الفصل الثالث

الإثنوجرافيا كنظرية

حول جذور الخلاف في الأنثروبولوجيا

المسألة كما أراها تتلخص في أن التقدُّم في التفكير العلمي هو ثمرة مزيج من التفكير الحر والتفكير المُقيَّد، وهذا المزيج هو أغلى أدوات العلم.

جريجوري بيتسون، «خطوات نحو إيكولوجيا العقل» (١٩٧١: ٧٥)

مقدمة

شاع اختزال معنى الإثنوجرافيا في كونها وصفًا؛ وصفًا من حيث المضمون فقط، ولكن ليس كنظرية. ولكن النظرية تُعرَّف بأنها عملية تحليل لمجموعةٍ من الحقائق فيما يخصُّ علاقة بعضها ببعض، أو المبادئ العامة أو المجردة التي تحكم أي مجموعة من الحقائق، وهذا بكل تأكيد يجعل الإثنوجرافيا من وجهة نظري مجهودًا نظريًّا له أهميته الحياتية من حيث الوصف والشرح في الماضي والحاضر. ومن ثم فإن الإثنوجرافيا في حد ذاتها — وكذلك الاستفادة منها كأداة تفسيرية — تُعَد جهدًا نظريًّا.

والمعروف تاريخيًّا أن ممارسة الإثنوجرافيا قد اشتملت على العيش بين الناس والتحدث معهم و«الوجود بينهم» و«الملاحظة من خلال المشاركة»، ومحاولة فهم كيف ترى الجماعةُ الخاضعة للدراسة عالَمَها وتُفسِّر ظواهِرَه، ومن بينها عالِم الأنثروبولوجيا نفسه. كذلك دَرَج رَبْط الإثنوجرافيا بفكرة الشمول؛ فالثقافات مترابطة فيما بينها وغير مجزَّأة وتمثِّل أنظمة متكاملة؛ ولذلك فإن أيَّ وصف لها يجب أن يتناولها جميعًا حتى يكون كاملًا غير منقوص. ودائمًا ما كان إجراء الدراسات الإثنوجرافية وكتابتها في حقيقته أكثر تعقيدًا من مجرد افتراض أو حتى مناقشة أوجه الارتباط والتداخُل بين العناصر الثقافية. فهل تسجِّل الدراسات ما يدَّعِي الناس فعْلَه؟ أم مشاهداتنا لأسلوب حياتهم؟ أم المنظور الذي يرغبون هم أن يراهم من خلاله عالِمُ الأنثروبولوجيا القائم بالملاحظة؟ لم تكن الإثنوجرافيا يومًا مجرد وصف، بصرف النظر عن تعريفها، بل إن أسلوب وصفها أسلوب نظريٌّ في حدِّ ذاته؛ فالإثنوجرافيا هي تنظير للوصف. لا يمكن افتراض الحجم الكليِّ لأيِّ ثقافة، كما أنه لم يحدث إجماعٌ كامل قطُّ حول المدى الذي يُعَدُّ معه هذا الحجم الكلي لثقافة معيَّنة مقبولًا، وخاصةً عند التعامُلِ مع مسألة الحدود، ولم يحدث كذلك أيُّ اتفاق حول معايير اعتبار النقل الإثنوجرافي نقلًا «قائمًا على وقائع فعلية»، وهو ما يمثِّل مشكلةً في الممارسات العلمية التي تشكِّل التيارَ السائد. ويُعَدُّ غيابُ الاتفاق أو الإجماع التام نقطةَ قوةِ إثنوجرافيا الأنثروبولوجيا؛ إذ تشجِّع على إجراء عملية حيوية — هي «ممارسة الإثنوجرافيا» — تتلاءم مع العوالم المتغيِّرة داخل الأوساط الأكاديمية وخارجها.

وهكذا نرى كيف أن الجدل مستمرٌّ منذ بدايات تطوُّر علم الأنثروبولوجيا حول تجميل عملية «الوجود» بين جماعات معزولة وغريبة، بالتزامن مع الشكوك التي تكتنف أوجه القصور في منهجيةٍ سعَتْ في بعض الأحيان إلى الإجابة عن جميع التساؤلات الأساسية المتعلِّقة بالوضع الإنساني. في الوقت نفسه سبَّبَ التناقُشُ حول كثرة احتمالات الإثنوجرافيا قلقًا، أو على الأقل ارتباكًا، حول مدى استقرار مجهوداتنا الميدانية والحاجة المستمرة للتجديد. تطوَّرَتْ في القرن التاسع عشر مع جيمس موني (١٨٩٦) بدايات الإثنوجرافيا النقدية والإثنوجرافيا الناقدة للفكر الغربي، ثم بدأ عالِم الإثنوجرافيا في العمل كأنه يُجري تجربة معملية في العلوم الطبيعية من وجهة نظر دبليو إتش آر ريفرز (١٩٠٦)، وبدرجة أقل من منظور برونيسلاف مالينوفسكي (١٩٨٤ [الطبعة الأولى ١٩٢٢]). وبعدها تطوَّرَ الأمرُ ليُشبه الإثنوجرافي في عمله عالِم الإيكولوجيا أو البيئة، وذلك في رأي جريجوري بيتسون (١٩٥٨ [الطبعة الأولى ١٩٣٦])، وأيضًا إلى حدٍّ ما كما يرى سير إدموند ليتش (١٩٦٥ [الطبعة الأولى ١٩٥٤]). والنموذج الإيكولوجي في العمل الإثنوجرافي، بصرف النظر عن تعريفه، يختلف عن النموذج المعملي، وعن النموذج الذي يحاول إثبات فرضيةٍ يتتابع فيها السببُ والأثرُ تتابُعًا خطيًّا، وترتبط أحيانًا بالعمل النظري لإيه آر رادكليف براون.

لم تَحكُم هؤلاء الروَّادَ أيُّ مدرسة، ولم يلتزموا هم بنموذج معيَّن، ولكنهم جميعًا مارسوا الإثنوجرافيا على أساس المعايير التي اتبعتها الأغلبية. كانوا يتوجَّهون إلى مكان الدراسة، ويلاحظون، ويُقِيمون فيه، ثم يعودون إلى بيوتهم، ويكتبون دراساتهم الإثنوجرافية. وكانوا كذلك ينتقون منهجيات عملهم (بما في ذلك ما يتعلَّق منها بالأساليب الكَمِّية)، ولم يهابوا ابتكار وتصميم تلك الأساليب التي رأوا لزومها للتقدُّم في عملهم — كان يُطلَق عليها مسمَّى الأنثروبولوجيا الطارئة — محاولين إنقاذ ثقافات الشعوب غير الغربية قبل أن تنمحي بفعل المغامرات الاستعمارية الأورو-أمريكية.

وعلى الرغم من أن المعايير الإثنوجرافية المُسلَّم بها غير القابلة للنقد كانت تخضع للنقاش بالفعل، فإن بعض القواعد أو حالات الإجماع حول كيفية ممارسة الإثنوجرافيا لم تُناقَش بانفتاح، بالرغم من وجود بعض التلميحات المقتضبة في ستينيات القرن العشرين، خاصةً مع نشر كتاب «إعادة اختراع الأنثروبولوجيا» (هايمس، ١٩٦٩)؛ حتى إنني أثناء إتمام دراساتي العليا في جامعة هارفرد في الخمسينيات من القرن نفسه، كنت قد فهمتُ أنه يوجد إجماع غير مُعلَن قائم بالفعل حول ماهية العمل الإثنوجرافي. نشر بيتسون كتابه الرائع «نيفِن» عام ١٩٣٦م، وأُعِيد نشره مرة أخرى مع خاتمة منهجية إضافية عام ١٩٥٨م (بالرغم ممَّا سبَّبَه ذلك من أسًى لهيئة تدريس جامعة هارفرد الأكثر ميلًا للمذهب العلمي في الدراسة). صدر كتاب إدموند ليتش المُحكَم بعنوان «الأنظمة السياسية في بورما العليا» عام ١٩٥٤م، وتعمَّدَ فيه ليتش التركيزَ على القوة واستعمالاتها؛ ومع ذلك، ظلَّت القواعد غير المُعلَنة واضحةً؛ وهي تتمثَّل في إجراء الدراسات على مجتمعات غير غربية، والكتابة عنها كأنها كيانات مُقيَّدة بحدود ومنفصلة، وتجاهُل سياسات القوة التي تشمل التعامُل مع أيِّ حضور استعماري وإمبريالي، وتجاهُل أوجه الشبه «بيننا وبينهم»، واستنكار مبدأ الاستثنائية والتطور الأُحادي الخط اللذين سادَا خلال القرن التاسع عشر مع الاستمرار في ممارستهما بالرغم من ذلك. ولعلَّ الإقبال العريض بين طلبة الدراسات العليا على قراءة أعمال فيتجنشتاين وكاسيرر ولانجر (وليس فلاسفة الماركسية) — بصرف النظر عن اهتمام هؤلاء الطلاب باللُّغويات من عدمه — كان هو الإشارة الوحيدة لعملية التقصِّي الفلسفي الذي كان في سبيله نحو مزيدٍ من التطوُّر خلال العقود التالية.

وأودُّ أن أخصِّص هذا الفصل لوصف ما أظنُّها العناصرَ المُكوِّنة للإجماع الذي لم يزَل غير معلَن في ربوع النخبة حول الإثنوجرافيا في الأنثروبولوجيا الأنجلو-أمريكية. وفي مسعاي هذا سوف أقوم بنقل نماذج للنقد الذي اندلَعَ على مستويات مختلفة، والتعليق على القبول — أو التهميش — الواسع والرائج لأجزاء مختلفة من الإثنوجرافيا كما يمارسها علماء الأنثروبولوجيا، والإشارة إلى عدم رضا بعض علماء الأنثروبولوجيا عن الممارسات الإثنوجرافية التي يقوم بها غير الأنثروبولوجيين، والختام أخيرًا بالتعليق على التجدُّد المستمر للإثنوجرافيا من خلال الدعوات لتحرير الأنثروبولوجيا من فرض المهنية عليها، التي وإن لم تكن مُعلَنة فإنها قوية في إسكاتها لزملائنا، دون أن يلحظ ذلك أحدٌ في أغلب الأحيان.

