الفصل الخامس

الرشيد بن المهدي

١٤ ربيع الأول ١٧٠ھ–١٣ جمادى الآخرة ١٩٣ھ/ ١٤ أيلول ٧٨٦م–٢٤ مارس ٨٠٨م

عصر الرشيد وابنه هو العصر الذهبي للدولة العباسية، ودرة عصر الازدهار العربي، كما أن اسم الرشيد قد أُحيط بهالة مشرقة من التفخيم والتقديس والمبالغة سببها «كتاب ألف ليلة وليلة» الذي نسج حول اسم هذا الخليفة هالة غريبة الألوان زاهية، كثيرة المبالغة في جدِّه وهزله وحربه وسلمه وظلمه وعدله، ولا شكَّ في أن لبعض نجوم الأدب والعلم والفن الذين نبغوا في عصره وكانت لهم صلة به آثار واضحة في نسج تلك الهالة كالإمام مالك بن أنس وسفيان بن عيينة والقاضي أبي يوسف وأبي نُوَاس وأبي العتاهية والبرامكة وغيرهم من الأعلام الذين نبغوا في دولته، فلا بدَّ لنا إذن من أن نقف قليلًا متعمقين لاستخلاص الحقائق وتنزيه سيرة هذا الرجل من الأباطيل.

(١) أوليته

وُلد أبو جعفر هارون بن محمد المهدي الذي لُقِّب بالرشيد بالله، في الريِّ من بلاد إيران سنة ١٤٥ھ لمَّا كان أبوه أميرًا عليها، وأمه وأم أخيه الهادي هي الخيزران كما ذكرنا، وقد شبَّ الرشيد كما يشب فتيان قريش رجولة وعزمًا وفضلًا وتطلعًا إلى معالي الأمور، فتفرَّس فيه أبوه الخير والفلاح منذ نعومة أظفاره، وعهد بتدريسه وتأديبه إلى جماعة من كبار علماء عصره.

ولما قَوِيَ عُودُه أخذ يدرِّبه على القيادة والسيادة، فجعله في سنة ١٦٣ھ أمير الصائفة، وعمره إذ ذاك لم يتجاوز الثامنة عشرة، فبرزت مواهبه الحربية في تلك الغزاة، ولما عاد منها منصورًا فرح به أبوه فرحًا عظيمًا وأحسن استقباله، ثم أعاد الكَرَّة فأرسله في سنة ١٦٥ھ على الصائفة ففاز وغنم، وكان فوزه في هذه المرة فوزًا باهرًا دلَّ على علو كعبه في الحرب وحسن إدارته وحزم قيادته، وهكذا توالت قياداته للحملات الصائفة والشاتية في بلاد الروم طول عهد أبيه، ثم إنه رأى أن يدرِّبه على الرياسة والإدارة فسماه أميرًا على المغرب كله من الأنبار إلى أطراف إفريقية، ولما لمع نجمه في قياداته وإداراته رأى أبوه أن ينقل ولاية العهد من أخيه الهادي إليه، ولكن موت المهدي حال دون تنفيذ تلك الفكرة.

بُويع الرشيد بعد موت أخيه الهادي في ١٤ ربيع الأول سنة ١٧٠ھ وعمره خمس وعشرون سنة، وكان طبيعيًّا جدًّا أن يعهد بأمور الدولة إلى صديقه القديم الشيخ العاقل الداهية الذي لعب دورًا خطيرًا في إيصاله إلى الحكم، ألا وهو يحيى بن خالد بن برمك، فاستوزره وكان قبل ذلك كاتبه وصاحب سره، فقام يحيى بمواهبه الواسعة ودهائه وذكائه بالأمر خير قيام.

يقول ابن طباطبا في «التاريخ الفخري» (ص١٧٣): «لما جلس الرشيد على سرير المملكة استوزر يحيى بن خالد، وكان كاتبه ووزيره قبل الخلافة، فنهض بأعباء الدولة أتمَّ النهوض، وسدَّ الثغور وتدارك الخلل، جبى الأموال وعمَّر الأرض وأظهر رونق الخلافة وتصدَّى لمهمات المملكة، وكان كاتبًا بليغًا أديبًا لبيبًا سديدًا صائب الآراء.» واستمر يحيى في توجيه الدولة وتسيير دَفَّتها منفردًا بذلك أو كالمنفرد؛ لأن الرشيد كان يحترمه ويجلُّه ويثق به ويعرف فضله عليه، حتى إنه كان لا يناديه إلا بيا أبي؛ لأن زوجة يحيى وأم ابنه الفضل كانت أرضعت هارون بلبن ابنها الفضل، وأرضعت الخيزران الفضل بلبان ابنها هارون، لهذا وثق الرشيد بيحيى فقلَّده وزارته وزارة تفويض، ثم ضمَّ إليه وزارة الخاتم بعد وفاة الفضل بن سليمان الطوسي، فاجتمعت له الوزارتان، وأعانه في العمل أبناؤه الأربعة: الفضل وجعفر ومحمد وموسى، وكانوا كلهم فضلاء عقلًا فأحسنوا تصريف الأمور إلى أن نُكبوا تلك النكبة التي سنتحدث عنها فيما بعد.

(٢) الأحوال الداخلية في عصره

كان عهد الرشيد من خير العهود، وصلت الخلافة العباسية فيه إلى درجاتٍ من الفخامة والجلال والقوة والمال والعلم لم تصل إليها دولة إسلامية أخرى، ولولا بعض الفتن والمشاكل السياسية التي مرت بعهده لكان عصرًا أمثل، ويظهر أن الرشيد كان أول أمره متسامحًا في إدارة شئون دولته متساهلًا مع عماله واثقًا بهم مطمئنًا إليهم، وكان إذا وثق بشخصٍ ولَّاه واطمأن إليه ولم يستمع فيه ما يقول القائلون كائنًا من كانوا، وسنرى أنه حين أراد تولية علي بن عيسى أمور خراسان خالفه وزيره يحيى بن خالد في ذلك لما يعرفه من شدة الرجل وقسوته، ولكن الرشيد لم يسمع قوله على الرغم من وثوقه بسداد رأيه، ولما بلغه عن قسوة علي بن عيسى ما بلغه من زيادة الضرائب وإرهاق الناس بدفع الخراج مضاعفًا لم يُغير رأيه فيه، واستمر على تأييده لما يعرف عنه من الإخلاص، وقد أنتجت هذه السياسة الهارونية الصلبة بعض الفتن التي شوَّهت عهد الرشيد الزاهر، وإليك بيانها:

(٢-١) ثورات العلويين والفتك بهم

كثرت ثورات العلويين في عهد العباسيين؛ لأنهم كانوا يأملون وخصوصًا في عهد الرشيد أن ينالوا ما حُرموا منه قبلًا، فقد لقوا عنتًا كثيرًا منذ عهد السفاح إلى عصر الرشيد، ويظهر أن الرشيد قد أراد في أول عهده تدارك ما فات، وإصلاح أخطاء آبائه، فرفع الحَجْر عن جماعة من العلويين كانوا محجوزين ببغداد، وسيَّرَهم إلى المدينة مكرمين إلا العباس بن الحسن بن عبد الله بن عبد الله، فإنه استبقاه، وأحسن إليهم وأغدق عليهم، ولكنَّهم ما لبثوا أن وصلوا إلى المدينة حتى عاودتهم فكرة الثورة، وأول مَن خرج عليه منهم هو يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن، وكان ممن نجوا في وقعة «فخ» ففرَّ إلى بلاد الديلم وأخذ يدعو لنفسه فكثرت أتباعه، وفي سنة ١٧٩ھ ثار ونادى بنفسه أميرًا على تلك البلاد، فغضب الرشيد منه ووجه إليه الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي لقتاله في خمسين ألفًا، ولما قرب من مقر يحيى كَاتَبَه واستماله ورغَّبه في الاستسلام، وأعلمه أن الرشيد لا يريد به سوءًا، فرد عليه يحيى أنه يقبل المصالحة على أن يكتب إليه الرشيد بنفسه أمانًا يكون بخطه، ويشهد عليه الفقهاء والقضاة وجلة بني هاشم، فلبى الرشيد طلبه، وكتب إليه العهد الذي أراد وبعث به إليه فأتاه وأحسن لقاءه.١

وممن ثار عليه منهم: إدريس بن عبد الله بن الحسن، وكان ممَّن نجوا أيضًا من وقعة «فخ» وهو أخو يحيى السابق، وذهب إلى مصر ثم إلى شمال إفريقية، ودخل المغرب الأقصى، ودعا لنفسه فالتفَّ الناس حوله وبايعوه في سنة ١٧٢ھ، وكان ذلك مبدأ ظهور دولة الأدارسة هناك، وقد أراد الرشيد الفتك به، ولكنه علم بقوته فلجأ إلى الحيلة ودسَّ إليه سليمان بن جرير فسمَّه في سنة ١٧٧ھ، ومنهم موسى بن جعفر الكاظم، فقد روى الطبري وابن الأثير أنه وُشِيَ به إليه أنه يريد الثورة، وأن الناس يحملون إليه خُمُس أموالهم، فخاف الرشيد من موسى الكاظم وعزم على أن يحج في ذلك العام ويحتال على الكاظم، فلما وصل المدينة استدعاه إليه وكلمه، رأى منه رجلًا داهية عاقلًا فخاف منه، ثم حمله معه في قبة إلى بغداد فحبسه في دار السندي بن شاهك، ثم قُتل أو سُمَّ، وأظهر للملأ أنه مات حتف أنفه، وشهدت عدول بذلك وطُويت صفحته ودُفن في مرقده المعروف اليوم بالكاظمية في بغداد.

(٢-٢) فتنة علي بن عيسى بن ماهان

ولَّى الرشيدُ عليَّ بن عيسى على خراسان، على الرغم من معارضة يحيى بن خالد في ذلك؛ لِمَا يعرفه من سوء أمر عليٍّ وفساد إدارته، ولما استقر عليٌّ في إمارته ضاق الناس بظلمه وأخذوا يشتكون إلى الخليفة، ولكن الأموال والألطاف التي كان يبعث بها إلى الخليفة كانت تجعله يغض النظر، ثم ضج الخراسانيون من عسف علي وكتبوا إلى الرشيد، فعزم على لقائه وسار إلى إيران سنة ١٨٩ھ، فلقيه علي بالري فبرأ نفسه من كل ما اتُّهِم به، ولما رجع الرشيد إلى العراق أخذ عليٌّ يفتك بالخراسانيين ويُضَيِّق عليهم، ثم جرت حوادث تأكد بها الرشيد من فساد طوية الرجل وسوء إرادته، فبعث إليه هرثمة بن أعين وأوصاه أن يتلطف في أمر القبض عليه، ولما وصل هرثمة مَرْوَ أحسن علي بن عيسى استقباله وأنزله في قصره، ولم يُظهر له هرثمة شيئًا أول الأمر، ثم أطلعه على كتاب من الرشيد بعزله وتوليته مكانه، فأُسْقِطَ في يده وأراد الهرب، فأمسك به هرثمة وقيَّده هو وأولاده، وخطب في الناس وأخبرهم بعزل علي وتوليته هو أمرهم، وأن أمير المؤمنين بعث به لينصفهم، فارتفعت أصواتهم بالتهليل والشكر، وما استقر هرثمة في مرو حتى بلغت أسماعه أنباء ثورة كبيرة قامت في خراسان بقيادة رافع بن الليث بن نصر بن سيار، فخرج إليه هرثمة بنفسه في سنة ١٩٣ھ، ولكن منيته أدركته بطوس فلم يستطع إتمام ما خرج من أجله، وأما علي بن عيسى وأولاده فإن هرثمة كان استصفى أموالهم وبعثهم في الأغلال إلى الرشيد، ففتك بهم شر فتكة.

