَجِدْ
إِلَّا مَسُودًا جَنْبَهُ مَرْءُوسَا٣٣
بَشَرٌ تَصَوَّرَ غَايَةً فِي آيَةٍ
تَنْفِي الظُّنُونَ وَتُفْسِدُ التَّقْيِيسَا٣٤
وَبِهِ يُضَنُّ عَلَى الْبَرِيَّةِ لَا بِهَا
وَعَلَيْهِ مِنْهَا لَا عَلَيْهَا يُوسَى٣٥
لَوْ كَانَ ذُو الْقَرْنَيْنِ أَعْمَلَ رَأْيَهُ
لَمَّا أَتَى الظُّلُمَاتِ صِرْنَ شُمُوسَا٣٦
أَوْ كَانَ صَادَفَ رَأْسَ عَازَرَ سَيْفُهُ
فِي يَوْمِ مَعْرَكَةٍ لَأَعْيَا عِيسَى٣٧
أَوْ كَانَ لُجُّ الْبَحْرِ مِثْلَ يَمِينِهِ
مَا انْشَقَّ حَتَّى جَازَ فِيهِ مُوسَى
أَوْ كَانَ لِلنِّيرَانِ ضَوْءُ جَبِينِهِ
عُبِدَتْ فَصَارَ الْعالَمُونَ مَجُوسَا
لَمَّا سَمِعْتُ بِهِ سَمِعْتُ بِوَاحِدٍ
وَرَأْيُتُه فَرَأَيْتُ مِنْهُ خَمِيسَا٣٨
وَلَحَظْتُ أُنْمُلَهُ فَسِلْنَ مَوَاهِبًا
وَلَمَسْتُ مُنْصُلَهُ فَسَالَ نُفُوسَا٣٩
يَا مَنْ نَلُوذُ مِنَ الزَّمَانِ بِظِلِّهِ
أَبَدًا وَنَطْرُدُ بِاسْمِهِ إِبْلِيسَا٤٠
صَدَقَ الْمُخَبِّرُ عَنْكَ دُونَكَ وَصْفُهُ
مَنْ بِالْعِرَاقِ يَرَاكَ فِي طَرْسُوسَا٤١
بَلَدٌ أَقَمْتَ بِهِ وَذِكْرُكَ سَائِرٌ
يَشْنَا الْمَقِيلَ وَيَكْرَهُ التَّعْرِيسَا٤٢
فَإِذَا طَلَبْتَ فَرِيسَةً فَارَقْتَهُ
وَإِذَا خَدَرْتَ تَخِذْتَهُ عِرِّيسَا٤٣
إِنِّي نَثَرْتُ عَلَيْكَ دُرًّا فَانْتَقِدْ
كَثُرَ الْمُدَلِّسُ فَاحْذَرِ التَّدْلِيسَا٤٤
حَجَّبْتُهَا عَنْ أَهْلِ إِنْطَاكِيَّةٍ
وَجَلَوْتُهَا لَكَ فَاجْتَلَيْتَ عَرُوسَا٤٥
خَيْرُ الطُّيُورِ عَلَى الْقُصُورِ وَشَرُّهَا
يَأْوِي الْخَرَابَ وَيَسْكُنُ النَّاوُوسَا٤٦
لَوْ جَادَتِ الدُّنْيَا فَدَتْكَ بِأَهْلِهَا
أَوْ جَاهَدَتْ كُتِبَتْ عَلَيْكَ حَبِيسَا٤٧

ودس عليه كافور من يستعلم ما في نفسه، ويقول له: قد طال قيامك عند هذا الرجل، فقال:

يَقِلُّ لَهُ الْقِيَامُ عَلَى الرُّءُوسِ
وَبَذْلُ الْمُكْرَمَاتِ مِنَ النُّفُوسِ٤٨
إِذَا خَانَتْهُ فِي يَوْمٍ ضَحُوكٍ
فَكَيْفَ تَكُونُ فِي يَوْمٍ عَبُوسِ٤٩

وقال يهجو كافورًا، وقد خرج من عنده:

أَنْوَكُ مِنْ عَبْدٍ وَمِنْ عِرْسِهِ
مَنْ حَكَّمَ الْعَبْدَ عَلَى نَفْسِهِ٥٠
وَإِنَّمَا يُظْهِرُ تَحْكِيمُهُ
تَحَكُّمَ الْإِفْسَادِ فِي حِسِّهِ٥١
مَا مَنْ يَرَى أَنَّكَ فِي وَعْدِهِ
كَمَنْ يَرَى أَنَّكَ فِي حَبْسِهِ٥٢
الْعَبْدُ لَا تَفْضُلُ أَخْلَاقُهُ
عَنْ فَرْجِهِ الْمُنْتِنِ أَوْ ضِرْسِهِ٥٣
لَا يُنْجِزُ الْمِيعَادَ فِي يَوْمِهِ
وَلَا يَعِي مَا قَالَ فِي أَمْسِهِ٥٤
وَإِنَّمَا تَحْتَالُ فِي جَذْبِهِ
كَأَنَّكَ الْمَلَّاحُ فِي قَلْسِهِ٥٥
فَلَا تُرَجِّ الْخَيْرَ عِنْدَ امْرِئٍ
مَرَّتْ يَدُ النَّخَّاسِ فِي رَأْسِهِ٥٦
وَإِنْ عَرَاكَ الشَّكُّ فِي نَفْسِهِ
بِحَالِهِ فَانْظُرْ إِلَى جِنْسِهِ٥٧
فَقَلَّمَا يَلْؤُمُ فِي ثَوْبِهِ
إِلَّا الَّذِي يَلْؤُمُ فِي غِرْسِهِ٥٨
مَنْ وَجَدَ الْمَذْهَبَ عَنْ قَدْرِهِ
لَمْ يَجِدِ الْمَذْهَبَ عَنْ قَنْسِهِ٥٩

وأحضر أبو الفضل بن العميد مجمرة محشوة بالنرجس والآس حتى خفيت نارها والدخان يخرج من خلال ذلك؛ فقال مرتجلًا:

أَحَبُّ امْرِئٍ حَبَّتِ الْأَنْفُسُ
وَأَطْيَبُ مَا شَمَّهُ مَعْطِسُ٦٠
وَنَشْرٌ مِنَ النَّدِّ لَكِنَّمَا
مَجَامِرُهُ الْآسُ وَالنَّرْجِسُ٦١
وَلَسْنَا نَرَى لَهَبًا هَاجَهُ
فَهَلْ هَاجَهُ عِزُّكَ الْأَقْعَسُ٦٢
وَإِنَّ الْفِئَامَ الَّتِي حَوْلَهُ
لَتَحْسُدُ أَرْجُلَهَا الْأَرْؤُسُ٦٣

هوامش

(١) يقول للمؤذن: أذن فلم تذكِّر بأذانك ناسيًا؛ يعني أنه محافظ على الصلوات لا ينسى أوقاتها، فهو غير محتاج إلى أن يتذكرها بالأذان، وهو لين القلب خاشع، فلا يحتاج إلى ما يلينه. وكان حقه أن يقول: ناسيًا، ولكنها الضرورة، أو على لغة من يقول: رأيت قاضٍ. وقوله: وهو قاسٍ، في موضع الحال، كأنه قال: ولا لينت قلبًا قاسيًا.
