الفصل الثالث

الطبيعة البشرية والمجتمع المدني

يعتبر «خطاب عن اللامساواة» أهم كتابات روسو المبكرة وأبرزها على الإطلاق، وبالإضافة إلى «العقد الاجتماعي» و«إميل»، كان لهذا العمل أوسع أثر بين أعماله كلها. ولكن أثره على قُرَّائه لم يكن فوريًّا أو قويًّا جدًّا كرد الفعل العام تجاه عمله «خطاب حول الفنون والعلوم» أو «رسالة عن الموسيقى الفرنسية»؛ حيث إنه — على النقيض من «الخطاب» الأول — لم يَنَلْ جائزة أكاديمية ديجون التي دخلها روسو به طمعًا في الحصول على جائزة جديدة، وافتقر إلى إسهام روسو في جدال كان مثيرًا للاهتمام مثل «الخلاف بين الممثلين الهزليين» الذي أثار مشاعر قوية بين أنصار السياسة والموسيقى الفرنسية والإيطالية على حد سواء. حاول هذا العمل، الأقل اهتمامًا في أسلوبه بالزخارف البلاغية من أعماله السابقة، تقديم تحليل أعمق للحضارة وسماتها المميزة بواسطة حجة أقوى، للمرة الأولى بأسلوب سياسي واجتماعي يمثل حقًّا إشراق فلسفة روسو التاريخية في أكثر أشكالها نضجًا. وبينما حاز هذا العمل بعض الثناء وأيضًا قدرًا أكبر من العداء من النقاد الفرنسيين، فإن أثره الأعظم أمكن لمسه ربما أولًا في اسكتلندا، حيث صاغ آدم سميث «نظرية المشاعر الأخلاقية» خاصته جزئيًّا كرد على مُؤَلَّف روسو، وبنى اللورد مونبودو حجته الخاصة ببشرية القِرَدة العُليا في عمله «أصل اللغة وتطورها» في ضوء الافتراضات المتعلقة بهذا الموضوع التي حواها عمل روسو. وفي ألمانيا، استلهم كانط في «فكرة لتاريخ عالمي» وهيردر في «أفكار حول فلسفة تاريخ البشرية» أيضًا من مبادئ ذلك الخطاب التطورية؛ فاستلهم كانط تحديدًا تمييزه بين تهذيب الثقافة وغرس الأخلاق، بينما استلهم هيردر بصفة أكثر خصوصية رؤيته للتشكل الاجتماعي للغة. وفي عصرنا الحالي، اعتبر كلود ليفي-ستروس هذا العمل الإسهام التنويري الافتتاحي لعلم الأنثروبولوجيا. ورغم أن هذا العمل يستعرض عصورًا أقدم مما تناولتْه أعمال روسو الأخرى، فقد اعتُبر أكثر أعماله راديكالية وتقدمية بين أعماله الرئيسية، وبالتأكيد بين الأعمال التي نُشرت في حياته.

يرجع جزء من السبب وراء اكتساب هذا العمل تلك المكانة إلى الأسلوب النقدي لتقييمه للمبادئ السياسية السابقة، بما في ذلك المفهومَيْن القديم والحديث للقانون الطبيعي والنظريات المعاصرة للعَقْد الاجتماعي. وبينما كان هناك تركيز كبير من جانب روسو في هذا العمل على فلسفة اللغة عند كوندياك والتاريخ الطبيعي عند بوفون، وتعرض بالنقد الشديد لبعض أفكارهما، فإن الأفكار السياسية والاجتماعية لكل من هوبز وبوفندورف ولوك، في المقام الأول، هي التي نالت أكبر قدر من التمحيص والهجوم من جانبه. فقد كان روسو على قناعة بأن هؤلاء المفكرين قدموا رؤية لمصادر الفساد الأخلاقي البشري بشكل كان صحيحًا إلى حد كبير بصفة عامة، لكنهم أساءوا فهم الدلالة الحقيقية لأفكارهم. فمن ناحية، فسروا كيف أن الناس في الماضي تعرضوا للتضليل حتى قبلوا المؤسسات التي أفسدتهم أخلاقيًّا، ولكنهم من ناحية أخرى اعتقدوا أن واجب كل إنسان أن يدعم مثل هذه المؤسسات؛ نظرًا لتقديمها حلولًا لمشكلة أخرى، وهي مشكلة مختلفة بالكامل من وجهة نظر روسو. ودحضه لأفكار كل من هوبز وبوفندورف ولوك سار تقريبًا على نفس الخطوط الأساسية.

في تصدير «خطاب عن اللامساواة»، زعم روسو أنه لا بد أن هناك نوعين من اللامساواة أو التفاوت بين البشر؛ أحدهما طبيعي، ومن ثَمَّ فهو خارج عن إرادتنا، والآخر أخلاقي أو سياسي لأنه يعول على الاختيار البشري (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). لاحظ روسو أنه ما من رابط جوهري بين هذين النوعين من اللامساواة؛ وذلك لأن مزاعم الهيمنة التي يطرحها القلة التي تحكم الأغلبية لا يمكن أن تكون ذات تأثير ما لم يتم الإقرار بصحتها، وهذا الإقرار لا يكون هِبَةً من الطبيعة للحُكَّام وإنما يمنحه الناس لهم. ولذا، فإن الشكلين الأخلاقي والسياسي للَّامساواة اللذين يسودان شتى أرجاء العالم لا يجوز تبريرهما مطلقًا بالإشارة إلى أيٍّ من الخصال الطبيعية التي تميز الأفراد بعضهم عن بعض. ولو كان العكس صحيحًا، لخلقت ممارسة القوة نفسها إلزامًا بالامتثال، ولنال البشر حينئذٍ بشكل ما احترام جيرانهم للسبب نفسه الذي يثير خوفهم منهم. في «العقد الاجتماعي» فسر روسو بإسهاب أكثر أن القوة ليست أساس الحق، وهذا هو موقفه في «خطاب عن اللامساواة» أيضًا. فقد اعتقد هو وغيره من مُنَظِّري العقد الاجتماعي أن القواعد التي تميز بين الأشخاص في المجتمع لا تسود إلا من خلال موافقتهم وحسب؛ ولذا فلا بد أن حالات اللامساواة، بحسب زعم روسو في الجزء الأول من نصه، التي خلقتْها الطبيعة «تحولت» إلى حالات اللامساواة التي فرضها البشر (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى).

fig11
شكل ٣-١: صفحة العنوان والصورة الموجودة في الصفحة المقابلة لها (لوحة «عاد لأنداده») لمقالة «خطاب عن اللامساواة» (أمستردام، ١٧٥٥).

تصور روسو الفكرة المحورية ﻟ «الخطاب» الثاني خاصته على أنها سرد للكيفية التي ربما شهد بها الجنس البشري تحولًا من هذا النوع. فما دام أن أسلافنا في حالتهم الطبيعية لم يكن لِيُتاحَ لهم سوى تواصل عارض ونادر فحسب بعضهم مع بعض، فقد زعم أن عناصر التمييز المبكرة بين الأفراد لم تكن لتتمتع بأي حيثية. لكن حالات اللامساواة التي خلقها البشر أنفسهم شكلت السمات السائدة لكل مجتمع (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). في حالتهم الأصلية، كان من الممكن ألَّا يتمتع أسلافنا «بأي صلات أخلاقية أو واجبات محددة بعضهم تجاه بعض» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى)، وبما أن الإنسان البدائي لم يكن بحاجة لصحبة المخلوقات الأخرى من أقرانه، ولم يكن لديه رغبة في إلحاق الضرر بهم، لم يتحول ضعفه إلى جُبْن أو قوَّتُه إلى خطر محدق بجيرانه إلَّا مع ميلاد المؤسسات الاجتماعية وحسب. إن حالات اللامساواة التي نشأتْ بين الناس في المجتمع، في المقابل؛ حيث تسود العلاقات الثابتة والمحددة، تربط بين الأفراد بعضهم بعضًا بشكل دائم عبر قنوات التبعية والسلطة.

ولأنهم، هوبز وبوفندورف ولوك، أخطئوا تمامًا في تصوراتهم للحالة الطبيعية للبشر، فقد أخطئوا، في المقابل، عندما افترضوا أن كل الأفراد يجب أن يكونوا متساوين في قدراتهم، وتخيل كل من هؤلاء المفكرين أنه كتبعة لهذه المساواة، فإن كل شخص كان سيخشى جيرانه وسيعجز عن العيش في أمان بينهم. إن البشر ذوي القدرات المتكافئة، بحسب زعم هوبز، يمكن أن يسعَوْا لتحقيق الغايات نفسها على مسئوليتهم الشخصية وحسب؛ لأنه من دون قوة مشتركة تجعلهم يخافون ويحترم بعضهم بعضًا، كانوا سيعيشون في حالة حرب دائمة (المواطن، الفصل العاشر، ليفايثن، الفصل الثالث عشر). ولإقرار السلام، كان يجب على البشر تأسيس فكرة الكيان السامي المختلق أو «الإله الفاني»، بحسب افتراضه، الذي يمارس سلطة مطلقة لحماية كل شخص من غيره، بحيث يمكن التغلب على الآثار المدمرة للمساواة عبر إخضاع الأغلبية كلها «لليفايثن». ولذا، بما أن حالات اللامساواة الناتجة عن الحالة الطبيعية لدى روسو كانت غير ذات أهمية بالمرة للبشرية، فبحسب هوبز حقيقة أنه لا بد أن تكون هناك مساواة في عالم ليس له سيد كانت لها أهمية عظيمة، وكانت من بين الأسباب التي جعلت تحقيق السلام في ذلك العالم مستحيلًا بطبيعة الحال.