(٢-٣) فتنة رافع بن الليث بن نصر بن سيار

اختلفت أقوال المؤرخين في سبب ثورة رافع على الرغم مما عُرف من أن آل رافع هم من موالي العباسيين وأنصارهم المخلصين؛ فالطبري يذكر أن السبب هو شخصي بحت، وهو أن رافعًا اتُّهِمَ بالزنا فأُقيم عليه الحد وثار، ويقول ابن قتيبة: إن علي بن عيسى لما ولي خراسان أساء السيرة وتحامل على مَن كان بها من العرب فخرج عليه رافع.٢

ومهما يكن السبب، فإن رافعًا استطاع أن يجمع جموعًا كبيرة من الخراسانيين والعرب ويستولي على سمرقند وبلخ وأشروسنة، ولا شكَّ في أن ظلم علي بن عيسى قد لعب دورًا كبيرًا في نجاح حركة رافع، ويذكر ابن واضح اليعقوبي أن أهل فرغانة والصغانيان وأشروسنة وبخارى وخوارزم كلهم التفوا حول رافع كرهًا للعباسيين وتخلُّصًا من ظلم علي بن عيسى، وقد اجتمعت لرافع أسباب أخرى غير هذه قوَّت مركزه؛ منها أن حكَّام بلاد الشاش وبلاد الترك قد رأوا في ثورة رافع على العباسيين إنقاذًا لهم من خطر الغزو العباسي، فأيَّدوه في حركته الانفصالية التي أخذت تقوى حتى صار سلطان رافع يعظم، ومات الرشيد والفتنة ما تزال قوية، وفي عهد المأمون استسلم رافع ورجعت البلاد التي كانت تحت سطوته إلى حوزة الدولة العباسية.

(٢-٤) فتنة الخوارج

كان الخوارج ساكنين مسالمين بعد الضربات القوية التي تلقوها أيام مروان بن محمد في آخر الدولة الأموية، وأيام أبي مسلم في صدر الدولة العباسية، ولكن يظهر بعد أن رأوا آثار ضعف في الدولة الجديدة أنهم استجمعوا قواهم خلال الفترة التي أعقبت زمن المهدي، ورأوا تساهل الرشيد في أول عهده وتسامحه فعزموا على تجديد نشاطهم، وفي سنة ١٧٨ھ خرج الوليد بن طريف أحد الخوارج الشراة في نصيبين من أرض الجزيرة، ففتك بعاملها وهزم الجيش العباسي، وأخذ سلطان طريف يتسع حتى بلغ أرمينية وأذربيجان، وأخذ يهدد العراق نفسه، فبعث الرشيد إليه جيشًا بقيادة يزيد بن مزيد الشيباني للقضاء على حركته، فالتقى جمعاهما وقتل يزيد وليدًا سنة ١٧٩ھ، فتولت ليلى بنت طريف أخته مكان أخيها وكانت عاقلة قوية، فاستطاع يزيد أن يتغلب عليها وتمكن من أن يقضي على هذه الفتنة.

(٢-٥) فتن الشام

كانت بلاد الشام في زمن قديم مسرحًا لفتن داخلية تشب نارها بين الحين والحين في عهد أمية بسبب الانقسامات القبلية بين العدنانية والقحطانية، ويظهر أن روح هذه الحركة أخذت تمد رأسها من جديد في العهد العباسي، وقد شجع العباسيون هذه الروح للتخلص من خصوم أقوياء كان هواهم مع بني أمية، ولكنهم أخذوا يحسون بعد أن عظم الخطر أن الأمر أجلُّ من أن يُسكت عنه؛ لأن الدماء أخذت تسيل بين الجانبين بكثرة، حتى بات أمن البلاد مهددًا، وأصبحت الطرق التجارية والمواصلات الاقتصادية مضطربة، فأخذت الدولة تُفكر في سبيل وضع حد لهذه الفوضى والفتنة، ومن تلك الفتن فتنة سنة ١٧٦ھ حين قام اليمانية ضد النزارية، واشتبكوا اشتباكًا قلقل راحة البلاد، وكان عامل الشام موسى بن عيسى فلم يستطع إخماد الفتنة وكتب إلى الخليفة، فأرسل الرشيد إليه موسى بن يحيى بن خالد البرمكي على رأس جيش ليُعيد الأمن إلى نصابه ويهدئ الثورة، وكان موسى حازمًا عاقلًا فاستطاع أن يعيد الهدوء ويُصلح بين الطرفين النزارية والقحطانية، وقد فصَّل الطبري في حوادث سنة ١٧٦ھ مواقع هذه الفتنة وأخبارها، ولم تمضِ فترة حتى نشبت الثورة من جديد بين الجانبين، فقضت عليها الدولة أيضًا، ثم تكررت ثالثة ورابعة إلى أن كانت سنة ١٨٠ھ ففيها وقعت حوادث جسام بين الجانبين، واضطر الرشيد إلى أن يبعث جعفر بن خالد البرمكي ليقضي على الثورة، كان جعفر بارعًا وموفَّقًا بالقضاء على تلك الثورة وإخماد نيران الحوادث الدامية فيها وإعادة الطمأنينة إلى البلاد، والحق أن روح العصبية القبيلة البدوية المَقِيتة التي كانت تسيطر على الجانبين كانت سبب معارك ومذابح لم تَزَلْ باقية حتى أيامنا هذه، ولا بأس من إيراد مقطوعة قالها منصور النمري يصف فيها الثورة التي وقعت بين الجانبين في سنة ١٨٠ھ، ويذكر جهود جعفر البرمكي في القضاء عليها:

لقد أُوقدتْ بالشام نِيرانُ فتنةٍ
فهذا أوانُ الشام تُخمدُ نارُها
إذا جاش موجُ البحرِ من آل برمكٍ
عليها خبت شُبانها وشرارُها
رَماها أميرُ المؤمنين بجعفرٍ
وفيه تَلَاقى صدعها وانجبارُها
… لقد نَشأتْ بالشامِ منك غمامةٌ
يؤمَّل جدواها ويُخشى دمارُها
فطوبى لأهل الشام يا ويل أهلها
أتاها حياها أو أتاها بَوارُها
فإن سالموا كانت غَمامة نائلٍ
وغيثٍ وإلَّا فالدماءُ قِطارها

(٢-٦) فتنة اليمن

قامت في اليمن فتنة قوية ضد الدولة العباسية في سنة ١٧٩ھ، فقد كان الوالي حمَّاد البربري شديد الجور عسوفًا، ضاق الناس به فثاروا عليه ودامت المعارك بينهم وبين حماد تسع سنوات، استطاع حماد في نهايتها أن يقبض على الهيثم بن عبد المجيد الهمذاني زعيم الثورة، ولكن الحالة لم تهدأ إلا بعزل حماد والسير بالسكان سيرة صالحة.٣

(٢-٧) فتنة إفريقية

في سنة ١٧٨ھ وثب في إفريقية عبدويه الأنباري فشق عصا الطاعة وأعلن عصيانه على الرشيد، وأخرج من كان بها من أهل المهلب بن أبي صفرة ودعا إليه شيوخ النواحي فقدموا إليه وخضعوا له، فكثرت جماعته حتى اضطر الرشيد أن يبعث إليه بقطن بن موسى ومنصور بن زياد، كما بعث يحيى بن خالد وزير الرشيد كتابًا إلى عبدويه يرغبه في الخضوع والانصياع لأمر الخليفة، ويطمعه في عفوه عنه إذا ما عاد إلى الطاعة، فعاد هذا إلى الطاعة ثم قدم بغداد فوفَّى له يحيى بما ضمن له عند الرشيد ووصله.٤

وصفوة القول أن الفتن كانت تعمُّ مملكة الرشيد في سِنِي ملكه الأولى، وما ذلك، فيما نرى، إلَّا لتساهله في إدارة الأمر وترك شئون الدولة للعمال يتصرفون بها كما يريدون، وقد ظلَّ ذلك إلى أن عزم الرشيد على أن يتولى إدارة ملكه بنفسه، فقضى على آل برمك وعلى أعوانهم بزمام الحُكم فصفا له الجو، وانتظمت شئون المملكة.

(٣) الأحوال الخارجية في عصره

(٣-١) المسلمون والروم

اهتمَّ الرشيد اهتمامًا كبيرًا بالثغور الإسلامية المتاخمة لبلاد البيزنطيين؛ لعنايته بنشر النفوذ الإسلامي من جهة، ولتقوية حدوده من جهة أخرى، ولذلك لم تكد تخلو سنة من سنوات حكمه الثلاث والعشرين من غزو صائفٍ أو شاتٍ يشنُّه على الروم البيزنطيين.

ويظهر على الرغم من عناية الرشيد بهذه الصوائف والشواتي، لم تكن له خطَّة مرسومة لفتح بلاد الروم والاستيلاء على أوروبا؛ لكثرة المشاكل الداخلية، ففي سنة ١٧٠ھ، وهي السنة الأولى من حكمه أمر بفصل الثغور الشامية عن الجزيرة وسمَّاها «العواصم» وجعلها منطقة عسكرية مستقلة قاعدتها «منبج» بعد أن كانت تابعة للجزيرة.

قال الطبري: «وفيها؛ أي سنة ١٧٠ھ، عزل الرشيد الثغور كلها عن الجزيرة وقنسرين وجعلها حيِّزًا واحدًا، وسميت «العواصم»، وفيها عمرت «طرطوس» على يد أبي سليم فرج الخادم التركي ونزلها الناس، ولا شكَّ في أن غرض الرشيد من بناء هذه المدينة وفي إيجاد منطقة العواصم هو إيجاد منطقة عسكرية خاصة تهتم بالحدود وتموِّن الصوائف والشواتي السنوية، وتكون على اتصال دائم بالحدود ومعرفة ما يبيته الروم للمسلمين.»

وقد كانت الصوائف سنوية فلا يكاد يقدم الصيف حتى تكون الصائفة في طريقها إلى الغزو والفتح، ولم يكتفِ الرشيد بالغزو البري، بل أعد أسطولًا بحريًّا لذلك، واتخذت سواحل الشام ومصر وقبرص مراكز لهذه العمارة البحرية، وإليك أخبارًا مجملة عن أهمِّ الصوائف والغزوات البحرية التي قام بها الجيش الإسلامي لغزو بلاد الروم في عهد الرشيد:

في سنة ١٧٤ھ/سنة ٧٩٠م سار الأسطول الإسلامي من مصر إلى قبرص، ومنها إلى السواحل البيزنطية في آسيا الصغرى، حيث قابلهم الأسطول البيزنطي، وكانت الغلبة للمسلمين، فأسروا أمير البحر البيزنطي.

وفي سنة ١٨١ھ/٧٩٧م في الشاتية غزا الروم عبد الملك بن صالح العباسي حتى بلغ أنقرة وافتتح «مطمورة» ومشيها أيضًا في الصائفة، وفي تلك السنة غزا الرشيد بنفسه أرض الروم فافتتح عَنْوَةً «حصن الصفصافة»، فتوجه للقائه قسطنطين السادس ابن الإمبراطورة إيرين غسطة التي يسميها العرب «ريني»، وفي تلك السنة أيضًا حصل أول فداء للأسرى بين الروم والمسلمين، يقول ابن الأثير: «وفيها (أي في سنة ١٨١ھ) كان الفداء بين الروم والمسلمين، وهو أول فداء كان أيام بني العباس وكان القاسم بن الرشيد هو المتوليَ له، وكان الفداء بالأمس على جانب البحر بينه وبين طرطوس ١٢ فرسخًا، وكان عدد الأسرى ٣٧٠٠ وقيل أكثر.»٥
وفي سنة ١٨٣ھ قَبِلَ الرشيد أن يعقد صلحًا بينه وبين الإمبراطورة ريني على أن تدفع الجزية، واستمر ذلك إلى سنة ١٨٧ھ حين تولى الإمبراطور نقفور عرش الروم، فنقض عهد الصلح وبعث الرشيد ابنه القاسم فحاصر حصن قَرَّة Cerum، وحاصرت إحدى فِرقه حصن سنان حتى جُهد، فبعث إليه الروم أنهم يبذلون له «٣٢٠» أسيرًا لقاء فكه الحصار ورحيله عنهم، فأجابه إلى ذلك، ومات علي بن عيسى بن موسى في هذه الغزاة بأرض الروم، ولما رجع القاسم كان نقفور قد رتَّب أموره الداخلية فعزم على أن يقف موقفًا جديدًا من المسلمين، وكتب كتابًا إلى الرشيد حفظ لنا الطبري نصَّه وفيه يقول: «من نقفور ملك الروم إلى هارون الرشيد ملك العرب، أما بعدُ؛ فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخِّ وأقامت نفسها مقام البيذق، فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقًا بحمل أمثالها إليها، ولكن ذلك ضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي فاردد ما حصل قِبَلَكَ من أموالها وافتدِ نفسك بما يقع به المصادرة لك، وإلَّا فالسيف بيننا وبينك»٦ (الطبري).

