الفصل الأول

أبو العباس السفاح

ربيع الأول ١٣٢ﻫ–ذو الحجة١٣٦ھ/٧٥٤م

أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وأمه ريطة بنت عبيد الله بن عبد الله بن المَدَا بن الحارثية.

ولد في الحميمة سنة ١٠٤ ونشأ بها، وكان على جانب عظيم من الدهاء والذكاء والفهم والعزم والحلم والحياء وحسن الأخلاق، وقال ابن الطقطقي: «كان كريمًا حليمًا عاقلًا، كثير الحياء حَسَنَ الأخلاق.» وقال ابن دحية: «كان السفاح كريمًا سخيًّا بالأموال، حسن الأخلاق، متألفًا للرجال، ماضيَ العزيمة، صعبَ الشكيمة، ذا سطوة على الأعداء، متواضعًا للأولياء والأصحاب، زاد في أعطيات الناس، وكان يأكل معهم الطعام.» وأكثر الذين تحدثوا عنه من المؤرخين وصفوه بحسن الأخلاق والحزم وقوة الشكيمة في القضاء على الثورات التي كان يقوم بها أنصار بني أمية، ولا سيما في الشام والجزيرة، وكانت حياته مليئة بحوادث الشدَّة والفتك، وخصوصًا مع بقايا بني أمية وأحلافهم.

قال أبو الفرج الأصفهاني في الأغاني: «كان أبو العباس السفاح جالسًا في مجلسه على سريره، وبنو هاشم دونه على الكراسي، وبنو أمية على الوسائد، وقد ثنيت لهم وكانوا في أيام دولتهم يجلسون هم والخلفاء منهم على السرير، ويجلس بنو هاشم على الكراسي، فدخل الحاجب فقال: يا أمير المؤمنين بالباب رجلٌ حجازي أسود راكبٌ على نجيب ملتثم يستأذن ولا يخبر باسمه، ويحلف ألَّا يحسر اللثام عن وجهه حتى يراك، قال: هذا مولاي سديف يدخل، فدخل فلما نظر إلى أبي العباس وبنو أمية حوله حسر اللثام عن وجهه وأنشأ يقول:

أصبح الملك ثابتَ الأساسِ
بالبهاليل من بني العباسِ
بالصدور المقدمين قديمًا
والرءوس القماقِم الرُّواسِ
يا أميرَ المُطهَّرين من الذَّ
مِّ ويا رأس منتهى كلِّ راسِ
أنت مَهديُّ هاشمٍ وهُداها
كم أُناسٍ رجوك بعد إيناسِ
لا تقيلنَّ عبدَ شمسٍ عثارًا
واقطعْن كل رقِلة وغِراسِ
أنزلوها بحيث أنزلها اللهُ
بدارِ الهوان والإتعاسِ
خوفُهم أظهر التودُّد منهم
وبهم منكُم كحزِّ المواسي
أقصهم أيها الخليفة واحسمْ
عنك بالسيف شأفة الأرجاسِ

فتغَّير لون أبي العباس وأصابه زَمع رعدة، فالتفت بعض ولد سليمان بن عبد الملك إلى رجل منهم، فقال: قتلنا واللهِ العبدُ، ثم أقبل أبو العباس عليهم وقال: يا بني الفواعل، أرى قتلاكم من أهلي قد سلفوا، وأنتم أحياء تتلذذون! خذوهم، فأخذتهم الخراسانية فأُهْمِدوا إلَّا ما كان من أمر عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز فإنه استجار بداود بن علي واستوهبه من السفاح.»

والحقُّ أن السفَّاح كان يريد أن يؤسس دولته، ولا يكون تأسيس الدول بالتسامح والرأفة، بل بالعنف والقوة، فقد كان هو حازمًا قويًّا، وكان يوصي عمَّاله أن يكونوا كذلك، وهكذا كانوا فُتَّاكًا أشداء وخصوصًا أبا مسلم وعمه عبد الله بن علي؛ فقد فتك هذا بأهل الشام فتكًا ذريعًا، ونبش قبور بني أمية ودرسها، وعمه سلمان بن علي فإنه قتل من أهل البصرة مقتلة عظيمة، وكذلك فعل عمه داود بن علي بأهل مكة والمدينة.