بالنسبة إلى بوفندورف، بالمثل، لا بد أن البشر كانوا متساوين بشكل مثير للقلاقل في حالتهم الأصلية. وعلى الرغم من أنه اتفق مع هوبز على أن الأنانية هي الدافع الأساسي الذي كان يقودنا، لا الإيثار أو الرفقة، فقد حاجَّ بأننا في الحالة الطبيعية وقعنا تحت رحمة عناصر الطبيعة والحيوانات المفترسة؛ مما دفعنا للتكتل معًا بسبب ضعفنا وترددنا، لا بشكل إيجابي بل بشكل سلبي، كي نبقى على قيد الحياة (قانون الطبيعة والأمم، الباب الثاني، الفصل الثالث). كان هذا مذهب بوفندورف الخاص ﺑ «النزعة الاجتماعية الطبيعية»؛ وهي الخصلة التي أفضت، بحسب زعمه، بأسلافنا إلى تشكيل مجتمعات تزداد تعقيدًا وتطورًا باستمرار نظرًا للإمكانات اللامحدودة والرغبات النهمة التي يتفرد بها جنسنا. وبالتالي، كان نمو المجتمع السياسي تدريجيًّا أكثر مما تخيل هوبز، ولكن بالنسبة إلى بوفندورف، فقد وُجد بالمثل للتغلب على حالة عدم الاستقرار الخطرة التي تسببت فيها حالة المساواة الطبيعية الخاصة بنا عبر قبولنا بقاعدة الحاكم المطلق. قدم المجتمع المدني أو الحضارة، المتخيلة على هذا النحو، علاجًا للشقاء البربري لحالتنا الهمجية. لاحقًا، سيسمي كانط نظرية نشأة المجتمع هذه بمبدأ «النزعة الاجتماعية للاجتماع».

وبالنسبة إلى لوك أيضًا، لا بد أن المساواة الطبيعية بين البشر في حالتهم الأصلية، «التي تكون فيها السلطات والنفوذ كلها متبادلة» (الأطروحة الثانية عن الحكومة، الفصل الثاني)، هي التي جعلت حيازة الممتلكات غير مؤكدة وغير مأمونة. فلا يمكن، بحسب فرضيته، حماية الملكية الخاصة وضمان حقنا الطبيعي فيها إلَّا في المجتمع المدني حيث تقوم بحمايتها دومًا سلطة أعلى مكلفة بالعناية بها. وبينما كان تركيز هوبز الأساسي البعد السياسي للسلام، وبوفندورف الحاجة الجمعية للأمن، ولوك الحماية المدنية للملكية، بدا أن الكُتَّاب الثلاثة متفقون على أن الأفراد كانوا بفطرتهم عاجزين عن الاستمرار في الحياة في غياب الحكومة، ومن ثَمَّ لا بد دومًا من خلق سلطة حاكمة للحدِّ من الأخطار التي تصاحب المساواة المطلقة بين البشر.

كانت رؤية روسو لأصول اللامساواة في «الخطاب» الثاني على الأقل موجهة جزئيًّا لمعارضة هذه المزاعم. ففي رأيه، لا بد أن السلطات العليا التي تخيلها هوبز وبوفندورف ولوك عززت من الاختلافات التي تفرق الناس بعضهم عن بعض، ولم تتجاوز مثل هذه الاختلافات. لقد اعتقد روسو أنه يستحيل أن يكتشف المرء من أعمال أيٍّ من هؤلاء أو غيرهم من المفكرين السياسيين لماذا كان ينبغي على البشر في حالتهم الطبيعية التماس الحماية من جيرانهم، لكنه اعتقد أن أفكارهم مجتمعة فسرت مع ذلك كيف اعتبر البشر هذه العلاقات المحددة والثابتة التي تشكل الاختلافات فيما بينهم شرعية في المجتمع الفاسد. وبحسب روسو، تحديدًا في مواجهة هوبز، صحيح أن البشر لا بد أنهم استحدثوا كل التزاماتهم الاجتماعية من أجل حماية حياتهم وممتلكاتهم، ولكن ما دام أنه من الممكن أنهم لم يكونوا في حالة حرب، أو أنهم حازوا أي ممتلكات، أو كانت لديهم أي طموحات للهيمنة أو أي سبب يدعو الواحد منهم للخوف من الآخر، في حالتهم الطبيعية، فقد كان من غير المتصور أن يشعروا أصلًا بالحاجة إلى مثل هذا الأمن (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). كان من الممكن ألَّا تنطوي الحالة الطبيعية على عوامل داخلية تُقصِي مَن يعيشون تحت مظلتها خارجها، ولم تكن مشاعر الحسد أو الريبة التي تجعل الناس يخشون على أمانهم أو يهابون خسارة ممتلكاتهم، في رأيه، ملائمة ببساطة للبشر الذين كانوا يعيشون وحدهم راضين.

في «خطاب عن اللامساواة» أقر روسو بأن فكرة الملكية الخاصة لا بد أنها شكلت المبدأ «الأكثر» جوهرية للالتزام ضمن مجتمع ما، وعلى الرغم من أنه من المستبعد أصلًا أن يصوغ الهمج مبادئ من أي نوع، أصر روسو على أن مثل هذه الفكرة لا بد أنها قد نشأت في فترة ما بعد أن شرعوا في الاستقرار في مجتمعات. أخطأ بوفندورف عندما افترض أن النزعة الاجتماعية الطبيعية للبشر لا بد أنها دفعتهم إلى العيش معًا، بما أن المجتمع نفسه غير طبيعي ويعول على مفردات رمزية متفق عليها، أي لغة، وهي التي تجعل إطار الخطاب المفهوم المشترك ممكنًا. لكن اللغة بدورها لم يكن يمكن أن تنشأ دون مجتمع موجود مسبقًا قام بتشكيلها وأعطاها معنًى مقبولًا عمومًا للألفاظ المفردة. وفي ظل حاجة اللغة إلى مجتمع بنفس قدر حاجة المجتمع إلى لغة، انتهى روسو — في فقرة تتناول أصول اللغة الموجهة فوق كل شيء للفلسفة اللغوية لكوندياك — إلى أنه يعجز عن إثبات أيهما سبق الآخر (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى).

في رأي روسو، توصل كوندياك، في عمله «مقالة عن المعرفة البشرية» الصادر عام ١٧٤٦، بشكل صحيح إلى أنه من غير الممكن أنه كانت هناك لغات قائمة على المنطق في الحالة البدائية للبشرية، أيًّا كانت الوسيلة التي تشكلت بها، ما دامت المهارة اللغوية يمكن اكتسابها وحسب بمجهود كبير في غضون فترة تدريب طويلة. أدرك كوندياك، وكذا روسو، أن اللغات البدائية للبشر لا بد أنها كانت مجرد صرخات طبيعية (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى؛ مقالة عن المعرفة البشرية، الجزء الأول، القسم الثاني). ولكن على العكس من روسو، تخيل كوندياك أن هذه التعبيرات العفوية كانت رموزًا بدائية للفكر، تمثل الترابط البدائي للأفكار لدى أسلافنا؛ لأنه حتى في أقدم العصور لا بد أن استخدامهم للرموز اللغوية الاعتباطية كان يشير إلى شيء آخر بخلاف اللغة. في «خطاب عن اللامساواة» عارض روسو هذه الأطروحة زاعمًا أن الأفراد في حالتهم الطبيعية لم يكونوا ليشرعوا في تصور أفكار دون لغة، تمامًا كما لم يكن باستطاعتهم إقامة مجتمع دون لغة (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). زعم روسو أن الهمج كانوا بحاجة إلى خبرة في التاريخ الطبيعي والميتافيزيقا لكي يفهموا المعاني العامة للاصطلاحات التي تقتضيها حتى أكثر الرموز اللغوية بدائيةً (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى)، بما أن اللغة لا تمثل الأفكار والصور وحسب، بل تُبَيِّن وتُشَكِّل جزءًا أساسيًّا منها، إذ لا تمتلك وضعًا مستقلًّا خاصًّا بها.

