تمهيد

أرسى علماء الأنثروبولوجيا الثقافية عِلْمهم باعتباره فرعًا قائمًا بذاته بين العلوم منذ قرن ونصف من الزمان، من خلال صياغة تقليد تاريخي يقوم على الملاحظة الشاملة لشعوب أجنبية — من منظور القائمين بالملاحظة — إما باختلاف أعرافها وممارساتها، أو باختلافات أخرى أقل وضوحًا. ومن خلال هذا الفحص الدقيق لإحدى الثقافات الأخرى، ربما تتأتَّى القدرة على إدراك واستيعاب عِزِّها وكرامتها؛ أي استيعاب كيف يمكن لثقافة مشتركة أن تخدم أحد الشعوب، وكيف تواصِل خدمته، أو التعرُّف على النقطة التي قد تنهار عندها تلك الثقافة، ومن ثم تعرِّض أفرادها لألوان صغُرَت أو عظُمَت من إهدار الكرامة. لكن الثقافات ليست بسيطةً تتغيَّر في عزلة عن العالم كأنما هي وحدات منفصلة؛ لذلك وجب على عالِم الأنثروبولوجيا دراسة العناصر التي تنتشر سريعًا بين الجماعات الثقافية وعبر المناطق الجغرافية. وفي السياق نفسه، يخاطر القائم بالملاحظة باستخدام معايير تخيُّلية — غالبًا ما تكون مصبوغة بصبغة مثالية نابعة من المجموعة الثقافية التي ينتمي إليها — من أجل عقد مقارنات لا علاقةَ لها بعالم الواقع الغارق في الفوضى. وخلال سنوات عملي المتعلِّق بالشرق العربي — التي امتدَّتْ على مدار نصف قرن من الملاحظة الميدانية والتدريس وإلقاء المحاضرات والكتابة — لاحظتُ درجةً من الانغلاق الفكري، يُشار إليه أحيانًا بالتعصُّب العِرقي، الذي زادت حدَّته مع ازدياد تورُّط الولايات المتحدة وأوروبا في شئون العالم العربي، ومحاولتهما تعريف الشرق مقارَنةً بمجتمعَيْهما. وهذا الكتاب محاولة مني لتقديم تصنيف أنثروبولوجي أو فهْمٍ لما تعنيه جودة ملاحظاتنا لثقافتنا وكرامتنا، ومدى الدقة التي يجب أن تتوافر في عملية استكشاف أي ثقافة حتى يتسنَّى لنا استيعابُ أيِّ كرامةٍ إنسانية أخرى مقارَنةً بكرامتنا نحن.

وقد شمل عملي المتعلِّق بالشرق العربي عملًا ميدانيًّا في جنوب لبنان عام ١٩٦١م، وعملًا ميدانيًّا في المغرب عام ١٩٨٠م، وتدريس مقدمة حول الشرق الأوسط في جامعة كاليفورنيا في بيركلي لما يزيد على عشرين عامًا، وكتابات نقدية لكتب، وكتابة مقالات، وتلبية دعواتٍ لإلقاء محاضرات عامة وإجراء لقاءات إعلامية حول نطاق واسع من الموضوعات، غالبًا ما كانت مدفوعةً بالحاجة العاجلة للتصدِّي لحالة الجهل العام بين رفاقي من الأمريكيين. وتناوَلَت تلك المحاضرات واللقاءات وضْعَ المرأة، والعنف، والإرهاب، والشريعة الإسلامية، وبوجه أعم ثقافة الشرق الأوسط بما فيها من جغرافيا، ولغة، وروابط دم، ومزارعين مستقرين، وبدو رُحَّل، وغير ذلك. أيضًا سافرتُ إلى مصر تلبيةً لدعوات وصلَتْني لإلقاء سلسلة متميزة من المحاضرات في الجامعة الأمريكية بالقاهرة في بداية عام ١٩٨٥م، ومرة أخرى عام ٢٠٠٥م، وتمثِّل هذه المحاضرات لبَّ هذا الكتاب. دارت المحاضرات الأربع الأولى حول السلطة واستخدامات الأيديولوجيات كوسيلة لإرساء الاستقرار، وأيضًا بذور اللاعنف في الشرق الأوسط بالرغم من الأنماط السائدة عن عنف الشرق، ثم سياسات الطاقة والمعارف المتخصصة العاملة في الولايات المتحدة، وأخيرًا محاضرة ختامية حول السيطرة الخفية، أو ما أطلقت عليه فيما بعدُ مسمى «عمليات السيطرة». وقد رسَمَتْ هذه المحاضرات إطارًا لتحليل ديناميكيات السلطة في العالم المعاصر، الذي غاب عنه السلام منذ زمنٍ في أعين العرب والأمريكيين. بعبارة أخرى: تناولَتِ المحاضراتُ موضوعاتٍ يمكن اعتبارها مهمةً للعرب والولايات المتحدة فقط، غير أنها موضوعات تحظى باهتمامٍ عامٍّ، ومن شأنها أن تنوِّر بصائرنا عند التفكير في مسألة الثقافة والكرامة.