الإجماع غير المُعلَن

كان اتِّباع أسلوب الملاحظة بالمشاركة في أي مجتمع غير غربي أمرًا مُبرَّرًا في بدايات تطور الأنثروبولوجيا الأنجلو-أمريكية باعتباره نوعًا من التغريب، وكان علماء الأنثروبولوجيا بحسب هذا السيناريو ينتقلون إلى مكان بعيد عن ثقافتهم وهم على قناعةٍ بأن التجديدَ والغرابةَ اللذين يواجهونهما فيه سيُتيحان لهم اكتشاف شيءٍ ما عن الشعب الذي يزورونه أو فهمه؛ ممَّا سوف يُسهِم في علم الأنثروبولوجيا باعتباره «علم الإنسان». ومثَّلت الملاحظة بالمشاركة المرحلةَ العملية الرئيسية في أي دراسة أنثروبولوجية، وكان من بين أكثر المواقع البحثية شيوعًا أيٌّ من جزر المحيط الهادئ أو قرية قبلية في أفريقيا أو بلدة هندية في الجنوب الغربي الأمريكي، وكان هدف عالِم الأنثروبولوجيا يتلخَّص في استكشاف الأجزاء المكوِّنة للنظام الاجتماعي للشعب موضوع البحث، واستكشاف كيف تتناسَب معًا داخل إطار مُقيَّد بحدود، أحيانًا يتبع نموذج رادكليف براون في تشبيهه للمجتمع بالكائن العضوي. وكان يحدث أن تُساق تفسيرات متعدِّدة الجوانب من أجل توسيع نطاق الاحتمالات الفكرية الممكنة، إلا أن ذلك نادرًا ما كان يحدث، وكان إغلاق الباب أمام تعدُّد التفسيرات وتنوُّعها أكثر شيوعًا؛ ومثالٌ على ذلك مقال كليفورد جيرتس (١٩٧٣) عن قتال الديوك في إندونيسيا، الذي لم يجد أيَّ مساحةٍ في دراسته الإثنوجرافية ليكتب عن نصف مليون إنسان قتلتهم القوات الحكومية في نفس ذلك المكان والزمان، فلم يأتِ على ذِكْر المذبحة إلا في إحدى الحواشي السفلية، وهو نموذج معتاد للحذف في تاريخ الأنثروبولوجيا. وقد بيَّنْتُ في تعقيبي عام ١٩٩٩م على كتاب جيرتس اللاحق بعنوان «ما بعد الوقائع: قرنان من الزمان، أربعة عقود، عالم أنثروبولوجيا واحد» (١٩٩٥) كيف أن جيرتس رفض الفلسفة الوضعية، واقتبَسَ من الفلاسفة المذكورين بالأعلى، وعجز عن التعامُل مع القوة السياسية والاقتصادية؛ فكانت مذابح سنة ١٩٦٦م التي ارتُكِبت في باري بالنسبة إليه «لا تكاد … تمثِّل أيَّ ذكرى على الإطلاق» (١٩٩٥: ١٠)، ومن دون شك لا تمثِّل معرفةً ذات أي طابع إنساني أو انعكاسي أو تُعَدُّ معرفة موقعية، أو مناسبة للإثنوجرافيا الأدبية.

كان منهج الملاحظة بالمشاركة دومًا مصحوبًا بنظريةٍ ما على مدار أكثر من مائة عام، هي عُمر الإثنوجرافيا الأنجلو-أمريكية، سواء أكانت تلك النظرية وظيفية أم وظيفية بِنيوية أم تفسيرية أم ماركسية أم تقدُّمية أم تطوُّرية أم رمزية أم نسوية أم حتى مجرد نظرية نقدية بسيطة. وبالنظر إلى تغيُّر أُطُر العمل النظرية والمنهجية لعِلمَي الأنثروبولوجيا والإثنوجرافيا، باعتبارهما فرعين علميين ومنهجين للبحث، سنجد أنهما ظلَّا منفتحَيْن دومًا على الإبداع والتجديد. وكانت النظرية فيما يتعلَّق بالإثنوجرافيا تتمثَّل في أسلوب الكتابة، أما النظرية الأنثروبولوجية فلم تتطوَّر على مدار القرن العشرين بأسلوب خطِّي مباشِر (على الرغم من أن مؤرِّخي الأنثروبولوجيا غالبًا ما يصوِّرون أن تطوُّرَها تمَّ بهذا الأسلوب)؛ فتطوَّرَتْ من النهج الوظيفي إلى الوظيفي البنيوي، إلى البنيوية، إلى النهج التفسيري والانعكاسي والنقدي وحتى نهاية القائمة، وكلُّ تلك النظريات تُستخدَم اليوم بدرجةٍ أو بأخرى. وأنا لا أقصد بهذا أن أنفي حدوث أي تغيُّر جذري مع مرور الزمن؛ بمعنى عدم حدوث أي تغيير في هيكل ضمني من الافتراضات النظرية والمنهجية المتداخلة، بل عنيتُ أنَّ الأنثروبولوجيا طالما بَدَتْ إبداعيةً في تغيُّر نظرياتها. فبالرغم من المدارس المتنافِسة واتخاذ بعض علماء الأنثروبولوجيا جانبًا أو آخَر في جدالهم النظري، فإن الانقسام ليس هو أهم ما يميِّز الأنثروبولوجيا والإثنوجرافيا، بل تُميِّزهما العناصرُ المشتركة، التي تشمل تلك العناصر غير المُعلَنة، وسوف أشير فيما يلي لأعمال إثنوجرافية محدَّدة لتبيان كيفية تقييم المرء لأعمال معاصريه.

تحديد القيمة الإثنوجرافية: ١٨٩٦–٢٠٠٠

في عام ١٨٩٦م عَمِل جيمس موني على مشروع علمي غطَّى محميات متعدِّدة، وأُجرِي العمل الميداني المتعلِّق به في المناطق الشرقية والجنوبية الشرقية من الولايات المتحدة مع قبائل الشيروكي والكيوَّا والشايان، مع التركيز على الدين واستخدام صبار البيوط في الطقوس المختلفة. وقد اهتمَّ موني في كتابه الذي ذاع صيته «ديانة رقصة الأشباح وثورة هنود السايوكس عام ١٨٩٠م» بما يمكن أن يُطلَق عليه اليومَ اصطلاحُ «السيطرة والمقاومة»، وبالحركات الاجتماعية، وبالاستغلال السياسي للدين، وبالحقوق المدنية والإنسانية للهنود؛ وقارَنَ في عمله بين حركات السكان الأصليين وأعمال الأوروبيين البيض كمحاولة لإثارة حالةٍ من التفهُّم والتعاطف مع ما عاناه الهنود من حرمان من أراضيهم ومعيشتهم، وروى التداعيات المأساوية لما لحق بهم من صنوف الأذى باعتبارها أسبابًا تدعو لحمايتهم أكثر من مطالب مجتمع البيض. ولكن يبدو أن قيام موني بذِكْر البيض صراحةً في دراسته الإثنوجرافية عن الشعوب الهندية (وربما بسبب الاستقبال الجيد لكتابه بين جموع القرَّاء) قد أثار حفيظة المبشِّرين، والحكومة الأمريكية، والأساتذة، وعلماء الأنثروبولوجيا الذين سعوا إلى تحويل الشعوب التي وصموها بالوحشية إلى ما يُسمَّى بالتقدُّم والتحضُّر، مستعينين في بعض الأحيان بدفوعٍ إنسانية كادِّعاء أن ذلك هو السبيل الوحيد لإنقاذ الأمريكيين الأصليين. وقد قام موني، عالِم الأنثروبولوجيا المولود لأبوَيْن أيرلنديَّيْن مهاجرَيْن، الذي درَّب نفسه بنفسه، بذِكْر البيض في دراسته الإثنوجرافية بأسلوب ساوَى فيه بينهم وبين الأمريكيين الأصليين، فخالَفَ قاعدةً كانت غير مُعلَنة بالفعل في نهايات القرن التاسع عشر، وتتمثَّل في أن الإثنوجرافيا تتناول الآخَر، وليس الآخَر المتداخِل مع مَن انتصروا عليه، ولا تتناول المقاربة الخاصة بنا وبهم. ونتج عن ذلك نبذه واعتباره هاويًا من جانب أكاديميين من أمثال فرانتس بواس، أو محبًّا للهنود من جانب المسئولين الحكوميين ومكتب الشئون الهندية؛ ومن ثَمَّ مُنِعَ من إجراء أيِّ عمل ميداني على أراضي المحميات الأمريكية (موزيس، ١٩٨٤: ٢٢٢–٢٣٥).

ولكن، وبالتزامن مع وقت وفاة موني، كانت وجهات النظر السائدة التي مالَتْ إلى فرض المهنية على المجال قد حدَّدَتِ المعايير التي تجعل من عالِم الأنثروبولوجيا عالمًا حقيقيًّا أو هاويًا، وبدأ نوع من «الكفاءة التخصُّصية» يبرز إلى السطح. كان موني سابقًا لأوانه على العديد من الأصعدة؛ فقد جمع في عمله بين المستعمِرين والمستعمَرين على قدم المساواة، وبهذا أرسى بالفعل نسقًا لأخلاقيات البحث قبل قيام الجمعية الأمريكية للأنثروبولوجيا بوضع قواعد أخلاق المهنة بعقود.

بعد مرور عدة عقود، وتحديدًا عام ١٩٢٢م، أكَّد مالينوفسكي من خلال عمله مع سكان جزر تروبرياند في المحيط الهادئ، على الجانب العلمي من الإثنوجرافيا، عن طريق تحديد ثلاثة مبادئ منهجية للبحث: أولها التوثيق الإحصائي، وثانيها الانتباه إلى العناصر غير القابلة للتقييم في الحياة الفعلية والسلوك الخاضع للملاحظة، وآخِرها تسجيل التعبيرات الكلامية التي تُبيِّن عقلية السكان الأصليين. وقد درس مالينوفسكي الفلسفة والرياضيات والفيزياء في بولندا قبل دخوله عالَم الأنثروبولوجيا، وكان الهدف من منهجياته مساعدة عالِم الإثنوجرافيا على «استيعاب وجهة نظر السكان الأصليين، وعلاقتهم بالحياة، وإدراك رؤيتهم للعالم» (مالينوفسكي، ١٩٨٤: ٢٥)، غير أننا سنلمح ما كان يواجهه مالينوفسكي إذا ما طالعنا تعقيبات معاصريه حول كتابه «الحدائق المرجانية وسحرها» (١٩٣٥):

إن استخدام السحر، الذي يُعَد نظيرًا لأوهام العظمة وتصورات الخوف في الشخص العُصابي، قد يكون النتيجة الثابتة لقدرة الإنسان المحدودة على التحكم في بيئته. ولكن الإشادة به بهذه الطريقة باعتباره «أساس الثقافة» كما فعل مالينوفسكي أمر غير مبرَّر على أسس علمية (ستيرن، ١٩٣٦: ١٠١٨).

