الفصل الثاني
أبو جعفر المنصور
ذو الحجة ١٣٦ھ–١٥٨ھ/٧٥٤–٧٧٥م
أبو جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وأمه
أمُّ ولدٍ اسمها سلَّامة.
وُلد بالحميمة سنة ١٠١ھ وحفظ القرآن ووعى الحديث ورواه،
وأتقن الكتابة وبرع في الأدب، قال اليعقوبي وابن دحية: «وكان
حافظًا لكتاب الله العظيم متبعًا لآثار رسول الله، فقيهًا
محدثًا كاتبًا بليغًا.»
ولما انتقل أخوه أبو العباس من الحميمة إلى الكوفة كما رأينا
كان معه، فشدَّ عضده بالقيام بأعباء الملك وعمل على تدعيمه،
وتولى إمرة الجزيرة وأرمينية وأذربيجان، فوطَّد أركان الدولة
فيها على أحسن نظام، ثم بعثه أخوه أميرًا على الحج في السنة
التي تُوفي فيها، فمات السفاح سنة ١٣٦ھ والمنصور في الحجاز،
فأخذ له البيعة عيسى بن موسى وكتب إليه يُعلمه بوفاة أخيه،
يعزِّيه ويهنئه، فقفل أبو جعفر راجعًا، ولما دخل الأنبار بويع
البيعة العامة بالخلافة في ذي الحجة من تلك السنة.
تولى المنصور الخلافة ولم تكن دعائمها قد وُطدت تمامًا بعدُ،
وكان عليه أن يسدَّ ثلاث ثغرات: «أولاهن» الثغرة التي انفتحت
عليه بمنافسة عمه عبد الله بن علي إياه، فقد كان سيِّدًا
جليلًا مهابًا نَبِيهَ الذكر ذا نفوذ قوي في خراسان والشام
والجزيرة والموصل، وكان يطمع في الخلافة، و«ثانيهن» ثغرة أبي
مسلم الذي أخذ سلطانه يقوى
وصولته تَشْتَدُّ، و«ثالثتهن» الثغرة التي يكمن وراءها
الطامحون من آل علي (عليهم السلام) الذين لا تزال قلوب الناس
معهم، وكان على رأس العلويين محمد بن عبد الله بن الحسن
بن الحسين بن علي بن أبي طالب الملقب بذي النفس الزكية.
أما عمه عبد الله بن علي فكان يطمح في الخلافة بعد السفاح،
ويروي المسعودي في «مروج الذهب» أن أبا العباس السفاح قد جعل
ولاية العهد بعده لمن قتل مروان بن محمد وكان الأمير عبد الله
بن علي هو الذي قتله، وكان عبد الله حين مات السفاح أميرًا على
الشام، فلما بلغته وفاته وإعلان بيعة المنصور أعلن عصيانه وجمع
جنده ونادى بنفسه أميرًا للمؤمنين، فبايعه القادة على ذلك، وقد
راقت هذه الحركة للشاميين الذين ما زال حب بني أمية مشربًا في
قلوبهم، ويسرهم أن يروا الخلاف يدب بين صفوف العباسيين
وينقسموا على أنفسهم فتذهب ريحهم، ولما بلغت أخبار حركة عبد
الله مسامع المنصور جنَّد جيشًا كبيرًا بقيادة أبي مسلم وبعثه
إلى الشام، وهو يرجو أحد أمرين: إما أن يُقْتَل عبد الله وهو
المطلوب، أو يُقتل أبو مسلم فيتخلص المنصور منه؛ لأنه أخذ يضيق
ذرعًا به وبطموحه، كما سنرى تفصيل ذلك فيما بعد، قال أبو أيوب
المورياني وزير المنصور: «نحن لأبي مسلم أشد تهمة منَّا لعبد
الله بن علي إلا أنَّا نرجو واحدة.»
١ فكأن أبا مسلم قد شعر بالمؤامرة فأراد التخلُّص من
هذه المهمة، ولكن المنصور كان إذا عزم على أمر لم يتركه،
فاضطَرَّ أبا مسلم على السفر، ودامت الحرب بين عبد الله
وأبي مسلم قرابة نصف سنة، وانخذل عبد الله في آخر الآمر، وكانت
المعركة الفاصلة في يوم ٧ جمادى الآخرة سنة ١٣٧ھ، وهرب عبد
الله والتجأ إلى أخيه سليمان أمير البصرة، فأمَّنه على نفسه
وسعى لدى المنصور ليعفو عنه، فوافق على سجنه وظلَّ مسجونًا إلى
سنة ١٤٧ھ ومات في حبسه في تلك السنة.
وأمَّا أبو مسلم فقد تعاظم سلطانه بعد القضاء على فتنة عبد
الله، وبينما هو في طريقه إلى خراسان
٢ حيث كان أميرًا أخذت عيون المنصور تكتب إليه عن
تعاظم أبي مسلم وغروره بنفسه، وعزمه على الخلاف والاستهانة
بأوامر أمير المؤمنين والسخرية بكتبه، وقد أراد المنصور أن
يتحقق ذلك بنفسه، فبعث إليه أحد أخصَّائه الموثوق بهم ليحصي
عليه الغنائم، فغضب أبو مسلم، وقال للرسول:
«أؤتَمَنُ على الدماء ولا
أؤتمن على الأموال؟» وتهجم على الخليفة وأراد أن يقتل الرسول
لولا أن بعض أصحابه منعه من ذلك، فلما بلغت هذه الأمور إلى
المنصور كتب إليه وهو في الطريق قبل أن يصل إلى خراسان: «إنَّا
قد وليناك الشام ومصر، فهي خير لك من خراسان، فوجِّه إلى مصر
من أحببت وأقم بالشام، فتكون بقرب أمير المؤمنين.» فغضب
أبو مسلم وقال: «هو يوليني الشام ومصر، وخراسان لي؟» وظلَّ في
طريقه إلى خراسان غير آبه بكتاب الخليفة ولا بأمره، ورأى
المنصور أنه لم يبقَ إلا استعمال الدهاء للإيقاع به فتوجه إلى
المدائن، وكتب إلى أبي مسلم أن يصير إليه، فكتب إليه أبو مسلم
يقول: «إنه لم يبقَ لأمير المؤمنين، أكرمه الله، عدوًّا إلَّا
أمكنه الله منه، وقد كنَّا نروي عن ملوك آل ساسان أن أخوف ما
يكون الوزراء إذا سكنت الدهماء، فنحن نافرون من قربك حريصون
على الوفاء لك بعهدك ما وفيت، حريون بالسمع والطاعة غير أنها
من بعيد؛ حيث تقاربها السلامة، فإن أرضاك ذلك كنا كأحسن عبيدك
وإن أبيت إلَّا أن تعطي نفسك إرادتها نقضتُ ما أبرمت من عهدك
ضنًّا بنفسي.» فلما قرأه المنصور استشاط غضبًا وكتب إليه: «قد
فهمت كتابك، وليست صفتك صفة هؤلاء الوزراء الغَشَشَةِ
مُلوكَهُم، الذين يتمنون اضطراب حبل الدولة لكثرة جرائمهم،
فإنما راحتهم في انتثار نظار الجماعة، فلِمَ سوَّيت نفسك بهم؟
فأنت في طاعتك ومناصحتك واضطلاعك بما حملت من أعباء هذا الأمر
على ما أنت به، وليس مع الشريطة التي أوجبت منك سماع ولا طاعة،
وحمل إليك أمير المؤمنين عيسى بن موسى رسالته لتسكن إليها إن
أصغيت إليها، وأسألُ الله أن يحول بين الشيطان ونزغاته وبينك،
فإنه لم يجد بابًا يفسد به نيتك أَقرب وأوكد من طبه من الباب
الذي فتحه عليك.»