انبثقَتْ محاضرتي حول الطاقة من تقرير كنتُ قد كتبتُه للأكاديمية الوطنية للعلوم عام ١٩٨٠م ونُشِر بعنوان «خيارات الطاقة في مجتمع ديمقراطي»، وسلسلة من المقالات التي تبعته حول سياسات الطاقة في الولايات المتحدة. أما مقالي حول السلطة، وهو موضوع الدورة التدريبية التي أُدرِّسها لطلبة الجامعة بعنوان «عمليات السيطرة»، فقد رُوجِع فيما بعدُ ونُشِر في مجلة «كارَنت أنثروبولوجي» عام ١٩٩٧م تحت عنوان «عمليات السيطرة: دراسة المقوِّمات الديناميكية للسلطة». وتتأصل الأفكار المتعلِّقة ببذور اللاعنف في الشرق العربي في كثير من الإصدارات؛ منها على سبيل المثال «تطبيع الاختلاف ونماذج التعايش»، المنشور في كتاب آر بينكستِن وإي بريكلر «العنصرية في المناطق الحضرية في أوروبا» الصادر عام ٢٠٠٦م. ونظرًا لأن مسألة اللاعنف والعنف موجودة باستمرار في منطقة الشرق العربي اليوم، فقد ضممتُ هذا الموضوعَ إلى بحث سابق لم يسبق نشره، كنتُ قد عرضتُه في أحد المؤتمرات بالسعودية حول السيطرة الاجتماعية في حالات التجمُّعات مثل مواسم الحج.

لقيَتْ سلسلةُ المحاضرات التي ألقيتُها في القاهرة عام ١٩٨٥م ردودَ أفعال إيجابية، وقد كشفت مشاركة الحضور عن اهتمامهم فورًا بموضوع بذور اللاعنف في العالم العربي، بينما تسبَّبت المحاضرةُ الخاصة بالطاقة في مواجهة غير متوقَّعة بين اثنين من المصريين؛ أحدهما عالِم معارض للطاقة النووية، والآخَر مهندس في مجال الطاقة النووية، وقد اختلفَا حول الطاقة النووية وسياسات الطاقة. علَّمتني هذه الخبرات الكثيرَ حول آليات السيطرة في الثقافة الفكرية المعاصرة في إحدى الجامعات الأمريكية بالخارج؛ حيث يُلِمُّ الخرِّيجون — من منطلق رغبتهم في المعاصَرة وتحقيق مزيدٍ من التطوُّر — بعالم العولمة المعاصر أكثر من إلمامهم بتاريخهم وعاداتهم. وعلى هذه الحال، فإن هذه الجامعات لا تختلف اليومَ عن الجامعات الأمريكية داخل الولايات المتحدة.