كان مالينوفسكي رائدًا فيما يمكن أن يُطلَق عليه اليوم مسمَّى «العمل الميداني المتعدِّد المواقع» وفي دقَّته العلمية؛ فوصَفَ نظامَ «خاتم كولا» القائم على التجارة والصداقة المتبادلتَيْن، الذي يربط بين سلسلةٍ من مجتمعات الجزر، وكان نظامًا أساسيًّا لحفظ العلاقات الاجتماعية؛ حيث يمتد ارتباط الشركاء فيه مدى الحياة من خلال الالتزام والدعم المتبادلَيْن. وينقل مالينوفسكي في وصفه لحياة شعوب جزر تروبرياند انطباعًا للقرَّاء بأنها حياة عقلانية. وقد كانت الكتابة عن الثقافات بهذا الأسلوب، باعتبارها عقلانيَّةً، استراتيجيةً واعية يمارسها مالينوفسكي ومحرِّروه، انطلاقًا من رفضه للأفكار القائلة بأن الشعوب البدائية تتصرَّف فقط انطلاقًا من المصلحة الشخصية: «يختلف الساكن الأصلي الحقيقي المخلوق من لحم ودم عن الإنسان الاقتصادي البدائي الغامض الذي بُنِي على سلوكه التخيُّلي العديدُ من الاستدلالات المذهبية للاقتصاديات التجريدية» (١٩٨٤: ٦١-٦٢). لم يتبع مالينوفسكي المنهج المقارَن في عمله، فترك دراساته الإثنوجرافية تتحدَّث عنَّا من خلال ملاحظات ضمنية إلى حدٍّ ما، سواء أكانت تتناول القانون والنظام، أم السحر والعلم والدين، أم الجنسانية.

بعد عشر سنوات أصدَرَ النيوزيلندي ريو فورتشن كتابَه «مشعوذو دوبو» (١٩٣٢)، يروي فيه انزعاج السلطات الاستعمارية الأسترالية؛ لأنه بصفته عالِم إثنوجرافيا اعتبَرَ السِّحر — بصورة نسبية — نوعًا من التحكُّم الاجتماعي، يخلق توافُقًا يتميَّز بالذكاء الاستراتيجي في المجتمعات التي لا تمتلك آليات قانونية متقدِّمة. فالسحر كانت له وظيفة بالنسبة إلى شعب دوبو الميلانيزي، وأعطاه فورتشن اعتبارًا وأهمية، فخالَفَ بذلك القاعدة؛ ذلك الإطار المعياري الذي وضعته السلطات الاستعمارية الذي يقضي بالحطِّ من السِّحر ومَن يمارسه إلى درجة البربرية. وعلى الرغم من أن الإطار المعياري للدراسة الإثنوجرافية لم يتناسب مع الأهداف الاستعمارية والإمبريالية أو حتى مع تفضيلات السكان الأصليين، فإن فورتشن استغَلَّ التهديدَ الذي فرضته الحكومة أو البعثة التبشيرية للحصول على معلومات عن السِّحر؛ حيث أتاحَتْ له السيطرةُ الاستعمارية إنجازَ عمله، ولكنه عارَضَ الاضطرابَ الاجتماعي الذي تسبَّبت فيه السلطة الاستعمارية. والجدير بالذكر أن علماء الأنثروبولوجيا لم يتشاركوا دومًا هدف «فرْضِ التحضُّر» على السكان الأصليين وتطويرهم، وعليه مُنِعَ — بعد عام ١٩٣٠م — علماء الأنثروبولوجيا المستقلون من إجراء أيِّ أعمال ميدانية في بابوا، ولم يُعيَّن فورتشن في أيِّ مناصب حكومية بعد الحرب العالمية الثانية، ولكنه كان يعمل حينها بالفعل في جامعة كامبريدج.

في نفس ذاك العقد والعقود التي تبعته اتُّهِمَ ماكس جلوكمان، وإي إبشتاين، وبيتر وُرسلي، بالانتماء إلى اليسار الشيوعي، ومُنِعوا تمامًا من الوصول إلى مواقع العمل الميداني، كما حدث مع جيمس موني في القرن السابق. أجرى جلوكمان دراسته الميدانية التي امتدَّتْ من عام ١٩٣٦م حتى ١٩٣٨م في جنوب أفريقيا، واعتُبِر مقاله الذي نُشِر ما بين ١٩٤٠–١٩٤٢م بعنوان «تحليل الوضع الاجتماعي في بلاد الزولو الحديثة» هجومًا على مفهوم القبيلة المستقلة. كان بحثه عبارة عن دراسة شاملة تبيِّن استحالة الفصل بين المفاهيم؛ حيث رأى جنوب أفريقيا مجتمعًا واحدًا «يتكوَّن من مجموعات ثقافية متنوعة ومتغايرة … تتراكب وتتداخل وتتقاطع فيما بينها» (ماكميلان، ١٩٩٥: ٦٤). كما انتُقِدَ جلوكمان لاتِّباعه أسلوبَ حياةِ السكان الأصليين وتناولِه طعامهم و«الحطِّ من نفسه إلى مستواهم»، واتُّهِم بتأييده للروس وباعتناق الشيوعية، ثم مُنِع من إجراء أي عمل ميداني آخَر في المنطقة من قِبَل سكرتير شئون السكان الأصليين. وبالرغم من تعاوُن كثير من علماء الأنثروبولوجيا مع السلطات الاستعمارية، ظلَّت الأنثروبولوجيا كعِلْمٍ تسبِّبُ بلبلةً وإزعاجًا للمعارف الموروثة، وتحدَّت العديدَ من المعايير المفروضة من جانب الإدارة الاستعمارية. وتكرَّرَ نفس الأمر مع كتاب إي إي إيفانز بريتشارد — الإثنوجرافي — بعنوان «الشعوذة والنبوءات والسِّحر بين شعب الأزاندي» (١٩٣٧)، الذي يصف فيه الدور الذي تلعبه الشعوذة في حياة شعب الأزاندي، وهو ما بَدَا أمرًا غير عقلانيٍّ من وجهة نظر السلطات الاستعمارية البريطانية، كما رأينا مع نموذج السِّحر لدى شعب دوبو. إلا أن إيفانز بريتشارد تمادَى أكثر من فورتشن بوصف شعب الأزاندي بأنه صاحب عقلية متفرِّدة خاصة به: «للشعوذة دور في كل بلاء ينزل بالأزاندي، وهي المصطلح الذي يستخدمونه للتحدث عن البلاء ولتفسيره» (١٩٣٧: ١٩). فقدَّم أمثلة لطرق تفسير شعب الأزاندي للبلاء الذي تلعب فيه الشعوذةُ دورَ «السبب»، وكانت حادثة انهيار صومعةٍ للحبوب أفضل تلك الأمثلة؛ إذ يدرك الأزاندي أن النمل الأبيض يأكل دعامات الصومعة، ولكن السبب في قيامه بذلك هو الشعوذة. وقد أقام إيفانز بريتشارد في تلك الدراسة الإثنوجرافية مقارنة واضحة معنا «نحن» في الثقافة الغربية: «ربما عنَّ لكثير من القرَّاء وجود تشابُه بين مفهوم الشعوذة لدى شعب الأزاندي ومفهوم الحظِّ لدينا؛ فمثلًا، وعلى الرغم من المعرفة الإنسانية، عندما … يصيب شخصًا ما أيُّ مكروه نقول إن حظه عاثر، بينما يقول الأزاندي إنه سُحِرَ» (١٩٣٧: ٦٥). يزعزع بريتشارد بعد ذلك مفهوم «العقلية البدائية» عندما يكتب عن الأدوية التي يستخدمها الأزاندي، فيُصنِّف استخداماتهم المحدَّدة للأشجار والنباتات، وأسلوب الاستخدام، ونوع النشاط. بعد ذلك بسنوات عدة تولَّيتُ (في ١٩٩٦م) تحريرَ كتاب بعنوان «العلم المُجرَّد: بحث أنثروبولوجي حول الحدود والقوة والمعرفة»، وواجهتني شخصيًّا مشكلاتٌ في نَشْر الكتاب بسبب بعض النقاشات التي خضتها مع زملائي فيما يتعلَّق بنفس المواضيع الخاصة بمعتقدات مماثلة لمعتقدات إيفانز بريتشارد. ومن هنا أدَّعي أن العقلية البدائية كمفهوم ما زالت قائمةً وحيَّةً، وإن وُضِعت في السياق الخاطئ عند التطرُّق إليها.

ويمكن ملاحظة تواطؤ علماء الأنثروبولوجيا مع الاستعمارية الأورو-أمريكية، بالرغم من الاستثناءات، في استخدام هؤلاء العلماء للمصطلحات الاستعمارية؛ حيث أشاروا على مدار التاريخ إلى الشعوب الخاضعة للدراسة بتعبير «البدائيين»، وألصَق عالِم الإثنوجرافيا صفةَ التحضُّر بعالَمِه هو وحده دون غيره؛ وهذا يُظهِر مدى تشابههم مع المسئولين المستعمِرين؛ حتى إن مناهج البحث التطوُّرية والمقارَنة — التي اشتملت على قناعةٍ بأن ما يُشار إليها بالمجتمعات البدائية كانت تعيش في مرحلة أوليَّة من التطوُّر سبق أن تجاوزتها المجتمعاتُ الحديثة بالفعل — كانت تشجِّع الباحثين على استخدام التصنيفات الخاصة بمجتمعاتهم من دون وعي ذاتي؛ كتقسيمات القانون والدين والسياسة، كما لو أنها «طبيعية» لوصف الآخرين؛ ولكن كان يوجد دومًا هؤلاء الذين يعكِّرون صفو الجماعة.

نخالف جريجوري بيتسون بكتابه «نيفِن» (١٩٥٨ [الطبعة الأولى ١٩٣٦]) العديدَ من القواعد المقبولة لكتابة الدراسات الإثنوجرافية؛ فجاءت دراستُه لشعب الإياتمول المقيم في منطقة نهر سيبيك في غينيا الجديدة منقوصةً، على الأقل ليس بحسب أيِّ تعريف تقليدي للكلمة؛ حيث وصف في دراسته طقسًا واحدًا فقط من طقوس الإياتمول ولم يتناول المجتمع ككلٍّ. وافتتح بيتسون كتابه قائلًا: «سوف أقدِّم لكم الطقسَ في البداية مبتورًا من سياقه حتى يبدو شاذًّا وغير مفهوم، وبعد ذلك سأصف العناصر المختلفة لسياقه الثقافي، وأوضِّح كيف يمكن رَبْط الطقس الاحتفالي بمختلف تلك العناصر الثقافية» (١٩٥٨: ٣). وهكذا يمثِّل كلُّ فصلٍ من فصول الكتاب تجربةً لشرح الطقس من خلال عدسة مختلفة؛ فحاوَلَ بيتسون في الفصل الذي يتناول المنهج الوظيفي إيضاحَ أن الشرح من خلال مثل هذا المنظور يعني ضمنًا انسداد السبيل نحو التغيير، وكَبْت الإبداع، وأن يُنظَر إلى الصراعات باعتبارها أعراضًا مَرَضية. ويُعَدُّ عمل بيتسون نقدًا للإثنوجرافيا الكلاسيكية القياسية، وهو قد سبق بذلك بفترةٍ طويلة عملَ ماركوس وفيشر الذي صدر عام ١٩٨٦م وتناوَلَ النقد الثقافي. كان كتابه بمنزلة دراسة لطبيعة عملية الشرح، واستقراء لأسلوب «العلماء» في تجميع أجزاء الصورة (بيتسون، ١٩٥٨: ٢٨٠)، وفيه يحتجُّ بأن المفاهيم النظرية «هي في الواقع وصفٌ لعمليات اكتساب المعرفة التي يتبعها العلماء … لا أكثر» (١٩٥٨: ٢٨١).