وقد أرسل كتابه هذا مع عيسى بن موسى وبعث جرير بن يزيد
البجلي، وأمره أن يكلم أبا مسلم بألين كلام وأن يمنِّيه، فإن
أبى فليهدده، فلما وصل عيسى إليه أخذ الرسالة وقرأها واستشار
خاصته فنهوه عن السفر إلى المنصور، فقال لجرير: ارجع إلى صاحبك
فلن آتيه، فقال له جرير: إن أمير المؤمنين أمرني أن أبلغك أنه
يقول لك: لستُ للعباس وأنا بريء من محمد إن مضيتَ مُشاقًّا ولم
تأتني إن وكلتُ أمرك لأحد سواي، وإن لم أَلُ طلبَك وقتالك
بنفسي، ولو خُضْتَ البحر لخضْتُه، ولو اقتحمْتَ النار
لاقتحمْتُها وراءك حتى أقتلك أو أموت قبل ذلك، فلما سمع أبو
مسلم هذا الكلام اضطرب، وكان أبو جعفر قد كتب إلى خليفة أَبي
مسلم على خراسان وهو أبو داود يولِّيه إيَّاها طول عمره على أن
يقطع صلته بأبي مسلم، فكتب أبو داود إلى أبي مسلم يقول: «إنَّا
لم نخرج لمعصية خلفاء الله وأهل بيت نبيه، فلا تخالفن إمامك
ولا ترجعن إلَّا بإذنه.»
٣ فلما أدرك أبو مسلم أنه مغلوب على أمره قصدَ
المدائن حيث أبو جعفر، ولما علم المنصور بتوجهه بعث إليه وجوه
بني هاشم وكبار القادة يتلقونه لئلا يجفل، فلما دخل عليه أبو
مسلم وسلَّم عليه فردَّ عليه السلام ورحَّب به وأوصاه بأن
يستريح يومه فإنه متعب، فلما كان من الغد أمر عثمان بن نُهيك
رئيس الشرطة أن يجيء بأربعة من رجاله ويخبئهم وراء السرادق، ثم
استدعاه وأخذ يسأله عن أشياء
٤ إلى أن يبلغ بهما الحديث إلى سبب قصده خراسان
مراغمًا، فقال أبو مسلم: دع هذا فما أصبحت أخاف أحدًا إلا
الله، فلما سمع المنصور كلماته هذه صفق عندئذٍ فخرج الشرطة
فقتلوه، ثم إن المنصور أراد أن يسكن جند أبي مسلم، فوزع عليهم
الهدايا والأموال والجوائز، فسكنوا إليها وألهتهم الهدايا عن
التفكير في مقتل صاحبهم، ووقف أبو جعفر فخطبهم قائلًا:
أيُّها الناس لا تخرجوا من أُنْسِ الطاعة إلى وحشة
المعصية، ولا تستروا غش الأئمة، فإن من غش إمامه أظهر
الله عزَّ وجلَّ سريرته في فلتات لسانه وسقطات لسانه،
وأبداها الله لإمامه الذي بادر بإعزاز دينه به وإعلاء
حقه بفلجه، إنَّا لم نبخسكم حقوقكم ولم نبخس الدين حقه
عليكم، إنَّه من نازعنا عروة هذا القميص أوطأناه ما في
هذا الغمد، وإن أبا مسلم بايعناه وبايع لنا على أنه من
نكث بيعتنا أباح لنا دمه، ثم نكث هو بنا فحكمنا عليه
لأنفسنا حكمه على غيره لنا، ولم تمنعنا رعاية الحق له
من إقامة الحق عليه …
٥
وهكذا تخلَّص أبو جعفر المنصور من الخطر الكامن وراء أبي
مسلم فقضى عليه، ولم يبقَ أمامه سوى العلويين الذين كان يخشاهم
ويخاف طموحهم، وخاصة منهم ذا النفس الزكية محمد بن عبد الله بن
الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وما إن
تخلَّص المنصور من أبي مسلم حتى أخذ يتسقط أخبار
محمد بن عبد الله ذي النفس الزكية، ولما حج في سنة ١٤٠ھ سأل
عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي عن ابنيه فأنكر أن يكون على
علم بأمرهما، فحبسه وصادره، ثم أخذ يجمع أبناء الحسن بن علي،
فأخذ منهم ثلاثة عشر رجلًا فحبسهم جميعًا، وقسا عليهم وساقهم
إلى العراق مقيدين بالأغلال وعذَّبهم حتى مات أكثرهم، فلما
بلغت أخبارهم محمد بن عبد الله ذا النفس الزكية ثار في الحجاز
وطرد أمير المدينة في رجب سنة ١٤٥ھ، وكتب إلى أخيه إبراهيم
بن محمد أن يثور هو أيضًا في اليوم نفسه بالبصرة ليفشل
أبو جعفر في جهتين مختلفتين، ولكن إبراهيم لم يتمكن من القيام
بحركته حينئذٍ، فوجه أبو جعفر قوته إلى الحجاز، وكان في ذلك
الحين مشغولًا ببناء «بغداد»، وكتب كتابًا إلى محمد ذي النفس
الزكية يقول له فيه: «إِنَّمَا جَزَاءُ
الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ
فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا
… ولك عهد الله وميثاقه وحق نبيه إن تبت من قبل أن
أقدر عليك أن أؤمنك على نفسك وولدك وإخوتك ومَن بايعك وتابعك
وجميع شيعتك، وأن أعطيك ألف ألف درهم وأن أنزلك من البلاد حيث
شئت، وأقضي لك ما شئت من الحاجات، وإن أُطلق مَن في سجني من
أهل بيتك وشيعتك وأنصارك، ثم لا أتبع أحدًا منكم بمكروه، فإن
شئت أن تتوثق بنفسك فوجه إليَّ مَن يأخذ لك من الميثاق والعهد
والأمان ما أحببت.»