شهدت الفترة من ١٩٨٥م وحتى ٢٠٠٥م ميلادَ قرن جديد؛ إذ وقعت إبَّانها أغلب الأحداث التي تعاقبَتْ بين الولايات المتحدة والعالم العربي الإسلامي، متمثِّلةً بالأساس في الحروب الإمبريالية: حرب الخليج الأولى التي شنَّها الرئيس جورج بوش الأب في ١٩٩٠-١٩٩١م، والحرب على أفغانستان عام ٢٠٠١م، والغزو الأمريكي للعراق عام ٢٠٠٣م، وعمليات الاحتلال الأمريكية المتواصلة. وقد رأى بعض المراقبين هذه الأحداث باعتبارها صدعًا في العلاقات، في حين رآها الكثيرون داخل إطار سلسلة من الحروب المقدَّسة مَنشؤها الحروب الصليبية (١٠٩٦–١٢٧٠م)، إن لم يكن قبل ذلك. وهنا يُذكِّرنا المؤرخون بدورهم أن طارق بن زياد حاكم طنجة في تلك الفترة قام بغزو إسبانيا في أبريل ٧١١ ميلادية، وأن العثمانيين الأتراك قصفوا فيينا عام ١٥٢٩م.

كانت محاضرات عام ٢٠٠٥م في القاهرة ذات طابع مُلِح يسترعي الانتباه. كنت قد أكدتُ عام ١٩٨٥م على الصلات بين السلطة الخفية أو المستترة واستخدامات الأيديولوجيات، وبحلول عام ٢٠٠٥م تراجَعَ هذا الاستتار والتخفِّي ليحلَّ محله استعراضٌ واضح للسلطة الصريحة الهائلة؛ فشهدنا غزوَ صدام حسين للكويت، وحرب الخليج عامَيْ ١٩٩٠-١٩٩١م، وبعدهما هجمات ١١ سبتمبر على الولايات المتحدة، واستراتيجية الصدمة والترويع التي انتُهِجت في غزو العراق عام ٢٠٠٣م. في المقابل اجتاحت الغربَ قوالبُ نمطية وُضِع فيها العرب والمسلمون إما كإرهابيين تابعين لتنظيم القاعدة وإما كمتمردين أو انتحاريين، بينما كان الغرب في عين الشرق إمبرياليًّا وخارجًا عن القانون ومنافقًا.

عكفتْ فئة قليلة — وما زالت تعكف — على دراسة تاريخ اللاعنف بين العرب — موضوع محاضرتي في القاهرة — وكتبَتْ فئة قليلة من الإعلاميين من تيار الإعلام الغربي السائد عن عدم وجود رءوس نووية في الدول العربية، وعن طول فترة وجودها الآن — على نحو خطير — في إسرائيل، وأشارت فئة قليلة من المراسلين الذين كانوا ينقلون أنباء الدمار الإسرائيلي في لبنان في صيف ٢٠٠٦م؛ إلى أن الحكومة اللبنانية لم تكن تمتلك أيَّ دفاع عسكري فعَّال، لكن قوبل كل هذا وقتها بصمت يصم الآذان، وما زال. ومرة أخرى تعود الأفكار الغربية المهيمنة لوصف المُثُل الإسلامية بأنها عاطفية وغير عقلانية ولا تتوافق مع الأفكار الديمقراطية الغربية، وتسلط الضوء على أوصاف الديكتاتوريات العربية (التي غالبًا ما تحظى بدعم الولايات المتحدة)، بدلًا من نقل أخبار الجماهير العربية التي غالبًا ما تكون آراؤها أكثرَ ديمقراطيةً من الآراء التي نقابلها في بعض المراكز العالمية في أماكن أخرى من العالم؛ لذا كانت محاضرات عام ٢٠٠٥م محاولةً لوضع الإمبريالية، الثقافية والعسكرية، في دائرة الضوء، وقد لا تكون النتائج المترتبة على ذلك واضحة لأغلب المهتمين بالأمر، بل لم يلاحظها أيضًا علماء الاجتماع بشكل عام.