فلما قرأه الرشيد استفزه الغضب ودعا بدواة وكتب على ظهر الكتاب: «بسم الله الرحمن الرحيم من هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرأتُ كتابك يا بن الكافرة، والجواب ما تراه دون ما تسمعه والسلام.» ثم سار بنفسه لقتاله حتى أناخ بأبواب هرقلة، ففتح وغنم وحرق وضرب، فطلب نقفور الصلح والموادعة على خراج يُؤديه سنويًّا وجعل مقدار الجزية دينارًا واحدًا على كل حالم من الروم، وأن لا يبني نقفور الحصون المهدومة، فقبل الرشيد، ولما وصل إلى الرقة بلغه أن نقفور نقض العهد، وكان البرد شديدًا فلم يَثْنِهِ ذلك عن الرجوع والإيقاع بجند نقفور، وفي ذلك يقول أبو العتاهية:

إمامَ الهُدى أصبحتَ بالدينِ مَعْنيَّا
وأصبحت تسقي كل مستمطرٍ ريَّا
لك اسمان شُقَّا من رشادٍ ومن هدى
فأنت الذي تدعى رشيدًا ومَهْديَّا
بسطتَ لنا شرقًا وغربًا يد العُلا
فأوسعت شرقيًّا وأوسعت غربيَّا
تحلبت الدنيا لهارون بالرِّضا
فأصبح نقفورٌ لهارونَ ذميَّا
وفي سنة ١٨٩ھ كان الفداء بين المسلمين والروم، ويقول الطبري: «فلم يبق بأرض الروم مسلم إلَّا فودي فيما ذُكِرَ.»٧ وقال مروان بن أبي حفصة في ذلك:
وفُكَّت بك الأسرى التي شُيِّدت لها
محابس ما فيها حَميمٌ يزورها
على حين أعيا المسلمين فكاكُها
وقالوا سُجُونُ المُشركين قُبورها
وفي تلك السنة نقض نقفور العهد مستغلًّا اشتغال الخليفة بحوادث الفتن في خراسان، فأعاد بناء حصون «أنقرة» و«الصفصاف» و«كنيسة السوداء» و«دبسة»، وفتح «طرطوس» و«عين زربة»، ولكن حامية «المصيصة» استطاعت أن تسترجع الأسلاب والأسرى، وفي سنة ١٩٠ھ عزم الرشيد على تأديب نقفور لنقضه العهد، فتوجه إليه بجيش يذكر الطبري أنه كان من ١٣٥ ألف مرتزق سوى الأتباع والمطوعة ومن لا ديوان له، ففتح «هرقلة» وسبى أهلها بعد حصار شهر، ثم اتجه نحو «الطوانة» فعسكر بها وافتتح قواده حصون «دبسة» و«الصفصاف» و«ملقوبية» و«حصن الصقالبة» و«صملة» و«حصن ذي الكلاع»، وولَّى حميد بن معيوف سواحل البحر إلى حدود مصر، ووقع في يد المسلمين عدد كبير من الأسرى والرقيق، واضطر نقفور أن يعرض الصلح ويدفع الجزية عن رأسه، وولي عهده وبطارقته وسائر أهل بلده خمسين ألف دينار، على أن لا يخرِّب الرشيد حصن «ذي الكلاع» ولا «صملة» ولا حصن «سنان»، واشترط الرشيد أن لا تعمَّر هرقلة، وأن يدفع نقفور ٣٠٠ ألف دينار للمسلمين.٨

وفي السنة ١٩١ھ ولَّى الرشيد غزو الصائفة هرثمةَ بن أعين ومعه ثلاثون ألف من الخراسانيين وتوجه الرشيد بنفسه لوداع الحملة في درب الحدث، ثم قفل راجعًا إلى الرقة، وأمرهم بهدم الكنائس بالثغور، ولم تكن حملة المسلمين هذه السنة حملة ناجحة.

وفي سنة ١٩٣ھ وقع فداء بين المسلمين والروم بالبدندون Podandos، وذلك قبل وفاة الرشيد رحمه الله.

(٣-٢) المسلمون والفرنجة

تنفرد كتب التاريخ اللاتينية٩ بذكر إيفاد بعثة من الملك شارلمان إلى الرشيد، ولا نعرف السرَّ في إهمال المصادر العربية لهذا الحادث مع أنه ممكن الوقوع وجِدُّ معقولٍ، فإن تتويج شارلمان في روما وتأسيس الإمبراطورية الرومانية المقدَّسة في سنة ٨٠٠م كان يقضي أن يتصل الإمبراطور المقدَّس في المغرب بزميله في المشرق، ويتعرف إلى أحواله ويُرِي العالم المسيحي أنه ذو صلة بالمشرق وأميره، ولكن المصادر الشرقية من إسلامية وغير إسلامية لا تذكر شيئًا عن هذه الوفادة، ولعل الزمن يكشف لنا بعض الأخبار عنها، أما خلاصة ما ورد في المصادر الفرنجية اللاتينية فهي أن شارلمان أرسل وفدين إلى الرشيد؛ أحدهما كان سنة ٧٩٧م، والثاني في سنة ٨٠٢م، وأن الرشيد قابله بإرسال وفدين: أولهما في سنة ٨٠١م والثاني سنة ٨٠٧م.

وأما وفد شارلمان الأول فكان مكوَّنًا من ثلاثة أشخاص؛ اثنان من أعيان المسيحيين هما «لانت فريد» و«سجموند»، ومعهما مترجم يهودي اسمه إسحاق، وأن الوفد قد قضى في ديار الإسلام ثلاث سنوات، مات خلالهما الرسولان ورجع المترجم وحده في سنة ٨٠٢م، وفي سنة ٨٠١م ذهب الوفد الإسلامي إلى بلاط شارلمان، وكان مكونًا من شخصين أحدهما فارسي والثاني مغربي ممثل عن الأمير إبراهيم بن الأغلب، وفي سنة ٨٠٢م أرسل شارلمان وفده الثاني، وكان يحمل معه هبات لكنيسة القيامة في القدس، وأنهم بعدما زاروا الكنيسة قصدوا الرشيد، وعندما عرضوا على الخليفة مطالب شارلمان لبَّاها جميعًا، وكانت تنحصر في طلب الإشراف على الأماكن المقدسة المسيحية في ديار الإسلام وحماية النصارى فيها، ويرى البروفسور هالفن أن أقوال أينهارد المؤرخ اللاتيني غير معقولة؛ لأنه كثير المبالغة في تفخيم اسم إمبراطوره، وقد رجع هذا الوفد في سنة ٨٠٦م، ثم في سنة ٨٠٧م ووصل بلاط الإمبراطور شارلمان رسول عن الرشيد اسمه عبد الله، ومعه راهبان عن بطريق بيت المقدس توما، وكان مع رسول الخليفة هدايا نفيسة، وهو صوانٍ ملونة فاخرة وأقمشة حريرية زاهرة وعطور وطيوب، وساعة مائيَّة، وأوانٍ نحاسية مطعَّمة.

هذه هي خلاصة ما ورد في المصادر الإفرنجية عن تلك الوفادات، ويرى المؤرخون الأوروبيون أن شارلمان قصد من ورائها تأييد خليفة بغداد المعنوي في استرداد الأندلس، ورغبة شارلمان في تأييده بطارقة المشرق في أنطاكية والإسكندرية والقدس؛ ليقفوا معه ضد بطريق القسطنطينية الذي كان يعضد البيزنطيون خصوم شارلمان ومنافسيه على ميراث تاج الإمبراطورية الرومانية.

أما الرشيد فإنه قصد بوفاداته تقوية مركزه ضد أعدائه الأمويين في الأندلس، وبسط نفوذه عليهم، ومعاونته في القضاء على خصومه البيزنطيين، والقضاء على نفوذهم المعنوي عند نصارى الشام والجزيرة بتقوية صِلَاتهم بالعرب.

هذا ما ورد في المصادر الإفرنجية القديمة، وما تناقلته عنها المصادر الإفرنجية الحديثة، أما المصادر العربية القديمة فتهمل هذه القصة إهمالًا كليًّا، أما المصادر الحديثة فتشير بعضها إليها وقد ذكرها جماعة من المحدثين العرب، ومنهم الأستاذ جميل مدوَّر فقد ذكر في كتابه اللطيف «حضارة الإسلام في دار السلام» خلاصة الحديث الذي دار بين الرشيد ورسوله إلى شارلمان لقوله: «إنَّا أتانا من ملك الفرنجة رسولٌ يقرئنا منه السلام، ويلتمس جميل رعاياتنا بمن يحج إلى بيت المقدس من ملَّته، فرأينا أن نوجهك إليه بلطائف تروم إليه أن يتقبلها في سبيل المودة لغاية ترغب فيها إليه من التعصب على بني أمية الذين يمزِّقون الأندلس بما هو واقع بينهم من الحروب، فإذا وافقنا على ما نروم من الاستيلاء على ديارهم فهو المقصود من إيفادك إليه في هذه الرسالة، وتقدَّمْ إليه بالوعد الجميل بأننا نوفيه حقه في يوم الفتح، ونصرف له نفقة الحرب من بيت مالنا، ونجري الأرزاق الواسعة على جنده ونقاسمه ما تحوي خزائن الظالمين من المال والجوهر، واستصحب معك هذا اليهودي الذي جاء به رسوله … وكان في لطائف الخليفة الأنبرذور فيل عظيم أبيض كان عند المهدي، وأقمشة فاخرة من الوشي المنسوج بالذهب، وبُسُط ديباج من طبرستان، وأعطار من اليمن والحجاز، ومسك وصندل وأعواد من الهند، وسرداق عظيم مجلل بأنواع الحرير، وكلاليبه من الذهب الملبس بالوشي، ومزولة كبيرة تدل على الأوقات في ليل ونهار، وهي من عمل صناع بغداد، وشطرنج بديع الحسن قد اتخذت أدواته من العاج.»١٠

وممن ذكرها أيضًا من المُحْدَثِين الدكتور فيليب حتي ورفقاؤه، فقد ذكروا في «تاريخ العرب المطول» أن: «القرن التاسع طلع فإذا زعامة السياسة العالمية يتقاسمها اثنان؛ شارلمان في المغرب وهارون الرشيد في المشرق، وليس من شكٍّ في أن الرشيد كان أقوى الاثنين وأرفعهما ثقافة، أما العلاقة الودية بينهما فنتاج المصلحة المتبادلة، فقد ابتغى شارلمان من مصادقة الرشيد الاستعانة به على عدوته بيزنطة؛ كما كان الرشيد يبتغي من مصادقة شارلمان الاستعانة به على أعدائه أُمَوِيِّي الأندلس» … وروى كتَّاب الغرب أن هذه المودة بين الاثنين أدَّت إلى تبادل السفراء والهدايا مرارًا، ومصدر هذه الرواية كتاب في «أخبار الملوك» تعرض أيضًا لهدايا أخرى من بغداد بينها ساعة دقيقة الصنع، أما خبر الأرغن ذي الأنابيب الذي يُروى أن الرشيد أرسله إلى شارلمان فهو غير صحيح … كذلك قُلْ في حكاية إهداء مفاتيح قبر المسيح إلى شارلمان فإنها مما نفاه البحث العالمي.