ونحبُّ هنا أن نناقش هذا اللقب الذي أُطلق على أبي العباس، وهو «السفاح» فهل صحيح أنه لقِّب بذلك لكثرة سفحه الدماء؟ وهل كان هذا اللقب معروفًا له في زمنه أو أنه حدث بعد ذلك؟

عرفنا أن أبا العباس قد قال في خطبه الأولى: «أنا السفاح المبير»، ولكنه لم يقل ذلك مُريدًا به سفح أو سفك الدماء، وإنما أراد وصف نفسه بأنه معطاء جواد، سيفرِّق الأموال في أهل طاعته، وهذا المعنى يؤيده أصل معنى الكلمة لغويًّا؛ فقد كان العرب في الجاهلية يصفون الكريم بأنه «سفَّاح للنوق» متلاف للأموال، ولم يذكر أحد من المؤرخين القدامى الموثوق بهم كالطبري واليعقوبي وابن قتيبة والجهشياري له هذا اللقب، وإنما نجده عند كاتب متأخر هو المسعودي، ثم تناقله المؤرخون فيما بعد عن المسعودي، حينما أخذوا يطلقون الألقاب على الخلفاء العباسيين خليفةً خليفةً، ولما لم يجدوا لأبي العباس لقبًا تلقب به إلا الكلمة التي أوردها في أول خطبة له، يقول ابن دحية (ص٤٢ من كتابه النبراس) في حديثه عن المنصور: «هو أول خليفة لقَّب نفسه وهو أبو الخلفاء.» فهذا النص يبين لنا أن الخلفاء العباسيين قبل أبي جعفر؛ أي في العصر النبوي والأموي لم يكونوا يتلقبون، وأن أول من صنع ذلك هو أبو جعفر، أما من ينبغي أن يُطلق عليه لقب «السفاح» حقيقة فهو عمه عبد الله بن علي؛ لأنه هو الذي فتك وسفك وسفح، حتى إنه وُصف بذلك منذ القديم، إذ يقول ابن قتيبة الدينوري في معرض الحديث عنه: «ذكروا أن أبا العباس ولَّى عمه عبد الله بن علي الذي يقال له سفاح الشام.» ويسميه اليعقوبي حين يعدد أولاد علي بن عبد الله بن العباس «عبد الله الأصغر وهو السفاح».

وفي عهد أبي العباس ابتدئ بتنظيم الدولة الجديدة، فتوطَّد الأمن في الأقاليم كافة، وأُخضِعَت البلاد للنظام الجديد، وقد عَهِدَ أبو العباس بذلك لولاته وأكثرهم من الأسرة العباسية أو من كِبار شيعتها، وإليك قائمة بأسماء هؤلاء الولاة وأقاليمهم:
  • أبو جعفر المنصور: كان أمير الجزيرة وأرمينية وأذربيجان.
  • داود بن علي: كان أميرًا على الحجاز واليمامة.
  • عبد الله بن علي: كان أميرًا على الشام.
  • سليمان بن علي: كان أميرًا على البصرة وتوابعها والبحرين وعمان.
  • إسماعيل بن علي: كان أميرًا على الأهواز.
  • أبو مسلم الخراساني: كان أميرًا على خراسان والمشرق.
  • أبو العون: كان أميرًا على مصر وشمال إفريقية.

أمَّا وزراؤه: فكان أولَهُم أبو سلمة الخلَّال، وهو وإن لم يكن وزيرًا بالمعنى المفهوم من الكلمة فإنما كان، كما رأينا، صاحب الدولة والمدير لها والمنفق عليها في ابتداء أمرها؛ لأنه كان من المياسير، ولما تمَّ الأمر لأبي العباس «استوزره» وفوض الأمور إليه، وسلَّم إليه الدواوين، ولقَّبه «بوزير آل محمد» كما يقول ابن الطقطقي، وكانت خاتمة أمره على الشكل الذي رأيناه فيما سبق، وقد اختلف المؤرخون فيمن وَلِيَ الوزارةَ بعد أبي سلمة، يقول ابن طباطبا الطقطقي: «اختلفوا فيمن وزر للسفاح بعده (أي بعد أبي سلمة) فقيل: أبو الجهم، وقيل: عبد الرحمن …» وأما الصولي فقال: «إن السفاح استوزر بعد أبي سلمة خالد بن برمك.»