وقد توصَّلتُ من خلال قراءتي لتاريخ الأنثروبولوجيا إلى أن الشخصيتين الأكثر أهميةً والأبرز في نقد التعصُّب العِرقي كانَا جريجوري بيتسون وإدموند ليتش. وكان ليتش على الأرجح الأقل تجريدًا من بيتسون والأكثر صراحةً على الإطلاق. ويُعَدُّ أحدُ الخطابات التي أرسلها إلى والده في بدايات دراساته في جامعة كامبريدج بعد نهاية الحرب العالمية الأولى بقليل، نموذجًا مميَّزًا لرؤيته الواضحة والثاقبة:

جيلنا هو الجيل «الأول» الذي أمضى سنوات بلوغه كاملةً حتى النضج بعد الحرب؛ إذ بدأَتْ دراستي في أيام السِّلْم، وهكذا لا بُد أن تتكوَّن لدينا مجموعةٌ من القِيَم تختلف تمام الاختلاف عن الأجيال السابقة لنا. لقد سَطَرت الحرب قصةَ النهاية لعصر عظيم، وأذِنَت بميلاد عصر آخَر جديد كليةً من دون أي معايير أو أدنى مستوًى من الاستقرار. فقط تأمَّلِ الحضارةَ في وضعها الحالي، فستجد من جهة الجبروت العظيم الرهيب المتمثِّل في عالَم الأعمال الأمريكي، الذي ما هو إلا خَلَف منطقي لسياسة التجارة الرصينة التي اتبعناها طوال القرن الماضي، وقد أضحى هذا الوحش الجبار (عالَم الأعمال الأمريكي) هائل الحجم عظيمًا لم يَعُد ممكنًا التحكُّم به، بل فقَدَ أيضًا القدرةَ على السيطرة على نفسه تمامًا، وأصبح محتَّمًا عليه — بسبب آلياته — أن يعمل في دورات متعاقبة من الازدهار والكساد، حاملًا البؤس والدمار مع كل مرة يتجه فيها البندول نحو الأسفل. أما الجهة الأخرى فتقف بها الآلة الفتَّاكة الفعَّالة، مصوَّبة تجاهك من قِبَل الروس السوفييت … وفي ظل هذه القسوة، لا مجال للاختيار بين عالم الآلة السوفييتي والجبروت المالي لعالَم الأعمال الغربي الضخم.

ولكن من جهة ثالثة، وبعيدًا عن هذين الاثنين، يمتد مضمار العِلم كاملًا. لم يكن يدور بخَلَد أصحاب الإنجازات العلمية الأولى أيَّ منبعٍ للشرور أطلقوا حين أوغلوا في ألغاز العناصر. واليوم يستحيل أن يقف أيُّ شيء أمام تقدُّم العلم إلَّا أن يُباد العالم بأسره. وسوف يشهد القرنان القادمان — لا مفرَّ — تطوُّرَ العالَم ليكون ميكانيكيًّا بالكامل، إن لم يُدمِّر الإنسانُ نفسَه بنفسه أولًا في سعيه هذا؛ فالآلة هي رمز العصر …

وهكذا يُنزَع من الحياة تدريجيًّا كلُّ ما مكَّنَ الإنسانَ من الارتقاء عن مرتبة الوحوش، وتُغتال الثقافة بنفس سرعة أسلوب الحياة المفروض علينا؛ فصرنا مُرغَمين على الكفاح حيث كان أسلافنا يتفكَّرون هادئي البال (تامبيا، ٢٠٠٢: ٢٨-٢٩).

كانت الأنثروبولوجيا بالنسبة إلى ليتش — مَثَله في ذلك مثل موني من قبلُ — تتناولنا نحن بقدر ما تتناول الآخَر (ليتش، ١٩٨٩: ١٣).1

لا يوجد مجتمع حديث مقابل مجتمع بدائي، أو جامد مقابل ديناميكي؛ بل جميعنا عاقلون، فالآخرون عليهم حل مشكلاتهم الوجودية، وبناء قواربهم، وعلاج مرضاهم، بنفس قدر احتياجنا لذلك. إن الأنظمة الاجتماعية مفتوحة، وغير مُقيَّدة بحدود، ولا يمكن أن تكون متوازِنةً مطلقًا، والسرُّ وراء تشوُّقِنا لمعرفة الآخَر، هو أن ما نراه فيه يرتبط ارتباطًا مباشِرًا بفهمنا لأنفسنا.

تطرَّق ليتش إلى تقليد قديم يَصِم السكان الأصليين بالجهل ويُلصِقُ بهم نوعًا من عدم النضج والإيمان بالخرافات والعجز عن التفكير العقلاني. وقد آمَنَ — كما كتب مالينوفسكي في كتابه «السحر والعلم والدين» (١٩٤٨) — بأن على العلماء الغربيين افتراض عقلانية وصدق شعوبِ ما يُطلَق عليها المجتمعات البدائية، مثلهم هم تمامًا في مجتمعاتهم، وبهذه الطريقة يتمكَّنون من اكتشاف التفسيرات العقلانية للسلوكيات التي قد تبدو مُستغرَبة بالنسبة إليهم. كما كانت الازدواجيةُ في المعايير أمرًا غير مبرَّر من وجهة نظر ليتش؛ إذ لا يجوز أن يُطبَّق معيارٌ ما على الإنسان البدائي، بينما يُطبَّق معيارٌ آخَر مختلف تمام الاختلاف على ما يُسمَّى الإنسان المتحضِّر. وكان مؤمِنًا أنه لا يمكن التمسك بأيديولوجيات عنصرية تُلصِق صفاتِ التأخُّر الفكري بالسكان الأصليين، وعارَضَ ليتش أخلاقيات حماية التاريخ التي اعتنقها أتباع المدرسة الرومانسية، ولكنه لم يتفق كذلك مع الأنثروبولوجيا التطبيقية أو التطورية اللذين رأى أنهما يحملان طابع الاستعمارية الجديدة.

وقد رأى ليتش أن علماء الأنثروبولوجيا والشعوب التي يدرسونها متعاصرون (تامبيا، ٢٠٠٢: ٢٥٩–٢٦٣، ٤٢٩–٤٥٥)؛ أي إن أحدهما لا يُعَدُّ عصريًّا أكثر من الآخَر. كما طوَّر فكرة المعرفة الموقعية، التي تعني أن عالِم الأنثروبولوجيا ومَن ينقلون له المعلومات يوجَدون في مواقع مختلفة، ومن ثم لا يستطيعون أن يكونوا موضوعيين بالمعنى المنضبط للكلمة. لا يحب ليتش النرجسية التي يتسم بها النقاد المعاصرون وأسلوب كتابتهم لدراساتهم النقدية، وجميعها مزايا ترجِّح كفة فكره من وجهة نظري. غير أن الخروج على حالات الإجماع غير المُعلَنة ليس بالسهولة التي تصوَّرَها ليتش أو صوَّرها؛ إذ لم يزَل علماء الأنثروبولوجيا يُغمضون أعينهم عن الافتراضات التي تحدَّاها ليتش حتى اليوم، والسبب في ذلك كما أشار إريك وُلف عام ١٩٦٩م يتمثَّل في أن الأنثروبولوجيا ليست عِلمًا مستقلًّا، بل هي انعكاسٌ للمجتمع الذي تشكِّل هي جزءًا منه، ومن ثم يكون علماؤها عالقين داخل ثقافاتهم تمامًا كالشعوب التي يدرسونها؛ وبهذا الشكل نكون جميعًا متواطئين ولكن بدرجات مختلفة. وترتبط ملاحظات وُلف ارتباطًا مباشِرًا بموضوع كيفية تعاملنا مع مبدعينا من علماء الإثنوجرافيا في الماضي والحاضر على حدٍّ سواء. إن الثقافة الأنجلو-أمريكية ليست مدفوعةً ثقافيًّا لتحليل نخبة السلطة أو تثقيف أنفسنا حول واقع السلطة، وهي الملاحظة التي حفَّزَتْني لكتابة مقالي «الدراسة الأنثروبولوجية للمستويات العليا في الهيكل الاجتماعي» (نادر، ١٩٦٩)، وقدَّمت فيه تحليلًا للعوائق والاعتراضات التي تواجِه الدراسات الشاملة لكلِّ مستويات الهيكل الاجتماعي.