والغريب في أمر هذه الهدايا والسفارات أنه يرد لها ذكر في المصادر العربية، فهناك إشارات إلى مراسلات ومجاملات دبلوماسية، أما هذه التي نحن بصددها فلم ترد … وقد أورد العقد (يعني كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي) كلامًا عن عدة مراسلات بين خلفاء بني أمية وأباطرة بيزنطة، وذكر وفدًا من لدن ملك الهند جاء يحمل الهدايا الفاخرة إلى الرشيد، ووصف الاستقبال الفخم الذي لقيه ذلك الوفد،١١ وممن ذكرها الدكتور عبد العزيز الدوري في كتابه عن «العصر العباسي الأول»، فإنه بعد أن أورد النصوص التي وردت فيها هذه الأخبار علَّق عليها بما خلاصته: «يكتنف المصادر اللاتينية غموض واضطراب، فالمصدر الأول وهو «الأخبار الملكية» مقتضب لا يُساعد على تعيين الصلات، بينما قصد «أينهارد» تفخيم سيده ورفع اسمه، وفي الكتاب أخطاء كثيرة ولا يعتمد عليه، أما الراهب سانت كال St. Gall: فهو من كتَّاب الأساطير، وقد اعتبر الأستاذ «بارتولد» هذه النقطة مع سكوت المصادر العربية حجة كافية لنفي وجود الصلات، ثم يظهر لي أن الباحثين فهموا ظروف شارلمان، ولم يفهموا وضع الرشيد، وهل كان يستوجب فتح صلات من هذا القبيل؟ فقد كان الرشيد هو المنتصر على البيزنطيين قبل فتح العلاقات … كما أنه لا دليل على أن مسيحِيِّي الشام كانوا خطرًا يُذكر على سلامة الدولة في عهده، ثم هل كان الرشيد يعرف قوة شارلمان؟ وهل يمكن أن يضع ثقته بذلك الغريب لاسترجاع الأندلس؟ وهل يجوز لخليفة المسلمين أن يتفق مع مسيحي لضرب مسلمي الأندلس؟ وهل من المعقول أن يُفكر الرشيد في وقت اضطر فيه إلى أن يتخلى فيه عن سلطته الحقيقية مع إفريقية «تونس» والمغرب؟ …»١٢ ثم يختم الدكتور الدوري مناقشته لهذه القصة ولنتائجها باحتمال وجود نوع من الصلات، ولكنَّها صلات تجارية لا سياسية، وأن المسئول عنها هم التجار اليهود العالميون الذين كانوا صلة وصل بين الغرب والشرق … وبخاصة أن من أساليب التجار آنئذٍ أن يَدَّعُوا بأنهم سفراء لتسهيل مصالحهم التجارية.

ونحن نرى ما يراه الدوري، ولكننا نضيف إليه شيئًا واحدًا وهو أن إهمال المؤرخين القدماء لهذه القصة ربما كان لعدم اكتراثهم بالمسائل التجارية، وبخاصة إذا كانت هذه التجارات مع دول لا شأن كبير لها في نظرهم.

(٣-٣) المسلمون والهند والصين

كانت الصلة التجارية والفكرية موجودة بين المسلمين والشرق الأقصى منذ عهد الدولة العباسية، فقد افتتحت «بلاد الهند» سنة ٩٣ للهجرة في خلافة الوليد، وأخذت الصلات تقوى بينها وبين العالم الإسلامي شيئًا فشيئًا، كما كان التجار المسلمون يزورون «بلاد الصين»، وقد حفظ إلينا بعض كُتَّاب العرب شيئًا عن تلك الصلات، فقال ابن عبد ربه في العقد (١: ٢٦٠): «بعث ملك الهند إلى هارون الرشيد بسيوف قلعية وكلاب سيورية وثياب من ثياب الهند، فلما أتته الرسل بالهدية أمر الأتراك فصفُّوا صفين، ولبسوا الحديد حتى لا يُرى منهم إلَّا الحدق، وأذن للرسل فدخلوا عليه فقال لهم: ما جئتم به؟ فقالوا: هذه أشرف كسوة بلدنا، فلم يعجبه من الهدية إلَّا الكلاب السيورية التي فتكت بالأسد، وقد أمر الرشيد لهؤلاء الرسل بهدايا وتحف كثيرة وأحسن جائزتهم.» وتذكر التواريخ الصينية القديمة أن سفارات عديدة جرت بين البلاط العباسي والبلاط الصيني في القرنين السابع والثامن للميلاد كما يقول المسعودي، ويظهر أن تلك الصلات لم تكن أكثر من صلات تجارية وثقافية تعمد إلى نقل بعض الكتب العلمية أو التجارات الاقتصادية، ويذكر المسعودي (٨: ٢٩٠، المروج طبع أوروبا)، وصاعد الأندلسي (في طبقات الأمم، ص٤٩) أن في حوالي سنة ١٥٤ھ قَدِمَ عالِم هندي إلى بغداد ومعه رسالة في الفلك اسمها «السند هند، سد ذانتا»، وأن هذه الرسالة قد تُرجمت إلى العربية بأمر المنصور على يد محمد بن إبراهيم الفزاري، كما أن ذلك الرحالة العالم الهندي قد أتحف العالَم الإسلامي برسالة في علوم الرياضيات انتشرت بواسطتها «الأعداد» التي يسميها الأوروبيون الأرقام العربية، ويُسميها العرب الأرقام الهندية، وفي القرن التاسع للميلاد أيضًا أتحف الهنود العالَم العربي بنظام الكسور العشرية.١٣

(٤) البرامكة وقصتهم

ينتسب البرامكة إلى «برمك»، وهو لقب سادن معبد بوذي في «نوبهار» إحدى الصوامع البوذية ببلخ، وكان هذا عالمًا أديبًا متبحرًا بعلوم الفرس وثقافات الأمم، اتصل بعبد الملك بن مروان فحسن موقعه عنده واستبقاه بقربه يفيد من خبرته وثقافاته إلى أن مات،١٤ وقد كان لبرمك هذا غلام نابغة لمع اسمه في صدر الدولة العباسية اسمه خالد، فقد اتصل بمحمد بن علي بن عبد الله بن عباس، ثم اتصل بإبراهيم الإمام، وقد روى مؤرخو الدعوة العباسية الأولون أنه كان من رجال الدعوة الأُول، وأنه كان يتولى تقسيم الغنائم في عسكر قحطبة، وإليه عُهد بتنظيم الخراج في خراسان، كما يذكر الجهشياري ذلك في «ص٨٧».

ولما بويع أبو العباس بالخلافة عهد إليه بديوان الخراج وديوان الجند بعدما قُتِل أبو سلمة، ثم ولَّاه أبو العباس وزارته وإن لم يطلق عليه اسم وزير، ثم لما تولى الخلافة المنصور صار خالد ركنًا من أركان دولته، وعهد إليه بديوان الخراج كما ولَّاه عدة ولايات كفارس وطبرستان والريِّ ودنباوند لتنظيم أمورها وترتيب مواردها.

ولما مات المنصور وولي المهدي ظلَّت مكانة خالد رفيعة في الدولة، وعهد إليه الخليفة الجديد بإمارة فارس، ولكن ما عتم أن غضب عليه الخليفة فشفعت له الخيزران، وأُعيد إلى منصبه، وأخذت صلته بالعباسيين تقوى منذ ذلك؛ فقد كانت الخيزران ترعاه طول عمره إلى أن مات في سنة ١٦٥ھ/٧٨١م.

هذه لمحات سريعة عن حياة خالد بن برمك، وقد كان خالد كما يذكر الفخري من رجال الدولة العباسية، فاضلًا جليلًا حازمًا كريمًا يقظًا، وكان له غلام أحسن تربيته وإعداده لممارسة شئون الدولة واسمه يحيى، فنشأ مهذبًا فاضلًا كاتبًا بليغًا لبيبًا أديبًا سديدًا جوادًا، وقد عهد إليه المهدي بالكتابة لابنه الرشيد في إمارته، ولما أراد الهادي خلع الرشيد من ولاية العهد لعب يحيى دورًا هامًّا في تثبيت الرشيد في ولاية العهد — كما أسلفنا — فحفظها له، ولما بويع الرشيد بالخلافة ولاه وزارته وعهد إليه بخاتمه، وأعانه في أعماله أولادُه الأربعة وفي طليعتهم «الفضل» و«جعفر»، وكان الفضل أخا الرشيد رَضَاعًا، وكان جعفر أقرب من قلب الرشيد؛ لسهولة أخلاقه وشدة أخلاق الفضل.

وللبرامكة فضلٌ كبير في تثبيت دعائم الدولة العباسية سياسيًّا واقتصاديًّا وتعاونيًّا، وإلى الفضل يرجع الفضل في احتفار كثير من أنهار العراق، وبناء كثير من دوره ومؤسساته العامة، أما جعفر فكان عالمًا كاتبًا أديبًا، وإليه يرجع الفضل في تقريب أهل العلم والأدب من الدواوين.

وقد حكم البرامكة الإمبراطورية الإسلامية منذ سنة ١٧٠ھ/سنة ٧٨٦م حكمًا مطلقًا يتصرفون فيها بما يشاءون، والرشيد مُطلِقٌ لهم العِنان، وخصوصًا قبل وفاة الخيزران سنة ١٧٣ھ، حتى إذا ضاق بهم فعل فعلته وفتك بهم.

ويختلف المؤرخون في سبب الفتكة حتى قال الطبري (١٠: ٧٩): أما سبب غضبه عليه؛ أي على «جعفر» الذي قتله عنده فإنه مختلف فيه؛ فمنهم يزعم أن الرشيد ضاق بتصرفاتهم ذرعًا، وأنه كان يرى استبدادهم بالأمر دونه فتَثُور نفسه غيظًا، وكلما كان يريد إقصاءهم تحُول أمه الخيزران دون ذلك، وقد تجلَّى هذا في أن الرشيد أخذ الخاتم يوم وفاتها من يحيى وسلَّمه إلى عدوه الفضل بن الربيع وقال له: «وحق المهديِّ إني لأهمُّ من الليل بالشيء من التولية وغيرها فتمنعني أمي فأطيع أمرها.»١٥ ومنهم من قال: إن السبب هو قصة العباسة أخت الرشيد التي تجرأ جعفر البرمكي وطلب يدها، وقد راجت هذه بين العامة حتى أُلِّفَت فيها الروايات، كما فعل الإتليدي صاحب «أعلام الناس» وجرجي زيدان صاحب «العباسة أخت الرشيد» وأنطون رباط صاحب «الرشيد والبرامكة» وعزيز أباظة في «مسرحيته»، ولا نريد الإطالة فيها بعد أن نفاها مؤرخ ثقة كالجهشياري حين قال في معرض كلامه عن نكبة البرامكة: «إن عبيد الله بن يحيى بن خاقان سأل مسرورًا الكبير خادم الرشيد في خلافة المتوكل عن سبب إيقاع الرشيد بالبرامك، فأجاب مسرور: كأنك تريد ما تقوله العامة فيما كان من أمر المرأة، لا والله ما لشيء من هذا أصل.» وقد نقض الفكرة من أساسها المؤرخ ابن خلدون.

ومنهم من يقول: إن سبب ذلك هو أن الرشيد كلَّف جعفرًا بقتل عَلَويٍّ فتحرَّج جعفر وأطلقه من سجنه، فلما علم الرشيد سأله فقال: نعم أطلقته؛ لأنه لا ذنب له، فأسرها له حتى فتك به وبآله.

ومنهم من يقول: إن الفضل بن الربيع هو الذي ما يزال يسعى بهم عند الرشيد حتى كرههم.