شملت موضوعات محاضرات ٢٠٠٥م دراسةً نقديةً لمفهومَيْن غالبًا ما يُسلَّم بهما جدلًا؛ أحدهما يتعلَّق باستخدام مفاهيم المناطق (سواء أكانت الجغرافية أم اللغوية) التي يتم تنظيم المعرفة بناءً عليها، والآخَر يخصُّ أهمية المقارنة، الصريحة والضمنية على حد سواء. ثم يوجد استفهام ثالث، يرتبط بعملية نقد كلا المفهومين، وهو عن هوية الجهات الراعية للمنح الدراسية؛ أهي الحكومات أم السلطة العسكرية أم محبُّو الأعمال الخيرية؟ هذا لأن اهتمامات الجهات الراعية غالبًا ما تقيِّد المِنَح الدراسية المهنية. قد يكون تنظيمُ الثقافات على أسس جغرافية وسيلةَ تصنيفٍ مناسبة لبعض الأغراض؛ كالتركيز على «المناطق الثقافية» في أوروبا أو الشرق الأوسط مثلًا، بالرغم من إدراكنا في الوقت نفسه لما يحمله هذا الشكل من التصنيف من تضليلٍ راجع إلى أن حدود المناطق الجغرافية غير واضحة ولا دقيقة. علاوةً على ذلك، تتجاهل تصنيفات المناطق تأثُّر أوروبا أو الشرق الأوسط بالتواصُل فيما بينهما معًا من جهة، وآسيا وأفريقيا من جهة أخرى، وجميعنا نعرف أن الثقافات تنتشر من خلال التواصُل المستمر بين الشعوب، سواء أكان عن طريق التحرُّك السكاني أم غيره من القنوات؛ ولذلك فإن فكرة المناطق «المنفصلة داخل حدودها»، سواء جغرافيًّا أم غير ذلك، هي فكرة مُضلِّلَة، وغالبًا ما تؤثِّر سلبًا على التاريخ والإثنوجرافيا والسياسة. إلا أن مثل هذه المفاهيم المتعلِّقة بالمناطق صارت مترسخةً بعمق حتى في تسويق كتبٍ شبيهة بهذا الكتاب، تستهدف اختراق الحدود داخل عقولنا؛ لذا نجد فكرة الشرق الأوسط، التي تكوَّنت لتلائم أغراض المتاحف والأغراض العسكرية، فكرةً خادعة. وكما أن مفهوم المجتمعات المنفصلة أو المنغلقة لم يَعُد مقبولًا لأيِّ أغراض إثنوجرافية علمية، فإن تمييز المناطق يتعارض مع الجهود الأكاديمية المقبولة والضليعة. والبديل الطويل المدى لدراسات المناطق هو تاريخ العالم، أو أي نموذج آخَر يأخذ الروابط والصلات الداخلية بعين الاعتبار، بما يفتح أمامنا احتمالات كتابة تاريخ بشري متحرِّر من أمارات ضيق الأفق الحالية. غير أن عبور حدود المناطق وتخطِّيها قد يعطي انطباعًا بالفوضى في الوقت الحالي، ولكن إذا كنَّا نعلم أن التلوث الجوي المنبعث من ولاية نيويورك لا يتوقَّف عند الحدود الكندية، فلماذا تتوقَّف الثقافة؟ لماذا نظن أنه توجد حدود واضحة ومحدَّدة بين العِلم الإسلامي والعِلم الأوروبي؟ وبالمثل، فإنه بالرغم من أن القوى الاستعمارية رسمَتْ حدودَ العالَم العربي وفصلت لبنان عن سوريا، فإن منطقة الشام ككلٍّ تظل تكوينًا ثقافيًّا واحدًا يضمُّ تقاليد متشابكة ومتداخلة بغزارة.