إذا كانت جميعُ الدراسات الإثنوجرافية الكلاسيكية تركِّز فقط على مكان الدراسة وعلى المجتمعات العِرقية — مثل: قبيلة تودا، وسكان جزر أندمان، وسكان جزر تروبرياند، وشعب أزاندي ودوبو وغيرهم — وإذا صحَّ ما يُقال عن أن أعمال علماء الإثنوجرافيا تعتمد جزئيًّا على ثقافتهم الأصلية؛ فأيُّ نوعٍ من الدراسات الإثنوجرافية قد بدأ في الظهور في سياق عالم العولمة المتسارعة، وصعود الإمبرياليات الجديدة، والرغبة في إعادة اختراع الأنثروبولوجيا؟ فبالرغم من كل شيء، تمكَّنَتِ الوسائل الصناعية والتكنولوجية المتغيرة من تغيير العالم وتغييرنا معه. درست جُون ناش (١٩٩٣ [الطبعة الأولى ١٩٧٩]) مثلًا هنود بوليفيا العاملين في مناجم تشكِّل جزءًا من نظام عالمي يُعَدُّ بلدها الأصلي جزءًا منه كذلك، بينما درس هيو جسترسون (١٩٩٦) العاملين في مجال الأسلحة النووية في مختبر أمريكي قومي، وهو مكان ينتج أسلحة دمار شامل، من شأنها التأثير على كافة الشعوب الموجودة على وجه الأرض. أما عالمة الأنثروبولوجيا الطبية النقدية المرموقة مارجريت لوك (١٩٩٣)، فقد درست التفاوت في إدراك سنِّ اليأس لدى المرأة في اليابان وأمريكا الشمالية، مع الإشارة إلى دور الأدوية والعقاقير في تحديد «تغيُّر الحياة»؛ ودرس تيد سويدنبيرج (١٩٩٥) كتاب «مذكرات ثورة» في فلسطين، ذلك المكان الذي يتردَّد صداه سياسيًّا، إن لم يكن إثنوجرافيًّا، في كل أنحاء العالم. لقد صارت المواقع الإثنوجرافية اليوم جزءًا من دوائر سياسية واقتصادية أكبر، ويزداد ارتباط بعضها ببعض من خلال التبادل العالمي، بل إنه حتى الدراسات الإثنوجرافية التي تركِّز على مجتمعات بعينها — مثل دراستِي أنا شخصيًّا التي تحمل عنوان «أيديولوجية التناغم: القانون والعدالة في إحدى قرى زابوتيك الجبليَّة» (نادر، ١٩٩٠) — تُعَدُّ ذات أهمية عالمية؛ لأن أدوات فضِّ النزاعات التي ترسَّخت على مدار السيطرة الاستعمارية الإسبانية على البلاد، والتي تبيَّنتُها على مستوى المجتمع يمكن إيجادها في أساليب التهدئة المعمول بها في مضمار القانون الدولي والاتفاقيات الدولية وما شابه ذلك. ويتحدَّث روبرت بوروفسكي (١٩٨٧) في كتابه «صناعة التاريخ: بِنيات المعرفة عند شعب البوكابوكا وعند علماء الأنثروبولوجيا» عن الطرق المختلفة لتكوين المعرفة عن الماضي، وهو أمر لا خلاف عليه اليوم تقريبًا، ولكنه لم يَزَل قابلًا للنقاش لدى بعض أنماط الفكر. يغيِّر علماء الأنثروبولوجيا باستمرار تفسيراتهم النظرية والتقاليد التي يتبعونها، فيبالغون في دقة تحديد مواقعهم، ومن ثم يبرزون أهمية التجانُس على حساب التنوُّع، والجمود على حساب التغيير، وهو ما حذَّرَ منه ليتش. في الوقت نفسه، وكما يشير بيتسون، فإن أسلوب التفكير المنفتح والمقيَّد، من الممكن أن يُفضِي إلى نتائج إبداعية.

وعلى الرغم من وجود مناصرين لعلماء الإثنوجرافيا المذكورين أعلاه، فإن المعارضة التي كانت تواجِه الأعمال الإبداعية، والانتقائية، والمنفتحة غير المقيدة، والمقيدة، قد استُبدِلَت وحلَّت محلها الأحكام التي تصدر على تلك الأعمال متضمِّنة صفات لها؛ مثل: «صحفية» أو «سياسية» أو «غير تحليلية» أو «غير علمية»، وجميعها تعبيرات عدائية نابعة من اعتبار أن علماء الإثنوجرافيا، عندما ساووا ما بين أنفسهم ومجتمعاتهم وبين الشعوب والمجتمعات التي يدرسونها، قد تخطَّوا الحدود وخرقوا إجماعًا غير معلن. وهكذا لم يزَل من السهل تشويه أي دراسة إثنوجرافية مقبولة أو تعيين الحدود التي يجب أن تلتزم بها، وذلك بالرغم من أنه قد صار واضحًا منذ فترة طويلة الآن أن العلم ليس محايدًا من الناحية السياسية، ولا يمكن أن يكون كذلك. وما زال النقاش مستمرًّا، كما كان في الماضي، لصالح الموضوعية العلمية، مع أنها ليست سوى مفهوم يخفي موقف العالِم، الذي يكون شديدَ الذاتية؛ لا أكثر ولا أقل.

جماهير الدراسات الإثنوجرافية

لعله من المستحيل استخدام الدراسات الإثنوجرافية التي ذكرتُها لحكم السكان الأصليين من خلال إجراءات موحدة؛ أم أن ذلك ممكن؟ لقد صارَتْ فوائدُ الإثنوجرافيا للمُهمَّشين من البشر محلَّ شكٍّ في وقتنا الحالي. ما معنى أن نتحدَّث لصالح الآخَرين؟ وما المصلحة التي تحقِّقُها الإثنوجرافيا لأي شخص؟ وإن كانت لها فائدة أو منفعة ما، فلصالح مَن هذه الفائدة أو المنفعة؟ من الممكن استغلال الإثنوجرافيا، شأنها في ذلك شأن أي فرع علمي بحثي آخَر، وقد استُغِلَّتْ بالفعل على مر العصور، لخدمة كافة أنواع الأهداف الأخلاقية والسياسية، الكريهة والحميدة. انظر مثلًا مشروع المضمار الإنساني الخاص بالجيش الأمريكي في العراق وأفغانستان (جونزاليس، ٢٠٠٩)، الذي يقوم على التعاوُن بين علماء أنثروبولوجيين تابعين للجيش والشعوب المُحتلَّة، بما يُفتَرَض أن يؤدِّي إلى إنقاذ الأرواح، على الرغم من عدم وجود أيِّ دليلٍ مادي على صدْقِ هذا الافتراض.

لم يُلاحَظ على مستوى العالم حتى الآن أن الأعمال الإثنوجرافية الحديثة أحدثت أيَّ تغييرات في أنماط الفكر المترسِّخة، لكن هناك بعض الجدل حول ما إذا كان الأفضل النظر إلى الماضي أم المستقبل. فحين قال مالينوفسكي عن شعب التروبرياند: «إنه منغمس فيه [خاتم كولا]، ولذا فهو غير قادر على رؤية الصورة الأشمل من الخارج» (١٩٨٤: ٨٣) ربما لم يخطُر بباله أن عبارته هذه تنطبق على عالِم الإثنوجرافيا نفسه. وكرَّر كليفورد جيرتز نفس المعنى في تسعينيات القرن العشرين أثناء إلقاء إحدى المحاضرات وإجابة بعض الأسئلة في جامعة بيركلي: «هم [الشعوب الأصلية] لا يعرفون كيف يؤدُّون هذا النوع من العمل.» وتعرَّض ليتش (١٩٦٥: ١٠) للانتقاد لاستبداله تحليل القوة بالتوازن باعتباره الحجر الأساسي للديناميكيات الاجتماعية، وذلك عندما أشار إلى تقديره التام للكمِّ الهائل من التحليلات الاجتماعية التي أُجرِيت على أعلى المستويات، وأعطت انطباعًا بأن الأنظمة الاجتماعية تتصف بشكل طبيعي بالتوازن، وهو ما يُعَدُّ واقعًا قابلًا للإثبات، وأشار إلى أن مثل تلك التحليلات تبدو كالوهم. أما جُون ناش (١٩٩٣ [الطبعة الأولى ١٩٧٩]) فقد تحدَّت بتوسيع نطاق عملها ليشمل كلًّا من أصحاب العمل والعمال على حدٍ سواء، السلوك الذي يتبنَّاه الآخرون تجاه عمَّال المناجم، وتجاه الطبقة العاملة في المجتمعات الأضعف صناعيًّا بوجه عام:

إن المقابلة بين «التقليدي» و«الحديث» أو «العقلاني»، وبين «التبعية» و«الاستقلال» تحرمنا من فرصة إعادة تفسير الأمور والنمو في إطار ثقافي يختلف عن الإطار الثقافي للمدن المركزية المتطورة في العالم، ولكنها قادرة مع ذلك على توليد مدارك جديدة وأساليب تكيُّف بديلة تكون أحيانًا متقدِّمة بمراحل عن النماذج التي تصلنا من المجتمعات الصناعية (١٩٩٣: ٣١٠).

وتصريحها هذا يشكِّك في ماهية السلوك العقلاني بالنسبة إلى القوى العاملة المُهمَّشة في أيٍّ من الاقتصادات المستقلة، ومع ذلك ما زال علماء الإثنوجرافيا (ما عدا ليتش الذي يمثِّل استثناءً بارزًا) يتحدَّثون دومًا عن الحداثة والتطور كما لو أنهما مختلفان عن ثقافة التطوُّر الثقافي الأُحادي الخط أو الاستعمارية الثقافية. وعندما تساءلَتْ مارجريت لوك (١٩٩٣) عما إذا كانت التناقضات المتعلِّقة بسن اليأس لدى المرأة نابعةً من أنه يُعَدُّ ظاهرةً واقعيةً، نفسية وجسمانية راسخة ثقافيًّا؛ قامت بتحدِّي المعرفة المتوارَثة المتعلِّقة بسن اليأس، التي لا يجادل فيها أحدٌ بوجه عام في مجال الطب في أمريكا الشمالية، وصمَّمت على «أن تتجاوز بنتائج هذا المشروع مجرد التفسير البسيط للمواد اليابانية، وهو ما جعل المقارنة مع أمريكا الشمالية ضمنية إلى حدٍّ كبير» (١٩٩٣: ١٩). وسوف أتناول مسألة المقارنات الضمنية في ملاحظاتي الختامية، ولكني سوف أسلِّط الآن الضوءَ على أسلوب لوك في عرض النموذجين متجاورَيْن بطريقةٍ بدَتْ مبنِيَّةً على دعوة ليتش الأولى لعلماء الإثنوجرافيا لفحص العقليات الغربية بالمثل.