ومن المؤرخين المحدثين من يزعم أن السبب في ذلك هو نزعتهم الاعتزالية.

ومنهم من يرى أن السبب هو اكتشاف مبادئهم الكسروية، وسعيهم إلى إعادة المجد الفارسي والميل إلى الشعوبية وتأييد دعاتها.

هذا عرضٌ موجز لآراء من تعرضوا لحديث النكبة، وقبل أن نبيِّن رأْيَنا فيها نحبُّ أن نشير إلى أن الرشيد ما فعل فعلته ارتجالًا كما يقول البعض مثل «خدابخش» و«المدوَّر»، ولكنه كان ينوي ذلك منذ زمن قديم، يقول ابن عبد ربه في العقد نقلًا عن إسحاق بن علي بن عبد الله بن عباس: إن الرشيد أخبره بشكِّه في تصرفات البرامكة وشاوره في أمرهم، ثم كان قتله إياهم بعد ست سنين من تاريخ ذلك اليوم (العقد، ٣: ٢٦٣)، والذي نراه أن الرشيد إنما فتك بهم لاستبدادهم بشئون الدولة دونه في الإدارة والسياسة أولًا، ثم لسيطرتهم على مواردها ثانيًا، ويقول ابن خلدون (المقدمة، ص٥): «إنما نكب البرامكة ما كان من استبدادهم على الدولة واحتجانهم أموال الجباية، حتى كان «الرشيد» يطلب المال فلا يصل إليه.» وإذا عرفنا أن الأموال التي صودرت منهم بعد النكبة بلغت من النقد نحوًا من ثلاثين ألف ألف (مليون) وستمائة وستين ألف درهم، هذا عدا غلَّات ضياعهم ودورهم ورياشهم التي بلغت حدَّ الخرافة في أثمانها وإتقانها، تبيَّن لنا مبلغ ما احتجنوه من الأموال، ولم تكن الأموال هي السبب الرئيسي في ذلك، بل ما كان يصحبها من استبدادهم، فقد روى الطبري في تاريخه (١٠: ٨٠): «إن ثمامة بن أشرس قال: أول ما أنكر يحيى بن خالد من أمره أن محمد بن الليث رفع رسالة إلى الرشيد يعظه فيها، ويذكر أن يحيى بن خالد لا يغني عنك من الله شيئًا، وقد جعلته بينك وبين الله، فكيف أنت إذا وقفت بين يديه، فسألك عما عملت في عباده وبلاده، فقلتَ: يا رب إن استكفيت يحيى أمور عبادك، أتراك تحتج بحجةٍ يرضى بها؟»

وكان محمد بن الليث هذا من عقلاء القوم ومخلصيهم، وقد تأثر الرشيد جدًّا بهذه الرسالة، ولكن يحيى استطاع أن يكيد له ويسجنه في سجن «المطبق» إلى ما بعد النكبة، ولما أخرجه الرشيد من سجنه وقال له بعد حديث طويل: «أتحبني؟ قال: لا والله؛ وضعت في رجلي الأكبال، وحُلت بيني وبين العيال بلا ذنب أتيت سوى قول حاسد يكيد للإسلام وأهله، ويحب الإلحاد وأهله.» فأنت ترى من هذا سبب حملته على البرامكة هو كيدهم للإسلام وتقريبهم لملاحدة الفرس، وفي هذا القول بعض الحق، فإن البرامكة كانوا فرسًا متعصبين لفارسيتهم، وقد ظهر هذا التعصب في مواطن عديدة، فمن ذلك أن يحيى بن خالد وطَّد أقدام «بني سهل» في الدولة، وكان هؤلاء مجوسًا متعصبين ضد العرب، ولما أراد الرشيد تقريب بعض العرب ووضعهم في المناصب الكبيرة حاول يحيى وأولاده تغيير رأيه، كمحاولة يحيى عدم تولية يزيد بن مزيد الشيباني قيادة الجيش الذي بعثه الخليفة لقتال الوليد بن طريف الشاري، ويجب أن لا ننسى أيضًا أن الحسد قد لعب دورًا كبيرًا في تبغيض الرشيد بالبرامكة، وكان بطل هذا التبغيض شخصين؛ «أولهما» السيدة زبيدة زوجة الرشيد التي كانت تكرههم لحدِّهم من تصرفاتها، ولقيام جعفر بأمور المأمون ونعيه لدى الرشيد بتوليته بعد ابنه الأمين، و«الثاني» هو الفضل بن الربيع حاجب الرشيد الذي قال عنه ابن خَلِّكَان (الوفيات، ١: ٤١٢): «وسعى الفضل بهم، وتمكن بالمجالسة مع الرشيد فأوغر قلبه عليهم، ومالأه بها على ذلك كاتِبُهُم إسماعيل بن صبيح، وكان الفضل يراقب حركاتهم، فلما أطلق جعفر يحيى بن عبد الله العلوي أخبر الرشيد بذلك، فغضب غضبًا شديدًا وأسرَّها له منذ ذلك الحين، ولما اجتمعت هذه الأسباب عزَم الرشيد على تنفيذ الخطة التي رسمها للفتك بهم، فخرج إلى الحج واصطحبهم معه، وهو ينوي لهم الكيد، وكان ذلك سنة ١٨٧ھ، فلما وصل الأنبار أمر بقتل جعفر، وكان عمره ٣٧ سنة، ثم أمر بالإحاطة بيحيى وولديه الفضل ومحمد ومصادرة أموالهم، وأرسل من ليلته إلى سائر البلاد بقبض أموالهم ووكلائهم ورقيقهم، ثم أمر بسجنهم، وقد عوملوا في سجنهم أول الأمر بشيء من الاحترام، ولكنهم لما اتهموا بالمؤامرة وهم في السجن مع عبد الملك بن صالح بن علي ضد الرشيد ضيق عليهم وظلَّ يحيى في سجنه حتى مات سنة ١٩٠ھ، وكذلك الفضل إلى أن مات سنة ١٩٣ھ، ولما أفضت الخلافة إلى الأمين أطلق محمدًا وموسى ابنَيْ يحيى، ووصل جماعة من البرامكة من الرجال والنساء ببعض المال وأكرمهم، وكذلك كان حالهم أيام المأمون» (الطبري، ١٠: ١٠٩؛ والجهشياري، ص٢٩٧).

وهكذا انتهت دولة البرامكة، وقد انقسم المؤرخون في سردها قسمين: مناصر ومعادٍ، وكلٌّ يبالغ في أقواله حتى تعقدت أخبارها وأصبح استخراج الحقائق منها أمرًا عسيرًا، ومهما يكن من شيء فإن للبرامكة آثارًا لا تُنكَر في تنظيم الدولة العباسية وإحياء الثقافة ونشر العلم وبث الجود، كما أن لهم مساوئ؛ منها: إحياء الروح العنصرية الفارسية، وتقوية فكرة الاستبداد، والعمل على تجزئة الدولة وتقوية عناصر التحزب والانقسامات فيها، ويزعم بعض المؤرخين «أن الفتك بهم كان أول ركيزة انهدمت من ركائز الدولة»، وهذا قولٌ مبالغ فيه؛ فإن الرشيد كان في أَوْجِ قوته والدولة عزيزة به، ولكن الشيء الذي يمكن أن نقوله ها هنا هو أن العناصر الفارسية أخذت تكيد للدولة منذ ذلك الحين وتعمل على هدمها، وقد تجلى ذلك في الفتنة بين الأمين والمأمون كما سنرى بعد.

(٥) الأحوال الإدارية في عصره

(٥-١) الوزارة، الإدارة، الخراج

رأينا أن الرشيد كان أول ما استخلف قد عهد بوزارته وإدارة دولته إلى يحيى بن خالد البرمكي الذي كان كاتبه ونائبه قبل الخلافة، وكان يحيى هذا عالمًا كاتبًا عاملًا حازمًا جوادًا، نهض بأعباء الدولة أتمَّ النهوض، وسد الثغور، وتدارك الخلل، وجبى الأموال، وعمَّر الأرض، وأظهر رونق الخلافة، وتصدى لمهمات المملكة، وكان أولاده الفضل وموسى وجعفر ومحمد وأولادهم يعاونونه في أعمال الوزارة والإدارة، سواء أكان ذلك في المركز أو في الأقاليم.

أما «الفضل» فكان أكبرهم ورأسهم، وقد وُلد سنة ١٤٨ھ، وهو أخو الرشيد رضاعًا، وكان ينوب عن أبيه في الوزارة، ولما وُلد الأمين جعله الرشيد تحت رعايته، وولاه بلاد الري وجوزجان وطبرستان وخراسان، وكان نزيهًا محمودَ السيرة رءوفًا بالناس، وكانوا يسمونه «الوزير الصغير» وأباه «الوزير الكبير».

وأما «جعفر» فكان حسن الخلق جمَّ العلم عاليَ الهمة قريبًا من قلب الرشيد، ولَّاه مصر ثم خراسان، وبعثه إلى الشام مرات لتهدئة الثورات فيها فأحسن تصريف الأمور.

وأما «موسى» فكان أشجعهم، وكان معروفًا بنبله وفروسيته، ولَّاه الرشيد الشام فأحسن الإدارة فيها، ونشر في الناس العدل والفضل، وإن لم يكن له شهرة أَخَوَيْهِ.

وأما «محمد» فكان أصغرهم ولم يكن من الشهرة ما لإخوته، ولكن كان إليه أمر الاتصال بالناس وتبيين فضل البرامكة وتثبيت مكانتهم لدى العامة.

ولما نكب الرشيد البرامكة عهد بوزارته إلى أبي العباس الفضل بن الربيع الذي كان حاجبًا للمنصور ثم المهدي والهادي والرشيد، وكان عارفًا بشئون الدولة حَسَنَ التدبير والإدارة وحب العلم، وفي عهده ازدهرت الحركة العلمية والأدبية لِما كان يميل إليه من حب الأدب والعلم، وقد استمر في وزارته إلى أن مات الرشيد.

ويظهر أن الرشيد لم يكن في أول الأمر متشددًا في محاسبة عمَّاله أو في إدارتهم، ولا أدل على ذلك من قصة علي بن عيسى بن ماهان الذي عاث في البلاد فسادًا، ولكنَّه كان يبقيه في عمله لرضاه عنه، وكذلك كان «يحيى» و«الفضل» و«جعفر» و«موسى» يتصرفون في الأعمال تصرفًا مطلقًا؛ يمنحون الأموال والبلاد طعمة سائغة إلى من يريدون دون رقيب أو حسيب، فقد ذكر الطبري في حوادث ١٧٨ھ أن الفضل لمَّا شخص إلى خراسان أميرًا عليها منح ولاية سجستان وخراجها لإبراهيم بن جبريل استرضاءً له، ولم يكتفِ بذلك، بل زاده أموالًا وهدايا جليلة، وهناك شواهد أخرى كثيرة تُؤيد ما ذهبنا إليه، ولكن على الرغم من هذا فإن الرشيد اهتم بأشياء أخرى لها علاقة بالإدارة نذكر منها:

عنايته بالقضاء وأهله

فقد استحدث منصب «قاضي القضاة»، وأقام قضاة في كل أرجاء الإمبراطورية الإسلامية العظمى للقضاء بين الناس وكتابة العقود (مقدمة ابن خلدون، ص٢٢٥) ونظام القضاة، وإن كان قديمًا يرجع إلى عهد الخلفاء الراشدين، إلا أن الرشيد هو أول من نظم شئونهم وأوجد منصب قاضي القضاة، وعهد به إلى الإمام أبي يوسف صاحب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، وأعتقد أن منصب قاضي القضاة هذا هو بمثابة «وزير العدل» في أيامنا، فقد كان يقيم إلى جانب الخليفة يفتيه في مسائل الدولة الدينية والدنيوية، ويتولى أمر تسمية القضاة في الأمصار التابعة للإمبراطورية وينوبون فيها عنه، وفي هذا الوقت اتسعت سلطة القضاة، فبعد أن كانوا ينظرون في الخصومات والقضايا المدنية والجنائية صاروا يفصلون في قضايا الأوقاف والوصاية والمظالم والحِسْبة، والإشراف على «بيت المال» وأموال الأيتام (راجع كتاب «النظم الإسلامية» للدكتور حسن إبراهيم، ص٣٣٦؛ وكتاب «ديمومبين»، ص٢٠٣).