في غياب المجتمع واللغة في أكثر حالاتنا همجية، كان تأسيس حق الملكية، بوصفه الذي أشار إليه لوك، مستحيلًا أيضًا هناك. فلم يكن من الممكن أن يعبر الرجال والنساء عن ادعاءاتهم الخاصة بالملكية أو يفهموها حتى تُوضَع أولًا القواعد اللغوية للحياة الاجتماعية؛ لأنه دون شكل ما من اللغة لم يكن ليتشكل لدى الأفراد تصور عما ينضوي تحت ملكيتهم تحديدًا، ولما كان باستطاعتهم احترام أي شيء يملكه الآخرون. وحقيقة الأمر أن تأسيس الملكية الخاصة، بحسب اعتقاد روسو، لا بد أنه اعتمد على مجموعة متنوعة كاملة من الأعراف والممارسات التي تطورت على مدار التاريخ البشري. ولم يتطلب لغة وحسب، بل صناعة وأعمالًا وتطورًا وتنويرًا بحيث شكَّل فعليًّا ما أطلق عليه «الحد الأخير في الحالة الطبيعية»، والحد الأول لنشأة المجتمع المدني (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى).

لكن إذا كانت فكرة امتلاك حق حصري في حيازة بعض الأراضي لم يكن من الممكن اكتسابها إلا بعد أن شرع البشر في إقامة علاقات ثابتة بعضهم مع بعض، فما زال من المهم لروسو أنه من الواجب علينا إدراك أن التأسيس الذي تم استنادًا إلى هذه الفكرة يعتبر محوريًّا في جميع العلاقات الاجتماعية اللاحقة. لاحظ روسو أن «الإنسان الأول الذي سوَّر قطعة أرض، وفكَّر في عبارة «هي ملكي»، ووجد من البسطاء مَن يصدقونه … كان مؤسس المجتمع المدني الحقيقي.» إن هذا المُدَّعِي، السلف الهمجي لجنسنا البشري المُستلهم من بلاغة لوك البارعة، زجَّ بالبشرية إلى التبعية الاجتماعية، طامسًا الحقيقة، التي أقرها لوك نفسه قبل أن يطرح قضيته المتعلقة بالملكية الخاصة، التي مفادها أن «ثمار الأرض لنا جميعًا، والأرض نفسها ليست ملكًا لأحد» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). لو كان المجتمع المدني قد تشكل من الأساس لتبرير علاقات الملكية البشرية، فلا بد إذن أن «هذه العلاقات»، علاوة على ذلك، هي التي أشعلت أتون الحرب. ولا بد أن الأراضي أمستْ شحيحة من خلال الاستئثار الفردي والميراث، بينما لا بد أنه كانت هناك زيادة في عدد السكان؛ مما أفضى إلى حالات اغتصاب للأراضي من قِبَل الأثرياء، وسرقة مِن قِبَل الفقراء، وأهواء لا كابح لها من قِبَل الطرفين (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). ولذا، كما أخطأ لوك في افتراضه أن البشر كان بإمكانهم تأسيس حقوق إقليمية للاستخدام والحيازة الحصريين قبل أن يُقِيموا أي مؤسسات اجتماعية، أخفق هوبز في إدراك أن علاقات الملكية التي أقامها البشر في مجتمعاتهم لا بد أنها كانت السبب الرئيسي في اندلاع الحرب، بحسب زعم روسو (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). وبما أن البشر كان من الممكن أن يضر بعضهم بعضًا فقط بعدَ أن يقيموا علاقات ملكية تقسيمية، وبسبب هذه العلاقات، لم يكن لديهم ببساطة في حالتهم الطبيعية الخالية من فكرة الملكية أي داعٍ لإلحاق الضرر بعضهم ببعض أو ليعاني أحدهم على أيدي الآخرين.

لذا، اعتقد روسو أن العقد الاجتماعي الذي وضعه البشر لتأمين ممتلكاتهم لم يكن ليُصاغ في الحالة الطبيعية، ولكن، على النقيض، لا بد أنه حيلة احتال بها الأثرياء في المجتمع ليخدعوا الفقراء. ربما بدت بنوده مقنعة ظاهريًّا؛ لأن مَن وضعوه أشاروا إلى سيادة القانون غير المتحيزة وإلى أمن كل البشر، لكن غايته الحقيقية كانت تأسيس نظام كانت تقتضيه الضرورة لحماية أملاك البعض على حساب البعض الآخر. وكانت تعني موافقة الفقراء (أي السواد الأعظم من الناس) على هذا العقد أنه مطلوب منهم التخلي عن حقهم في مشاركة الثروة التي يتمتع بها أصحاب الأملاك، وترتب على ذلك أنه في مقابل العيش في سلام وحماية أرواحهم، بحسب تعبير روسو، «تهافت الجميع على قيودهم، ظنًّا منهم أنهم بذلك يضمنون حريتهم» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). إن فكرة أن «الملكية سرقة»، التي روج لها برودون وغيره من الاشتراكيين في القرن التاسع عشر، تَدِين بالكثير لهذه الحجة.

كما رآها روسو من وجهة نظره، فقد خدمت الرؤى السياسية لكل من هوبز وبوفندورف ولوك وحسب غاية توفير إقرار قانوني للامساواة الأخلاقية بين البشر، وترسيخ تلك العلاقات الاجتماعية الظالمة وحسب في القانون وبقوة السلطة القائمة بشكل غير طبيعي، تلك العلاقات التي تتطلب في واقع الأمر قواعد العدالة الخاصة بالمجتمع المدني للسيطرة عليها. قال روسو في الفصل الثاني من الكتاب الأول من «مخطوطة جنيف»، لم يكن الخطأ الذي وقع فيه هوبز افتراضه المسبق بوجود حالة حرب بين البشر فور أن اجتمعوا في مجتمع، بل افتراضه أن هذا الوضع طبيعي وأنه يرجع إلى الرذائل النابعة منه حقًّا لا المفضية إليه (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ العقد الاجتماعي وكتابات سياسية متأخرة أخرى). لقد نظر كل من هؤلاء المفكرين الثلاثة فعليًّا إلى أفكارهم باعتبارها حلولًا لبعض المشكلات التي كانت تلك الحلول في حقيقة الأمر سببًا فيها (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). إن افتراضات هوبز وبوفندورف حيال خصالنا الأساسية جعلتنا نبدو بائسين جدًّا، لدرجة أنه لا يسعنا إلا الإعجاب بالسلام والعدالة اللذين تجلبهما لنا حكوماتنا التي تُحولنا من همج إلى مواطنين. غير أننا عندما نبادر بتنحية الأعمال الرائعة لمثل هؤلاء الكُتَّاب القانونيين جانبًا، وتأمل حال البشر بعمق خارج إطارها، ماذا سنرى؟ هكذا سأل روسو في مقالة موجزة له بعنوان «حالة الحرب»، التي ربما كتبها في أواخر خمسينيات القرن الثامن عشر، والتي ربما كانت ذات صلة بتعليقاته على مساعي الأب دي سان-بيير في أوائل القرن الثامن عشر للترويج للسلام الدائم. أجاب روسو عن ذلك بقوله: إننا نرى كل البشر «يَئِنُّون تحت نِيرٍ حديدي، والبشرية كلها تسحقها حفنة من الطغاة»، والمعاناة والجوع في كل مكان، بينما الأثرياء يعيشون دون أي تأنيب ضمير على معاناة الآخرين وآلامهم؛ وفي شتى أنحاء العالم لا نجد شيئًا سوى «التسلط الشديد على الضعيف من جانب القوي، والمدعوم بقوة القانون المهيبة» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ العقد الاجتماعي وكتابات سياسية متأخرة أخرى). وبرؤًى كهذه عُبِّرَ عنها بألفاظ عميقة مماثلة، عبر أتباع روسو ومعجبوه الراديكاليون خلال الثورة الفرنسية عن ازدرائهم الشديد لمؤسسات النظام الفرنسي القديم.

اعتقد روسو أن هوبز وبوفندورف ولوك قد تغافلوا عن الدلالة الحقيقية لأفكارهم؛ غالبًا لأنهم كانت لهم آراء مغلوطة عن الطبيعة البشرية. فقد نسبوا للإنسان الهمجي مجموعة من الخصال لم يكن ليكتسبها إلَّا عندما يكون عضوًا في مجتمع، وبما أنهم أخفقوا في التمييز بين سماتنا الاجتماعية وخصالنا الفطرية، فإن تصوراتهم لسلوكنا الأصلي تشكلت بسرعة مبالَغ فيها، وتلبستْ بتراكمات تطورنا. وبعد أن اضطلعوا بمهمة تفسير الحالة الطبيعية، بحسب زعم روسو في حاشية مهمة ومطولة في «الخطاب» الثاني، لم يتوانَوْا في نقل أفكارهم عبر قرون من الزمان، وكأن البشر في عزلتهم عاشوا بالفعل مع جيرانهم (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). والأدهى من ذلك أنهم اقترحوا أن بعض أكثر رذائلنا جسامة ينبغي أن يُجِيزها القانون.