(٢) يقول: لم تكن الكأس لتشغله عن حق الله تعالى، ولا عن مراعاة أسباب المعالي، فهو ليس ممن يستهلكون أوقاتهم فيغفل عما يلزمه من أداء فرض أو مراعاة حق. وفي مثل هذا يقول أبو تمام:
وَلَمْ يَشْغَلْكَ عَنْ طَلَبِ الْمَعَالِي
وَلَا لَذَّاتِهَا لَهْوٌ وَلِعْبُ
(٣) الأَنَس: جماعة الناس. تقول: رأيت بمكان كذا أَنَسًا كثيرًا؛ أي ناسًا كثيرًا، والأنس أيضًا: الحي المقيمون، والأنس كذلك: لغة في الإنس. وأنشد الأخفش على هذه اللغة لسمير بن الحارث الضبي:
أَتَوْا نَارِي، فَقُلْتُ: مَنُونَ أَنْتُمْ؟
فَقَالُوا: الْجِنُّ، قُلْتُ: عِمُوا ظَلَامَا
فَقُلْتُ: إِلَى الطَّعَامِ؟ فَقَالَ مِنْهُمْ
زَعِيمٌ: نَحْسُدُ الْأَنْسَ الطَّعَامَا
لَقَدْ فُضِّلْتُمُو بِالْأَكْلِ فِينَا
وَلَكِنْ ذَاكَ يُعْقِبُكُمْ سَقَامَا
(وقيل: قائل هذه الأبيات تأبط شرًّا، وقيل للفرزدق، وقيل شمر الغساني، وأول هذه الأبيات:
وَنَارٍ قَدْ حَضَأْتُ بُعَيْدَ وَهْنٍ
بدَارٍ لَا أُرِيدُ بِهَا مُقَامَا
سِوى تَرْحِيل رَاحِلة وَعَين
أكالئُها مَخافة أن تنَاما
أتْوا ناري … …
… … … [الأبيات]
وبعدها:
أمِطْ عنَّا الطعامَ فإنَّ فِيهِ
لِآكلهِ النَقاصَةَ والسَّقامَا
يصف قائلها نفسه بالجرأة واقتحام المهالك، يقول: رب نار قد حضأتها — أي أوقدتها وسعرتها — وبعيد تصغير بعد، والوهن والموهن: نحو من نصف الليل — أي أوقدتها في جوف الليل في مفازة لا أريد إقامة بها سوى تجهيز ما يلزم لراحتي في السفر، ولأجل عين أكالئها — أي أحافظها — فأنا أحفظها من النوم، وهي تحفظني من العدو، ومنون أنتم: استفهام، وكان حقه: من أنتم؟ وعموا ظلامًا: أي تنعموا في وقت الظلام، وإلى الطعام: أي هلموا أو أقبلوا إليه، وفينا: أي علينا، وأمط عنا: أي أزله عنا، والنقاصة: مصدر كالنقص. وهذا كله من أكاذيب العرب.)
والأَنَس أيضًا: خلاف الوحشية، وهو مصدر أنِست به — بالكسر — أنسًا وأنسة. وفيه لغة أخرى: هي أنست به أُنْسًا، مثل كفرت به كفرًا. والجد: الحظ والبخت، والتعس: الانحطاط والكب والعثور: ضد الانتعاش، وقيل: الهلاك، وتعس — بالفتح — يتعس تعسًا، وأتعسه الله. قال مجمع بن هلال:
تَقُولُ وَقَدْ أَفْرَدْتُهَا مِنْ خَلِيلِهَا:
تَعَسْتَ كَمَا أَتْعَسْتَنِي يَا مُجَمِّعُ!
والمراد بالجد التعس: المنحوس المشئوم. وقد عابوا قوله: تعس، قائلين: إنما يقال: جَدٌّ تاعس، من تَعس — بفتح العين — ولا يجوز بكسرها إلا ما روي عن الفراء، واحتج أهل اللغة ببيت الأعشى:
بِذَاتِ لَوْثٍ عَفَرْنَاةٍ إِذَا عَثَرَتْ
فَالتَّعْسُ أَدْنَى لَهَا مْنْ أَنْ أَقُولَ: لَعَا
(قوله: بذات لوث: متعلق بكلفت — في بيت قبله — وهو:
كَلَّفْتُ مَجْهُولَهَا نَفْسِي وَشَايَعَنِي
هَمِّي عَلَيْهَا إِذَا مَا آلُهَا لَمَعَا
اللَّوث بالفتح: القوة. وعفرناة: شديدة قوية، والعرب تدعو على العاثر من الدواب إذا كان جوادًا بالتعس، فتقول: تعسًا له، وإن كان بليدًا كان دعاؤهم له إذا عثر: لعًا لك، وهي كلمة يراد بها: أن ينتعش.)
ولو جاز تعِس — بالكسر — لكان المصدر تعسًا، فعلى هذا لا يقال: جد تعس؛ وإنما يقال: تاعس. يخاطب الظبية الوحشية؛ لأنها ألفته لكثرة ملازمته الفيافي ومساءلته الأطلال، كما قال ذو الرمة:
أَخُطُّ وَأَمْحُو الْخَطَّ ثُمَّ أُعِيدُهُ
بِكَفَّيَّ وَالْغِزْلَانُ حَوْلِيَ تَرْتَعُ
أي: قد ألفنني وأنسن بي لكثرة ما يرينني. يقول: لولا شبيهتك من الإنس أيتها الظبية — يعني حبيبته — لما صرت في الحب ذا جد منحوس.
(٤) الثرى: التراب. والمزن: السحاب الأبيض. ومخلفة: أي غير ماطرة من إخلاف الوعد. يصف حرارة وجده وكثرة دموعه، وأن حرارة نفسه تنشف دموعه إذا جرت على الأرض. وهذا ينظر إلى قول الآخر:
لَوْلَا الدُّمُوعُ وَفَيْضُهُنَّ لَأَحْرَقَتْ
أَرْضَ الْوَدَاعِ حَرَارَةُ الْأَكْبَادِ
وقول الآخر:
وَتَكَادُ نِيرَانُ الْقُلُوبِ إِذَا الْتَظَتْ
يَوْمًا تُنَشِّفُ فِي الْعُيُونِ الْمَاءَ
(٥) المسي: المساء، مثل: الصبح والصباح، وهو ظرف للوقوف؛ ومسي ثالثة: أي مساء ليلة ثالثة. وذي أرسم: صفة لجسم، والأرسم: جمع رسم؛ الآثار. والدرس: جمع دارس ودارسة؛ أي التي انمحت. يقول: لولا هذه الظبية لما وقفت برسوم دارها مساء الليلة الثالثة من ظعنها — أي لما وقفت بربعها مع قرب العهد بلقائها — بجسم دارس ناحل قد أبلاه الحزن وأنحله حتى آض مثل تلك الرسوم. ومثله للعكوك:
خَلَّفْتَنِي نِضْوَ أَحْزَانٍ أُعَالِجُهَا
بِالْجِزْعِ أَنْدُبُ فِي أَنْضَاءِ أَطْلَالِ
(٦) الدمنة: جمعها دمن؛ ما اسود من آثار الديار. واللعس: سمرة في الشفة مثل اللمى، وصريع وسآَّل: حالان، ومن خفضهما فعلى أنهما نعتان لجسم. واللعس: عطف على تكسير. وكاف ذاك: رويت بالكسر؛ لأنه يخاطب الظبية. يذكر شدة وجده بها، وأن مقلتها قد صرعته بسحرها وأنه يتسلى بسؤال آثار دارها عنها: أين ذهبت؟ وأنه مقتول بما في جفنها من الانكسار، وفتور النظر وما في شفتها من السمرة.
(٧) الخريدة: الخفرة الحيية. وماس الغصن يميس: مال وتثنى، والميس: أصله التبختر، وهو للإنسان، واستعاره للقضيب من حيث إن حسن تمايله يشبه التبختر. يقول: إنها أحسن من الشمس حتى لو رأتها الشمس لم تطلع حياءً منها، وهي أحسن تثنيًّا من تثني غصن البان، فلو رآها لم يتمايل. قال الواحدي: وفي هذا إشارة إلى أنها في غاية الستر، وأن الشمس لم ترها ولا الغصن.