عنايته بالأمن في العاصمة والأقاليم

فقد اهتمَّ الرشيد اهتمامًا كبيرًا بحفظ الأمن وطمأنينة الناس في العاصمة والأقاليم، فكان يُوصي أصحاب الأخبار بأن ينقلوا إليه بسرعة وأمانة كل ما يتعلق بشئون الأمة وأخبار الناس وأحوالهم؛ ليكون على اطِّلاع بما يجري في أرجاء مملكته، وكان المشرف المباشر على هذه الناحية من الإدارة هو «صاحب الشرطة»، وقد اختار الرشيد بنفسه لهذا المنصب رجلًا عُرف بالنزاهة والنبل وهو «عبد الله بن مالك»، فقد كان من دهاة الرجال وعقلائهم وأصحاب العلم والفضل، قال صاحب «حضارة الإسلام في دار السلام، ص١٣٤» متحدثًا عن الرشيد: «نظر في صلاح الوزراء ودسَّ فيها العيون بإمرة عبد الله بن مالك (صاحب الشرطة)؛ لملافاة الخلل الذي يطرأ عليها من وفود الأغراب واختلاطهم، وأقام العسس بالليل لمحافظة الدروب إلى أن وقع الأمن في أحيائها وخيَّم السلام على أرباضها.» ويقول ابن خلدون في المقدمة (ص٢١٨)، في معرض حديثه عن وظيفة صاحب الشرطة: «وكان أصل وضْعها في الدولة العباسية لمن يقيم أحكام الجرائم في حال استبدائها أولًا، ثم الحدود بعد استيفائها، فإن التهم التي تعرض في الجرائم لا نَظَرَ للشرع إلَّا في استيفاء حدودها، وللسياسة النظر في استيفاء موجباتها بإقرار يُكْرهه عليه الحاكم إذا احتفَّت به القرائن لما توجبه المصلحة العامة في ذلك، فكان الذي يقوم بهذا الاستبداء وباستيفاء الحدود بعده إذا تنزَّه عنه القاضي، ويسمى صاحب الشرطة.»

عنايته بتنظيم عمران العاصمة

وصلت العاصمة الإسلامية الكبرى في عهده إلى درجة رفيعة من حيث العمران والفخامة وكثرة الدور الجليلة والقصور الفخمة والمرافق العامة، قال الشيخ الخضري في محاضراته عن العصر العباسي: «وصلت بغداد في عصر الرشيد إلى قمة مجدها ومنتهى فَخَارها، أما من حيث العمران فقد فاقت كل حاضرة عُرفت لعهدها، وبُنيت فيها القصور الفخمة التي أُنفق على بنائها مئات الألوف من الدنانير، وتأنق مهندسوها في إحكام قواعدها وتنظيم أمكنتها وتشييد بنائها.» وقال الخطيب البغدادي (في تاريخ بغداد، ١: ص١١٩): «لم يكن لبغداد في الدنيا نظير في جلالة قدرها وفخامة أمرها، وكثرة دورها ومنازعها ودروبها وشعوبها ومحالِّها وأسواقها وسككها وأَزِقَّتها ومساجدها وحمَّاماتها وطرزها وخاناتها، وطيب هوائها وعذوبة مائها وبرد ظلالها وأفيائها، واعتدال صيفها وشتائها وصحة ربيعها وخريفها.» وقد أجاد صاحب «حضارة الإسلام في دار السلام» في وصف المدينة في صفحة ٢٧ وما بعدها فليرجعْ إليه.

عنايته بتنظيم موارد الدولة المالية

ازدهرت الإدارة المالية في عهد الرشيد ازدهارًا رائعًا، سواء أكان ذلك في طرق الجباية، أو في تفنين قوانين الخراج والضرائب أو في تنظيم المصارف، ويذكر الجهشياري في كتاب «الوزراء والكتَّاب» (ص٢٨٨) أن موارد الدولة كانت في عهد الرشيد قد بلغت ٥٣٠٣١٢٠٠٠ درهمًا، ولا ريب في أن الرشيد قد اعتنى بالخراج وغيره من موارد بيت المال عناية خاصة، فاختار لتنظيم هذه الناحية جماعة من الأمناء والفضلاء الذين أُوتُوا نصيبًا وافرًا من الخبرة والعلم في تنظيم الأمور المالية، وقد جعل على رأس هؤلاء جميعًا فقيهًا جليلًا قادرًا، هو قاضي القضاة الإمام أبو يوسف تلميذ الإمام الأعظم، وطلب إليه أن يرتب أمر بيت المال من خراج وضرائب وغيرهما كما يراه، ويكتب بذلك كتابًا يكون قانونيًّا موثوقًا ومرجعًا أمينًا في ذلك؛ حتى لا يقع غبن على الناس أو بيت المال، فألَّف كتابه المشهور بكتاب «الخراج»، هذا ما يزال — من حسن الحظ — بين أيدينا، وهو مصدر أمين لدراسة الشئون المالية والحسابية في ذلك العصر، وأحبُّ أن يقف القارئ الكريم معي وقفة نعرض فيها لمباحث هذا الكتاب الجليل، فنطلع على أسلوب النظام المالي للدولة الإسلامية في عهد الرشيد والعهود التي تلته؛ لأن الكتاب أضحى مرجع الفقهاء والحُكَّام خلال عصور التاريخ الإسلامي كلها.

اشتمل كتاب الخراج على مباحث رئيسية وهي:
  • (١)

    موارد الدولة على اختلاف أنواعها كما أقرها الشرع الحنيف، مع بيان مصارف تلك الموارد.

  • (٢)

    الطرق الحكيمة العادلة في الجباية وجمع الأموال من المكلفين ودافعي الضرائب والمكوس.

  • (٣)

    الواجبات التي على صاحب بيت المال القيام بها مما أهمله بعض الولاة والعمال السابقين، ولا نستطيع ها هنا أن نورد كل ما سرده الإمام أبو يوسف في المباحث الثلاثة، ونكتفي بإيجاز بعض ما ذكر عن القسم الأول من موارد الدولة، وأما القسمان الآخران فليرجع إليهما من يريد التوسع.

قال: إن موارد الدولة الشرعية تنحصر في ثلاثة أقسام وهي: (أ) الغنائم. (ب) الخراج. (ﺟ) الصدقات.

(أ) خُمُس الغنائم

وهي كل ما أصابه المسلمون من المشركين في الحرب من متاع وسلاح وكُراع١٦ ونقد، ويقسم الإمام هذه الغنائم إلى خمسة أقسام يستبقي خُمُسًا لبيت المال ويوزع أربعة الأخماس الباقية على المشاركين في تلك الحملة الحربية للفارس ثلاثة أسهم؛ سهمان له وسهم لفرسه، وللراجل سهم، ويحتفظ بالخُمُس الخامس لما أراده الله تعالى بقوله في سورة الأنفال: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ.

(ب) الخراج

ويدخل فيه ما وظف على الأرض الخراجية وجزية أهل الذمة وموارد العشور.

أما الخراج فهو المال الموظَّف على الأراضي الخراجية، وقد قرره أبو يوسف في هذا أن سواد العراق وبلاد الجزيرة والشام لما فتحت في عهد عمر ترك الأرَضين لأصحابها على أن يدفعوا الخراج عنها لبيت مال المسلمين، بعد أن مسحها فبلغت ٣٦ مليون جريب، فوظَّف على كل جريب مقادير معينة من الدراهم والأطعمة، تختلف بحسب الأرض وغراسها، من درهمين إلى عشرة لكل جريب، وقد بلغت جباية خراج السواد قُبيل وفاة عمر بعامٍ مبلغ مائة ألف ألف درهم (مائة مليون درهم)، ولم يرَ أبو يوسف ما قرَّره عمر في تحديد الخراج أمرًا لازمًا، بل أفتى أنه يجوز للخليفة إذا رأى مصلحة الناس في المقاسمة أن يجيزها، وقد بحث أبو يوسف في هذه الناحية بحوثًا مطولة يحسن الرجوع إليها لمن يريد التوسع في هذا الأمر.

وأما جزية أهل الذمة فهي الأموال التي وضعها المسلمون على رءوس سكانها من غير المسلمين في البلاد المغلوبة، مقابل حماية المسلمين لهم والدفاع عنهم في الحروب، أما من يُستعان به منهم في الحروب فلا يدفعها، الجزية فيما عدا هؤلاء واجبة على كل كتاب نصراني أو يهودي، ما خلا نصارى بني تغلب وسكان نجران، وأطفال عامة النصارى واليهود ونسائهم وشيوخهم ورهبانهم وعَجَزَتهم، وليس على مواشيهم وأموالهم زكاة، وقد قرر أبو يوسف أن الجزية على ثلاث درجات: (١) درجة الأغنياء ويدفعون ٤٨ درهمًا صحيحًا. (٢) المتوسطون ويدفعون ٢٤ درهمًا صحيحًا. (٣) العمال ويدفعون ١٢ درهمًا صحيحًا. أما نصارى تغلب ونجران فتؤخذ منهم زكاة المسلمين مضاعفة.

وأما موارد الخراج من العُشور فهي موارد لم يذكرها القرآن ولا عُرفت في عهد الرسول، ولكن أحْدثها عمر لما كتب إليه أحدُ عمَّاله وهو أبو موسى الأشعري حينما كان في البصرة: «إن قِبَلَنَا تجارًا من المسلمين يذهبون إلى أرض العدو فيأخذون منهم العشر على تجاراتهم.» فكتب إليه عمر: «خذ أنت منهم في أرضنا كما يأخذون من تجار المسلمين في أرضهم، وخذ من أهل الذمة نصف العشر، وخذ من المسلمين درهمًا من كل أربعين درهمًا، وليس فيما دون المائتين شيء، فإذا كانت مائتين ففيها خمسة دراهم وما زاد فبحسابه.»

وأما مصارف بيت مال الخراج فهي: (١) رواتب القضاة والولاة والعمال. (٢) مرتبات العسكر المجاهدين غير المتطوعين. (٣) كَرْي الأنهار وحفرها وإصلاح مجاريها. (٤) حفر الترع الجديدة. (٥) نفقات المسجونين من المسلمين والأسرى من المشركين.

(ج) الصدقات

وهي ما يؤخذ من المسلمين زكاة أموالهم من الأنعام والنقود وأموال التجارة وأعشار الأرض غير الخراجية، على ما هو مفصل في كتب الفقه، ومصارف الصدقات هي ثمانية أصناف ذكَرَتْها الآية الكريمة: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ.

هذا هو عرضٌ موجز لموارد الدولة الإسلامية ومصارفها كما أقرَّه الشرع الإسلامي الحنيف، وبيَّنه الإمام أبو يوسف في كتابه في الخراج، ونرى ها هنا أن نزيد على ذلك كلمة موجزة عن نظام مالي له علاقة بنظام الأراضي، وهو نظام القطائع فنقول:

القطيعة أرض يمنحها الإمام لبعض الممتازين بفعالهم من المسلمين، ويذكر الإمام أبو يوسف في «كتاب الخراج» والسرخسي في «كتاب المبسوط» أن عمر بعد أن تمَّ له الفتح العراقي اصطفى من أرض السواد ما كان لكسرى وحاشيته وقواده، وقد بلغ ذلك نحوًا من أربعة آلاف ألف (مليون) جريب، كان يُقْطِعُها من أراد من رجالات الإسلام، قال أبو يوسف: «وذلك بمنزل المال الذي لم يكن لأحد ولا في يد وارث، والإمام مخيَّر في القطائع أن يجعلها عُشريةً أو خَراجيةً إن كانت تسقى من أنهار الخراج.» ويرى أبو يوسف أيضًا أنه لا يصح أن تبقى في ديار الإسلام أراضٍ لا ملك لأحدٍ فيها ولا عمارة حتى يقطعها الإمام، فإن ذلك أعمر للبلاد.