يضمُّ كتاب «العلم في زابوتيك» (٢٠٠١) — الحاصل على جوائز — لروبرتو جونزاليس، شرحًا لبعض الموضوعات التي طرحتُها حتى الآن. وجونزاليس واحد من علماء الأنثروبولوجيا المتمردين على وَهْم العلوم العِرقية مقابل العلوم التكنولوجية، أو وهم ثنائية «هم لديهم المعرفة/نحن لدينا العلم». وهو يطرح في كتابه أن الممارسات الزراعية التي يتَّبعها شعب زابوتيك لا يمكن تصنيفها تحت بند «التقليدي» في مقابل «الحديث»؛ لأنها تعكس مجموعةً متنوعةً من التأثيرات بدءًا من التأثيرات الأصلية التقليدية، وصولًا إلى التأثيرات الصناعية المعتادة. على سبيل المثال: يزرع أهل زابوتيك أنواعًا من الذرة المحلية، ولكنهم يستخدمون كذلك أساليبَ (كالحرث) وأدواتٍ (مثل النِّصال الحديدية) من أوروبا والشرق الأوسط، كما استقدموا محاصيلَ أجنبية مثل القهوة وقصب السكر، ولكنهم يزرعونها بحسب الممارسات المحلية؛ مثل الزراعة المتداخلة وترتيبات العمل التعاوني. وبهذه الطريقة يفكُّ جونزاليس مفهومَ نحن/هم في إنتاج المعرفة، مُفسِحًا المجال لاحتمالات بديلة للنموذج السائد كما كان ليتش وغيره يلمِّحون. ويُعَدُّ كتاب «العلم في زابوتيك»، شأنه شأن كتاب «صناعة التاريخ» لروبرت بوروفسكي (١٩٨٧)، بمنزلة إعادة نظر في عملية إنتاج المعرفة في علم الأنثروبولوجيا الذي زُجَّ به في عمليات التوسُّع وفرض السيطرة الأوروبية منذ البداية كما أشار النقاد كثيرًا. ويرى جونزاليس أن تقسيم العلوم إلى علوم محلية أو عِرقية وأخرى عالمية لا يصحُّ كأسلوبٍ للتفكير في العلم، والتحدي الفكري المفروض حاليًّا هو تفكيكُ المعايير السائدة والقضاء على عدم المساواة المرتبطة بما أسماه إدوارد سعيد «الاستشراق»، المتمثِّل في الانحياز الثقافي بما يتيح لأوروبا والولايات المتحدة التميُّزَ باستعلاء المكانة والحفاظ عليها. كذلك يوسِّع جونزاليس في كتابه من نطاق ملحوظة ناش التي تقول فيها بأن «التصنيفات الأوروبية المحدِّدَة لماهية السلوك العقلاني … لا تعني شيئًا للقوى العاملة المُهمَّشة» (ناش، ١٩٩٣: ٢٥١). وكما سَبَق أن فسَّر إيفانز بريتشارد (١٩٧٦) كيف توافَقَ السِّحرُ الذي مارَسَه شعبُ الأزاندي مع المعرفة التجريبية بالسبب والأثر، يصف جونزاليس الأساس المنطقي والعلمي لممارسات المزارعين العائليين. هذه المجهودات تمثِّل جزءًا من تقليدٍ أنثروبولوجي يهدف إلى تحرير أساليب تفكير أخرى من هؤلاء الذين يقبلون تطبيقَ معايير على الشعوب «الحديثة» تختلف عمَّا قد يطبِّقونه على «الشعوب التقليدية»، وتطبيق معايير علينا مختلفة عن المعايير التي تُطبَّق عليهم، ومن ثم يقعون في التناقضات. ولا شك أن نفس تلك التناقضات تظهر في الإثنوجرافيا نفسها.

في عام ١٩٦٤م، كان ليتش يرى كتابه «الأنظمة السياسية في بورما العليا» باعتباره «عملًا يروِّج لأسلوب جديد للنظر إلى الأشياء مقارنةً بالأساليب الأخرى»، وفي ظل المناخ العام لكتابته كان القرَّاء يستطيعون اعتبار عمله داعِمًا لمنهجٍ أكثر شموليةً وأقل وضعيةً، ولكن بحلول عام ١٩٧٧م صرَّحَ ليتش أن البندول قد تأرجح بعيدًا جدًّا في الاتجاه المقابل، لدرجة «أنني مضطرٌّ لتقديم [كتابي] كدفاع عن الملاحظة التجريبية»، ولعل السبب في ذلك كان ترنُّح الأنثروبولوجيا في اتجاه الأسلوب التفسيري (الطبعة الثانية من كتاب ليتش، ١٦-١٧). إن أي شخص يسعى للتوسُّع في مشروعٍ كمشروع ليتش، عليه أن يدرك أوجهَ الاختلاف والشبه بين العديد من ممارسات تكوين المعرفة حول العالم، وهذا يقودني مرةً أخرى للدفع بلزوم تحوُّل المقارنات الضمنية إلى مقارنات صريحة، إنْ أردنا أن نمتلك أيَّ أملٍ في التعلُّم من خبرات الآخَرين. والمهم هو أنه بالرغم من تذبذُب النظرة الداخلية والنظرة الخارجية بين الظهور والاختفاء في الدراسات الإثنوجرافية الأحدث، فإننا نحن علماء الأنثروبولوجيا لم نتحرَّك قيدَ أنملة في اتجاه التعامُل مع «مشكلة التعصُّب العِرقي».

نعود إلى جونزاليس مرة أخرى للحظات؛ إذ يجدر بنا معاينة بعض المراجعات النقدية التي تناولت عمل هذا المؤلِّف الشاب. في تقدير أحد النقاد «فقط القليل من علماء الزراعة سوف يتدبَّرون بجديةٍ فكرةَ أن الأرض كائنٌ حيٌّ يشعر بالألم، أو أن للذرة روحًا؛ هذه معتقدات روحانية تستحق الاحترام، ولكنها ليست بعلم» (بينتلي، ٢٠٠٣: ٣٥٨). إلا أن هذا الناقد لم يدرس المسألة بالقدر الكافي؛ فبدلًا من افتراض آراء الآخَرين بخصوص عمل جونزاليس مسبقًا، يجدر بنا استكمال مشروعه من خلال دراسة هؤلاء العلماء الزراعيين الدارسين بالجامعات أيضًا. فمن أين لنا أن نعرف أن العلماء الزراعيين ليست لديهم معتقدات وظيفية مساوية، إن لم نعقد مقارَنةً مباشِرة؟! المثير للاهتمام حقًّا هو أن بعض النقاد الآخَرين دعوا بوضوح إلى عقد هذه المقارنة، بالرغم من اتجاه ناقِد آخَر للتساؤل الآتي: «هل يُفترَض أن تُسمَّى هذه الممارسات عِلمًا؟» إن مجرد طرح هذا التساؤل يشير إلى أن جونزاليس قد انتهَكَ إجماعًا لم يَزَل العديدُ من علماء الاجتماع يتمسَّكون به، بمجرد وضعه ممارسات شعب زابوتيك على قدم المساواة مع ممارسات العلم الغربي. فمفهوم: هم لديهم المعرفة ونحن لدينا العلم، يُقصَد به في الغالب «أن لدينا مؤسسات علمية».

وفي الدراسة الإثنوجرافية المثيرة للجدل منذ اللحظة الأولى، التي تحمل عنوان «طقوس نووية» (١٩٩٦)، نجد هيو جسترسون يفحص المنطقَ الداخلي للحياة المعملية من خلال دراسةِ «أهم مُسلَّماتها»؛ وقد أجرى جسترسون دراسته في كاليفورنيا في مكتبة ليفرمور الوطنية، وكانت أهم المُسلَّمات وفقًا له تتمثَّل في أن العلماء يصمِّمون أسلحةً نوويةً داخل المعامل لضمان عدم استخدام الأسلحة النووية أبدًا. ويصف جسترسون في دراسته عمليات التواصُل الاجتماعي المتعدِّدة التي تُجرَى في المعمل، والتي تُعَدُّ تجسيدًا لهذا الأسلوب في التفكير؛ ذلك المُعتَقَد الذي يقود هؤلاء العلماء ويبرِّر لهم مشاركتهم في بناء أقوى الأسلحة على وجه الأرض. ويعكس وصف جسترسون عدم اتساق طريقة تفكير العلماء على الإطلاق؛ إذ صوَّب أحد العلماء استخدامَ جسترسون لمصطلح «تبخُّر» بدلًا من «تفحُّم» لوصف الآثار التي لحقت بضحايا القنبلة النووية التي أُسقِطَت على هيروشيما، فعلَّق قائلًا: «مشكلتكم [أنتم] غير العلماء [هي] أنكم لا تلتفتون للتفاصيل» (جسترسون، ١٩٩٦: ١١٠). وهكذا نجد أن لدينا علماء قادرين على التفريق بين التبخُّر والتفحُّم، ولكنهم لا يتساءلون إذا ما كان المنطق وراء بناء أسلحة شديدة التدمير بهدف الردع ربما يمثِّل استراتيجية خاطئة أو بالية اليوم. ولعلَّ المهنية، أو التخصُّص الدقيق في تفاصيل بعينها — في حالة هؤلاء العلماء النوويين تحديدًا — تَحُول دون استطاعتهم تدبُّرَ الصورة الأكبر ومحاولة تحقيق الاتساق على المستوى الأشمل.

وتلفت نانسي تشين في دراستها الإثنوجرافية «مساحات للتنفُّس» (٢٠٠٣: ١٢) الانتباهَ إلى أن الأنثروبولوجيا الطبيَّة النقدية قد «ساعدَتْ على إعادة تعيين الإطار الفاصل بين الطب الحيوي وأنواع الطب الأخرى، حتى وصل الأمرُ إلى فهم الطبِّ الحيوي نفسه باعتباره نوعًا من الطب العِرقي»، ودراستها لممارسات رياضة التشي كونج غائرةٌ في عمق تاريخ الصين الحديث القائم على إعادة الانخراط مع الرأسمالية العالمية، وتحوُّل الصين من نظام الرعاية الطبية المدعوم من الدولة إلى المنظومة الطبيَّة الهادفة للربح؛ إذ تعيد رياضة التشي كونج الترابُطَ بين ممارسيها على المستوى الوطني وأحيانًا الدولي، مقدِّمةً نموذجًا للإثنوجرافيا غير المقيَّدة بأي حدود.

العديد من الدراسات الإثنوجرافية المذكورة هنا تُعَدُّ بمثابة انصرافٍ تجريبيٍّ عن النموذج المُتَّفَق عليه الذي كان ليتش في غاية الصراحة في تعامُله معه، ولكن الدراسات الإثنوجرافية التجريبية من الممكن أن تشكِّل نموذجًا في حد ذاتها. انظر مثلًا في حالة بيتسون كيف أتاحَتْ له معالجتُه الواعية لأنواع التفسير أن ينتقد المنهجَ الذي يتبعه هو شخصيًّا؛ لقد مثَّلت دراسته الإثنوجرافية نموذجًا «لم يَكُن دراسةً إثنوجرافية في الأساس، أو إعادةَ سردٍ للبيانات لحين تجميعها وتركيبها فيما بعدُ على يد علماء آخَرين»، بل كانت «دراسةً للطرق التي يمكن عن طريقها تجميعُ البيانات. وعمليةُ تجميع البيانات هذه هي ما أعنيه بكلمة «التفسير»» (بيتسون، ١٩٥٨: ٢٨٠-٢٨١). بدأ بيتسون دراسته باستعراض طقس النيفِن لدى شعب الإياتمول، وبهذه الطريقة وفَّرَ نموذجًا معرفيًّا لفهم نظام الطقس بأسلوب تلقينيٍّ، وهو ما يمكن تطبيقه كذلك على علماء الأسلحة النووية الذين درسهم جسترسون. كذلك نجح ليتش في رسم نموذج للنظام السياسي لولاية كاشين يُلقِي به الضوءَ على ما بها من تناقُضات كامنة كجزء من نظام عامل، وكانت تلك فكرة مفيدة لكلٍّ من ناش ونادر. ولكن المقارَنة التي عقدها جسترسون بين إحدى المؤسسات المعملية وحركة النشطاء المناهضة للأسلحة النووية، كانت على نفس مستوى قوة المقارَنة التي أقامَتْها لوك بين إدراك مرحلة سن اليأس لدى المرأة في كلٍّ من أمريكا الشمالية واليابان، إلا أن المقارنة التي عقدها جسترسون لم تكن منضبطةً؛ نظرًا لطبيعة الوحدتين المؤسسيتين اللتين شملتهما المقارَنةُ؛ فإحداهما وحدة صناعية عسكرية، والأخرى تابعة لشبكات ديمقراطية مكوَّنة من المواطنين النشطاء. والإثنوجرافيا، كنظرية، تبيِّن أهمية قيام علماء الإثنوجرافيا بإعادة صياغة تصنيفاتهم كإسهام منهم في تطوُّر النظرية، بالرغم من أن الوصول إلى هذا الفهم استغرَقَ زمنًا طويلًا؛ وكما أن النماذج تمثِّل أدواتٍ فعَّالةً في الحفاظ على الوضع الطبيعي، فإن المقالات التحليلية تقوم بنفس المهمة.