تلعب المقارنة دورًا جوهريًّا في الوصول إلى فهم أفضل لذاك التداخل المشترك على مرِّ العصور، من خلال العودة بالزمن إلى الوراء لتكوين منظور حول كيفية إدراك الاختلاف الثقافي وحالات سوء الفهم. صحيح أننا إذا رجعنا بالزمن بالفعل فقد نكتشف أن علماء الإثنوجرافيا الأوائل هم من الرحَّالة القدماء، وكان الرحَّالة العرب الذين سافروا إلى أوروبا منذ أزمان بعيدة تعود إلى القرن السابع عشر كُثُرًا ومتنوِّعين؛ منهم التجار والسفراء والدُّعاة والجواسيس وغيرهم، وتشعَّبت أسفارهم إلى إسبانيا وفرنسا وإنجلترا وإيطاليا وهولندا وروسيا، وكتبوا عن بلاد المسيحيين، كما وثَّق نبيل مطر عام ٢٠٠٦م في كتابه «في بلاد المسيحيين: أدب الرحَّالة العرب في القرن السابع عشر». وقد وفد رحَّالة القرن السابع عشر إلى أوروبا من حضاراتٍ عاليةِ التطوُّر مكافئةٍ تمامًا لحضارات الأوروبيين الذين صادفوهم، وكتبوا عن كل شيء تقريبًا؛ ملاحظاتهم وقياساتهم وما تعلَّموه من المقابلات التي أجروها، وتقييماتهم لخبراتهم. وانعكست الفترات الزمنية التي تمَّتْ فيها الرحلات والأحداث التي شهدتها تلك الفترات فيما نقلوه من أخبار، ولكن لم يُترجَم سوى عددٍ قليل من أخبار الأسفار العربية، ويُرجِع الباحثون الغربيون هذه القلة في الترجمات إلى غياب الرغبة في الاطِّلاع، ولكن بعض هذه الكتابات العربية عن الرحلات — بالرغم من أنها لا تُصنَّف كنصوص إثنوجرافية تحديدًا — تتَّسِم من بعض النواحي بطابع حداثيٍّ مذهل.

ومع تطوُّرِ علمَيِ الأنثروبولوجيا والإثنوجرافيا في القرنين التاسع عشر والعشرين، ازداد الوعي الذاتي لدى الكُتَّاب بالكتابة عن الآخرين، ومع تكوُّن هذا الوعي وضعوا بعضَ القواعد، وبعضَ الإرشادات الصريحة، وبعض الوصفات غير المُعلَنَة — إن جاز التعبير — التي حدَّدت أسلوبَ الكتابة. ولمَّا كان كُتَّاب الأسفار من العرب الأوائل غير مُقيَّدين بهذه السلطة الانضباطية، لم يكونوا مُلزَمين باتباع أيِّ قواعد أسلوبية كتحرِّي الموضوعية العلمية مثلًا، إلا أن كتاباتهم الذاتية غير الموضوعية تلك كانت سابقة لزمانها بمراحل، فوجدت صداها في كتاباتنا نحن الآن وتوافقت معها.