السؤال الآن: كيف كان حال أسلافنا إذن دون كابوس تاريخنا الاجتماعي، كشأن تمثال جلوكوس الذي وصفه أفلاطون في الكتاب العاشر من «الجمهورية»، قبل أن تشوِّهه آثار الزمن المدمرة (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى)؟ لقد كانت غاية «خطاب عن اللامساواة» الأساسية تفسير تغير طبيعة جنسنا البشرية بسبب التحولات التي تعرض لها في المجتمع، على غرار الاعتقاد الذي ساد في أواخر القرن العشرين الذي وصف ما حدث للبشرية بأنه انتقال من الطبيعة إلى الحضارة. زعم روسو هنا أن أسلافنا الهمج لا بد أنهم اشتركوا مع غيرهم من الحيوانات الأخرى في خصلتين في حالتهم الطبيعية؛ الأولى: هي حبُّ الذات أو النزعة الدائمة لحفاظ المرء على حياته، والثانية: هي الرأفة أو التعاطف مع معاناة غيره من أبناء جنسه. كتب روسو في مقدمة عمله يقول: «بتدبُّر أول أعمال الروح البشرية وأبسطها على الإطلاق، أعتقد أنه بإمكاني أن أرى فيها مبدأين سابقين للعقل»، يُعنَى أحدُهما برفاهيتنا وحفاظنا على نوعنا، والآخر يُوحِي بوجود نفور طبيعي عند رؤية أي من الكائنات الأخرى وهي تتألم أو تموت. وزعم روسو أنه يبدو أن كل قواعد الحقوق الطبيعية مستقاة من هذا الاتفاق بين هذين المبدأين، دون الحاجة إلى إقحام فكرة بوفندورف عن النزعة الاجتماعية الطبيعية (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). ولا بد أن هاتين الخصلتين كانتا سابقتين للعقل والنزعة الاجتماعية الطبيعية؛ ذلك لأن هاتين السمتين اللاحقتين كانتا ستحتاجان إلى فترة طويلة جدًّا كي تنضجا، ولم يكنْ من الممكن أن يكون لهما أي وجود في حالتنا الطبيعية. وبينما زعم فلاسفة القانون الطبيعي الذين جاءوا قبله أن السبب الأساسي الذي جعل البشر يجتمعون معًا هو وجود نزعة اجتماعية لديهم، وهي التي أمكن إشباعها من خلال امتلاكهم العقل، رفض روسو في «خطاب عن اللامساواة» تأسيس المجتمع على القانون الطبيعي. فهو لم يوافق على فكرة أن البشر يختلفون عن الحيوانات بسبب امتلاكهم لأي خصلة أو مبدأ طبيعي سامٍ؛ ولذا فردًّا على سؤال المسابقة الذي طرحتْه أكاديمية ديجون — «ما أصل اللامساواة بين البشر؟ وهل يجيزها القانون الطبيعي؟» — أجاب مرة أخرى بالنفي تمامًا كما فعل من قبلُ في «خطاب حول الفنون والعلوم». تعجب روسو في ختام «الخطاب» الثاني بأنه «مما ينافي قانون الطبيعة» أن قلة من البشر يعيشون مُتخَمين بما يَفِيض عن حاجتهم بينما يفتقر السواد الأعظم إلى أبسط الضروريات (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). لا يخول القانون الطبيعي اللامساواة، بحسب ظن روسو؛ لأن القانون الطبيعي لا يُملي قواعد السلوك البشري في الحالة البدائية للبشر. ويشكل الجزء المتبقي من «الخطاب» الثاني لروسو محاولة لاقتفاء أصل وتاريخ اللامساواة الأخلاقية.

كان روسو مقتنعًا بأن هوبز تحديدًا تجاهل الرأفة أو التعاطف الطبيعي عند البشر؛ لأنه كان لديه انطباع خاطئ عن حبهم لذاتهم. فقد تخيل أنه لكي يحافظ الأفراد على حياتهم، فإنهم كانوا مضطرين إلى مقاومة محاولات الآخرين القضاء عليها؛ ولهذا كان من المستحيل في الحالة الطبيعية لأي إنسان أن يكون متعاطفًا وآمنًا في الوقت نفسه. لكن بالنسبة إلى روسو، في المقابل، لا يتعارض اهتمام المرء بذاته على النحو الملائم مع اهتمامه برفاهية الآخرين، على العكس من ذلك، فقد اعتقد روسو أن الرغبة التي لا تعرف الرأفة والتعاطف في التمتع بالأمن على حساب أي إنسان آخر تتسبب في نشأة مشاعر الغرور والازدراء التي تُحِيل الغرباء إلى أعداء. لاحظ روسو أن ماندفيل، الذي تشابهتْ نظريتُه عن الطبيعة البشرية في كتابه «قصة النحل» الصادر عام ١٧١٤ مع نظرية هوبز، اتفق مع هذا التصور، على عكس هوبز (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). ولم يكن تصوره عن حب الذات يعني اهتمام المرء بذاته على النحو الملائم بل الخيلاء، وهو شعور نسبي ومصطنع يثير في المجتمع لدى الأفراد رغبة في إعلاء ذواتهم على الآخرين، ويُعتبر، كما يشير روسو في حاشية أخرى مهمة (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى)، مصدرًا «للشعور بالفخر» الذي نسبه هوبز بشكل جوهري وخاطئ للطبيعة البشرية عامةً.

وبينما يرعى البشر والحيوان على حد سواء أنفسهم في حالتهم الطبيعية أو غير المتحضرة ويتعاطفون مع الآخرين من بني جنسهم، فإن الأشخاص المنحرفين أخلاقيًّا وحسب هم الذين يرعَوْن أنفسهم بالنظر إلى الآخرين متمنين أن يكونوا مثلهم أو أفضل منهم. في الحالة الطبيعية الحقَّة، لم يكن للخيلاء وجود. وكان حبُّ الذات والرأفةُ اللذان تُشارِكُنا فيهما بقيةُ المخلوقات كافيَيْن لضمان بقائنا. وباستبعاده الخيلاء من تعريفه للطبيعة البشرية في «الخطاب» الثاني، انفصل روسو عن تقليد قائم على التخمين الذي كان سائدًا في بدايات الفلسفة الحديثة والمتعلق بالدوافع التي تجعل البشر ينزعون إلى الاجتماع. إن الهيمنة المزعومة للعواطف الأنانية على العقل البشري، من ناحية، وتعرضها لتحكم محمود بطرق تدعم الصالح العام، من ناحية أخرى، كانت فرضيةً آمَنَ بِها أتباعُ باسكال من بين فلاسفة اللذَّة الأوغسطينيين، وكذا هيوم وغيره من فلاسفة الأخلاق المحسوبين على حركة التنوير الاسكتلندية، بهدف جعل فكرة «التجارة المُسالِمة» ممكنة، وبهذا يجعلون في نهاية المطاف السبب وراء ثروة الشعوب هو السعي وراء الرفاهية. وعلى نفس هذا النسق جاء تحول علم اللاهوت في القرن السابع عشر إلى علم النفس الاجتماعي في القرن الثامن عشر لدعم روح الرأسمالية، وخلع مصداقية على المؤسسات التي ترعاها. لكن مثل هذه الحجج كانت، بحسب تفسير روسو، مغلوطة بالمرة بسبب عزوها لفكرة مصطبغة بصبغة اجتماعية بالفعل عن حب الذات لأفراد لم يكن لهم أصلًا أن يتأثروا بها. في الجَنَّة كما صُوِّرت في «خطاب عن اللامساواة»، لم يعانِ الإنسان من أي إغراءات من شأنها أن تؤدِّي إلى سقوطه وصعوده اللاحق.

ومع ذلك، افترض روسو أيضًا أن البشر كان لديهم قدرة فريدة على تغيير طبيعتهم. وبينما أن غيره من الأجناس الأخرى من الحيوانات منحها الله بشكل طبيعي الغرائز والقدرات التي تحتاج إليها للبقاء، نجد أن البشر في المقابل أحرار قادرون على الاختيار. وتمييزًا لنا عن المخلوقات المنساقة دومًا وراء غرائزها، فإننا نتمتع بإرادة حرة، وبالتالي نحظَى على الأقل بإمكانية تحمل مسئولية تحديد كيف نعيش حياتنا. لقد رفض هوبز بالفعل هذا التصور العتيق للحرية الذي أحياه روسو بتمييزه بين السلوك القهري والمتعمد. في رأي هوبز، ليست الحيوانات أسيرة شهواتها؛ لأن تلك الشهوات شجعتْها على الحركة بدلًا من أن تكبحها، ومن ثم كانت السبب الذي يدفع سلوكها، لا الكابح الذي يثبط من عزيمتها. ولقد ظن أيضًا أن فكرة حرية الإرادة سخيفة، ما دامت الأجسام وحسب يمكن أن تكون حرة أو مقيدة، أما الإرادة، بما أنها ليست عرضة لأي حركة، فلا يمكن أن تُعانِيَ من أي عائق خارجي يمكن أن يعطلها عن الحركة (ليفايثن، الفصل الحادي والعشرون). لكن روسو — المَدِين في هذه النقطة إلى تقليد الفلسفة الكلاسيكية الذي سعى هوبز للإطاحة به — كان مقتنعًا بأن الطبيعة مارست قيدًا داخليًّا على السلوك الحيواني، وأن أسلافنا، لأنهم كانوا قادرين دومًا على إشباع دوافعهم الطبيعية بعدة سبل متنوعة؛ لم يكونوا مقيدين بالغرائز التي كانت تدفع وتسيطر على كل المخلوقات الأخرى (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). وكان كل فرد ليس معاقًا ذهنيًّا من جنسنا حرًّا في الأساس في أن يحكم نفسه.