(٨) الرشأ: الظبي الصغير. والكنس والكناس: الموضع الذي تتخذه الظباء من أغصان الشجر تستظل به من الحر. يقول: إن الرشأ دقيق القوائم لا يضيق الخلخال على قوائمه، وأنت رشأ غليظ القوائم كثير اللحم يضيق عليك الخلخال، ولم أسمع أن كناس الرشأ يستر بالديباج — ضرب من الثياب الحريرية — أما أنت فمستورة الكناس بالديباج؛ يريد هودجها. وفيه نظر إلى قول ابن دريد:
أَعَنِ الشَّمْسِ عِشَاءً
رُفِعَتْ تِلْكَ السُّجُوفُ؟
أَمْ عَلَى أُذْنَيْ غَزَالٍ
عُلِّقَتْ تِلْكَ الشُّنُوفُ؟
(٩) الكثب: القرب. والرعديد: الجبان. والنكس: الساقط الفشل، وأصله بكسر النون وسكون الكاف، فلما احتاج إلى تحريكه نقله إلى فَعِل بفتح فكسر، أو بكسرتين، على حد قول عبد مناف بن ربع الهذلي:
مَاذَا يَغِيرُ ابْنَتَيْ رِبْعٍ عَوِيلُهُمَا
لَا تَرْقُدَانِ وَلَا يُؤْسَى لِمَن رَقَدَا؟
كِلْتَاهُمَا أُبْطِنَتْ أَحْشَاؤُهَا قَصَبًا
مِنْ بَطْنِ حَلْيَةَ لَا رَطْبًا وَلَا نَقِدَا
إِذَا تَجَاوَبَ نَوْحٌ قَامَتَا مَعَهُ
ضَرْبًا أَلِيمًا بِسِبْتٍ يَلْعَجُ الْجِلْدَا
(يقول هذه الأبيات في أختيه وبكائهما على أبيهما. قوله: ماذا يغير … إلخ؛ أي لا يغني بكاؤهما على أبيهما من طلب ثأره شيئًا. وقوله: كلتاها أبطنت … إلخ، يقول: كأن في أجوافهما قصب المزامير من شدة البكاء. وفي الحديث: أن رسول الله كان يبكي في صلاته حتى يسمع لجوفه أزيز كأزيز المرجل. وقوله: ولا نقدًا؛ أي لم يتأكل والتاء في «ترقدان» للمؤنث الغائب. والحلية: مأسدة باليمن، والنوح: النساء يجتمعن للنواح، وقد كانت نساء العرب في مناحاتهن يلطمن خدودهن بالجلود.)
[يغير: ينفع. والسبت: جلود البقر المدبوغة. واللعج: الحرقة؛ أراد الجلد، فحرك اللام بالكسر لكسر ما قبله.] ومثله كثير. يقول المتنبي: إن رماني الدهر بنوائبه عن قرب — يعني من حيث لا يخطئ — فإني غير جبان ولا ساقط دنيء؛ يعني لا أخاف ذلك ولا أجبن منه.
(١٠) عبيد الله: منادى. وحاسدهم: فاعل يفدي. جعل العير — الحمار — مثلًا للدنيء، والفرس: مثلًا للكريم، والمعنى: بأعز شيء في اللئيم يفدى أخس شيء في الكريم؛ أي إن حاسدهم إذا فداهم كان كما يفدى حافر الفرس بوجه الحمار. ومثل هذا لأبي جعفر الإسكافي:
نَفْسِي فِدَاؤُكَ وَهْيَ غَيْرُ عَزِيزَةٍ
فِي جَنْبِ شَخْصِكَ وَهْوَ جِدُّ عَزِيزِ
فَلَقَدْ يَقِي الْحَرَّ الْبَهِيَّ أَذَاتَهُ
فِي وَقْتِهَا كَفٌّ مِنَ الشُّونِيزِ
الشونيز والشينيز: الحبة السوداء. ومثله لأبي نصر العتبي:
اللهُ يَشْهَدُ وَالْمَلَائِكُ أَنَّنِي
لِجَلِيلِ مَا أَوْلَيتَ غَيْرُ كَفُورِ
نَفْسِي فِدَاؤُكَ لَا لِقَدْرِي بَل أَرَى
أَنَّ الشَّعِيرَ وِقَايَةُ الْكَافُورِ
(١١) أبا الغطارفة: نصب على البدل من عبيد الله، الذي هو منادى. والغطارفة: جمع غطريف، وهو السيد. والحامين: جمع حام، وهو الذي يحمي قومه وجيرانه. يقول: يا أبا السادة الذين يحفظون جارهم ويتركون الأسد كلبًا لا يصيد شيئًا؛ يعني أن الأسد — أي: البطل الشجاع — عندهم كالكلب غير الصائد، لجبنه عنهم.
(١٢) الأبيض هنا: الكريم النقي العرض. والوضاح: المشرق الواضح الجبهة. والقبس: الشعلة من النار. وعمامته: مبتدأ، والخبر: الجملة التي بعده. أي أنه تحت عمامته كأنه شعلة نار لنور وجهه وإشراق لونه. وهو من قول عبد الله بن قيس الرقيات (إنما أضيف قيس إلى الرقيات؛ قيل: لأنه كان يشبب بعدة نساء يسمين جميعًا رقية):
إِنَّمَا مُصْعَبٌ شِهَابٌ مِنَ اللهِ تَجَلَّتْ عَنْ وَجْهِهِ الظَّلْمَاءُ
(١٣) أمر الشيء: صار مرًّا. يقول: هو دان — قريب — ممن يحبه ويقصده بعيد عمن ينازعه، محب للفضل وأهله، مبغض للنقص وأهله. بهج بالقصاد، حلو لأوليائه مر على أعدائه، لين في الرضا. شرس — صعب — على الأعداء. وروى الخوارزمي: مُحَبٌّ مُبْغَضٌ — بصيغة اسم المفعول. وبهج بالشيء وله، بالكسر بهاجة: أي فرح به وسر، فهو بهج وبهيج، قال الشاعر:
كَانَ الشَّبَابُ رِدَاءً قَدْ بَهِجْتُ بِهِ
فَقَدْ تَطَايَرَ مِنْهُ لِلْبِلَى خِرَقُ
(١٤) ند: جواد ندى الكف. وأبى: أنوف يأبى الدنايا. وغر: مغرى بالفعل الجميل مولع به. وافٍ: بالعهد والوعد. أخي ثقة: صاحب ثقة يوثق به. وروى ابن جني: أخٍ — منونًا — أي: هو مستحق لإطلاق هذا الاسم — الأخ — عليه لصحة مودته لمن خالطه، وثقة: موثوق به مأمون عند الغيب — وهو مصدر وصف به: كقولهم: زيد عدل — وجعد: جواد. قال الزمخشري: وأما قولهم: جعد للجواد (لأن الأصل أن يقال: فلان جعد، أي: بخيل.) فمن الكناية عن كونه عربيًّا سخيًّا؛ لأن العرب موصوفون بالجعودة. قال:
هَلْ يُرْوِيَنْ ذَوْدَكَ نَزْعٌ مَعْدُ
وَسَاقِيَانِ سَبِطٌ وَجَعْدُ؟
أي: عجمي وعربي؛ لأنهما لا يتفاهمان فلا يشتغلان بالكلام عن السقي. وسري: شريف، ونهٍ: ذو نهية؛ وهي العقل. والندب: الخفيف في الأمور يندب لها؛ أي يدعى فينتدب. ورضٍ: أي مرضي. والندس بضم الدال وبكسرها: الفطن البحاث عن الأمور العارف بها.