ألَّف عالم الأنثروبولوجيا جولز هنري كتابًا عام ١٩٦٣م بعنوان «الثقافة في مواجهة الإنسان»، وصَفَه بأنه «نص إثنوجرافيٌّ مكتوب بشغف»، ويعطي المقال الافتتاحي للكتاب فكرةً عن آراء مؤلِّفه حول الولايات المتحدة؛ فيقول فيه: «يتناول هذا الكتاب الثقافةَ الأمريكية المعاصرة؛ هيكلها الاقتصادي وقِيَمها الاقتصادية، وعلاقة هذه العناصر بالشخصية الوطنية، والعلاقات بين الآباء والأبناء، ومشكلات المراهقين ومخاوفهم وهمومهم، والمدارس، وعلاقتها كذلك بالانهيار العاطفي والتقدُّم في السن والحرب» (هنري، ١٩٦٣: ٣). ويصف هنري في كتابه مجتمَعًا ماديًّا ربما يمر بمرحلة احتضار عاطفيٍّ؛ فيخبر عن حالة دور المسنين، والمدارس الابتدائية والثانوية، وصناعة الإعلان، والأُسَر التي تعاني من مرض الذُّهان، ويشير إلى الشركات الكبيرة والصغيرة، ويأتي على ذِكْر تعبير «المؤسسات العملاقة» مرات قليلة، ولكن تركيزه ينصبُّ على الثقافة الأمريكية بكل وضوح كما لو كانت لا تختلف عن ثقافة الشركات. يُعَدُّ عمل هنري محاولةً تستحقُّ الإعجاب لتعريف ثقافة «تحتضر عاطفيًّا»، إلا أن الإطار المفاهيمي لعمله كان يركِّز على الشخصية الوطنية، أما أعمال اليوم فتركِّز على الكيان الرئيسي لزماننا متمثِّلًا في الرأسمالية المؤسسية والثورة الصناعية الثانية. وبالرغم من أن هذه الأعمال تتشارك مع عمله في نفس الدوافع، فإنها أشمل في دراستها للأمور؛ نظرًا لأنها مبنيَّة على الأبحاث التاريخية التي أُجرِيت خلال سبعينيات القرن العشرين. وقد حقَّقنا بعضَ التطوُّر في مجال العلوم الاجتماعية منذ فاتِحة جولز هنري الشجاعة.

لقد صار ضعف الآباء أمرًا ملموسًا على مستوى العالم في وقتنا الحالي، إلا أننا بحاجة إلى تأطير هذا الضعف بصورة أفضل. وقد دعوتُ في عام ٢٠٠٥م إلى التوسُّع في عمل كريستوفر لاش الذي قدَّمه من خلال كتابه «الملاذ الآمِن في عالَمٍ بلا قلب» (١٩٧٧) عن الأُسَر المعاصرة في الولايات المتحدة. يقول لاش في كتابه إن الدولة ومِهَن الخدمات الاجتماعية قد حَلَّتْ محلَّ الأسرة في سياق الرأسمالية الاستهلاكية، وإن الأسرةَ النواةَ بكل ما تلقاه من نقد توفِّر بالفعل ملاذًا في ظلِّ عالَمٍ بلا قلب، وإن انحسار دور الأسرة ترك الأطفالَ عُرضَةً لعالَم بلا قلب دون ملاذٍ آمِنٍ يلجئون إليه. وقد اقترحتُ ضرورة متابعة هذا الأمر في العالَم العربي وكوريا والصين وبيرو وفي كافة أنحاء الأرض بوجه عام؛ لنتمكَّن من فهم الآثار الخارجية للرأسمالية المؤسسية على الأسرة في هذا العالَم الجامح. وقد تشكَّلَ فهمي للمسألة من خلال خبرات عديدة: تربية أبنائي، والعمل في مجلس كارنيجي المعنيِّ بالأطفال، ووجود أحفادي، وبالطبع آلاف الطلاب، ومن بينهم العديد من الشباب المنبوذين اجتماعيًّا؛ والسؤال المهم هو: مَن يُنشِّئ أطفالنا الأمريكيين؟ وما التداعيات التي تربط بين الولايات المتحدة والعالَم العربي؟

تلعب الأعمال التجارية دورًا في هذا الأمر، ولكنها ليست كيانًا واحدًا كبيرًا؛ فالرأسمالية المؤسسية — التي تختلف عن الرأسمالية القائمة على ملكيات الأراضي الصغيرة أو الرأسمالية الإقليمية — لها تبعات واسعة النطاق، وهذه التبعات يمكن أن تأخذ شكل سلطات تشريعية مقيدة، أو مؤسسات حكر، أو تقنيات رقمية، أو مصانع تربية دواجن وماشية، أو تجارب حياة أبنائنا. فإذا أردنا أن نجعل الأعمال التجارية تستجيب اجتماعيًّا، يجب أن تصل تقييماتُ هذه التبعات إلى عالَم الأعمال؛ حيث قد يقلق الرؤساء التنفيذيون بشأن أخلاقيات العمل.