ظن روسو أنه نظرًا لأن البشر في حالتهم الطبيعية كانوا قادرين على تمييز أنفسهم عن غيرهم من الحيوانات، لا لأنهم وُهبوا أي خصال خاصة أو مميزة من البداية، فلا بد أن أسلافنا كانت لديهم دومًا ميزة تسمو بهم على غيرهم من المخلوقات بكافة أنواعها. افترض بوفندورف أن الضعف البدني للبشر وجُبْنهم لا بد أنهما جمعا بينهم في الأساس، وهو بذلك يُناقِض تصور هوبز الخاص بحالة الحرب الفطرية. ورغم ذلك، افترض روسو أن تخمين بوفندورف مغلوط شأنه شأن تخمين هوبز. لم يكن المجتمع البشري ضروريًّا لتفادي الحرب أو التغلب على الضعف، وإقامة هذا المجتمع لم تكن ممكنة إلَّا بالإرادة الحرة، والقدرة البشرية — لا الحيوانية — على الاختيار، بحسب زعمه. كانت إقامة المجتمع اختيارية لا ضرورية، حيث نبعت من لاحتمية الطبيعة البشرية، ولم تكن مفروضة على البشر بفعل الطبيعة. ولا بد أن أسلافنا كانوا قادرين على اتخاذ القرار بأنفسهم، حتى في حالتهم الطبيعية، فيما يتعلق بأفضل وسيلة للتعامل مع كل موقف. فكان نظامهم الغذائي المرن يتألف من الفاكهة أو اللحوم، وكان بإمكانهم العَدْو برفقة الحيوانات البرية، وتسلق الأشجار في الوقت نفسه، وكان بإمكانهم الاختيار بين مواجهة الخطر والفرار منه (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). في «خطاب عن اللامساواة» كتب روسو تعليقًا على الهمجي أن «روحية نفسه تتجلَّى تحديدًا في وعيِهِ بهذه الحرية» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى).

علاوةً على ذلك، لا بد أن الجنس البشري كان دومًا مميزًا عن غيره من الأجناس بطريقة أخرى وهي أننا وحدنا نتحلَّى بسمة «الاستعداد للكمال»، وهو اصطلاح قدمه روسو هنا لفلسفة التاريخ وتاريخ الفكر السياسي. في حالته الأصلية، كل إنسان لا بد أنه كان لديه القدرة لا على تغيير خصاله الأساسية وحسب، بل وتحسينها أيضًا. وفور تبنِّي عادات لا يُمكن أن يشاركه إياها الحيوانات الأخرى، استطاع الإنسان أن يجعل من هذه العادات سمة دائمة من سمات شخصيته، وفي رأي روسو، لأن البشر كانوا قادرين تحديدًا على الارتقاء بأنفسهم بشكل تدريجي التماسًا للكمال باعتبارهم كائنات أخلاقية لا انطلاقًا من كونهم مختلفين وحسب عن غيرهم من الكائنات، فمن الممكن أنهم قد شهدوا «تاريخًا» من التغيير. وبعد ألف سنة، ظل كل كائن بخلاف الإنسان يتسم بالغرائز والأنماط الحياتية نفسها التي تحلَّى بها جيله الأول، بحسب تعبير روسو (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى)، مقترحًا بالفعل الأطروحة البيولوجية التي مفادها أن علم تطور السلالات يستعرض وحسب تاريخ التطور الفردي للكائنات. لكن الإنسان، نظرًا لامتلاكه ملكة تطوير الذات، قادر على تحسين طبيعته ومحاولة إيصالها للكمال، وبالمثل فهو يتميز عن الحيوانات من حيث امتلاكه للمَلَكة نفسها التي تجعله يتخذ خطوات رجعية تؤدي به إلى إفساد الذات.

بذا انتهى روسو إلى أن خصلتي الحرية والاستعداد للكمال المنقوصتين الداخليتين جعلتا التطور التاريخي للجنس البشري ممكنًا. وإذ افترض روسو أنه لا بد أننا بطبيعتنا كنا أكثر «شبهًا» بالحيوانات مما تصور هوبز وبوفندورف ولوك، فقد زعم أيضًا أن الفارق بين الرجل الهمجي والمتحضر أكبر من عدة جوانب من الفارق بين الهمج والحيوانات الأخرى (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى)، وهو الزعم الذي تناوله بإسهاب بطريقة تتعارض مع الأفكار الخاصة بالموضوع نفسه التي قدمها بوفون في مؤلَّفه الضخم «التاريخ الطبيعي»، الذي بدأ يظهر على الساحة عام ١٧٤٩. في «خطاب عن اللامساواة» أسهب روسو في الثناء على هذا العمل العلمي والأدبي المبدع؛ حيث استقى منه العديد من الرؤى التي ألهمتْه أفكارًا خاصة بتاريخ الحياة الطبيعية، والهوية التكاثرية والتوارثية للأجناس ككل، وخاصة أنماط التطور في الطبيعة. وما من عمل حظِيَ بمثل هذا الاهتمام العظيم من روسو في خطابه كهذا المُؤَلَّف، ولم يُعجب روسو بأي من معاصريه كما أُعجب ببوفون. وحقيقة الأمر أن «الخطاب» الثاني نظر إليه إلى حد كبير على أنه مجموعة من التخمينات في سياق التاريخ البشري والمدني، على غرار رواية بوفون، في سياق التاريخ الطبيعي، لأصول الأرض ومولد الحيوانات ونموها وتحللها (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى).

fig12
شكل ٣-٢: بورتريه لبوفون.

ورغم ذلك، اختلف روسو مع بوفون في النقطة التي قد يبدو التاريخ الطبيعي والبشري عندها أنهما يتلاقيان، وقد قام بهذا في المقام الأول بتبنِّيه منظورًا خاصًّا بقابلية جنسنا للتغير التي رآها ملائمة جدًّا مع وصف بوفون للمخلوقات الأخرى، والتي أعرض بوفون نفسه عن مدها عند دراسته للبشر. بحسب بوفون، ولا سيما في المجلدات الثاني والثالث والرابع من مؤلفه «التاريخ الطبيعي»، شقت الطبيعة فجوة يتعذر تجاوزها بين عالَمَيِ الحيوانات والإنسان، وهو شقٌّ نوعيُّ في تسلسل الكائنات أو «سُلَّم الارتقاء الطبيعي» الذي ضمن تفوق البشر على الحيوانات كلها، نظرًا لامتلاكنا لعقل أو روح. في عام ١٧٦٦، قُدِّرَ لبوفون، سيرًا في المقام الأول على نهج إدوارد تايسون، عالم التشريح الإنجليزي في القرن السابع عشر، وضع هذه الأطروحة فيما يتعلق بقردة الشمبانزي التي أسماها هو وتايسون «أورانجوتان» (وهو اصطلاح بلغة الملايو يعني «إنسان الغاب»). وصار هذا الاصطلاح اسمًا عامًّا لأغلب القِرَدة العليا، حتى تم تمييز هذين الجنسين الأفريقي والآسيوي، على التوالي، على نحو ملائم في سبعينيات القرن الثامن عشر. وبينما اعتبر تايسون وبوفون أن قِرَدة الأورانجوتان تُشبِهُنا نحنُ البشرَ بقدْر كبير جسمانيًّا في شكلها الخارجي، أصرَّا على أنها يستحيل أن تنتمي للجنس البشري ما دامت تفتقر بشكل واضح إلى القدرات البشرية الخاصة بالتفكير والكلام. لكن روسو، حتى في تأييده أن طبيعة الإنسان روحية بشكل متفرد، عارض أطروحة بوفون وتطبيقها على قردة الأورانجوتان في «الخطاب» الثاني؛ حيث زعم أن تنوع أنواع البشر في شتى أنحاء العالم يوحي بأنه على مدار فترة زمنية طويلة من التطور، ربما شهد جنسنا تحولات أكثر دراماتيكية عن «الجنين الأول» له من تلك التي حدثتْ بسبب التغيرات المعاصرة للمناخ أو النظام الغذائي (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى).