(١٥) فيض يديه: أي الفائض من يديه. والغادية: السحابة تغدو بالمطر. والفيافي: جمع الفيفاة؛ وهي المفازة لا ماء بها. واليبس: المكان اليابس. يقول: لو كان عطاؤه ماء سحابة لعم الدنيا كلها حتى لا تجد القطا — وهو الطائر المعروف بالهداية — في الفلوات موضعًا جافًّا تلتقط منه الحب أو تنام فيه، وعز هنا: أعيا، وأصله: غلب وقهر، ومنه بيت الحماسة:
قَطَاةٌ عَزَّهَا شَرَكٌ فَبَاتَتْ
تُجَاذِبُهُ وَقَدْ عَلِقَ الْجَنَاحُ
أي: أعياها وجود موضع اليبس؛ أي المكان اليابس وامتنع عليها.
(١٦) أكارم: جمع أكرم، كأفاضل وأفضل. يقول: بسببهم وكونهم في الأرض حسدتها السماء إذ لم يكن في السماء مثلهم، وتأخر كل مصر — بلد — عن بلدهم طرابلس الشام لفضلهم على أهل سائر الأمصار.
(١٧) هذا استفهام معناه الإنكار. ويقول: إذا قصدت هؤلاء لم أحذر أحدًا من الملوك، وإذا استعنت بهم لم أحذر قرنًا يقابلني. والقرن: كفؤك في الشجاعة، أما القرن من الناس: فهم أهل زمان واحد، قال:
إِذَا ذَهَبَ الْقَرْنُ الَّذِي أَنْتَ فِيهِمُ
وَخُلِّفْتَ فِي قَرْنٍ فَأَنْتَ غَرِيبُ
والقرن: الوقت من الزمان، يقال: هو أربعون سنة، وقيل: ثمانون سنة، وقيل: مائة.
(١٨) الخندريس: الخمر القديمة. والصفائح: السيوف العريضة. والعوالي: صدور الرماح. والإقحام: دخول الشيء في الشيء. والخميس: الجيش. ومعنى معاطاة الصفائح: مد اليد بالسيوف إلى الأقران بالضرب، كمد المتناول يده إلى من ناوله الشيء. يقول: إن الحرب ألذ عنده من الشرب، فقوله: ألذ: مبتدأ، وخبره: معاطاة — في البيت الثاني — ومثل هذا يسميه العلماء: التضمين، وهو عيب عندهم، ومثله قول القائل:
لَسَلُّ السُّيُوفِ وَشَتَّى الصُّفُوفِ
وَخَوْضِ الْحُتُوفِ وَضَرْبِ الْقُلَلْ
أَلَذُّ إِلَيْهِ مِنَ الْمُسْمِعَاتِ
وَشُرْبِ الْمُدَامَةِ فِي يَوْمِ طَلْ
(١٩) الوغى: الحرب. والأرب: الحاجة، يقول: إذا قتلت في الوغى — الحرب — فذلك هو حياتي؛ لأن حقيقة الحياة ما يكون فيما تشتهيه النفس، وأنا أشتهي أن أموت محاربًا، وإذا أدركت ما أشتهي فكأني حييت.
(٢٠) يقول: لو رغبت في شرب الخمر لشربتها من يدي أبي ضبيس؛ لأني أسر بمنادمته.
(٢١) هذي: أي يا هذه، ناداها وحذف حرف النداء ضرورة، وقال المعري: هذه موضوعة موضع المصدر وإشارة إلى البرزة الواحدة، كأنه يقول: هذه البرزة برزت لنا كأنه يستحسن تلك البرزة الواحدة، وأنشد:
يَا إِبِلِي إِمَّا سَلِمْتِ هَذِي
فَاسْتَوْسِقِي لِصَارِمٍ هَذَّاذِ
أَوْ طَارِقٍ فِي الدَّجْنِ وَالرَّذَاذِ
يريد هذه الكرة. والرسيس في الأصل: مس الحمى وأولها، وهو ما يتولد عنها من الضعف. والمراد هنا: ما رس في القلب من الهوى؛ أي ثبت، قال ذو الرمة:
إِذَا غَيَّرَ النَّأْيُ الْمُحِبِّينَ لَمْ يَكَدْ
رَسِيسُ الْهَوَى مِنْ ذِكْرِ مَيَّةَ يَبْرَحُ
والنسيس: بقية النفس بعد المرض والهزال. يقول: برزت لنا فحركت ما كان في قلبنا من هواك، ثم انصرفت عنا مودعة وما شفيت ما أبقى عليه الهوى من نفوسنا بالوصال.
(٢٢) يقول: حلت بيني وبينك كما حلت بيني وبين النوم، فحظي منك ومن وصالك كحظي من النوم، يعني لا حظ لي من الوصال ولا من النوم، فهو ساهر طول الليل يراعي الفرقدين، وهما نجمان لا يفترقان، يضرب بهما المثل في الاجتماع.
(٢٣) ذياك: تصغير ذاك؛ والخمار: بقية السكر، يقول: كنا مع قربك في شبه الخمار لما كنا نقاسي من بخلك بالوصل، فجاء ما طم على الخمار بإسكارك إيانا بفراقك، يعني: بلينا من فراقك بأشد مما كنا نقاسيه من منعك مع قربك، فشبه بخلها في قربها بالخمار وفراقها بالسكر، والخمار إذا قيس بالسكر صغر.
(٢٤) الظعن: الارتحال. والمدامع: مجاري الدموع من العين، والمراد: الدموع. والمزاد: جمع المزادة؛ القربة. والعيس: الإبل. يقول: إن كنت مرتحلة فإني أكثر عليك من البكاء حتى إن دموعي تملأ ما معكم من أوعية الماء، وتروي إبلكم فتكتفون بها عن نشدان الماء.
(٢٥) حاشا: كلمة تنزيه، تعرب إعراب المصادر المحذوفة العامل؛ ولا تنون لأنها منقولة عن الحرف. وقد وفينا القول عليها فيما أسلفنا من هذا الشرح. و«أن تكون» في موضع جر ﺑ «من» مضمرة. واسم تكون: يرجع إلى مثل، وهو يذكر ويؤنث بحسب ما يقع عليه. وعبس: قطب وجهه، والنَّيل: اسم لما ينال. والخسيس: القليل. يقول: مثلك في حسنه وكرم أصله لا ينبغي أن يبخل على من يحبه بالوصال، ومثل وجهك في توافر ملاحته لا ينبغي أن يكون عبوسًا للناظرين إليه، وبودي أن تجودي بوصلك وأن لا تمنعيه عنا. هذا، ولم يرد المتنبي ما قيل — في هذا البيت — أنه أراد أنها تكون مبذولة الوصال، وإنما يحسن الوصال ويطيب إذا كان ممنعًا، وإذا كان مبذولًا مل، وانحرفت النفس عنه، وما أحسن قول القائل:
مَا أَحْلَى الْهَوَى مَا لَمْ تَنَلْ فِيهِ الْمُنَى
وَالْحُبُّ أَعْدَلُ مَا يَكُونُ إِذَا اعْتَدَى
وَإِذَا اخْتَبَرْتَ رَأَيْتَ أَصْدَقَ عَاشِقٍ
مَنْ لَا يَمُدُّ إِلَى مُوَاصَلَةٍ يَدَا
وقد قال كثير:
وَإِنِّي لَأَسْمُو بِالْوِصَالِ إِلَى الَّتِي
يَكُونُ نَئِيًّا وَصْلُهَا وَازْدِيَارُهَا
أي: إنما أرغب في ذات القدر المصونة، لا المبذولة، وأنشد بعضهم قول الأعشى:
كَأَنَّ مِشْيَتِهَا مِنْ بَيْتِ جَارَتِهَا
مَشْيَ السَّحَابَةِ لَا رَيْثٌ وَلَا عَجَلُ
فقال: هذه خراجة ولاجة، هلا قال كما قال الآخر:
وَتَشْتَاقُهَا جَارَاتُهَا فَيَزُرْنَهَا
وَتَعْتَلُّ عَنْ إِتْيَانِهِنَّ فَتُعْذَرُ؟
قال ابن فورجه: هذا اعتراض على المتنبي بوصفه حبيبته بأنها مبذولة الوصال، ولم يتعرض لذلك بشيء، وإنما قال لها: حاشاك من هذا الوصف، وليس في اللفظ ما يدل على أنها مبذولة الوصل أو ممنعة، بل فيه أنه يريد أن يكون مبذولًا وصالها له، وأي محب لا يحب ذلك؟ وإن كان لا يراد منه أنه يتمنى بذل حبيبته فهو محال.