لطالما أُعِيدَ على أسماعنا إلى حدِّ الغثيان أن تاريخ القرنين الماضيين يجسِّد أحدَ أبرز تأثيرات التوسُّع الأورو-أمريكي في العالَم، وتمَّ التأريخ مرارًا وتكرارًا لركائز تأسيس الهيمنة الأمريكية والأوروبية، والتأكيد أنه لم يُفلِت أيُّ شعب على الإطلاق من التأثير الأوروبي؛ سواء الاقتصادي أم الديني أم التجاري أم غيره. كذلك اعتبر البعض التوسُّعَ الأورو-أمريكي نجاحًا، والمحتمل أن السبب وراء ذلك هو افتراض أن هذا التوسُّع المهيمن يتميَّز بنوع من الاستثنائية الأصيلة فيه، ولكن هذا التصوُّر عن السلطة العالمية الأوروبية، والآن الأمريكية، ينقصه شيءٌ ما. إنَّ الكلمات التي نستخدمها تعكس معانيَ محدَّدة. والتوسُّع كلمةٌ تدفع الناس إلى الاعتقاد بأن الانتشار والتأثير كانَا في اتجاه واحد. كما أن ظهور الدول القومية كان سببًا في شحذ فكرة وجود حدودٍ تفصل بين أوروبا وبقية العالم، في حين أن الواقع يقضي بانعدام وجود أيِّ حدود ثقافية أعاقَتِ انتشارَ الأفكار الجديدة والأنماط الثقافية على نحو مؤثِّر، ولكن يوجد انتقاء. النقطة الأساسية هي أنه عند قراءة التوسُّع بطريقة عكسية نرى تاريخًا بشريًّا يتميَّز بسلاسل متصلة من التبادلات والتفاعلات. تأمَّلْ مثلًا انتشارَ اليوجا أو السوشي أو الوخز بالإبر من الشرق إلى الغرب خلال القرن العشرين! نفس هؤلاء المؤرِّخين قد يتحدَّثون حتى عن توسُّع إمبراطوريات أخرى — كالإمبراطورية الصينية أو الإسلامية أو المنغولية أو الهندية أو الآزتيك أو الإنكا — وفي كل هذه القصص نسمع عن حكايات المنافسات، كالمنافسة بين المسيحية والإسلام الغربيَّيْن أو الشرقيَّيْن مثلًا. ولكن قصص الهيمنة والاختلاف والغزو والامتهان والمنافسات من الممكن أن تكون أيضًا قصصًا عن البربرية أو الاتحادات أو التبادلات أو التعايش، أو عن عالَم يتميز بتعدُّد القوى المهيمنة فيه، كما كتبت جانيت أبو لغد عام ١٩٨٩م في كتابها «ما قبل الهيمنة الأوروبية: النظام العالمي بين ١٢٥٠–١٣٥٠م». ويخبر أمين معلوف في كتابه «الحروب الصليبية كما رآها العرب» عام ١٩٨٤م عن قصة مختلفة تمامًا عمَّا يظهر في الروايات الغربية. أو مثلًا في حالة الروايات المعاصرة عن التوسُّع؛ فقد ألَّفَت فيكتوريا دي جراتسيا كتابًا عام ٢٠٠٥م حمل عنوان «إمبراطورية لا تُقاوَم: تقدُّم أمريكا في أوروبا القرن العشرين»، تتناول فيه كيف سعَت الصناعات الأمريكية لتغيير الثقافة الأوروبية في أقل من قرن واحد من الزمان، لتجعل الأوروبيين أكثر تقبُّلًا لشراء المنتجات الأمريكية؛ واستسلم الكل، سواء الشعوب المحلية أم الوافدون بتنوعهم، للمعايير الاستهلاكية العامة في أوروبا والعالم.