وبما أن اللغة لم تكن فطرية لدى البشر بقدْر ما كانت قدرة إعمال العقل التي عبرت عنها اللغة، لم يكن بوسعنا، كما فعل تايسون ومِن بعده بوفون، الإشارة إلى لغات البشر المتحضرين باعتبارها دليلًا على دونية قردة الأورانجوتان عن البشر. إن هذا الخطأ، بحسب تصور روسو له، أشبه إلى حد كبير بالخطأ الذي وقع فيه كل من هوبز وبوفندورف ولوك وكوندياك عندما أشاروا بشكل خاطئ إلى أن السلوك المعقد في المجتمع دليل على الطبيعة البشرية. وزعم روسو أنه سواء أكانت قردة الأورانجوتان بشرًا بدائيين أم جنسًا آخر أمْرٌ لا يتسنَّى التدليلُ عليه إلَّا بالتجربة، الأمر الذي كان يعني، وفقًا لتعريف بوفون للأجناس القابلة للحياة، إجراء اختبار خصوبة السلالة، إن وجدت، الناجمة عن المخالطة الجنسية بين رجل أو امرأة مع مثل هذا المخلوق (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). أشار روسو إلى أنه من الواضح أن القردة لم تكن أفرادًا في جنسنا، ويرجع ذلك إلى حد كبير لافتقارها للمَلَكَة البشرية الخاصة بوجود استعداد لديها للكمال. ولكن روسو، كما أوضح في رده على شارل بونيه المنادي بالمذهب الطبيعي، الذي انتقد هذه النقطة تحديدًا لديه، حسِب على الأقل أنه من الجائز أن تلك القردة تتمتع بتلك المَلَكَة (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى).

fig13
شكل ٣-٣: شكل رقم ١ من كتاب إدوارد تايسون المعنون «أورانجوتان، أو هومو سيلفيستريس: أو تشريح شامبنزي قزم» (لندن، ١٦٩٩).

لم يؤيد روسو قط أي وجهة نظر تقول بتحول نوع إلى نوع آخر، وهي وجهة النظر التي ستُمسِي الفكرة المحورية للرواية الداروينية عن التطور الطبيعي بعد أكثر من قرن من نشر «خطاب عن اللامساواة». فقد كان مقتنعًا كل الاقتناع بثبات الأنواع في تسلسل المخلوقات التي خلقها الله، وعندما افترض أن الأورانجوتان قد يكون نوعًا محتملًا من أنواع الإنسان البدائي، فقد خمَّن أن هذا المخلوق كان يمشي منتصبًا، وأن شكله كان أشبه بنا، وأنه كان متمايزًا من الناحية الحيوانية عن القردة والقردة العليا. انصبَّ اهتمامه بشأن هذه القردة حقًّا على اللغة، وفي مقابل بوفون وغيره من المؤرخين الطبيعيين وعلماء التشريح، أراد روسو وحسب أن يشدد على أنه، ما دامت اللغة تعبر عن التقاليد الاجتماعية ويتعين تعلمها، لا بد لنا ألَّا نعتبر المخلوقات التي تشبهنا جسمانيًّا لكنها تفتقر إلى إتقاننا للكلام الواضح البيِّن أنها تنتمي للسبب هذا وحده إلى جنس متمايز عنا بالكامل (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). ومع ذلك، ففي تأملاته حول قردة الأورانجوتان، كان لروسو بعض الأثر على التاريخ المبكر للأنثروبولوجيا الطبيعية، وعلم الأحياء التطوري؛ وذلك لأن فرضيته أن الأجناس المتمايزة ظاهريًّا قد تكون متماثلة أو حتى متطابقة وراثيًّا فتَحَتِ احتمالية وجود علاقة تسلسلية للروابط في تسلسل الخلق، التي ستحل في نهاية المطاف محل فكرته عن الثبات، وتستبدل بها فكرة التحول. لم يتخيل أحد في القرن الثامن عشر الطبيعة البشرية باعتبارها أكثر عرضة للتغير في مسار تطورها. ولم يفترض أحد أن الإنسان الهمجي أقرب شبهًا بكثير إلى الحيوانات منه إلى الإنسان المتحضر. وما من أحد قبل روسو كان أقرب منه تصورًا للتاريخ البشري باعتباره انحدارًا للبشر من أحد القردة العليا. علاوة على ذلك، تصادف أن صورته التخمينية بالكامل لقردة الأورانجوتان باعتبارها نوعًا من الهمج غير المتكلمين في حالتهم الطبيعية رُسِمَت بدقة تجريبية أكبر من أي وصف لسلوك تلك القردة على مدار المائتي عام التالية على الأقل؛ أيْ حتى ظهرت الأعمال الميدانية التي اضطلع بها في جنوب شرق آسيا في أواخر ستينيات القرن العشرين بيروتي جالديكاس وجون ماكينون وبيتر رودمان. فتعليقًا على حياة الترحال التي تعيشها هذه المخلوقات، ونظامها الغذائي النباتي، وعلاقاتها الجنسية المتباعدة، وحياتها المنعزلة الكسولة إلى حد كبير، سلط روسو الضوء على الفجوة الاجتماعية التي تفصل بيننا وبين أنواع معينة من القردة العليا التي تخفق أوجه الشبه البيولوجية بينها وبيننا، بما في ذلك فوق كل شيء تركيبة جيناتها، في إخفاء أوجه الاختلاف الشديدة في الخصال السلوكية. وعن طريق تصوير الطبيعة البشرية منزوعة من المجتمع على أنها تشبه حالة أكثر القردة العليا استقلاليةً، فإن تخميناته الخاصة بالحدود الحيوانية لجنسنا تشير إلى مدى تعقيد البعد الاجتماعي لحيواتنا بقدر ما تشير إلى بساطة حالتنا الأصلية.

وبالطبع لم يضمن وجود استعداد للكمال لدى البشر البدائيين في حالتهم الطبيعية تطورهم الأخلاقي؛ وذلك لأن التطور «الحقيقي» لهذه الخصلة اعتمد على الاختيارات الفعلية التي لا بد أن الأفراد قد استقر رأيهم عليها في تبنيهم لمؤسساتهم المجتمعية والسياسية المتعددة. لقد ضمنت هذه الخصلة وحسب أنه يمكن أن يكون هناك تغير تراكمي في اتجاه أو آخر، وكانت متسقة مع تاريخ فساد الإنسان الأخلاقي بقدْر ما كانت متوافقة مع تاريخ تطوره. وبحسب روسو، فقد أساء الإنسان حقًّا استخدام حريته فيما يتعلق بالخصال التي تَشَارَكَهَا مع جميع المخلوقات الأخرى، بحيث إنه، خلال مسار تطوره، كبت تعاطفه وحبه لذاته؛ مما أدى إلى فساد أخلاقه. وبينما تراجع تدريجيًّا تعويل الهمج على الطبيعة، فقد عوَّدوا أنفسهم بالقدر نفسه وبشكل متزايد على اعتماد بعضهم على بعض؛ بحيث عبَّر الواحد منهم عن استعداده الأصلي للكمال بطريقة تتعارض مع حريته الطبيعية، إثر اختياره في المجتمع ليكون عبدًا لنوازع جديدة فرضها هو على نفسه. لقد أدى كمال الفرد في واقع الأمر إلى «تقويض الجنس البشري»، بحسب ما انتهى إليه روسو؛ مما يثبت أن الاستعداد الذي نمتلكه للكمال هو مصدر كل مصائب البشر (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). لقد كان سوء استغلال هذه القدرة على الارتقاء بالذات لا القانون الطبيعي هو الذي أدى إلى تحول اختلافاتنا الجسمانية وحسب إلى فروق أخلاقية مهولة، ومن ثم لعب الدور الأكبر على الإطلاق في تأسيس اللامساواة الاجتماعية.

لو كانت الطبيعة هي التي خلقتِ الفروق الأولى المُهمَلة بين الهمج، فلا بد أن المصادفة هي التي جمعتْ بينهم في بادئ الأمر. في العديد من الفقرات الواردة في «الخطاب» الثاني، وكذا في الفصل التاسع من «مقالة عن أصل اللغات»، خمَّن روسو أن ثمة حوادث وكوارث طبيعية مثل الفيضانات أو الثورات البركانية أو الزلازل لا بد أنها في المقام الأول ألَّفتْ بينَ الهمج المنعزلين وجمعتْهم في مناطق قريبة بعضها من بعض، ربما عَبْر تشكُّل الجزر (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الأعمال الكاملة، المجلد الخامس؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). وبعيشهم على مقربة بعضهم من بعض، هَجَر أسلافنا حياة الترحال، وبصنعهم الأكواخ وغيرها من الملاجئ بالأدوات التي كانت الضرورة تستدعي اختراعها، شرعوا في التوطن وتكوين العائلات، وبهذا يكونون قد استهلُّوا حِقْبة التحول الأول في التاريخ البشري، مستحدثين معها فكرة بدائية عن الملكية، بحسب زعم روسو (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى)، على غرار الأفكار نفسها التي تناولها لاحقًا إنجلز بإسهاب في مؤلفه «أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة». ولكن على فرض أن هذا هو ما كان عليه الحال، كان روسو مقتنعًا بأن مثل هذا التحول في أسلوب حياة الهمج من الصعب أن يُفضِي إلى تطور اللامساواة الاجتماعية نفسها، ولو فقط لأن القوى التي أجبرتْنا أصلًا على الاجتماع بعضنا مع بعض، بحسب ملاحظته في الفصل الثاني من «مقالة عن أصل اللغات»، لا يمكن أن تطابق تلك التي لا بد أنها أبعدتْنا بعضنا عن بعض لاحقًا (الأعمال الكاملة، المجلد الخامس؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). إن الاختلافات الأخلاقية المنتشرة في المجتمع كانت من صنع البشر أنفسهم لا من صنع الطبيعة أو المصادفة، واللامساواة الاجتماعية لم تكن لتنشأ وحسب بسبب عيشنا على مقربة بعضنا من بعض.