فكتب إليه محمد ذو النفس الزكية كتابًا يقول فيه:
أما بعد: طسم *
تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ
مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ * إِنَّ فِرْعَوْنَ
عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا
يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ
أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ
كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ *
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ
أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ …
وأنا أعرض عليك من الأمان مثل الذي أعطيتني، وقد تعلم
أن الحق حقنا، وأنكم إنما طلبتموه بنا ونهضتم فيه
بشيعتنا، وخطبتموه بفضلنا، وأن أبانا عليًّا (عليه
السلام) كان الوصي والإمام، فكيف ورثتموه دوننا ونحن
أحياء، وقد علمت أنه ليس أحدٌ من بني هاشم يمتُّ بمثل
فضلنا ولا يفخر بمثل قديمنا وحديثنا ونسبنا … لم تلدني
العجم ولم تُعرق فيَّ أمهات الأولاد، ولك عهد الله إن
دخلت في بيعتي أن أؤمنك على نفسك وولدك وكل ما أحببته،
إلَّا حدًّا من حدود الله أو حقًّا لمسلم أو معاهَد،
فقد علمت ما يلزمك في ذلك، فأنا أوفى بالعهد منك وأحرى
بقبول الأمان، فأما أمانك الذي عرضت عليَّ، فأيُّ أمان
هو! أأمان ابن هبيرة، أم أمان عمك عبد الله بن علي أم
أمان أبي مسلم …
فكتب إليه أبو جعفر كتابًا يقول فيه:
بلغني كلامك فإذا جلَّ فخرك بالنساء لتُضِلَّ به
الجفاء والغوغاء، ولم يجعل الله النساء كالعمومة، ولا
الآباء كالعَصَبة والأولياء، وقد جعل العم أبا وبدأ به
على الوالد الأدنى، ولقد علمت أن الله تبارك وتعالى
بعث محمدًا
ﷺ وعمومته أربعة، فأجابه اثنان
أحدهما أبي، وكفر به اثنان أحدهما أبوك … وما كان محمد
أبا أحد من رجالكم ولكن رسولَ الله وخاتم النبيين
ولكنكم بنو ابنته، وإنها لقرابة قريبة غير أنها لا
تُجَوِّز الميراث ولا يجوز أن تؤم، فكيف تورث الإمامة
من قِبَلِها، وأفضى أمر جدك إلى الحسن فسلمه إلى
معاوية بخرق ودراهم، وأسلم في يديه شيعته، ثم خرج منكم
غير واحد فقتلكم بنو أمية وحرقوكم بالنار وصلبوكم على
جذوع النخل، حتى خرجنا عليهم فأدركنا بثأركم؛ إذ لم
تدركوه ورفعنا أقداركم …
ولما بعث المنصور كتابه هذا خاف أن يثور الخراسانية انتقامًا
لأبي مسلم الذي لم يمضِ على قتله إلَّا قليل، ونصرة لآل عليٍّ
الذين يحبونهم، أتبع كتابه بجيش لجب على رأسه عيسى بن موسى
فوصل المدينة في ١٢ رمضان سنة ١٤٥ھ، ودارت المعركة بين
الفريقين وظهرت من محمد ذي النفس الزكية ضروبٌ من الشجاعة،
ولكنَّه لم يلبث أن قُتل،
٦ فثار أخوه إبراهيم بن عبد الله في البصرة، ونصره
جمع كثير من الخراسانيين، وكان ذلك في أواخر رمضان سنة ١٤٥ھ،
وكاتَبَهُ أهل الكوفة يؤيدونه فقوي أمره وخاف المنصور مغبَّة
حركته، فكتب إلى عيسى بن موسى أن يغادر الحجاز لقتال إبراهيم،
وكان إبراهيم قد سيطر على الأهواز وفارس، وفتح واسطًا وسار نحو
الكوفة، فالتقى به جيش عيسى بن موسى عند «باخمري»، وهي على ستة
عشر فرسخًا من الكوفة، فهُزم إبراهيم وتفرق جنده في الرابع
والعشرين من ذي القعدة سنة ١٤٥ھ.
وبموت محمد وإبراهيم تخلَّص المنصور من خصمين قويين، وابتهج
بهذا الخلاص ابتهاجًا عظيمًا، فقد خطب خطبة في تلك المناسبة
أمام الشيعة الخراسانية جاء فيها: «يا أهل خراسان، أنتم شيعتنا
وأنصارنا وأهل دولتنا، ولم بايعتم غيرنا لم تبايعوا مَن هو خير
منَّا، وإن أهل بيتي هؤلاء مِنْ وَلَدِ علي بن أبي طالب
تركناهم، والذي لا إله إلَّا هو، والخلافة لم تعرض لهم فيها
بقليل ولا كثير، فقام عليٌّ وتلطخ وحكم عليه الحكمان فافترقت
عنه الأمة واختلفت عليه الكلمة، ثم قام من بعده الحسن، فوالله
ما كان فيها برجل، ثم عرضت عليه الأموال فقبلها، ثم قام من
بعده الحسين فخدعه أهل العراق وأهل الكوفة، ثم قام من بعده ثم
وثب علينا بنو أمية فأماتوا شرفنا … فصرنا تارة بالطائف وتارة
بالشام ومرة بالشراة حتى ابتعثكم الله لنا شيعة وأنصارًا،
فأحيا شرفنا وعزنا بكم، أهلَ خراسان، ودفع بحقكم أهل الباطل
وأظهر حقنا، فلما استقرت الأمور فينا وثبوا علينا ظلمًا وحسدًا
منهم لنا، وبغيًا لما فضَّلَنَا الله به عليهم، وأكرمنا من
خلافته وميراث نبيه؛ جهلًا علينا وجبنًا عن عدوهم … لَبِئْسَتِ
الخَلَّتَانِ الجهلُ والجبن.» ثم ما لبثت الأمور أن استقرت
للمنصور فانصرف إلى ترتيب شئون دولته وتوطيد أركان إمبراطوريته
إلى أن وافاه أجله وهو في طريق الحج في ٦ ذي الحجة سنة
١٥٨ھ.
(١) الإدارة في عهده
يعتبر المنصور المؤسس الحقيقي للدولة العباسية، فهو أبو
الأملاك العباسيين جميعًا، وهو الذي قضى على الفتن الكبرى
التي هددت قواعد المملكة، وأبعد عنها إجماع الطامعين، ثم
انصرف إلى إدارة شئونها فأحسن القيام بالأمر، وكان من
أجلِّ أعماله التي قام بها في ذلك تأسيس عاصمة جديدة
للدولة، وتنظيم دواوينها وإداراتها، وتنظيم جيشها
وعلاقاتها السياسية الخارجية، وتنظيمها المالي، وإليك
تفصيل ذلك في النقاط الآتية:
(١-١) بناء العاصمة الجديدة
رأينا أن «السفاح» قد تنقل بين ثلاث عواصم، فلما جاء
المنصور عزم على أن يبني لنفسه عاصمة جديدة تكون مقرَّ
ملكه ومسكن أنصاره ومعسكرًا لجيشه، فاختار موقع
«بغداد» لوقوعها على دجلة، ولتوسطها إقليم العراق،
ولسيطرتها على الطريق التجارية الهامة الموصلة بين
الشرق والغرب، ويروي بعض المؤرخين أن المنصور قال
لمَّا اختار هذا الموقع: «هذا موضع معسكر صالح، هذه
دجلة ليس بينها وبين الصين شيء، يأتينا فيها كل ما في
البحر، وتأتينا الميرة من الجزيرة وأرمينية وما حول
ذلك، وهذا الفرات يجيء فيه كل شيءٍ من الشام والرقَّة
وما حول ذلك.»