وإذا كانت في البلاد المفتوحة أراضٍ لا أثر فيها لزراعة أو بناء فهي «أرضٌ مَوَاتٌ» ومَن أحياها فهي له، وللإمام أن يُقْطِعَ ذلك من أحب، وله أن يؤاجره بما فيه صلاح الأرض، ويقول أبو حنيفة: «إن مُحيي الأرض لا يملك ما أحيا إلَّا بإذن الإمام، وإذا كانت من الموات في أرض العشر أدَّى عنها العشر، وإذا كانت في أرض الخراج دفعه عنها، وإن احتفر لها بئرًا كانت أرضَ عشر، أما إن ساق إليها ماء الخراج فهي خراجية، والأراضي التي تنكشف من الجَزْرِ في النهر فهي لمن تُلاصق أرضه بشرط ألَّا تضر بأحد أو بسير السفن، وكذلك ما عولج من البطائح والآجام.»

(٦) الحياة العقلية والثقافية في عصره

ازدهرت الإمبراطورية الإسلامية عامة والعراق خاصة في عهد الرشيد في نواحي العلم والفن ومجالي الحضارة الأخرى، وصارت بغداد في عهده قبلة الطلاب في العالم، يلجئون إليها لينهلوا من مواردها في العلم والفن والدين والفلسفة والصناعة، يقول الخطيب البغدادي (في تاريخ بغداد، ج١، ص١١٩): «لم يكن لبغداد في الدنيا نظير في جلالة قدرها وفخامة أمرها وكثرة علمائها وأعلامها.» ويقول جميل المدور عن عهد الرشيد (في حضارة الإسلام، ص١٤٣): «وكفى بشرف دولته أنه اجتمع ببابه من الوزراء والأمراء والقواد، والعلماء والفقهاء والأدباء والخطباء والمحدثين، والوزراء والشعراء والندماء والمغنِّين، ما لم يجتمع على باب خليفة غيره، فإن البرامكة أعوان دولته، وأبا يوسف قاضيه، وهرثمة بن أعين أمير جنده، والعباس بن محمد عمَّ أبيه جليسُه، ومروان بن أبي حفصة شاعره والأصمعي محدثه، وأبا نواس نديمة، والفضل بن الربيع حاجبه، وإبراهيم الموصلي وإسحاق ابنه مغنياه، وابن بختيشوع وجبريل وبني ماسويه أطباؤه، والعلماء والأدباء كلهم قيام على بابه لا يفارقونه في حضر ولا سفر، حتى إنه ليُطْلَب شاعر في أطراف الليل فيجده ببابه مع غيره من محدث أو نديم.»

والحق أن العلماء وأهل الدين والحكمة والفن الذين ظهروا في دولة الرشيد هم الأئمة الذين يرجع إليهم الفضل في تدوين كتب العلم والفن التي أضحت مراجع الحضارة العربية الإسلامية، وفي عصره ازدهرت الحركات العقلية والفلسفية، وعظمت عناية الناس بخزائن الكتب واهتمامهم بالعلم وأهله، وتُرْجِمَت الكتب، وكان بلاطه ألمع بلاط في ذلك الحين، وكانت الشعراء والعلماء والحكماء يفِدون إليه من أنحاء المعمورة كافة، فيولِيهم عطفه وتشجيعه، وكذلك كان أول من وضع الموسيقى تحت رعايته، فارتقت في ظلِّه حتى أصبحت مهنة شريفة، وفي عهده طفقت المدرسة الحنفية تتطور حتى اكتسبت شكلها النظامي على أيدي علماء المذهب، وعلى رأسهم أبو يوسف القاضي.

(٧) الحياة الاجتماعية في عصره

بلغت الحياة الاجتماعية في عهد الرشيد درجة رفيعة في البذخ والرفاهية والفخامة واللهو والغنى والرقيِّ بصورة عامة، وكان طبقات الوزراء والقواد وكبار التجار أبرز الطبقات المترفة التي وُجدت في ذلك العصر، كما كانت إلى جانبهم طبقات من الكتَّاب والعلماء والأطباء ومتوسطي التجار تعيش عيشًا ناعم البال منعمة الحياة، أما طبقات سواد الشعب من سوقة وعمَّال وصنَّاع وأجناد وشطَّار، فطبقات كان يتوفر لها عيش رخيص مقبول، وتتجلى هذه الطبقات واضحة الخطوط لمن دقَّق «كتاب الأغاني» لأبي الفرج الأصبهاني، وكتاب «ألف ليلة وليلة»، وكتاب «الفهرست» لابن النديم، وكتاب «الموشي» للوشاء النديم، وكتاب «حلبة الكميت» للنواجي، وكان من نتائج امتزاج الشعوب المفتوحة بالشعب العربي وتعدد الزوجات والتَّسَرِّي والرقيق وتجارته وجود طبقة اجتماعية مختلطة العناصر والأفكار والتقاليد، طغت على الطبقة العربية الرفيعة التي كانت في العصر النبوي والعصر الراشدي والعصر الأموي.

أما المرأة، وخصوصًا الرقيقة، فقد تعلمت وبلغت قسطًا وافرًا من النعيم في هذه البيئة، فتعلمت وتثقفت وسيطرت على البيت الإسلامي سيطرة واضحة، فَقَدَتْهَا بعدُ في عصر الانحطاط العباسي والعصور التي تلته، ومما هو جدير بالملاحظة أن المرأة الحرَّة لم تكن لها تلك الحرية التي كانت للرقيقة، وذلك بسبب الحجاب الذي فُرض عليها منذ العصر الأموي وَقَصَرَ عملها على تربية أولادها والغزل والحياكة وتعلُّم القرآن فقط.

أما لباس الناس في هذا العصر فإنه لم يتبدَّل كثيرًا عما كان عليه في العصر الأموي وما قبله؛ سروال وقميص وقفطان، ورداء خارجي من عباءة أو جبَّة وعمامة أو كوفية على الرأس، والشيء الوحيد الجديد هو أنه قد جُعل للعلماء زيٌّ خاص رتَّبه لهم القاضي أبو يوسف، وهو العمامة ومن فوقها الطيلسان.١٧

أما النساء فكنَّ يلبسن الشفوف؛ الثياب والصدريات، وقد يلبسن سراويلات خاصة بهن، وكنَّ يضعن على رءوسهن ما يستر شعورهن، وفي العصر العباسي استحدث نوع من أغطية الرأس خاص بهنَّ، قيل: إن أول من اخترعه هي السيدة علية أخت الرشيد، وهو، على ما رَوَوْا، قبعة من حرير مزركشة مقببة في أسفلها دائرة يمكن ترصيعها بالجواهر والحلي.

وأما البيوت وأثاثها ورياشها، وخاصة دور الأعيان والوجوه، فقد بلغت حدًّا عاليًا في الترف من سعة في البناء، وفخامة في الجمال والزخرف، واستكمال مظاهر الرفاهية والراحة، ففيها الكراسي الأنيقة والسجاجيد البارعة والدواوين المطرزة والمصابيح المُذَهَّبة وأصص الورود والأزهار والرياحين، وأواني الطعام والشراب والطبخ الفضية والزجاجية والعاجية والمُطَعَّمة والمكفَّتة، وكانت منازل الوجوه والأعيان تُبَرَّد في الصيف بالثلج بطرق خاصة.١٨

وأما دور عامة الناس فقد استوفرت مظاهر الراحة ومحتاجاتها، بل ربما بلغت حدًّا من الترف، فقد رووا أنها كانت تحتوي على أواوين وحمامات وزينات بالفسيفساء والزخارف والنقوش والجص المصور وغالي الأخشاب ومدهش الأصباغ، كما تجلى هذا لقارئ «كتاب ألف ليلة وليلة»، وكما اعتنى الناس بدورهم اعتنوا بمجالي اللهو ومظاهر السرور من سفرات ترفيه وصيد وقنص وتربية للحيوانات والطيور الظريفة، وإقامة حفلات لهو ولعب وإحياء مواسم الأعياد والمهرجانات العامة والألعاب الرياضية والسحرية ومسابقات الخيول والرهانات، وقد أورد المسعودي وصف يوم بديع أجرى فيه الرشيد الخيول في الرقة وجلس في صدر الميدان؛ حيث توافت إليه الخيل فإذا خيله في أوائلها فَسُرَّ بذلك.

(٨) الحياة الاقتصادية

رأينا فيما أسلفنا رقي الحياة الاجتماعية وتنظيم الموارد المالية تنظيمًا متقنًا، وهذا يدلنا على وضع الحياة الاقتصادية، فالرقي والحضارة لا يكونان إلا حيث تكون الحياة الاقتصادية ذات مستوًى عالٍ، سواء في الزراعة أو في التجارة أو الصناعة، وسنقف وقفة قصيرة أمام كل نوع من هذه الأنواع التالية:
  • أما الزراعة: فقد رأينا عناية الخليفة بها وطلبه إلى قاضي القضاة الإمام أبي يوسف أن يهتم بدراسة أحوال الأرض ويبين حكم الله فيها، وقد فعل وطبَّق ذلك القانون، واطمأن إليه الناس وازدهرت الزراعة في ذلك العصر؛ لأن الأرض بقيت في أيدي أصحابها السابقين، وعادت الحياة إلى قسم كبير مما كان هجره أهله في السواد أو الجزيرة، وقد وجهت الحكومة عناية خاصة إلى بقاع ملتقى الرافِدَيْنِ لخصب الأرض هناك وكثرة الماء فشقت الأقنية الجديدة، وأحيت الأقنية والقساطل القديمة، وفي كتاب «المسالك والممالك» لابن حوقل (ص١٦٦) تفاصيل دقيقة عن هذا.

    أما موارد إقليم العراق الزراعية فهي الحبوب من حنطة وشعير وأرز، والتمر والقطن والسمسم والقنب، وكان الجنوب ينتج بالإضافة إلى جانب ذلك الفواكه والخضار والرياحين، وأما موارد إقليم خراسان فهي لموارد العراق، وهي أراضي بلاد العجم وأكثرها غلالًا وخيرات، وأما بلاد المشرق فإن أخصب أرضها بلاد بخارى، وهي جنة ذلك الإقليم على حد تعبير اليعقوبي (كتاب المسالك، ص٥٥٥)، وفيها يقع وادي العقد أحد جنان الدنيا الأربع، كان القدماء يقولون: «إن الأولى هي شعب بوَّان الذي ذكره المتنبي، والثانية غوطة دمشق المشهورة، والثالثة بساتين الأبُلَّة وهي الممتدة من البصرة إلى جنوب شرق الأردن.»

    وأما بلاد الشام والجزيرة فمواردها الحبوب والقطاني والفواكه والزيتون والورود.

    وقد اهتم الناس في هذا العصر بالتأليف في كتب الزراعة والطيوب، منها ما ترجم عن اليونانية والنبطية، ومنها ما هو مرتجل كما هو مفصل في كتاب «الفهرست» لابن النديم (ص٣١٧ وما بعدها).

  • وأما التجارة: فقد ارتقت رقيًّا عظيمًا عمَّا كانت أيام الدولة الإسلامية في العصر الإسلامي والأموي، يقول المستشرق آدم ميتز في كتابه الحضارة العربية في القرن الرابع (ترجمة الأستاذ أبي ريدة، ج٢، ٣١١).