وبينما لا يستطيع المرء تحدِّي التسلسل القصصي الرئيسي لروايات التوسُّع وتأثيره، فإن محدودية الأوصاف التي تَرِد إلينا تشوِّش معلوماتنا؛ لأنها تغفل التبادلات وانتشار الأفكار. حقَّقت الزراعة على سبيل المثال نجاحًا باهرًا في التوسُّع، فأشرقَتْ شمسها من وادي دجلة والفرات، وسطعت على أنحاء أوروبا وشرق آسيا وجنوبها وأفريقيا. وانتشرَتْ بالمثل في كل أرجاء العالم — بمعزل عن الدول القومية — غيرُها من التقنيات والاكتشافات المختلفة، مثل استخدامات المعادن ومواد البناء (التي وثَّقها المعماريون خيرَ توثيقٍ). أما إسلام العرب فقد حقَّقَ نجاحًا توسُّعيًّا هائلًا إلى جانب المسيحية، ويتمتع اليوم بأكبر عدد من الأتباع الذين يعيشون خارج العالم العربي، كما أنه أسرع الأديان انتشارًا في العالم في الوقت الحالي؛ إن صحَّتِ الأرقام. كل هذه التطوُّرات صنعَتْ كلًّا من أوروبا والغرب، وأعادَتْ صناعتهما من جديد.

هذه الأُطُر المرجعية جميعًا تغذِّي دراستي، وتلخِّص أنثروبولوجيا القرن الحادي والعشرين التي تركِّز على ما يربط بين الناس — طبائعنا، وطبائعكم، والمشترك بيننا، وإنسانيتنا، وبقائنا، وأبنائنا، ومخاوفنا، وحلولنا لمشكلاتنا اليومية — في سياق غير متكافئ من حيث السلطة والفساد. إن كوكب الأرض كوكب غنيٌّ بما فيه من تنوُّع في النباتات والحيوانات والثقافات، وهذا التنوع هو ما أثرى مسيرةَ البشر؛ وإقامة كيانات منفصلة ومنغلقة لا يقدِّم شيئًا سوى جعْلِ التحوُّل الاجتماعي في عالَم قديم تسوده العولمة تحوُّلًا مفتقرًا للترابط؛ وهذه فكرة خادعة. وقد بدأ الكثيرون منَّا يدركون أن مفاهيم مثل الاستثنائية والغطرسة تعوق على المديَيْن القصير والبعيد بقاءَنا على هذا الكوكب المتضائل، ولكن الحركات الشبيهة بالربيع العربي وحركة «احتلوا» ليسَتْ سوى أمارات لعملية إعادة نظر واسعة الانتشار في اتجاهاتنا المستقبلية.

مراجع

  • Abu-Lughod, Janet (1989) Before European Hegemony: The World System AD 1250–1350. New York: Oxford University Press.
  • De Grazia, Victoria (2005) An Irresistible Empire: America’s Advance through Twentieth-Century Europe. Cambridge, MA: Belknap Press.
  • Henry, Jules (1963) Culture against Man. New York: Random House.
  • Lasch, Christopher (1977) Haven in a Heartless World: The Family Besieged. New York: Basic Books.
  • Maalouf, Amin (1984) The Crusades through Arab Eyes. New York: Schocken Books.
  • Matar, Nabil (2003) In the Land of the Christians: Arabic Travel Writing in the Seventeenth Century. New York: Routledge.
  • Pinxten, R. and E. Preckler (eds) (2006) Racism in Metropolitan Areas. New York: Berghahn Publishers.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