والأرجح، بحسب مقترح روسو، أنها نبعتْ من الطريقة التي اتبعها الهمج ﻟ «تحديد» جيرانهم، فور أن بدءوا يلتقون بتواتر غير معتاد. فعندما بدأ أسلافنا، في مستوطناتهم البدائية، في مصادفة الأشخاص أنفسهم يومًا بعد يوم، لا بد أنهم بدءوا يلاحظون إلى حدٍّ ما تلك الخصال التي ميزتهم بعضهم عن بعض. ولا بد أنهم أدركوا تدريجيًّا من بينهم الأقوى أو الأكثر مهارة أو بلاغة أو وسامة، على سبيل المثال. وبصفة عامة، لا بد أنهم شرعوا في ملاحظة الفروق في بنية أجسامهم التي ترجع إلى الطبيعة. ولا بد أن كل إنسان أيضًا حدد ذاته في ضوء السمات التي بدا أن الآخرين أقروا بها باعتبارها مُعَبِّرة عن سلوكه. ولا بد أنه شرع في مقارنة نفسه بالأشخاص الذين أصبحوا تدريجيًّا أكثر ألفة بالنسبة إليه، ولا بد أنه بدأ يرى بعض الأهمية في الفروق التي لاحظها. وفي عزو قيمة لخصائص بعينها وإعلائها على غيرها، حوَّل أسلافُنا تبايناتِهم الطبيعية إلى فروق أخلاقية، وصَرَفُوا انتباهَهم إلى مواهب جيرانهم، وودُّوا أيضًا لو ينالون الإعجاب لمهاراتهم الخاصة. ويبدو أنهم حسدوا الذين يتمتعون بخصال تختلف عما يملكونه من سمات أو احتقروهم؛ وبذلك بدأ التوزيع غير العادل للتقدير العام في التفريق بينهم في طبقات اجتماعية. وبينما «يعيش الهمجي متقوقعًا داخل ذاته، فإن الإنسان الاجتماعي يعيش خارج ذاته دومًا، ولا يقدر على العيش إلا في نفوس الآخرين» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). وفي تصنيفاتهم للسمات التي حددوا بها جيرانهم، لا بد أن البشر البدائيين حوَّلوا النظام الأساسي لتمييز الصفات الطبيعية إلى نظام ترتيبي لتصنيف التفضيلات الأخلاقية؛ «حيث نتج عن هذه التطورات الجديدة»، بحسب نص روسو، «توليفات قاتلة للبراءة والسعادة» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). بالنسبة إلى مونتسكيو أو سميث، لا بد أن الرغبة في نيل احترام الآخرين خلقتِ احتياجات مشتركة ومصالح تجارية خفَّفتْ من وطأة الرغبات النهمة للإنسان البدائي، ولكن بالنسبة إلى روسو لا بد أن هذه المحاكاة وما يلازمها من سعي لتحسين الذات عن طريق مزاولة التجارة كانت بدلًا من ذلك مسئولة عن التقويض الاجتماعي للاكتفاء الذاتي البشري في الحالة البدائية لجنسنا.

وبالطبع ما كانت الخصال البشرية المتعددة التي قدَّرها أسلافنا الهمج لِتتجلَّى كلها في الوقت عينه. ولا بد أن أسلافنا ميزوا مِن بينهم مَن يتمتعون بأعظم قوة (وهي صفة جسدية) قبلَ أن يحكُموا أيُّهم أكثر وسامة أو بلاغة (وهي صفات اجتماعية كما هو واضح تعتمد على الذوق)، وبحسب رواية روسو فإنه من الصعب أن نعرف السبب وراء اعتبار الأفراد لبعض السمات الشخصية أجدر بالإجلال والاحترام من غيرها. لكنه كان مقتنعًا بأنه فَوْر أنْ شرع البشر في عزو أهمية لاختلافاتهم، فلا بد أنهم بذلك هموا بتشكيل مؤسساتهم الاجتماعية. إن براعة وبلاغة البشر البدائيين تحديدًا اللتين يشير إليهما روسو في أُولَى هذه الفقرات من الجزء الثاني من «الخطاب» الثاني لا بد أنهما جعلتا تأسيس فكرة الملكية الشخصية ممكنًا. ولا بد أن المؤسس الحقيقي للمجتمع المدني؛ إذ وجد الناس على قدْر كافٍ من السذاجة لتصديق زعمه بأن قطعة الأرض التي سيَّجَها تخصُّه، استغلَّ براعتَه في التعامل مع الأرض وبلاغته في التعاطي مع جيرانه بطريقة تصبغ شرعية على أكثر علاقاتنا الحاسمة أساسية التي تربط بعضنا ببعض.

بعد تأسيس فكرة الملكية الخاصة، لا بد أن التعدين والزراعة تطورا للارتقاء بإنتاجية الأرض، وفي الوقت نفسه زيادة الفروق الأخلاقية بين الذين يملكونها والذين لا يملكونها. وبينما يرى الشعراء أن الذهب والفضة هما اللذان جعلا البشر متحضرين في البداية، اتبع روسو، واصفًا هنا التحول الثاني الكبير في التاريخ البشري، الفلاسفة الذين يزعمون بأن هذا التحول لا بد أنه حدث تقريبًا إبان زراعة الذرة والتنقيب عن الحديد، وهو ما جعل الأوروبيين بالفعل أسرى احتياجات جديدة، لكنهم لم يدمروا أمريكا الهمجية (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). في «مقالة عن أصل اللغات» التي تتبنى وجهة نظر مختلفة نوعًا ما عن المجتمع البدائي في فصلها التاسع، تجاهل روسو رواية التحوُّلَيْن الكبيرين في التاريخ المبكر للإنسان، مفضلًا، على غرار تيرجو والمؤرخين الاسكتلنديين المعاصرين له القائمة أعمالهم أساسًا على التخمين، التعليق على مراحل الصيد والرعي والزراعة من تطورنا التي يقابلها الإنسان الهمجي والبربري والمتحضر على الترتيب، بحسب ملاحظة روسو (الأعمال الكاملة، المجلد الخامس؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). لكن، لا يوجد ذكر محدد لبوفندورف أو كوندياك أو بوفون في أي موضع في مقالته، التي لا تتبع عكس ترتيب رؤى هوبز ولوك وهو الأمر المحوري جدًّا لحجته في «الخطاب» الثاني. وهنالك، زعم أنه عندما خضعت كل الأرض المتوافرة بشكل واضح بفعل التوريث وزيادة عدد السكان لحقوق الملكية، ما من أحد كان يستطيع أن يحصل على ملكيته أو يزيد من رقعتها إلَّا على حساب الآخرين. ولا بد أن حالة المجتمع المدني بالتبعية أدت إلى اندلاع الحرب، وجعلت الأثرياء من أسلافنا عرضة لخطر أكبر من الفقراء، ما دام أنهم لم يُخاطِروا وحسب بحياتهم، بل وبممتلكاتهم أيضًا؛ لذا، تشكل لديهم حافز قوي على نحو خاص للتفاوض من أجل الوصول لحالة من السلام ظاهريًّا يفرضها القانون، وتنفذها قوات الشرطة. وحفاظًا على حياتهم، لا بد أن الفقراء تخلَّوْا عن حقوقهم في الحصول على أي نصيب من ممتلكات الأثرياء، وبهذا تمكَّن الأفراد المَهَرة والفصحاء بالمجتمع، الأقرب شبهًا بالأشخاص «المجتهدين والعقلانيين» الذين وصفهم لوك في الفصل الخامس من مؤلفه «الأطروحة الثانية عن الحكومة»، من تأمين ثروتهم بالكامل وحمايتها من الغير؛ إذ مارسوا حيلة «أحالتِ اغتصابًا بارعًا إلى حقٍّ نهائي» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). إذا كان قد ثبت خطأ الفلاسفة القانونيين حيال الطبيعة البشرية، فقد كانوا رغم ذلك دقيقِين إلى حد كبير في توصيفاتهم للتاريخ البشري، على فرض أن تصوُّر لوك للملكية الخاصة لا بد أنه سبق تصور حالة الحرب لهوبز، وكان سببًا رئيسيًّا له حقًّا.