والحق أن لفظة «الوزارة» لم يكن بعدُ قد استقرَّ معناها؛ لأنها أمر جديد لم تعرفه النظم الإسلامية في عهد بني أمية ولا في عهد الراشدين، وأول مرة نجد ذكر هذا المنصب بشكل رسمي في العهد العباسي حينما سمى الخراسانيون أبا سلمة «وزير آل محمد»، على أن الكلمة كانت معروفة من قبل، فقد وردت في القرآن الكريم عند قوله تعالى: وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي، ووردت في بعض الأحاديث النبوية الشريفة تصف أبا بكر الصديق بأنه كان وزير النبي كما وردت في بعض الأخبار تصف عمر بأنه كان وزيرًا أو كالوزير للصِّدِّيق، وفي العصر الأموي وجدنا بعض المؤرخين يطلقون لفظ «الوزير» على «الكاتب»، وربما وصَفوا عبد الحميد كاتب مروان بن محمد «بالوزارة»، ولكن هذا كله لم يكن يُقصد به — في رأينا — المعنى الاصطلاحي الذي عُرفت به هذه الكلمة في العصر العباسي، وإنما أُريد بها نوع من أمانة السر أو الاستشارة أو الكتابة أو ما شابه ذلك.

ويظهر أن الخراسانيين إنما أخذوا ذلك المنصب من تراتيبهم الإدارية الفارسية الساسانية التي كان فيها مثل هذا المنصب الوزاري، وكان اسم صاحب هذا المنصب عندهم «بزرك فرم داز» أو «بزرج فرمداز»، ومعناه «كبير عمال الدولة»؛ أي رئيس رؤسائها ووزير وزرائها.١
ويظهر أن أبا سلمة قد أعاد تقاليد الساسانية في منصبه الجديد، وكان إلى جانب ذلك كاتبًا بالعربية بليغًا وعالمًا فصيحًا، مطلعًا على الأخبار والأشعار والآداب الجاهلية والسير والجدل والتفسير، حاضر الحجة ذا يسار ومروءة، فاستطاع بهذه المزايا كلها أن يوطِّد منصب الوزارة وينظم أمورها كما يذكر ابن طباطبا والجهشياري، ويظهر أن النهاية التي صار إليها أبو سلمة قد جعلت من جاء بعده كخالد بن برمك وأبي الجهم يتحاشون عن التلقب بلقب «الوزارة»، وقال الجهشياري وابن طباطبا: «إن كل من استوزر بعد أبي سلمة كان يتجنب أن يُسمَّى وزيرًا نظرًا لما جرى لأبي سلمة.»٢

ومن الأمور التي تجب الإشارة إليها في عهد أبي العباس أمر «العاصمة»، فقد اتخذ «الكوفة» أول الأمر مستقرًّا له، ولكنه لم يكن مطمئنًا إلى نوايا أهلها، فأخذ يفتش عن مدينة أخرى يستقر فيها ويجعلها مقره ومسكن أنصاره وأصحابه، فاتخذ «الهاشمية» وهي إلى جوار الكوفة، ثم انتقل منها إلى «الحيرة»، ثم ذهب إلى «الأنبار» في سنة ١٣٤ھ، ويذكر ابن قتيبة أنه استطاب إقليم الأنبار فابتنى بها مدينة بأعلى المدينة عظيمة لنفسه وجموعه، وقسمها خططًا بين أصحابه من أهل الخراسان، وبنى لنفسه في وسطها قصرًا عاليًا، وأقام بتلك المدينة طول خلافته.

ولما استقرت له الأمور في عاصمته الجديدة وترتبت الأقاليم الإسلامية ونُظمت شئون الدولة رأى أن يعهد بالأمر من بعده لأخيه جعفر المنصور، فجعله ولي عهد المسلمين، ومن بعده يكون عيسى بن موسى بن محمد بن علي، وكتب بذلك عهدًا ختم عليه بخاتمه وخواتيم أهل بيته، ودفعه إلى عيسى بن موسى، ثم كانت وفاته بالأنبار بعلة الجُدري في ١٣ ذي الحجة سنة ١٣٦ھ/٧٥٤م، ودُفن بقصره فيها وهو في مطلع العقد الرابع من العمر.

١  انظر تاريخ الطبري، ١: ٨٦٩؛ وكتاب: L’lran sous les Sassanides. A. Christensen P. 109–112.
والنظم الإسلامية لعبد العزيز الدوري، ص٢١٠؛ وموجز الحضارة الإسلامية للدوري؛ وناجي معروف، ص٣٥؛ والجهشياري، ص٨٥.
٢  كتاب الوزراء للجهشياري، ص١٠٢؛ وتاريخ الفخري لابن الطقطقي، ص١٢٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