ويذكر المقدسي (في أحسن التقاسيم، ص١١٩) أن أهل
بغداد — وكان ثمَّةَ قريةٌ قديمة تُعرف بهذا الاسم
ترجع إلى العهد البابلي — قالوا للمنصور: «تنزل في
بغداد؛ فإنك تصير بين أربعة طساسيج؛ طسوجان في الجانب
الغربي، وطسوجان في الجانب الشرقي، فاللذان في الغربي
«قطربل» و«بادوربا»، واللذان في الشرقي «نهر بوط»
و«كلواذي»، فأنت تكون بين نخيل وقرب الماء، فإن أجدب
طسوج وتأخرت عمارته كان الآخر عامرًا، وأنت يا أمير
المؤمنين على الصراة تجيئك الميرة في السفن من الصين
والهند والبصرة، وواسط في دجلة، وتجيئك الميرة من
أرمينية وما اتصل بها حتى الزاب، وتجيئك الميرة من
الروم، آمد والجزيرة والموصل في دجلة، وأنت بين أنهارك
لا يصل إليك عدوك إلا على جسر أو قنطرة، فإذا أقطعت
الجسر وأخربت القناطر لم يَصِلْ إليك عدوك، وأنت بين
دجلة والفرات لا يجيئك أحدٌ من المشرق والمغرب إلَّا
احتاج إلى العبور وأنت متوسط للبصرة وواسط والكوفة
والموصل والسواد كله، وأنت قريب من البحر والبر والجبل …»
٧
فأعجبه ذلك ثم أمر بتخطيط المدينة، وأمر أن تكون
مدورة الشكل، وجعل لها سورين أحدهما داخل وهو سور
المدينة، وسُمْكُه في السماء ٣٥ ذراعًا، وعليه أبرجة
سمك، كل برج منها فوق السور خمسة أذرع، وعلى السور
شُرف، وعَرْضُ السور من أسفله نحو عشرين ذراعًا، ويليه
من الخارج فصيل بين السورين وعرضه ستون ذراعًا، ثم
السور الأول وهو سور الفصيل ودونه الخندق، للمدينة
أربعة أبواب متساوية البُعد تؤدي إلى طرق أربعة، فتبدأ
من مركز الدائرة، وتسير إلى أطراف الإمبراطورية
الأربعة فباب سماه «باب الكوفة»، وباب سماه «باب
البصرة» وباب سماه «باب خراسان» ورابع سماه «باب
الشام»، وفي قلب المدينة يقوم قصر الخليفة، وإلى جانبه
المسجد الجامع.
وكان الشروع في بناء المدينة الجديدة التي أطلق
عليها اسم «دار السلام»، في سنة ١٤٥ھ وضع الخليفة بيده
أول لبنة وقال: «بسم الله، والحمد لله، الأرض لله
يورثها مَن يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين، ثم قال:
ابنوا.» قال ابن الطقطقي: «وبلغ الخراج عليها أربعة
آلاف ألف وثمانمائة وثلاثين ألف درهم.»
٨ ودام البناء نحو خمس سنوات، واشتغل فيها
نحو مائة ألف عامل، وقد استحضر لها المنصور المهندسين
والبنَّائين والمزخرفين من الشام والموصل والروم
والجبل والكوفة وواسط والبصرة، واختار أربعة من أهل
الفضل والدين والعقل والهندسة للإشراف على العمل،
منهم: أبو حنيفة الإمام الأعظم، ويظهر أن المنصور قد
تأثر في تخطيط مدينته بالطريقة الفارسية في تحصين
المدن، وفصل أصناف السكان والابتعاد عنهم، وتصعيب
الوصول إلى الحاكم، وفي سنة ١٥٠ھ ابتنى المنصور مدينة
الرصافة لابنه المهدي، وعمل لها سوارًا وخندقًا
وبستانًا وأجرى الماء إليها.
وأخذت دار السلام تنمو وتتسع ويعظم شأنها حتى ورثت
مجد المدائن وبابل ونينوى وأور والحيرة، وسمت سموًّا
لم تبلغه مدينة من عواصم الشرق القديم، ولما تم بناؤها
حشر فيها المنصور العلماء والحكماء والفضلاء من كل فن،
فقصدها الناس من كل بلد، قال الخطيب البغدادي في
«تاريخ بغداد»: «لم يكن لبغداد في الدنيا نظير في
جلالة قدرها وفخامة أمرها وكثرة علمائها وأعلاقها؛
وتميُّز خواصها وعوامها، وعِظَم أقطارها، وسَعة
أطرارها، وكثرة دُورها ومنازلها وروابيها وشوارعها
ومحالِّها وأسواقها وسككها وأزِقَّتها ومساجدها
وحماماتها وطرقها وخاناتها، وطيب هوائها وعذوبة مائها
وبرد ظلالها وأفيائها، واعتدال صيفها وشتائها، وصحة
ربيعها وخريفها …»
والحق أَن بغداد بلغت شأنًا عظيمًا في فترة قصيرة،
وبخاصة في عهدَيِ الرشيد والمأمون، ولم يُعرف عن مدينة
في الشرق القديم بلغت ما بلغته بغداد سوى
القسطنطينية.
(١-٢) تنظيم الدواوين والإدارات العامة
أول ما يُحِسُّ به المرء من التنظيم في عهد المنصور
أن السلطان أصبح ذا تقاليد جديدة لم تكن معروفة من
قبل؛ فقد كان باب الخليفة قبلئذٍ في المدينة ودمشق
مفتوحًا لكل قاصد، ليس على بابه إلَّا حاجب يستأذن لكل
من أراد الدخول، أما قصر الخليفة في «دار السلام» فقد
صار ذا تقاليد وآداب، ولم يعد الوصول إلى الخليفة
بالشيء السهل، وأصبحت رؤية الخليفة أمرًا عسيرًا،
وأصبح الوزير يدير شئون النَّاس ويتصل بهم، ثم يرفع
إلى الخليفة نتائج أعماله، وكان من وراء الوزير أربعة
نفر؛ هم القاضي وصاحب الشرطة وصاحب الخراج وصاحب
البريد، ويروي الطبري قولةً لأبي جعفر يُظهر فيها
رغبته في العثور على أربعة يثق بهم ويعتمد عليهم
في تدبير أمور
الدولة، قال: «ما كان أحوجني إلى أن يكون على بابي
أربعة نفر لا يكون على بابي أعفُّ منهم … هم أركان
الملك، فقاضٍ لا تأخذه في الله لومة لائم، وصاحب شرطة
ينصف الضعيف من القوي، وصاحب خراج يستقصي ولا يظلم
الرعية، فإني عن ظلمها غني، والرابع صاحب بريد يكتب
بخبر هؤلاء على الصحة.»