قال أبو الفتح: إنما أراد حاشا لك أن تمنعي وصلك بالنية إن لم يكن بالفعل، ألا ترى إلى قول القائل:
أُحِبُّ اللَّوَاتِي هُنَّ فِي رَوْنَقِ الصِّبَا
وَفِيهِنَّ عَنْ أَزْوَاجِهِنَّ طِمَاحُ
مُسِرَّاتُ وُدٍّ مُظْهِرَاتٌ لِضِدِّهِ
تَرَاهُنَّ كَالْمَرْضَى وَهُنَّ صِحَاحُ
أي: هن يظهرن خلاف ما يكتمن. قال الخطيب: أما هذا الشاعر فقد أظهر ما يحب وبينه، وأنه يحب كل لعوب طامحة عن زوجها. وهذا مذهب بعض المحبين. وأما قول المتنبي فهو مباين لهذا بقوله: أن يكون ممنعًا، فهو هجر صراح.
(٢٦) الخود بفتح الخاء: الشابة الناعمة، وجمعها: خود — بضمها — وارتفاع خود على أنها خبر مبتدأ محذوف. والوطيس: تنور من حديد، ويقال: حميَ الوطيس: أي اشتدت الحرب. يقول: لكثرة ما يلمنني — أي العواذل — في هواها، ويراجعنني ويغضبنني صار كأن بيني وبينهن حربًا من جرائها، ثم قال: وقد تركت فؤادي مثل الوطيس؛ أي ملتهبًا بما فيه من حرارة الوجد.
(٢٧) يقول: إنها بيضاء — نقية العرض — يمنعها دلالها أن تتكلم، ويمنعها حياؤها أن تميس — تتثنى — فقوله: تكلم، يريد أن تتكلم، فحذف وأعمل، وكذلك: تميس. ويروى بدل تكلم: التكلم. وإليك ما قال العكبري الكوفي: قوله: تكلم، أراد أن تتكلم، فحذف وأعمل، وكذلك أن تميسا؛ وهو كثير في أشعارهم، والبصريون لا يرون ذلك؛ وحجتنا قول الشاعر:
انْظُرَا قَبْلَ تَلُومَانِي إِلَى
طَلَلٍ بَيْنَ النَّقَا وَالْمُنْحَنَى
وقول طرفة:
أَلَا أَيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرَ الْوَغَى
وَأَنْ أَشْهَدَ اللَّذَّاتِ هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي
(من معلقة طرفة، وبعده:
فَإِنْ كُنْتَ لَاْ تَسْطِيعُ دَفْعَ مَنِيَّتِي
فَذَرْنِي أُبَادِرْهَا بِمَا مَلَكَتْ يَدِي
يقول في البيت الأول: يا من يلومني في حضور الحرب لئلا أقتل، وفي أن أنفق مالي لئلا أفتقر، ما أنت مخلدي إن قبلت منك، فدعني أنفق مالي في الفتوة ولا أخلفه لغيري. ثم قال في البيت التالي: إن كنت لا تقدر أن تدفع مودتي فذرني أسبق الموت بالتمتع بإنفاق مالي؛ يعني أن الموت لا بد منه فلا معنى للبخل وترك اللذات.)
وقراءة عبد الله: «لا تعبدوا إلا الله» فنصب بتقدير «أن» مع حذفها. وقول عامر بن الطفيل:
وَنَهْنَهْتُ نَفْسِي بَعْدَمَا كِدْتُ أَفْعَلُهُ
وقد ألزمناهم بقولهم: إنها تعمل مع الحذف من غير بدل في جواب الستة بالفاء مقدرة، وحجتهم أنها تنصب الفعل، وعوامل الأفعال ضعيفة، فلا تعمل مع الحذف من غير بدل؛ ولهذا بطل عملها في قوله تعالى: أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ وقال الشاعر:
أَنْ تَقْرَأانِ عَلَى أَسْمَاءَ وَيْحَكُمَا
مِنِّي السَّلَامَ وَأَنْ لَا تُشْعِرَا أَحَدَا
(قبله:
يَا صَاحِبِيَّ فَدَتْ نَفْسِي نُفُوسَكُمَا
وَحَيْثُمَا كُنْتُمَا لَاقَيْتُمَا رَشَدَا
أَنْ تَحْمِلَا حَاجَةً لِي خَفَّ مَحْمَلُهَا
وَتَصْنَعَا نِعْمَةً عِنْدِي بِهَا وَيَدَا
ولا يُعلم قائل هذه الأبيات. وقوله: فدت نفسي … إلخ جملة دعائية، وكذا قوله: لاقيتما … إلخ. والرشد محركًا: الاهتداء إلى الصواب. وقوله: أن تحملا: قيل: أن «إن» هذه شرطية حذف جوابها لدلالة ما قبله عليه، وقيل: أن مفتوحة مصدرية، وهي وما دخلت عليه منصوب بفعل مقدر. أي: أسألكما، وأن تقرأان: بدل منه. ومحملها: مصدر ميمي؛ أي حملها. وقوله: بها؛ أي بحملها. ويدا: عطف مرادف على النعمة، وويحكما معترض بين تقرأان وبين مفعوله، وهو السلام. وويح: كلمة ترحم.)
(٢٨) دواؤه عندها: هو الوصال، وصفات جالينوس — وهو الطبيب اليوناني المشهور — ما وصفه من الأدوية في تواليفه الطبية.
(٢٩) هذا اقتضاب؛ فقد انتقل من التشبيب إلى ما لا يمت إليه بسبب، وهو مذهب الجاهلية والمخضرمين. وزريق: أبو الممدوح، ومحمد: اسم الممدوح.
يقول: لما مات أبوه ورثه ولاية الثغور، وهو نفيس وابنه نفيس، وحفظ الثغور — مواضع المخافة من فروج البلاد — نفيس، فقد أبقى رجل نفيس لابن نفيس أمرًا نفيسًا، وهو حفظ الثغور وذب الأعداء عنها.
(٣٠) يقول: إن كان نازلًا في وطنه وهب أمواله حتى تفارق خزائنه، وإن سار للحرب فرق بين جسوم أعدائه وبين رءوسهم، يصفه بالكرم والشجاعة.
(٣١) تقدير البيت هكذا: إذا عاديت نفسك ورضيت أوحش ما كرهت أنيسا فعاده، ولكنه حذف الفاء ضرورة. قال الواحدي: ولا يجوز أن يريد بعاده التقديم، كأنه قال: ملك عاده إذا عاديت نفسك؛ لأن ما بعد ملك من الجملة صفة له. وقوله: عاده، أمر والأمر لا يوصف به؛ لأن الوصف لا بد من أن يكون خبرًا يحتمل الصدق والكذب، والأمر والنهي والاستفهام لا تحتمل صدقًا ولا كذبًا. يقول المتنبي: إن عاديته فقد عاديت نفسك ورضيت أوحش الأشياء — وهو الموت — أنيسًا؛ أي إن من عاداه أتى عليه وقتله لقدرته.