يختم دينيرو (٢٠٠٠: ١٩٧) تحليلَه للدراسة التي أجراها كلٌّ من دونالد كول وثريا التركي تحت عنوان «البدو المستقرون وصنَّاع الإجازات: ساحل مصر الشمالي الغربي المتغيِّر» (١٩٩٨)، بتأديب الباحثَيْن لضيق أفقهما؛ إذ إنهما:

يَخرجان من إطار دور علماء الأنثروبولوجيا التقليديين، ويتقمَّصان دورَ الدفاع والتحليل السياسي، فيتساءلان عن «الفوائد النسبية التي ستجنيها المنطقةُ نتيجةَ استثمارِ مبالِغَ طائلةٍ من رءوس الأموال لتشييد [تلك القرى السياحيَّة].» ورغبتهما تلك في الدفاع عن مصالح البدو ضد القوى الغربية تمثِّل موطِنَ قوة وضعف في آنٍ واحد؛ حيث تتجلَّى قوةُ أداء كول والتركي في شرحهما لتعقيدات الحياة الاجتماعية في مطروح، بينما يظهر أضعفُ أداءٍ لهما عندما يفقدان المسافةَ الأكاديمية، فينحرفان عن موضوع الدراسة ويشرُدان نحو موضوعات ذات دلالات سياسية. على سبيل المثال: إن طرْحَ نقدٍ ساخرٍ وعنيف للاحتلال الإسرائيلي لسيناء يُعَدُّ أمرًا ثانويًّا وغير ضروري ومشتِّتًا للانتباه (كول والتركي، ١٩٩٨: ٢٣). وفي مثال آخَر: إن الإشارة ارتجالًا لحادثِ إصابة فتًى بدويٍّ بسبب لغم أرضي «زرَعَه البريطانيون والألمان والإيطاليون «المتحضِّرون»» منذ ٥٠ عامًا؛ تبدو عديمةَ المغزى وضيِّقةَ الأفق (١٩٩٨: ٨٨، علامتَا التنصيص في كلمة «المتحضِّرون» ليستا في النص الأصلي، إنما أضفتهما للتأكيد).

مشاهدة من خارج إثنوجرافيا الأنثروبولوجيا

يعرف كلُّ مَن له صلةٌ بمجموع الأعمال الإثنوجرافية الحالية أن الإثنوجرافيا صارت رائجةً اليوم، بل ربما صارت أيضًا تقليعةً. ويكتب بعض علماء الاجتماع أن الباحث الإثنوجرافي يُعَدُّ عامِلًا أو مهنيًّا كغيره من أصحاب المهن، لا يرتبط بفرع علمي محدَّد: فالإثنوجرافيا فن؛ فن يرغب طلابُ التربية والجغرافيا والعلوم السياسية وعلم النفس اكتسابَه، وقد يَعُدُّونه جزءًا أصيلًا من مجال تخصُّصهم من الناحية التاريخية، إلا أن ماهية الإثنوجرافيا تتغيَّر في واقع الأمر بحسب استخدامها وتخصيصها لغرض معين. في عالم الشركات، على سبيل المثال، أصبحت الإثنوجرافيا الآن أحدَ الأساليب المقبولة في إجراء أبحاث السوق، وزاد الطلب على الباحثين الإثنوجرافيين زيادةً غير مسبوقة لإجراء هذا النوع من الأبحاث، بل لقد استُعِيرَت فضلًا عن ذلك بعضُ مكونات العمل الإثنوجرافي لاستخدامها لأغراض متنوعة، فتحوَّلَ أسلوب الملاحظة بالمشاركة إلى البحث التشاركي، وذلك على وجه الخصوص في إطار الأبحاث التي تُجرَى ضمن مشروعات البنك الدولي، أو التي يجريها الباحث الإثنوجرافي الذي يتظاهر بتمثيل صوت الآخَر. وعلى النقيض من ذلك، تتم المساواة بين الإثنوجرافيا ومجرد «تمضية الوقت في مكانٍ ما»؛ أيِ البحث النوعي في مقابل البحث الكمِّي، بل يظن البعض أنه من الممكن إجراء دراسة إثنوجرافية خلال ستة أسابيع أو أقل مثلًا؛ وعليه نجد أن أسلوب «التقييم السريع» هو الأكثر شيوعًا اليومَ في الأنثروبولوجيا التطبيقية، وكانت النتيجة الحتمية لهذا الانتشار في استخدام الإثنوجرافيا بين الفروع المعرفية المختلفة وفي عالم السوق، هي تعرُّض فرعها المعرفي الأصلي للنقد، أو الثناء عليه. ومن أمثلة هذا النقد بحثٌ قدَّمَتْه ميسون سكَّرية (٢٠٠٤)، اللبنانية الأصل، في أحد الحلقات الدراسية — بينما كانت طالبةَ دراسات عليا في جامعة كاليفورنيا في بيركلي — واختارَتْ له عنوانَ «التحكُّم في الإثنوجرافيا أو تحريرها».

كان أول لقاء لسكَّرية بالباحثين الإثنوجرافيين وعلماء الأنثروبولوجيا في عام ١٩٩٣م، وكانت حينها طالبةً بالجامعة الأمريكية في بيروت، أثناء العمل في مخيم شاتيلا القريب للَّاجئين الفلسطينيين. وشهدت سكَّرية في مخيم شاتيلا موجاتٍ عدةً من الباحثين الإثنوجرافيين، وأجرى بعضهم أبحاثَهم على الجيل الثالث من الشباب الفلسطيني المقيم فيه (وكما سنرى سيتكوَّن لدى سكَّرية شعورٌ بالاستياء من الباحثين الإثنوجرافيين وأنشطتهم). مخيَّم شاتيلا هو أحد اثني عشر مخيَّمًا للَّاجئين الفلسطينيين في لبنان، وقد اجتذَبَ بمرور الوقت باحثين إثنوجرافيين من أوروبا والولايات المتحدة ممَّن كانوا يبحثون موضوعاتٍ تتعلَّق بحقوق الإنسان وحل النزاع والتعليم والصحة العامة والمعمار. ومن بين أوائل المشروعات الإثنوجرافية التي أُجرِيَت في المخيَّم بحثٌ أجراه طالبٌ من جامعة كولومبيا عام ١٩٩٥م، وكان يتناول كيفيةَ انتقالِ ذكرى المذبحة إلى الأطفال المنتمين للفئة العمرية من ٩ إلى ١٨ عامًا، ورصدت سكَّرية (٢٠٠٤) أنه: «فضلًا عن الألم المرتبط بعملية إجراء المقابلات [حول المذبحة]، كانت تلك المقابلات تزرع كذلك في عقول الأطفال أنهم ضحايا لقوى لا يستطيعون التعامُلَ معها.» وجاءت جملة القول في وصف الموقف في صيغة تساؤل ساقَه فتًى في الرابعة عشرة من عمره: «ما سرُّ اهتمام الباحثين بالموتى … مع تواصُل إيذاء الأحياء؟» وتتوصَّل سكَّرية إلى أولى ملاحظاتها — بصفتها مُشاهِد من خارج عالم الإثنوجرافيا — بقولها: الباحثون الإثنوجرافيون كانوا يُؤذون مبحوثيهم في المخيَّم.

وفي أواخر تسعينيات القرن العشرين مكثَتْ باحثةُ أنثروبولوجيا نرويجيةٌ في مخيم شاتيلا لمدة ثمانية أشهر لإجراء دراسة إثنوجرافية حول حقوق الأطفال، وعقَّبت سكَّرية (٢٠٠٤) في بحثها على ذلك قائلةً: «كان الأطفال يُسألون دومًا عن أي الأشياء لا يملكونها، وأيها يفتقرون إليها، وعن «حقوق الأطفال» التي يُحرَمون منها.» واستعانت الباحثة النرويجية بمجموعات تركيز (وهو ابتكار تسويقي بالمناسبة) لتسأل الأطفالَ مثلًا إن كانوا يحصلون على حقهم في اللعب داخل المخيم، وعندما جاء ردُّ الأطفال بالإيجاب وأخبروا الباحثةَ عن الألعاب التي ابتكروها، كان ردُّها هو: «[ولكن] هل لديكم ملاعب وساحات خضراء؟ … [إن لم يكن لديكم] فإذن حقُّكم في اللعب مُنتهَك.»