    «يُحكى عن عمر أنه ذُكِرَ أمامه حديث كان قد نسيه وطلب البيِّنة عليه، فلما جاءه به أبو سعيد الخدريُّ قال عمر: أخفي عليَّ من أمر رسول الله ، ألهاني الصفق في الأسواق، يعني الخروج إلى التجارة، وكان الأمويون لا ينظرون إلى التاجر بعين التقدير، ولم يكن هذا ناشئًا عن إشفاقهم مما أشار إليه عمر، بل لأنهم كانوا جيلًا من المحاربين الفرسان وأمراء القطائع، حتى لا نجد للتجار شأنًا في تاريخهم، وقد أحدث القرن الثالث في هذا الباب انقلابًا كبيرًا».

    وكلام الأستاذ ميتز هذا حق، فقد ارتقت التجارة في عصر الرشيد وما بعده وأصبحنا نجد للتجار طبقات بارزة متمايزة، وانقسم الناس في هذا العصر إلى طبقات تجارية متمايزة، «أولها» طبقة كبار أهل التجارة والصناعات التجارية الكبيرة، و«ثانيتها» طبقة كبار الباعة وأغنيائهم، و«ثالثتها» طبقة السوقة والكسبة، ومما تجدر الإشارة إليه أن التجارة كانت في العصر الأموي وأوائل العصر العباسي بيد أهل الذمة من يهود ونصارى وأقباط وزرادشتيين، ولكن في هذا العصر والعصور التي تلته أخذ العرب يهتمون — بعد أن كسدت سوق الزراعة بعض الكساد — في رواج التجارة ومواردها الضخمة، فلم يعودوا ينظرون إليها نظرة الاحتقار التي كانوا ينظرونها إليها في العصر الأموي، وذلك بعد أن أخذت بغداد مكانتها في العالم، وأصبحت سوقها مجمع تجارات العالم في الدنيا، وسافر تجارها إلى الشرق والهند، فاتصلوا بأهل تلك البلاد منذ عهد المنصور، وأقدم مصدر عربي يبحث عن علاقات التجار العرب بالصين والهند هو «بيان رحلات التاجر سليمان» الذي نشره البروفسور لانغلي Langli بباريس سنة ١٨١١م،١٩ وأقدم مصدر عربي يبحث عن تلك العلاقات هو «رحلات ماركوبولو» في القرن الثالث عشر الميلادي، وكان الحرير أهم أنواع التجارة الصينية إلى بلاد العرب.
    وكما امتدَّ نشاط تجار بغداد إلى المشرق امتد كذلك من المغرب منذ عهدٍ قديم، أعني بلاد مصر وشمال إفريقية وأواسطها، والأندلس وأوروبا الغربية، وقد فكر الرشيد في حفر قناة السويس كما يذكر المسعودي (مروج الذهب، ٤: ٩٨)، هذا ولم تكن صلات بغداد بأوروبا الشرقية وحوض نهر الفولغا قليلة؛ فقد سافر تجَّارها إلى هاتيك الأصقاع عن طريق البحر الأسود وبحر قزوين، وكانوا يحملون إليها البخور والسكَّر والمنسوجات والأواني والأوائل الزجاجية والفولاذية،٢٠ وكانت ميناء البصرة أعظم ميناء إسلامي في ذلك الحين، وربما بلغ دخل بعض تجارها ما ينيف عن المليون درهم، ويليها في ذلك ميناء مدينة سيراف.٢١
  • وأما الصناعة: فقد تبعت التجارة والزراعة في تقدمها، وكان لكل إقليم من الأقاليم الإسلامية براعة خاصة في أنواع من الصناعات، فإقليم المشرق برع في حياكة السجاد والنسيج المُوشى والعبي والملبوسات القطنية والحريرية والصوفية والديباج، وبلاد العراق وخاصة الكوفة برعت في صنع المنسوجات والمناديل المخططة والأقمشة الصوفية والحريرية والقطنية، كما كانت في العراق معامل الصابون والتطريز والورق والفَخَّار والخزف والزجاج، وبلاد الشام اشتهرت بصناعة الصابون والموائد المزخرفة والقناديل المحلاة بالذهب والمزهريات من معدنية وفَخَّارية وزجاجية، وغير ذلك من الأواني البيتية، وكانت دمشق خاصة بارعة في صناعة السيوف والخناجر والفسيفساء التي ورثتها عن العهد البيزنطي واقتنتها، سواء في صناعات الخشب أو المعادن أو الزجاج أو الحجارة، ومن الصناعات الهامة التي يجدر بنا الوقوف عندها قليلًا صناعة الورق، وهي صناعة رائجة، وهي في الأصل صناعة صينية جاءت المسلمين عن طريق سمرقند، التي فُتحت سنة ٨٧ھ/٧١٤م، وفي بغداد أُسس أول معمل للورق منذ فجر القرن الثاني، وفي مصر والشام في القرن الثالث، وفي إفريقية في القرن الرابع، ومنها انتقل إلى إسبانيا فأوروبا، ولعل أقدم مخطوطة عربية معروفة اليوم ترجع إلى القرن الثالث وهي: «كتاب غريب الحديث» لابن سلَّام، المكتوب في ذي القعدة سنة ٢٥٢ والمحفوظ بمكتبة جامعة ليدن.

    ومن الصناعات العربية الرفيعة صناعة الصياغة من ذهبية وفضية وجوهرية، وإن من المعروف أن العرب منذ القديم قد اهتموا بعلم الأحجار الكريمة والبحث عن الجواهر الثمينة من لؤلؤ وياقوت أزرق وأحمر وزمرد وألماس وفيروز وما إلى ذلك، وألفوا في هذا العلم رسائل، وقد كان الأغنياء والأرستقراطيون المسلمون يحرصون منذ القرن الأول على اقتناء الجواهر والمَصُوغات ونفائس الحجارة، ويقال إن الرشيد اقتنى أجلَّ جوهرة كانت لدى الأكاسرة، وهي من الياقوت الأحمر بحجم كبير ولون صافٍ، وإنه دفع ثمنها أربعين ألف دينار كما يذكر الطبري (في تاريخه، ٣: ٦٠٣) والمسعودي (في مروج الذهب، ٧: ٣٧٦)، ويقال إن هذا الحجر كان يضيء بالليل مثل المصباح المنير، فإذا وُضع في بيت مظلم أشرق ذلك البيت، ويذكر الطبري (في تاريخه، ٣: ٧٠٣) أن يحيى بن خالد البرمكي ساوم بعض تجار بغداد على شراء سقط من الجوهر بسبعة ملايين درهم فأبى أن يبيعه صاحبه إلا بأكثر من ذلك، ولا شكَّ في أن الذي ساعد على رقي هذه الصناعة وتفنُّن أصحابها بها هو وجود مناجم الحجارة الكريمة في كثير من أرجاء المملكة الإسلامية؛ فالذهب والفضة والزيبق موجود في خراسان وبلاد المشرق، والياقوت واللازورد والألماس فيما وراء النهر، والرصاص في كرمان، واللؤلؤ في البحرين وعمان، والفيروز في نيسابور والعقيق في اليمن، والحديد في لبنان والشام، والرخام والصلصال في تبريز، والكحل في اليمن وأصفهان، والرخام والكبريت والحديد في الشام.

(٩) خاتمته

كان الرشيد واسطة عِقْدِ بني العباس رجولةً ومروءةً ودينًا وعفَّةً وتصدقًا، وما كان متزمتًا جافًّا، بل كان يبيح لنفسه أن تلهو لهوًا بريئًا شريفًا، كما كان ذا جهاد في سبيل الله ودمعة سريعة خوفًا من الله، ولولا بعض الهَنَاتِ أُخذت عليه من تسييبه الأمر في أول عهده للبرامكة، ومن سوء عملته في قصة ولاية العهد، فقد عهد إلى الأمين مع أن المأمون كان أحزم وأكبر، نزولًا عند إرادة زبيدة وبني هاشم، ومن استماعه للوشاة، ومن سماحه للنساء بالمداخلة في شئون الدولة، ومن إقراره لبعض طلبات عماله الظالمة … أقول: لولا هذه الهَنَات لكان عصر الرشيد عصر الكمال في تاريخ الدولة الإسلامية؛ فإنه يندر وجود شخص يجمع ما حباه الله به من عقل وعلم وسياسية وتشجيع لأهل الفضل والمروءة، وعناية بشئون الدولة والسهر عليها والحفاظ على مصالحها، وجهاد في سبيلها ورفع شأن الخلافة في نظر العالم، هذه هي صورة هارون الرشيد الحقيقية كما نراها، أما ما يصوره به بعض القُصَّاص والأسطوريين فحديث خرافة سبَّبَهُ «كتاب ألف ليلة وليلة» وبعض أصحاب الروايات والأقاصيص التي كُتبت عن عهده بأقلام بعض الأوروبيين أو بعض المشارقة، فلا ينبغي أن نلتفت إلى ذلك بعدما عرفنا حقيقة الرجل؛ فقد كانت حياته وسيرته من أجلِّ سير الرجال وأحفلها بالخير والعمل، منذ أن تولى إمارة المؤمنين إلى أن تُوفي شابًّا في معية العمر، ولم يكن له من العمر إلا أربع وأربعون سنة؛ إذ مات في جمادى الأولى سنة ١٩٣ھ/٨٠٩م، وقد دامت خلافته ثلاثًا وعشرين سنة وشهرين ونصفًا، وكان إذ ذاك خارجًا من بغداد قاصدًا خراسان عندما بلغه خبر ثورة رافع بن الليث، وكان معه ابناه المأمون وصالح، وكان الأمين خليفته في بغداد، فلما وصل إلى طوس اشتدت به علته فمات رحمه الله، وصلى عليه ابنه صالح؛ لأن المأمون كان سبقه إلى مرو، ودُفن حيث لفظ أنفاسه بطوس، ولا يزال قبره معروفًا هناك إلى جانب مسجد الإمام علي بن موسى الرضا في مدينة مشهد.

١  انظر الطبري، ١٠: ٥٤؛ والفخري، ص١٧٠.
٢  انظر كتاب الأخبار الطوال، ص٣٨٧.
٣  تاريخ اليعقوبي، ٣: ١٤٣.
٤  راجع التفاصيل في تاريخ الطبري، ١٠: ٦٢.
٥  تاريخ ابن الأثير، ٦: ١٥٣.
٦  تاريخ الطبري، ١٠: ٩٢.
٧  انظر الطبري، ١٠: ٩٧.
٨  انظر الطبري، ١٠: ٩٩.
٩  هذه المصادر اللاتينية هي:
  • حياة شارلمان تأليف إنبهارد Einhard-Vita Caroli.
  • وكتاب الأخبار الملكية الفرنسية Annales Regni Francorum.
  • ترجمة حياة شارلمان Vie de charlemagne éd. et. trad.  
  • L. Halphen Paris 1923.
١٠  حضارة الإسلام في دار السلام، ص٢٦٥.
١١  تاريخ العرب المطول، ٢: ٣٧٠.
١٢  العصر العباسي الأول، ص١٤٩.
١٣  راجع تاريخ العرب المطول لفيليب حتي، ٢: ٣٨٢، ٤٦٢.
١٤  راجع النبراس في تاريخ بني العباس لدحية، ص٣٨.
١٥  تاريخ الطبري، ١٠: ٥٢.
١٦  الكراع: اسم يُطلق على الحيوانات المركوبة من خيل وبغال وحمير وجمال.
١٧  انظر قاموس الملابس لدوزي، ص٢٠٦.
Dozy-Dictionnaire Détillé des noms des Vétéments p. 203.
١٨  انظر كتاب ابن أبي أصيبعة، ١: ١٣٩.
١٩  راجع كتاب Marchal-Islam in china 1910 p. 36.
٢٠  انظر تاريخ العرب المطول لفيليب حتي، ٢: ٤٢٢.
٢١  انظر كتاب الممالك للإصطخري، ص١٣٨؛ وكذلك كتاب ابن حوقل، ١٩٨؛ وكتاب المقدسي، ص٤٢٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