(٣٢) نصب الخائض بفعل مضمر، كأنه قال: أردت، أو مدحت الخائض، ولك أن تجعله بدلًا من الهاء في «عاده». والغمرات: الشدائد. والشمرى بفتح الشين وكسرها: الجاد المشيح في أمره. والمطعن: الجيد الطعن. والدعيس: فعيل، من الدعس؛ وهو الطعن. يقول: هو الذي يخوض شدائد الحروب فلا يدافعه أحد للعجز عنه.
(٣٣) جمهرة الشيء وجمهوره: أكثره ومعظمه، ونصب جنبه: تشبيهًا بالظرف. أراد أنه بالإضافة إليه مسود ومرءوس، كما يقال: هذا حقير في جنب هذا. والمسود: من ساده غيره. يقول: بلوت جمهور الناس فلم أجد أحدًا إلا والممدوح فوقه في السيادة والرياسة؛ يعني هو رئيس على الناس، سيد لهم.
(٣٤) غاية الشيء: منتهاه، وحدُّه الذي لا يعدوه. والآية: العلامة، وأكثر ما تستعمل الآية في العلامة على قدرة الله سبحانه، كما قال أبو العتاهية:
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ
تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْوَاحِدُ
يقول: إن الله صوره بشرًا وجعله غاية للناس تنتهي إليها كمالاتهم بأسرها، وكان ذلك الخلق في آية من خوارق العادات تنتفي بها ظنون الناس فيه، فلا تقع على حقيقة كنهه، ويفسد قياسهم له بغيره؛ لأن الشيء إنما يقاس بمثله ولا مثل له. وقال ابن جني: أنت الذي صورك الله بشرًا ينفي الظنون حتى لا يتهم في حال ولا تسبق إليه ظنة … وليس هذا من ظن التهمة، وإنما هو من الظن الذي هو الوهم؛ أي إنه إنسان لا كالناس لما فيه من صفات ليست فيهم، وقد وقع للناس الشبهة والشك في أمره وأفسد مقايستهم عليه. وعبارة الواحدي: إن ظننته بحرًا أو بدرًا أو سيدًا أو شمسًا فليس على ما ظننت بل هو أفضل من ذلك، وفوق ما ظننته؛ أي إنه غاية في الدلالة على قدرة الله تعالى حين خلق صورته بشرًا آدميًّا، وفيه ما لا يوجد في غيره حين نفى ظنون الناس، فلا يدرك بالظن، وأفسد مقايستهم؛ لأن الشيء يقاس على مثله ونظيره، وهو لا نظير له فيقاس عليه. وفي معناه.
أَنْتَ الَّذِي لَوْ يُعَابُ فِي مَلَأٍ
مَا عِيبَ إِلَّا بِأَنَّهُ بَشَرُ
(٣٥) الضن: البخل بالشيء. والبرية: الخليقة. وقوله: منها؛ أي من بينها، وهو في موضع الحال من الضمير في «عليه». ويوسى: يحزن. تقول: أسيت عليه أسًى: حزنت عليه، وأصله يؤسى؛ فلين للقافية. يقول: إنه يضن به على الناس جميعًا لا بالناس عليه. أي: لو جعل هو فداء جميع الناس بأن يسلموا هم كلهم دونه لم يساووا قدره، ولو جعلوا كلهم فداءً له لم يبخل عليه بهم؛ لأنه أفضل منهم، ففيه منهم خلف ولا خلف منه في جميع الناس، وعليه يحزنون لو هلك لا على الناس كلهم. والمصراع الثاني كالتفسير للأول، وقال ابن جني: وجه الضن ها هنا أن يكون فيهم مثله حسدًا لهم عليه. قال الواحدي: وهذا محال باطل؛ لأنه إذا بخل به المتنبي على الناس فقد تمنى هلاكه، وأن يفقد من بين الناس حتى لا يكون فيهم.
(٣٦) حديث الإسكندر ودخوله في الظلمات معروف. يقول: لو استعمل ذو القرنين رأى الممدوح لأضاءت له تلك الظلمات؛ وهذا وما بعده من الغلو المذموم. ومثله قول الآخر:
لَوْ كَانَ فِي الظُّلُمَاتِ شَعْشَعَ كَأْسَهَا
مَا جَارَ ذُو الْقَرْنَيْنِ فِي الْظُّلُمَاتِ
وقول الآخر:
لَوْ أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ فِي ظُلُمَاتِهِ
وَرَآهُ يَضْحَكُ لَاسْتَضَاءَ بِثَغْرِهِ
(٣٧) عازر. رجل من بني إسرائيل، أحياه الله تعالى بدعاء سيدنا عيسى. يقول: لو كان قتل بسيفه في الحرب لأعجز عيسى إحياؤه.
(٣٨) الخميس: الجيش العظيم، يقول: إنه يقوم بنفسه مقام الجيش ويغني غناءه، وهو كما يقول ابن جني: ضد قولك: أن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. ولله أبو تمام حين يقول:
لَوْ لَمْ يَقُدْ جَحْفَلًا يَوْمَ الْوَغَى لَغَدَا
مِنْ نَفْسِهِ وَحْدَهَا فِي جَحْفَلٍ لَجِبِ
ويقول:
ثَبْتُ الْمُقَامِ يَرَى الْقَبِيلَةَ وَاحِدًا
وَيُرَى فَيَحْسَبُهُ الْقَبِيلُ قَبِيلَا
ويقول ابن الورمي:
فَرْدٌ وَحِيدٌ يَرَاهُ النَّاسُ كُلُّهُمُ
كَأَنَّهُ النَّاسُ طُرًّا وَهْوَ إِنْسَانُ
(٣٩) مواهبًا ونفوسًا: تمييزان، والمراد بالأنمل: الأصابع. والمنصل: السيف. قال الواحدي: لحظ الأنامل كناية عن الاستمطار، ولمس المنصل كناية عن الاستنصار. يقول: تعرضت لعطائه فسالت بالمواهب أنامله، وتعرضت لإعانته إياي فسال سيفه بنفوس أعدائي وأرواحهم؛ لأنه قتلهم. قال البحتري:
تَلْقَاهُ يَقْطُرُ حَيْفُهُ وَسِنَانُهُ
وَبَنَانُ رَاحَتِهِ نَدًى وَنَجِيعَا
«نجيعًا: دمًا.» ولدعبل.
وَعَلَى أَيْمَانِنَا يَجْرِي النَّدَى
وَعَلَى أَسْيَافِنَا تَجْرِي الْمُهَجْ
(٤٠) يقول: إذا أصابتنا شدة من الزمان لجأنا إليه فكفانا ذلك؛ أي نهرب إلى ظله وجواره من جور الزمان، وإذا ذكرنا اسمه هرب الشيطان؛ خوفًا ورعبًا منه. قال العكبري: ولأن اسم الممدوح محمد — وهو اسم المصطفى صلوات الله وسلامه عليه — والشيطان يطرد بذكر الله ورسوله.