٩ ويظهر من هذا القول أن الخليفة وإن كان قد
حجب نفسه عن الناس إلا أنه ظلَّ يراقب وزيره ومدبري
أمور دولته، بل ربما كان يغالي في مراقبته حتى لا يجعل
للوزير سلطانًا عليه أو استبدادًا بالناس، قال ابن
الطقطقي في معرض حديثه عن وزراء المنصور: «لم تكن
الوزارة في أيامه طائلة؛ لاستبداده واستغنائه برأيه
وكفايته، مع أنه كان يشاور في الأمور دائمًا، وإنما
كانت هيبته تصغر لها هيبة الوزراء، وكانوا لا يزالون
على وجلٍ منه وخوفٍ، فلا يظهر لهم أبهة ولا رونق.»
١٠
وأول من تولى له من الوزراء هو أبو أيوب سليمان بن
مخلد المورياني الأهوازي، وكان المنصور قد اشتراه
صغيرًا فثقفه وهذَّبه ودرَّبه، فلما تولى السفاح أُعجب
بثقافته وذكائه فاختص به، ثم أخذ أمره ينمو لِما كان
يتمتع به من ذكاء ودهاء وخبرة، حتى إذا تولى المنصور
الخلافة قلَّده وزارته، ولكنَّه لما رآه قد أُثري
ثراءً فاحشًا وأخذ يسيء السيرة غضب عليه وصادر أمواله
ثم قتله في سنة ١٥٣ھ، ثم ولَّى الربيع بن يونس أمور
وزارته وكان عاقلًا نبيلًا منفذًا للأمور مَهِيبًا
فصيحًا خبيرًا بالحساب وإدارة الأعمال،
١١ فظل في وزارته إلى أن هلك المنصور.
ومن الوظائف الكبرى التي تلي الوزارة:
- (أ)
الحِجابة: وقد كان «الحاجب»
موظفًا كبيرًا يتولى أَمر الدخول على
الخليفة، فلا يَمْثُل بين يديه أحد إلَّا
عن طريقه وبواسطته، والحجابة وظيفة قديمة
معروفة منذ العهد النبوي الشريف، فقد كان
للنبي وخلفائه الراشدين حجَّاب، ولكن لم
يصبح لهذه الوظيفة تقاليد إلَّا في العهد
الأموي، فإن معاوية قد اهتم بأمر الحجابة،
وجعل لها تقاليد وآدابًا، ثم توارث ذلك
مَنْ خَلَفَه، فزادوا في تلك التقاليد
ونظموها،
فقد
روي أن عبد الملك بن مروان قال لصاحب
حجابه: قد ولَّيتك حجابة بابي إلَّا عن
ثلاثة: «المؤذن للصلاة، وصاحب البريد،
وصاحب الطعام.»
- (ب)
الكتابة: وكان «الكاتب» هو
الذي يتولى أمور الكتابة عن الخلفاء إلى
الملوك والأمراء وغيرهم، وقد عُرفت هذه
الوظيفة منذ عهد النبي
ﷺ، ثم جاء
الراشدون فاستكتبوا، وربما تولَّى الخليفة
نفسُه أمر كتابة رسائله، ولكن لما اتسعت
رقعة الملك في عهد بني أمية وبني العباس
أصبح الكُتَّاب هم الذين يتولون ذلك،
وأصبحت لهم تقاليد وآداب فصِّلت أخبارها
في كتب تاريخ الآداب.
- (جـ)
الشرطة: وكان يتولى أمرها
قائدٌ كبير يختاره الخليفة للمحافظة على
الأمن وحفظ المدينة من الشُّطَّار وأهل
الفساد، والضرب على يد كل من تسوِّل له
نفسه القيام بجناية أو العبث والفساد
بالبلاد، وقد كانت هذه الوظيفة معروفة منذ
العهد النبوي كما بينَّا ذلك مفصَّلًا في
موضعه.
- (د)
القضاء: وقد كان «القاضي»
ينظر في قضايا الناس ومشاكلهم الدينية
والدنيوية فيقضي فيها بما أنزل الله، وكان
يُختار لهذا المنصب رجل موثوق أمين، فقد
كان أبو بكر وعمر وعلي (رضي الله عنهم)
يقضون في عهد الرسول، وكان بنو أميَّة
يختارون للقضاء أفاضل الصحابة أو
التابعين، ومن مشهوري قضاة المنصور الفقيه
الإمام محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى
(١٤٨ھ)، وكان من طبقة أبي حنيفة الإمام
الأعظم، وقد كان المنصور أراد أن يولي أبا
حنيفة القضاء فاعتذر إليه عن ذلك.
وقد اهتمَّ المنصور أيضًا بعماله في
الأقاليم، فاختار لها أفضل رجاله فهمًا
ونُبلًا، وأكثرهم ثقة وعدلًا، وكان أكثرهم
من أهل بيته، فإسماعيل بن علي ولَّاه
فارس، وسليمان بن علي ولَّاه البصرة،
وعيسى بن موسى ولَّاه الكوفة، وصالح بن
علي ولَّاه قنسرين والعواصم، والعباس بن
محمد ولَّاه الجزيرة، وجعفر بن سليمان
ولَّاه المدينة، ومن عماله يزيد بن حاتم
المهلبي أمير إفريقية، ومعن بن زائدة أمير
اليمن، وخازم بن خزيمة أمير أرمينية،
وهؤلاء كلهم من أكابر الرجال وفضلائهم،
وكان الخليفة يطلب من عمَّاله أن يبعثوا
إليه بتقارير مفصَّلة عن أحوالهم وعن شئون
بلادهم، وكان أصحاب البريد في كل إقليم هم
الذين يبعثون إليه بأخبار هؤلاء العمَّال
وكبار الموظفين الآخرين، كما يكتبون إليه
عن أسعار المواد الغذائية وأحوال بيت
المال وشئون التجارة والاقتصاد، وقد كان
في كل إقليم أيضًا موظفون آخرون من
الكتَّاب ورجال الشرطة والنواب والقضاة،
وعلى النمط الذي كان في العاصمة لدى
الخليفة.
(١-٣) تنظيم الجيش وقياداته
اهتم المنصور بالجيش وتنظيمه وتقويته اهتمامًا
كبيرًا؛ لأنه هو الذي يحمي حدود الدولة ويحفظ كيانها،
وقد كان الجيش في الدولة العباسية منقسمًا إلى فريقين:
- الفريق الأول: هو جيش الخراسانيين ومن إليهم من
الأعاجم.