إن الأشكال المتمايزة للحكومة التي لا بد أن البشر تبنَّوْها في البداية — الملكية والأرستقراطية وحتى الديمقراطية — كلها تَدِين في ظهورها، بحسب اقتراح روسو، للدرجات المختلفة للامساواة السائدة إبان تأسيسها (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). ولكن حيث إن كل شكل من أشكال الحكومة كان الهدف منه إضفاء المشروعية على تفاوتنا الأخلاقي والتأسيس له، لا بد أنه اتبع في كل حالة نمطًا مماثلًا من أنماط التطور. ولا بد أنه وسَّعَ تدريجيًّا سلطان الأثرياء، وفي الوقت نفسه زاد من التزامات الفقراء، حتى تحولت غالبية العلاقات بين البشر في المجتمع إلى علاقات بين سادة وعبيد. ولا بد أن المؤسسات التي تأسست في بداية الأمر بالاتفاق أفسحت في نهاية المطاف المجال لوجود سلطة تعسفية، ولا بد أن الحكومات بعد فترة أصبحت تُرهِق رعاياها بأعباء ثقيلة جدًّا لدرجة أنها لم تَعُدْ تستطيع الحفاظ على السلام الذي أقيمت من أجل ضمانه؛ لذا، خضع المجتمع المدني للتغير الثوري، ولا بد أن البشر فروا من الأزمات الدورية لتطورهم السياسي فقط باللجوء إلى سادة جُدُد أقنعتْهم بلاغتهم الملتوية بتبني المزيد من مبادئ الاستعباد والاستبداد التي تُوضع أُطُرها في خضم الفوضى والثورة (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). علق روسو على هذا قرابة ختام مؤلفه قائلًا: «وهنا آخِرُ حدٍّ للامساواة وأقصى نقطة تُغلِق الدائرة» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). تأسست حالة طبيعية جديدة حيث الهيمنة والسيادة للأقوى، لكنها حالة طبيعية ليست بنقائها الأول، بل حالة تعتمد بدلًا من ذلك على الفساد المفرط.

إن هذا التصوير للمراحل الثورية لتاريخنا الاجتماعي التي لا بد أنها أَنْتَجَتْ في بداية الأمر حكمَ الطغاة وقضتْ عليه بعد ذلك قُدِّرَ لإنجلز أن يصفه لاحقًا في كتابه «الرد على دورينج» باعتباره «نفيًا للنفي»، ومن ثم فهو تأويل جدلي للتاريخ البشري مهد الطريق للتأويل الخاص بماركس في نفس الإطار. وحقيقة الأمر أن ماركس نفسه لم يوافق قط على هذا الحكم، وفضَّلَ، شأنه شأن هيجل، أن ينظر لروسو باعتباره فيلسوفًا تنويريًّا ملتزمًا تجاه الحقوق الطبيعية المجردة للبشر التي كان تحقيقها إبان الثورة الفرنسية بمثابة إيذان بانتصار سياسي للطبقة البرجوازية. لكن، لو كان قد قرأ «خطاب عن اللامساواة» بالعناية التي أولاها إنجلز للجزء الثاني منه تحديدًا، لربما لاحظ وجود نظرية لتطور الملكية الشخصية واللامساواة الاجتماعية قريبة بشكل مدهش من مفهومه الشخصي عن التاريخ باعتباره تتابعًا من الصراعات الطبقية خفف من وطأتِهِ حكمُ القانون الأيديولوجي. لم يكن روسو ثانيةً ماركسيًّا جدًّا في تفسيره للمجتمع كما كان في الصفحات الختامية من «الخطاب» الثاني.

رغم ذلك، ينبغي أن نضع في الاعتبار أن روسو، على النقيض من ماركس، تصور حجته كاستعراض «تخميني» لأصول اللامساواة. لم يكن الهدف من أفكاره طرح تاريخ للبشرية بقدر ما كان وضع نظرية للطبيعة البشرية، وقد استقى وصفه للماضي من فهمه للحالة الأخلاقية التي أصبح عليها جنسنا. وكان روسو يرى أن السمات الأساسية لطبيعتنا يمكن الكشف عنها فقط إذا كان بالإمكان أن نتأملها بمعزل عن السمات المعاصرة السطحية لسلوكنا، بحيث ينبغي نزع الإنسان الطبيعي من المواطن، بدلًا من أن يتشكل الإنسان المتحضر من الهمجي. وحيث إن روسو بدأ بحثه من خلال منظور الحالة الحالية للبشرية، فمن المنطقي ألَّا تعتمد محاولته لبناء صورة الماضي القائمة على الافتراض كثيرًا على أي تاريخ لأحداث فعلية. فقد أشار إلى أنه قد نحَّى كل الحقائق جانبًا (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى)؛ حيث إنها لا تؤثر على المسألة. وكانت استقصاءاته افتراضية لا تاريخية، وتسعى لتفسير طبيعة الأشياء دون أن تؤكد أصلها الفعلي. ولذا كانت الحالة الطبيعة التي عرضها مصممة باعتبارها عالمًا خياليًّا أُقْصِيَت منه السمات الفاسدة للمجتمع، ولم تكن نقطةُ انطلاقِهِ الماضيَ السحيق الذي لم يتبقَّ منه سوى معلومات محدودة على أي حال، بل العالَم الحاضر الذي نعرفه جميعًا تمام المعرفة. لقد صيغ «خطاب عن اللامساواة» بقدر أقل كتاريخ عام للجنس البشري وبقدر أكبر كنظرية للطبيعة البشرية طُرِحَتْ في شكل تاريخ، ولم يكن من المرجح العثور على الهمج المنعزلين الذين وصفهم روسو بأنهم أسلاف الإنسان الحديث بين البشر البدائيين الذين عاشوا في الماضي السحيق تمامًا كما كان من المستبعد العثور على الكائنات الحديثة كليًّا لهوبز وبوفندورف ولوك. آمن روسو بأنه لم يكن هناك إنسان طبيعي قط حقًّا، لكنه استطاع طرح نظرية عن تغيرنا الأخلاقي نسبةً إلى مثل هذه الشخصية (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى).

بالطبع إذا كانت الحالة الطبيعية محض خيال، فمن المنطقي أنه لن يُجدِي أن نحاول العودة إليها، وذلك كما أوضح روسو نفسه في أطول حاشية في مقالته (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). وزعم روسو لاحقًا في مؤلفه «محاورات» أن «الطبيعة البشرية لا تخطو خطوة للوراء قط» (الأعمال الكاملة، المجلد الأول). وما إن نهجر براءتنا المفقودة حتى لا يمكننا استعادتها فيما بعدُ. وحتى هذا النوع من المجتمع البدائي الذي لا بد أنه نشأ فيما يصفه روسو ﺑ «أكثر الحِقَب سعادة واستقرارًا» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى) كان مجتمعًا لا يمكن أن يأمل الإنسان المتحضر في استعادته. إن تلك الحالة البدائية التي كان أسلافنا يعيشون فيها ببساطة وفي سلام ووئام بعضهم مع بعض هي في مكان ما بين ماضٍ خيالي وحاضر واقعي، وتحوي عناصر من الزمانين. ولو كان البشر قد عاشوا في هذه الحالة، لربما كان من الأفضل لهم ألا يفارقوها، لكن العالم الذي فُقِدَ من المستحيل استعادته، والحالة المستخلصة من الحاضر لم تقدم المبادئ الأخلاقية الملائمة للأجيال القادمة. وكما اتضح في رده على الهجوم الموجَّه إلى «الخطاب» الأول من قِبَل المَلِك ستانيسواف، في محاولتنا العودة إلى حالتنا الطبيعية، من الممكن أن نغرق في الفوضى والدمار، وليس بالإمكان محو شرور المجتمع الفاسد بادعاء الجهل.

بهذه الطريقة وظف روسو بعض المبادئ السياسية لهوبز وبوفندورف ولوك في مناقشته لأصول اللامساواة. فقد كان يرى أن أفكارهم طرحت رواية دقيقة تمامًا، لا لالتزاماتنا الحقة، بل لماضينا على النحو الذي لا بد أنه كان عليه، وأن الصلات التعاقدية التي عرضت في نظريات كلٍّ من هؤلاء وغيرهم من المفكرين ساعدت على تفسير كيف تسنَّى للبشر إبرام هذه الاتفاقات التي أفسدتْهم أخلاقيًّا. ومع ذلك، اعتقد روسو أنه بما أن الأعراف الاجتماعية التي أفسدت البشر فرضها الأفراد على أنفسهم، لم يكن من المستحيل بالنسبة إليهم قط، حتى في المجتمعات الفاسدة، أن يقيموا مؤسسات من نوع مختلف بالكلية. وإذا ضاعت حريتنا الطبيعية بلا رجعة، فإن قدرتنا على تحسين أنفسنا، من ناحية أخرى، ظلت دون مساس، وكما يزعم لاحقًا في «العقد الاجتماعي» (الكتاب الثالث، الفصل الثاني عشر)، فإن الممكن في علاقاتنا الأخلاقية أقل تقييدًا بشكل حادٍّ مما هو مفترض. لا بد أن الإنسان أساء استخدام مَلَكَة الاستعداد للكمال بطريقة قيدت حريته عندما أسس للملكية الخاصة، وانتقل من الهمجية إلى الحضارة. لكن، إذا كان الإنسان يتمتع باستعداد للكمال بطبيعة الحال، لكان بالإمكان تصحيح الأخطاء التي اقترفها على الأقل نظريًّا والتغلب عليها. في الجمهوريات العتيقة كما تخيلها روسو، تشكلت المجتمعات المتحضرة في إطار جعل المواطنين أحرارًا أخلاقيًّا ومتساوين سياسيًّا تحت مظلة القانون، وفي «العقد الاجتماعي»، ركز روسو انتباهه على الطريقة التي يمكن بها إقامة مؤسسات بديلة تراعي مثل هذه الحرية والمساواة في العالم الحديث، كما تأسست في وقت من الأوقات داخل دستور جنيف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