(٤١) وصفه: مبتدأ، ودونك: الخبر. يقول: إن الذي أخبر عنك مادحًا مثنيًا قد صدق، ووصفه لك دون ما تستحقه، وهنا تم الكلام، ثم قال: من بالعراق يراك في طرسوس؛ أي لأن آثاره ظاهرة، وذكره شائع، فكأن من بالعراق يراه وهو بطرسوس. والمراد التعميم؛ أي إن آثاره قد عمت. وقال الواحدي: من بالعراق يراك في طرسوس؛ أي لميله إليك ومحبته إياك كأنه يراك، كما قال كُثير:
أُرِيدُ لِأَنْسَى ذِكْرَهَا فَكَأَنَّمَا
تَمَثَّلُ لِي لَيْلَى بِكُلِّ سَبِيلِ
وكما قال أبو نواس:
مَلِكٌ تَصَوَّرَ فِي الْقُلُوبِ مِثَالُهُ
فَكَأَنَّهُ لَمْ يَخْلُ مِنْهُ مَكَانُ
(٤٢) يشنا: أراد يشنأ من شنأت؛ أي أبغضت. والمقيل: القيلولة — النوم — وقت القائلة — الظهيرة. والتعريس: النزول في آخر الليل للراحة. والضمير في يشنأ ويكره: للذكر. يقول: إن طرسوس بلد أنت به مقيم وذكرك سائر في البلاد كلها ليلًا ونهارًا لا يتوقف ولا يطلب المقيل ولا التعريس. وهو من قول أبي تمام:
جَرَّرْتُ فِي مَدْحِيكَ حَبْلَ قَصَائِدٍ
جَالَتْ بِكَ الدُّنْيَا وَأَنْتَ مُقِيمُ
(٤٣) خدر الأسد وأخدر: غاب في أجمته ولزمها، ويقال: أخدر فلان في أهله؛ أي أقام فيهم. وأنشد الفراء:
كَأَنَّ تَحْتِيَ بَازِيًا رَكَاضًا
أَخْدَرَ خَمْسًا لَمْ يَذُقْ عَضَاضَا
(لم يذق عضاضًا: أي ما يعض عليه. يريد أن هذا البازي أقام في وكره خمس ليالٍ مع أيامهن لم يذق طعامًا، ثم خرج بعد ذلك يطلب الصيد، وهو قرم إلى اللحم شديد الطيران، فشبه ناقته به.)
وأسد خادر: مقيم في عرينه داخل في الخدر؛ أي الأجمة، وأسد مخدر أيضًا. قالت ليلى الأخيلية:
فَتًى كَانَ أَحْيَا مِنْ فَتَاةٍ حَيِيَّةٍ
وَأَشْجَعَ مِنْ لَيْثٍ بِخَفَّانَ خَادِرِ
(خفان: مأسدة).
وتخذت: بمعنى اتخذت. والعريس والعريسة: أجمة الأسد وعرينه؛ شبه الممدوح بالأسد فاستعار له هذه الأشياء. يقول: هذا البلد لك بمنزلة العرين للأسد تفارقه عند طلب الفريسة؛ أي العدو، وتأوي إليه بعد ذلك كما يأوي الأسد إلى عرينه، وفيه نظر إلى قول ابن الرومي:
هُوَ اللَّيْثُ طَوْرًا بِالْعِرَاقِ وَتَارَةً
لَهُ بَيْنَ آجَامِ الْقَنَا مُتَأَجَّمُ
(٤٤) تقول: نقدت الرجل الدراهم والدنانير؛ إذا أعطيته إياها فانتقدها: أي أخذها. هذا هو الأكثر في كلام العرب، وقد يستعملان في تمييز الجيد ونفي الزيف، يقال: نقد كلامه وانتقده، وكذلك في الدراهم والدنانير، وهو المراد هنا. شبه شعره الذي مدحه به بدر نثره عليه. والتدليس إخفاء العيب في السلعة. يقول: كثر المدلسون من الذين يبيعون الشعر، فاحذر تدليسهم عليك، وانتقد ما نثرت من در الشعر عليك لتعرف جيد الشعر من رديئه. وصدر البيت من قول أبي نواس:
نَثَرْتُ عَلَيْكَ الدُّرَّ يَا دُرَّ هَاشِمٍ
فَيَا مَنْ رَأَى دُرًّا عَلَى الدُّرِّ يُنْثَرُ
وعجزه ينظر إلى قول ابن الرومي:
أَوَّلُ مَا أَسْأَلُ مِنْ حَاجَةٍ
أَنْ يُقْرَأَ الشِّعْرُ إِلَى آخِرِهْ
ثُمَّ كَفَانِي بِالَّذِي تَرْتَئِي
فِي جَوْدَةِ الشِّعْرِ وَفِي شَاعِرِهْ
(٤٥) الضمير في حجبتها وجلوتها: للقصيدة، وإن لم يجر لها ذكر، وإنما ذكر الدر. وجلا العروس على بعلها: عرضها عليه سافرة فاجتلاها هو؛ أي نظر إليها كذلك. جعل قصيدته التي مدحه بها كالعروس. يقول: حجبتها عن أهل هذا البلد — أنطاكية — أي لم أمدحهم بها — يعرض ببعض الأكابر — ثم أظهرتها لك وعرضتها عليك كما تعرض العروس، وتجلى على الزوج فاجتليت منها عروسًا، وخصصتك بها دون غيرك. وعروسًا: حال من القصيدة، قال الواحدي: ويجوز أن يكون حالًا من الممدوح؛ لأن العروس يقع على الذكر والأنثى، وهذا إذا أراد: فاجتليتها؛ أي قدر ضميرًا. وإذا لم يقدر فهي مفعول لاجتليت.
(٤٦) الناووس والناءوس: مقبرة النصارى والمجوس، دخيل، ويطلق على حجر منقور تجعل فيه جثة الميت، وهذا مثل. يقول: خير الشعر ما يمدح به الملوك كالطيور النفيسة — مثل البزاة — تطير إلى قصور الملوك، وشر الشعر ما يمدح به اللئام والأراذل كالطيور التي تأوي إلى الخراب والمقابر؛ يعني: أنت خير الناس وكلامي خير الكلام فأنت أولى به، يعرض بالذين لم يمدحهم من أهل أنطاكية. هذا، ويقال: أويت منزلي وأويت إلى منزلي: أي عدت.
(٤٧) الحبيس: المحبوس، وهو الوقف الذي لا يباع ولا يوهب. يقول: لو كانت الدنيا ذات جود لأبقيت عليك وفدتك بمن فيها، أو لو كانت غازية مجاهدة في سبيل الله لجعلت نفسها وقفًا محبوسًا عليك، فكانت لا تغزو إلا لك وعنك وبأمرك. وإنما قال هذا؛ لأن الممدوح كان على الثغور في وجه الروم يجاهد في سبيل الله.
(٤٨) يقول: يقل له أن نقوم في خدمته ولو على الرءوس وأن نبذل في خدمته النفوس المكرمة. وتروى: المَكرُمات — بفتح الميم وضم الراء — أي: الأفعال الكريمة. ولله قول أبي تمام:
لَوْ يَقْدِرُونَ مَشَوْا عَلَى وَجَنَاتِهِمْ
وَجِبَاهِهِمْ فَضْلًا عَنِ الْأَقْدَامِ
(٤٩) الضمير في خانته: للنفوس. والعبوس: الكريه. يقول: إذا خانته النفوس فلم تقم بحقه ولم تخدمه في السلم، فكيف تخدمه في الحرب؟
(٥٠) النوك: الحمق، والأنوك: الأحمق. وعرسه: زوجته، يريد بها الأَمة. ومن حكَّم: مبتدأ، خبره: ما قبله. يقول: الذي يجعل العبد حاكمًا على نفسه أحمق من العبد ومن عرس العبد؛ أي أمته. ولك أن تقول: من يكون في طاعة العبد أحمق من العبد ومن المرأة. فقوله: من عرسه؛ أي من عرس نفسه، يعني المرأة. وهذا عتاب يعاتب به نفسه حين قصد الأسود فاحتاج إلى أن يطيعه.