- والفريق الثاني: هو جيش العرب، وقد كان الخليفة
يوازن بين الفريقين لئلَّا تقوى شوكة
أحدهما فيعيث في البلاد فسادًا، وكان كلما
أحسَّ من قائدٍ تعاظمًا سلَّط عليه من
يُذله، ومن مشهوري قادته هؤلاء أبو مسلم
الخراساني، ومَعْن بن زائدة الشيباني،
وعمرو بن العلاء، والمسيب بن زهير الضبي،
والحسن بن قحطبة الطائي، ويزيد بن حاتم،
وكان الخليفة يعرض جيوشه بين الحين والحين
ليتبيَّن أوضاع جنده ويُصلح ما قد يكون
فسد من أحوالهم، ويوجه إليهم نصائحه
وإرشاداته ويسألهم عن شئونهم، وقد روى
المؤرخون أنه في سنة ١٥٨ھ عرض الجيش عرضًا
فخمًا، تحدث عنه الطبريُّ وأطنب في وصفه
إطنابًا يدلُّنا على عناية المنصور بالجيش
وقادته وتنظيمه وتقويته.
(١-٤) علاقات الدولة الخارجية
كانت الإمبراطورية العربية مُتَاخِمَة للبيزنطيين،
وكان النزاع قائمًا بين الجانبين منذ أيام بني أمية،
وقد ورث العبَّاسيون هذه العداوة كما ورثوا تقليدًا
أمويًّا هو إرسال الجيوش كل صيف وشتاء لغزو بلاد
الروم، وكانت هذه الجيوش تُسمى «الصوائف» و«الشواتي»،
وكانت بلاد آسيا الصغرى هي مجال تلك الحروب، ولم تنقطع
الحروب بين الجانبين منذ عهد معاوية حتى هذا العهد
الأموي إلا في فترات قليلة، وقد جُدِّدت في عهد
المنصور هذه التقاليد بقوة؛ لأنه عزم بعد أن وطَّد
أمره على التوسُّع، وخصوصًا حين غزت جيوش الروم في سنة
١٣٨ھ «ملطية» وكانت من الثغور الإسلامية، فعملت فيها
تخريبًا وفي أهلها تقتيلًا، فبعث المنصور عمه صالح بن
علي وأخاه العباس بن محمد بن علي للانتقام للعرب
والمسلمين، فدارت المعارك سجالًا بين الجانبين.
ثم تعددت الحروب بين الروم والمسلمين في عهد المنصور
كله إلى أن تُوفي، ولكنَّها لم تكن من حيث الاستعداد
والقوة كما كانت أيام بني أميَّة؛ لأن نقل مقر الدولة
من دمشق إلى بغداد وبُعد العاصمة عن البحر الأبيض جعل
العباسيين يكتفون بإرسال هذه «الصوائف» و«الشواتي»
التقليدية إرسالًا تقليديًّا، واطمأن البيزنطيون إلى
أن الدولة الإسلامية الجديدة لم تعد تهدف إلى فتح
القسطنطينية كما كان الأمويون، كانت للبيزنطيين حملات
شديدة على الثغور الإسلامية كسميساط وسيس والمصيصة،
ولكن المنصور كان لهم بالمرصاد، وقد بنى على الفرات
مدينة الرافقة سنة ١٥٥ھ على طراز مدينة بغداد، ورتَّب
لها الجند من الخراسانيين والعرب؛ لتكون مركز تموين
الجيوش الإسلامية في غزواتها،
١٢ وكما اهتم المنصور بتحصين الحدود
البيزنطية اهتم كذلك بتحصين حدوده في الشمال والمشرق
وإفريقية، وبعث الجيوش إلى شمال إفريقية بقيادة يزيد
بن حاتم ففتح القيروان في سنة ١٥٥ھ، وأغزى العلاء بن
مغيث اليحصبي الباجي على أن يثور على عبد الرحمن في
الأندلس فثار في سنة ١٤٦ھ، ولكن عبد الرحمن فتك به فلم
يصل المنصور إلى طلبه.
(١-٥) التنظيم المالي
اشتهر المنصور بأنه ماليٌّ ومقتصد، وأنه كان يحاسب
على الدانق حتى سمِّي أبا الدوانيق، وقد قام بإصلاح
الخراج؛ فقد كان النظام المتبع في العراق منذ عهد عمر
بن الخطاب أن يأخذ الخراج نقدًا وعلى مقدار الأرض سواء
أزرعت أم لم تزرع، وقد رأى المنصور تبدُّل الأحوال
والظروف فوضع نظام المقاسمة مما تنبت الأرض بأن يأخذ
جزءًا من نتاجها ويترك الباقي لصاحبها.
وقد كان المنصور يتشدد في جمع الضرائب في أوقاتها
وفي أخذها نقودًا جيادًا صِحاحًا، كما كان يتشدد
العمال وأصحاب الخراج في مطالبتهم الأهلين بما تحت
أيديهم من موارد الدولة والفتك بمن تبلغه عنه خيانة أو
اختلاس، وقد خلَّف المنصور في بيت المال بعد وفاته
ستمائة ألف ألف درهم وأربعة عشر ألف ألف دينار، وهو
مبلغ جسيم جعل المهدي من بعد أبيه ينفق عن سعة في
تنظيم شئون الدولة العربية.
(١-٦) توجيه الدولة للقضاء على روح التمرد
والزندقة
كان ظهور دولة العباسيين باعثًا قويًّا على انتعاش
القومية الفارسية وما يتبعها من إحياء المجوسية
والآمال القومية الأخرى، وقد أمَّل الفرس كثيرًا في أن
يقلبوا الدولة العربية إلى فارسية، ولكن أملهم خاب ولم
تتحقق تلك الأمنية التي أرادوها بمثل تلك العجلة، وكان
من جرَّاء هذه الخيبة أن نشأت في إيران أيام هذه
الدولة فِرق تتستر بالدين والمبادئ الاجتماعية، وما هي
في الحقيقة إلَّا فِرق تريد هدم الإسلام والقضاء على
كيان العرب، وقد تعددت هذه الفِرق وتنوعت مبادئها
وأساليبها، ولكنَّها كلها كانت ذات هدفٍ واحد وهو دكُّ
صرح الإسلام وإعادة المجوسية وتقليص مجد العرب، وقد
أمَّل الفرس أن يجدوا في آل علي وآل العباس ذريعة إلى
هذا الهدف، ولكنهم فشلوا كما سنرى.