(٥١) يقول: إن من حكم العبد على نفسه يدل تحكيمه هذا على سوء اختياره، وسوء الاختيار يدل على تحكم الفساد في الحس. والحس، أو الحس المشترك أو الحس الباطن — وهو الذي أطلق عليه بعض متأدبي عصرنا «العقل الباطن» خطأً — هو، كما جاء في «تعريفات» السيد الجرجاني: القوة التي ترتسم فيها صور الجزئيات المحسوسة، فالحواس الخمس الظاهرة كالجواسيس لها، فتطلع عليها النفس من ثمة فتدركها. قال: ومحله مقدم التجويف الأول من الدماغ كأنها عين تتشعب من خمسة أنهار. وقد عرفه أحد فلاسفة الفرنجة — كلود برنار — قال: هو جملة التغيرات الحاصلة في الجسم الحي بواسطة المهيجات، أو هو تكيف في التأثير لكيفية في المؤثر، ويسميه أهل اللغة: الإدراك.
(٥٢) أي: الذي يرى أنك في وعده يحسن إليك، والذي يرى أنك في حبسه يسيء إليك، يريد أنه مرهون في مواعيد كافور ولكن كافورًا يعامله معاملة المحبوس عنده؛ فلا هو يفيه ما وعده، ولا هو يؤيسه فيجعل حبله على غاربه فيرتحل. وقال الخطيب التبريزي: إنما أراد أن العبد جاهل بحق مثله، فهو يرى أنه في حبسه، فليس له منه مخلص فما يبالي به، والحر الكريم يرى أنك في وعده فهو يضمر الإنجاز فيما وعد.
(٥٣) يقول: إن همة العبد مقصورة على فرجه وبطنه فلا فضل فيها عن هذين لمكرمة وبر وإحسان. يصفه بقصر الهمة عن المعالي.
(٥٤) الضمير في يومه: للميعاد، وفي أمسه: لكافور. يقول: لا ينجز الميعاد في يومه الذي وعد أن ينجزه فيه ولا يحفظ ما قاله بالأمس؛ يعني أنه لغفلته وسوء فطنته ينسى ما يقوله.
(٥٥) القلس: حبل للسفينة ضخم تجذب به. يقول: إن كافورًا لا يأتي مكرمة بطبعه، بل تحتال فتجذبه كما يجذب الملاح — البحار — السفينة لتجري؛ يعني أنه يجر إلى فعل الخير بقوة وصعوبة كما تجر السفينة من الانحدار إلى الإصعاد، وهو لا يتفق وشنشنتها؛ لأنها تطلب جريان الماء لتنحدر معه سريعة؛ وإذا جذبت إلى الإصعاد أتعبت الجاذب لها. وكذا كافور قد تعود البخل واللؤم، فإذا جذب إلى فعل الخير صعب عليه؛ لأنه ضد عادته.
(٥٦) النخاس: الذي يبيع الدواب؛ لأنه ينخسها لتنشط، ويطلق على بائع الرقيق. ورجاه ورجاه — بالتشديد — وترجاه: بمعنًى. وفي رأسه: أي على رأسه. ومثله قوله تعالى: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ. يقول: لا تأمل الخير من عبد قد رأى الهوان والذلة وسيق للبيع كما تساق الدواب.
(٥٧) عراك: اعتراك وغشيك وألم بك. يقول: إن شككت في حاله بالنظر إلى نفسه ولم تعرفه، فقسه بغيره من العبيد؛ فإنك لا ترى أحدًا منهم له مروءة وكرم. وبحاله، يروى: بحالة.
(٥٨) الغرس: جلدة رقيقة تخرج على رأس الولد عند الولادة. يقول: إن اللؤم طبيعة، طبع عليها اللئيم في غرسه، فمن كان لئيمًا في كبره، فإنما كان مولودًا على اللؤم.
(٥٩) القنس بفتح القاف وكسرها: الأصل، يقول: من ذهب عن قدر استحقاقه في الدنيا، فنال ملكًا أو ولاية أو غنًى وهو لا يستحق ذلك لم يذهب عن أصله في اللؤم؛ لأن الأشياء تعود إلى أصولها، والعرق نزاع، فمن كان لئيم الأصل فهو ينزع إلى ذلك اللؤم.
(٦٠) المعطس: الأنف. يقول: أنت أحب امرئ حبته النفوس، وهذا الند أطيب رائحة شمها الأنف. وحذف المبتدأ من الجملتين؛ لأن المخاطبة والحال دلتا عليه. هذا، والأكثر أن يقال: أحبه فهو مُحب وهو محبوب — على غير قياس — وقد قيل: محب — على القياس — وقال الأزهري: وقد جاء المحب شاذًّا في الشعر، قال عنترة:
وَلَقَدْ نَزَلْتِ فَلَا تَظُنِّي غَيْرَهُ
مِنِّي بِمَنْزِلَةِ الْمُحَبِّ الْمُكْرَمِ
(من معلقة عنترة. ونزلتِ: خطاب مع محبوبته عبلة. وقوله: فلا تظني غيره: جملة معترضة بين نزلت ومني، فإن مني: متعلقة بنزلت. يقول: ولقد نزلت من قلبي منزلة من يُحَب ويكرَم. ومفعول ظن الثاني: محذوف؛ أي فلا تظني غيره واقعًا، أي غير نزولك مني منزلة المحب.)
قال الفراء: وحببته: لغة، وقال غيره: وكره بعضهم حببته، وأنكر أن يكون هذا البيت لفصيح، وهو قول عيلال بن شجاع النهشلي:
أُحِبُّ أَبَا مَرْوَانَ مِنْ أَجْلِ تَمْرِهِ
وَأَعْلَمُ أَنَّ الْجَارَ بِالْجَارِ أَرْفَقُ
فَأُقْسِمُ لَوْلَا تَمْرُهُ مَا حَبَبْتُهُ
وَكَانَ عِيَاضٌ مِنْهُ أَدْنَى وَمُشْرِقُ
وحبه يحبه — بالكسر — فهو محبوب. قال الجوهري: وهذا شاذ؛ لأنه لا يأتي في المضاعف: يفعل — بالكسر — إلا ويشركه يفعل — بالضم — إذا كان متعديًا، ما خلا هذا الحرف. هذا، وروي: أحبَّ وأطيبَ: بالنصب على النداء.
(٦١) ونشر: عطف على خبر المبتدأ المحذوف، كأنه قال: وأطيب ما شمه الأنف هذا البخور ونشر من الند؛ أو: الواو زائدة — على حد قوله تعالى: حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا — والنشر: الرائحة. والمجامر: المباخر. يقول: إن هذا النشر من الند إلا أن مجامره الآس والنرجس، وليس بمعروف عنهما أن يخرج منهما الدخان.
(٦٢) الأقعس — ومنه العزة القعساء: الثابت، وقيل: العالي المرتفع الذي لا يوضع ظهره على الأرض، كالأقعس الذي لا ينال ظهره الأرض. يقول: لا نرى نارًا هيجت ريح هذا الند، فهل هاجه عزك الأقعس؟ فهذه زفرات نار حسده لعزك.
(٦٣) الفئام: الجماعات من الناس. ويروى: القيام؛ جمع قائم. قال بعض الشراح: وليس بجائز إلا إن قال: الذين حوله. يقول: ليس بدعًا أن يحسد الند عزك، فإن هؤلاء الطوائف الملتفين حولك لخدمتك تحسد رءوسهم أرجلهم؛ لأنها وقفت في خدمتك على الأرض، وكان بود الرءوس أن تكون هي الواقفة مكانها. وقال ابن جني: لأنها تباشر الأرض التي باشرها الممدوح لسعيها إليه، فهي كقوله أيضًا:
خَيْرُ أَعْضَائِنَا الرُّءُوسُ وَلَكِنْ
فَضَلَتْهَا بِقَصْدِكَ الْأَقْدَامُ

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