ويظهر أن أول حركة قامت تهدف إلى هذا الغرض هي حركة
«بهافريد» وهو متنبئ فارسي قام في عهد أبي العباس
بثورة عقلية عنيفة في نيسابور، زعم أنه جاء ليتمم
رسالة «زرادشت»، فاستجاب له خلق كثير، وبخاصة الذين هم
من أصلٍ مجوسي، وقد أدخل تعديلات على الزرادشتيَّة
منها ترك تحريم الخمور وأكل الميتة ونكاح الأمهات
والبنات والأخوات وبنات الأخ، ومنها فرض سبع صلوات في
اليوم إحداهن لتوحيد الله، مع أن الزرادشتية دين ثنوي،
ولم يكن يهدف «بهافريد» دينيًّا فحسب، بل مزج ذلك
بحركة إصلاح اجتماعية، كدعوته إلى تحديد المهور،
وإيجابه ألَّا تتجاوز «٤٠٠» درهم، ودعوته إلى طرح كثير
من العادات القبيحة كالسُّكْر والإفراط في الملذات وما
إلى ذلك، وقد تحمَّس لدعوته المجوس أول الأمر،
ولكنَّهم لما وجدوه قد بدَّل في طقوس الزرادشتية
كثيرًا اعتبروه مخالفًا، فاجتمع موابذتهم وهرابذتهم،
١٣ وتداولوا أمرهم بينهم فقرَّروا مقاومة
حركته، حتى ذهب فريق منهم إلى أبي مسلم الخراساني
فقالوا له: إن «بهافريد» قد أفسد دين الإسلام ودين
المجوس، فبعث من حمله إليه فقتله وقتل كبار رجال دعوته
وعددًا كبيرًا من أنصاره، وضعف شأن البهافريين بعده،
ويذكر ابن النديم أن البهافريدية كانت موجودة إلى
أيامه في القرن الرابع.
١٤
ومن تلك الحركات الهدامة «حركة الخرَّمية»، وهي
طائفة أرجعت مبادئ دينها إلى مذهب مزدك الإباحي،
واسمها مأخوذ من قولهم «خُرَّم دينان»؛ أي الدِّين
الفَرِح، مزجوا بعض تعاليم الإسلام بالمزدكية من تناسخ
واشتراكية في المال والنساء وحلول، فخرج من ذلك مزيج
غريب، ومن فروع هذه الفِرقة «الخداشية» والزرامية.
١٥
ومنها «الحركة الراوندية» وهي حركة ظهرت في راوند
بالقرب من أصبهان في عهد المنصور، وقد اتخذت مبدأ
تقديس الملوك ورفعهم إلى رتبة الآلهة مبدأً أساسيًّا،
وقالت: إن أبا جعفر المنصور هو إلهنا، وإن الألوهية
انتقلت إليه وحلَّت فيه، وإن روح الله كانت في عيسى
(عليه السلام) ما تزال تنقل منذ أن حلت في علي، حتى
حلَّت بإبراهيم بن محمد ووصلت إلى المنصور، فلما بلغ
المنصور ذلك القول عنهم ضيَّق عليهم ثم قتلهم.
١٦
ومنها «حركة المقنَّع الخراساني» وهي حركة تشبه
الراوندية، سمِّيت بذلك نسبة إلى صاحبها المقنع، واسمه
هاشم بن حكيم؛ لأنه اتخذ لوجهه قناعًا من ذهب أو من
حرير أخضر وادَّعى الألوهية، وأسقط الصوم والصلاة
والزكاة والحج عن أتباعه وأباح لهم أموال الآخرين
ونكاح نسائهم، ودعا إلى تعاليم «مَزْدك» الإباحية، وقد
فشا أمره أيام المهدي فشدَّد على جماعته وأبادها.
١٧
وهناك حركة سنباد المجوسي، وحركة أستاذ سير، وحركة
يوسف البرم، وإسحاق الترك وغيرها من الحركات الغريبة
كما سنبينه بعد.
ويجب أن نعلم أن لدعاية أبي مسلم للعباسيين ضلعًا
كبيرًا في خلق هذه الحركات العقائدية، فظهرت متسترة
قبل قتل أبي مسلم، ولكنَّها سفرت بعد مقتله؛
فالخرَّمية الذين عرفنا من أمرهم بعض الشيء اتخذوا أبا
مسلم بعد قتله زعيمًا لحركتهم وإمامًا (كما يقول
الفهرست لابن النديم، ص٤٨٣)، ويقول المستشرق براون:
«إن الثورات التي كانت في إيران، والتي قادها مُدَّعُو
النبوة من عهد سنباد المجوسي سنة ٧٥٤م وأستاذ سير سنة
٧٦٦م ويوسف البرم والمقنع سنة ٧٧٧م، وعلي مزدك سنة
٨٣٣م وبابك الخرمي سنة ٨١٦م، كانت على الأغلب مرتبطة
بذكرى أبي مسلم.»
١٨ ويقول المسعودي: «إنه لما نمى مقتل أبي
مسلم إلى خراسان وغيرها من الجبال اضطربت الخرميَّة،
وهي الطائفة التي تدعى بالمسلمية، وهم القائلون بأبي
مسلم وإمامته.»
١٩
أما «سنباد» الذي أشار إليه المستشرق «براون» فهو
متنبئ قام بعد قتل أبي مسلم معلنًا عن نهاية المُلك
العربي، وأنه سيهدم الكعبة، وقد عظم أمره حتى استولى
على الريِّ بعد مقتل أبي مسلم، وقبض على ما كان فيها
من خزائن أبي مسلم، ولولا حزم الخليفة أبي جعفر في
القضاء على حركته التي كانت تقوى بسرعة عجيبة
لَلَقِيَتِ الدولةُ الفتية منه بلاءً خطيرًا، وليست
حركة «إسحاق الترك» دون حركة «سنباد»، وإسحاق هو أحد
أعوان أبي مسلم، بعثه إلى بلاد الترك أميرًا، فلما
قُتل أبو مسلم ثار هناك، وزعم أن أبا مسلم لم يُقتل،
وأنه سيخرج في وقتٍ سمَّاه، ويظهر أن إسحاق قد جمع
حوله كل «المبيضين» وهم الذين ثاروا على الدولة لقتلها
أبا مسلم، وقام بحركته التي ما لبثت أن عمَّت بلاد ما
وراء النهر وإيران، ولولا أن أبا داود والي خراسان
استطاع أن يقبض عليه ويقتله لكان للحركة آثار خطيرة،
ولما قُتل اختفى المبيِّضة، ويقول ابن النديم: «إن
المبيِّضة ظلوا حتى القرن الثالث، وكان بعضهم يعيش في
بعض قرى بلخ.»
٢٠ وصفوة القول أن حركة التمرد ضدَّ الإسلام
قد قويت جدًّا في عهد المنصور، فعمل على القضاء عليها
وإنقاذ البيئة الإسلامية من فِتَنِها، وسنرى بعدُ أن
الخليفة المهدي هو الذي قام قومته في سبيل ذلك وقضى
على الزنادقة القضاء المبرم.
(١-٧) توجيه العلاقات الخارجية السياسية
لم يكتفِ المنصور بتنظيم أحواله الداخلية، بل اتجه
إلى الخارج فدرس أحواله دراسة متفحص، ووجد كما رأينا
في النقطة الرابعة أن خصومه الأقوياء هم البيزنطيون،
فوجه همَّته إلى تحصين حدوده من جهتهم، وأعاد بناء مدن
«مرعش» و«المصيصة» وحصَّن قلاعهما، ثم اتجه نحو ثغور
الجزيرة والدروب فقوَّاها، ويذكر البلاذري أن في
سنة ١٣٩ھ أمر المنصور بجمع الصنَّاع من كل بلد
للاشتغال بتحصين أعظم ثغور الدولة، وهو مدينة «ملطية»،
فتمَّ له ذلك في نصف سنة، وأنه بنى للجند الذين سكنوها
بيوتًا وقلاعًا، كما «بنى للجند … لكل عرافة — وهي
مكونة من عشرة جنود إلى خمسة عشر وعليها عريف — بيتين
سفليين وعليَّتين فوقهما وإسطبل … وأسكن «ملطية» أربعة
آلاف مقاتل من أهل الجزيرة؛ لأنها من ثغورهم، ووضع
فيها شِحنتها من السلاح وأقطع الجند المَزَارَع.»
٢١
ومما فعله المنصور أيضًا من أعمال تحصين حدوده نحو
البيزنطيين بناؤه «مدينة الرافقة» على الفرات سنة ١٥٥ھ
كما أشرنا إلى ذلك، وقد جعلها على نمط «مدينة بغداد»
ورتب فيها الأجناد الخراسانيين وقوَّى حصونها، وأكثر
فيها من السلاح والذخيرة والميرة؛ لتكون مقر حركاته في
حروبه مع الروم، ثم اتجه إلى حدوده المتاخمة لبلاد الخزر
٢٢ فقواها وبنى فيها القلاع، وجدد بناء مدينة
«كمخ» و«المحمدية» و«باب واق»، وأنزل فيها المقاتلة
وأقطعهم الأراضي وكثَّر أموالها وذخيرتها.
٢٣
ولما رأى أن شمال إفريقية بقعة تعجُّ فيها الثورات
والحركات على يد الخوارج والبرابر، بعث بيزيد بن حاتم
المهلبي سنة ١٥٤ھ في جيش كبير قوامه ٥٠ ألف مقاتل
فمهَّد البلاد ودخل القيروان، وحاول استعادة ملك
الأندلس ولكنه لم يفلح، ويقال إنه راسل ملك الفرنج
الميروفنجيين في سنة ٧٦٥م الملك ببن القصير وبعث إليه
وفدًا، فأجابه هذا بإرسال وفد مثله، وعَمِلَا على
توطيد العلاقات بينهما، ولكن معلوماتنا قليلة عن مدى
نجاح هذه الرحلة وما أنتجته.
٢٤
(١-٨) الاستعانة بالعلماء والفقهاء على تقوية كيان الدولة
الجديدة
استعان المنصور بالعلماء والفقهاء على تقوية أركان
دولته، وقد كانوا أيام بني أمية بعيدين عن دواوين
الدولة إلا قليلًا، منصرفين إلى بحوثهم ودراساتهم،
فلما جاء بنو العباس قربوهم وأفادوا منهم، ومن هؤلاء
الإمام الأعظم أبو حنيفة والإمام مالك والإمام ابن أبي
ليلى وغيرهم مما سنفصله فيما بعد.
(٢) خاتمة عهده
كان المنصور كما رأينا ملكًا قديرًا وحازمًا في الإدارة
والسياسة وتنظيم شئون المال، بعيدًا عن الإسراف موصوفًا
بالتقتير، ولكنه كان يجود حيث الجود محمود، قال المسعودي:
«وكان يعطي الجزيل والخطير ما كان عطاؤه حزمًا، ويمنع
الحقير اليسير ما كان عطاؤه تضييعًا.»
٢٥ وقد رأينا أنه لما مات وأحصوا ما في بيت المال
وجدوا فيه ستمائة ألف ألف درهم وأربعة عشر ألف ألف دينار،
وكان يقول: «من قلَّ ماله قلَّ رجاله، ومن قلَّ رجاله قوي
عليه عدوه، ومن قوي عليه عدوه اتَّضَع ملكه، ومن اتضع ملكه
استبيح حِمَاه.»
٢٦ وكان لا يسرف في عطاء الشعراء، كما كان يراقب
تصرفات أولاده المالية، وحركات عمَّاله الإدارية.
والحقُّ أن المنصور كان أعظم خلفاء العباسيين إدارة
وحكمة وعقلًا وبأسًا ويقظة، وكان يهتم بمراقبة العمَّال
بنفسه، والتنقيب عن أحوال الناس ودخائل أمورهم، ويُعنى
بالأمن وبمحافظة السبل ومنع الفاسد، قالوا: إنه إذا كان
استيقظ في اليوم ابتدأه بالصلاة وقراءة القرآن، ثم يخرج
إلى الإيوان فيطَّلع على رسائل الأقاليم وأحوالها إلى وقت
الظهر، فإذا صلَّى الظهر دخل قصره واستراح قليلًا، ثم رجع
إلى مطالعة رسائل عمَّاله والمكاتبة إليهم بما يجب عليهم
عمله إلى وقت العصر، فإذا صلَّى صلاته جلس لأهل بيته إلَّا
من أحب أن يسامره، فإذا صلَّى العشاء الآخرة نظر فيما ورد
إليه من كتب الثغور والأطراف والآفاق، ثم شاور سُمَّاره
فيما أراد من ذلك، فإذا مضى ثُلث الليل قام إلى فراشه
وانصرف سماره، فإذا مضى الثلث الثاني قام من فراشه فأسبغ
وضوءه ووقف في محرابه يصلي حتى مطلع الفجر، ثم يخرج للناس
… وهكذا دواليك.
وكما كان المنصور كان رجال بلاطه من أهل الدين والحزم
والخلق والجد.
وفي سنة ١٥٨ أراد أن يحج ويزور قبر النبي الكريم لكنه
توجَّع في الطريق قرب الكوفة، فلما صار إلى بئر ميمون اشتد
عليه الوجع فبقي هناك وأدركته المنية في فجر ليلة السبت
سادس ذي الحجة، ولم يحضره عند وفاته إلَّا حاجبه ووزيره
الربيع، فأوصاه بما أراد، وكتم الربيع ذلك حتى الصبح
فاستدعى مَن معه من أهل البيت وأخذ بيعتهم للمهدي، ثم
لعيسى بن موسى من بعده، ثم دعا بالقادة فبايعوه، واتفق رأي
أهل البيت على أن يتوجه العباس بن محمد بن علي ومحمد بن
سليمان بن علي إلى مكة لمبايعة المهدي وأخذ بيعة أهل
الحجاز، وهكذا كان، ودُفن المنصور في ثنية المعلاة، وكان
له من الولد ثمانية من الذكور وبنت، وأكبرهم محمد
المهدي.