وفي فترة لاحقة، موَّلَت منظمة اليونيسيف برنامجًا يُدِيره أطفال المخيَّم، وشاهدَتْ سكَّرية، المُتابِعَة الناقدة، نفسَ هؤلاء الأطفال وهم يكرِّرون لمسئولي اليونيسيف ما تعلَّموه من الباحثين السابقين؛ أن حياتهم ليست سوى حفنة من المشكلات، وأنهم أنفسهم ليسوا سوى مجموعة من المساكين العديمي الحيلة، وتلك هي عقلية الضحية. لقد تعلَّموا أنهم أطفال في حاجة إلى شخصٍ ما في مكانٍ ما لحلِّ مشكلاتهم بالنيابة عنهم؛ فإذا كان مقدَّرًا لهم اللعبُ واللهو، وأن يصيروا أطفالًا «طبيعيين»، فهم لزامًا بحاجةٍ لمساعدة إحدى المنظمات الأهلية؛ وبذلك فقد دفعهم مفهومُ «الاحتياج» و«الندرة» إلى أن يَرَوا أنفسهم مُعْوِزين. وما دام العامِلون في مجال الأنشطة الإنسانية والباحثون الإثنوجرافيون يركِّزون على أشياء مثل حق الطفل داخل مخيم اللاجئين في اللعب، ويعتبرونها في أهمية المشكلة، فستُغيَّب قضيةُ الفلسطينيين السياسية والحاجة لإيجاد حلٍّ للنزاع الذي هو سبب المشكلة في المقام الأول؛ وتستحيل المشكلة السياسية إلى مشكلة نفسية. وهكذا رأت سكَّرية حينها، باعتبارها ملاحِظة من خارج المجال، أن هؤلاء الباحثين الإثنوجرافيين الأجانب عملاء تهدئة؛ فبدلًا من انشغال هؤلاء الأطفال بكفاح جليل من أجل الاعتراف بهم وتحريرهم، أصبح أطفال مخيم اللاجئين ضحايا ومساكين ومعوزين وقليلي الحيلة وعناصر خاضعة للتهدئة مُجهَّزة للتدخُّل «الإنسانيِّ» التسكينيِّ، وذلك بمساعدة الجمعيات الأهلية المعنِيَّة بإقامة المشاريع والباحثين الإثنوجرافيين. وأشارت سكَّرية إلى أنه في ضوء هذا الوضع تكون الإثنوجرافيا عبارة عن عملية لإحكام السيطرة من خلال خلق أناس مُعوِزين خاضعين للتهدئة، عن طريق طرح أسئلة وإقامة مشروعات وإجراء أبحاث تركِّز على المشكلات؛ المشكلات المُعضِلَة التي لا حلَّ لها. وبذلك تطغى رؤية خارجية جديدة تتبنَّاها جهاتٌ خارجية على المعنى المرتبط بالمعاناة الماضية، والحاضر غير المحتمل، ويفقد الحاضر والمستقبل كلَّ معنًى لهما، ويصيران غامضَيْن ميئوسًا منهما.

واصلَتْ سكَّرية بعد التحاقها بجامعة كاليفورنيا ببيركلي متابَعةَ علماء الأنثروبولوجيا والإثنوجرافيا من خلال نظرتها النقدية، فوجدَتْ علماء الأنثروبولوجيا غارقين في موضوعاتٍ عدَّتها غريبةً بالنظر إلى خبرتها مع الباحثين في لبنان؛ مثل ما يُطلَق عليها أزمات التمثيل والحياد، ومشكلة كيفية تقديم العمل الأكاديمي بطريقة تتجنَّب التعرُّض للسياسة. لماذا كان علماء الأنثروبولوجيا يهابون أن «يوصِّلوا صوت» مبحوثيهم للعالم؟ وكيف يجرؤ أيُّ شخص على مجرد التساؤل عن صلة السياسة بالتعليم؟ وهل يوجد فعلًا ما يُسمَّى «أسلوبًا بحثيًّا غير سياسي»، خاصة عندما يكون تعامُلُ المرء مع أشخاص حقيقيين ومواقف حَرِجة؟

في بيركلي، ظلَّ منهج «التشارُك» يلوح لسكَّرية بوصفه مفهومًا منهجيًّا مهمًّا؛ ممَّا استحضَرَ إلى ذاكرتها موقفًا لبحثٍ تشاركيٍّ مزعوم تناول فترة انقطاع الطمث، كانت تتابعه في مخيم شاتيلا؛ كان أول ما فعلته الباحثةُ هو أن ترجمَتِ المصطلح الإنجليزي menopause إلى العربية، مُبتكِرةً عبارةً جديدةً؛ نظرًا لعدم وجود مكافِئ دقيق لهذا الاصطلاح في اللغة العربية، وكانت العبارة البائسة التي اختارتها الباحثة هي «سن اليأس». وشرحت الباحثة للنساء في المخيم أن تلك الفترة تبدأ عادةً في أواخر سن الأربعين وأوائل الخمسين، وهنا قالت إحدى النساء الأكبر سنًّا: «سن اﻟ ٤٨! سن اليأس عند جميع الفلسطينيين بدأ في ٤٨ عندما طُرِدنا من وطننا.» لم تكن المرأة تعرف شيئًا عن «سن اليأس»، فربطَتْ بينه وبين عملية النزوح القسريِّ الذي تمَّ عام ١٩٤٨م من فلسطين، وعندما حاولَتِ الباحثة شرح المصطلح، هاجمَتْها سيدة أخرى من النساء المُسنَّات بعنف واتهمَتْها بأنها جاسوسة تحاول تشتيتَ انتباهِ النسوة في المخيم عن قضية فلسطين، من أجل التركيز على أمور تافهة كاهتمام النساء «بأجسادهن». وفي هذا نموذج مثالي يكشف كيف يمكن أن تكون الأبحاث الإثنوجرافية عاريةً من الأنثروبولوجيا.

التحقَتْ سكَّرية بعد ذلك بحلقة دراسية تتناول المائة عام الأخيرة من الإثنوجرافيا في جامعة كاليفورنيا ببيركلي، ومرة أخرى أصابتها صدمةٌ عند اطِّلاعها على أول مجموعة من الدراسات حول الفترة من ١٨٩٦م حتى ١٩٦٠م؛ إذ رأت أنها «قَطعًا مخصَّصةٌ للتعاطِّي مع موضوعات صغيرة النطاق، ومصمَّمة لتفسير العمليات الاجتماعية في المجتمعات المُقيَّدة بحدود»، إلا أنها عندما وصلت إلى مرحلة تسعينيات القرن العشرين — وبالتحديد لأعمال جُون ناش — أشارت إلى أن «تحليلها لهياكل القوة القائمة والتفاوتات الاجتماعية التي لا تَنتُج فقط عن عوامل محلية، بل عن قوى عالمية كذلك، يُعَدُّ خروجًا [على] مفهوم انحصار الإثنوجرافيا داخل [النطاق] المحلي فقط.» ووجدت في أعمال لوك وجونزاليس حريةً ردَّتْ إليها روحها لتجاوزهما الخطابَ الحداثي الأول عن التقدُّم والاستثنائية الغربية وما يرتبط بهما من استعلاء. كذلك منحتها دراسة «أيديولوجية التناغم» (١٩٩٠) وكتاب جوليا بيلي «تسويق الديمقراطية» (٢٠٠٣) انطباعًا بأن الإثنوجرافيا قادرة على لعب دور في مشروع يهدف للتحرير. وكما قالت فيما بعدُ (٢٠٠٤): «تضرب جذورُ الممارسات الحالية في الماضي الاستعماري، وقد دفعتني الصلات والمقارنات بين التاريخ، والمعرفة المحلية، والتأثيرات الاستعمارية، والهيمنة العالمية، والأيديولوجية الثقافية، والممارسات الفعلية؛ لحمل نفسي نحو دراسة التاريخ لاستيعاب الحاضر.»

مع ذلك، فإن تجربة سكَّرية الدراسية مع الأنثروبولوجيا والإثنوجرافيا انتهَتْ نهايةً سعيدة؛ إذ تحوَّل بُغضُها السابق لعلماء الأنثروبولوجيا والإثنوجرافيا، كما شهدتها تُمارَس في مخيم شاتيلا للاجئين الفلسطينيين، إلى تقديرٍ نقديٍّ للإثنوجرافيا باعتبارها نشاطًا يمكن توظيفه كذلك في مشروعات تستهدف فتح الآفاق لاحتمالات الفكر والإبداع في الوقت الحاضر. والإثنوجرافيا ليست أُحادية النمط، بل إن ممارسيها يتميَّزون بدرجة عالية من التنوُّع من حيث الأُطُر المفاهيمية التي يتبعونها، ومن حيث الأغراض التي تستهدفها نشاطاتهم البحثية، وهي أيضًا ذات حدين. ولكن قصة سكَّرية باعتبارها باحثة إثنوجرافية ليست منفصلةً تمامًا عن الظروف المكانية والزمانية، وأنا أنقل قصتها هنا كمَثَل يوضِّح كيف تطوَّرت الإثنوجرافيا حتى وصلت للمرحلة الحالية، ولكني أنقلها كذلك لأن أفكارها النقدية حول معنى التعرُّف على العالم والتصرُّف فيه، مَثَلها مَثَل علماء الأنثروبولوجيا الذين أستشهد بهم، تواصِل تحدِّيها لغيرها ممَّن يُقسِّمون الجنس البشري ويحتقرون جزءًا منه أثناء ذلك، ويستخدمون أساليب العلوم الاجتماعية؛ لا من أجل الاحتفاء بالإبداع الإنساني والكرامة الإنسانية، بل للمشاركة في تحويل بعض الناس إلى موضوعات دراسة وأدوات للآخرين، وإن كانوا مجرد أدوات بائسة للمعونات الإنسانية.

تعليقات ختامية

إذا تصرَّفنا بالفعل وكأننا نعيش في نفس الزمان الذي يعيش فيه الأشخاص الذين نسعى لدراستهم، وكمعاصرين بعضنا لبعض، فسنستطيع باعتبارنا باحثين إثنوجرافيين الإسهامَ في هذا الواقع المشترك بيننا من خلال كثير من الطرق، ونستطيع البدء مثلًا بتحويل المقارنات التي ظلَّت ضمنيةً أغلبَ الأوقات إلى مقارنات صريحة. ودراسةُ لوك حول فترة انقطاع الطمث — التي لم تكتفِ فيها بالمقارنة بين خبرات النساء في الولايات المتحدة واليابان، بل زادت عليها أيضًا بدراسة الاختلاف في التعامُل مع الظاهرة بين علماء الطب في البلدين — تُعَدُّ استثناءً رائعًا. نستطيع كذلك دراسة تبعية وخضوع مواطني العالم الأول، كما فعلت جُون ناش (١٩٨٩) في دراستها لعمال بيتسفيلد، كاشفةً عن حقائق يَصعُب على شعوب العالم الثالث استيعابها؛ وهي أن شعوب العالم الأول في الغالب شعوب مُستعمَرة هي الأخرى. أو نستطيع أن ندرس نظام الدعاية الذي يغذِّي عملية إنكار الواقع. يقول تشومسكي (١٩٨٧: ١٨٦): «حتى يومنا هذا لا نستطيع مواجهة الحقيقة البسيطة المتمثِّلة في أن الولايات المتحدة هي مَن هاجَمَ فيتنام»؛ حيث نجحت الولايات المتحدة في تحويل اللوم إلى الفيتناميين، دون أي تعليق فعليٍّ، وربما حتى دون وعي، ورأى تشومسكي أن هذا أمر طبيعي في مجتمع تحكمه الأعمال؛ «مجتمع قائم على نماذج التلاعب والغش الموجودة في عالم التسويق والإعلان»، وأقام مقارَنةً مباشِرةً: «كان الروس يعلمون أنهم غزوا أفغانستان، و[أن] روسيا ليست هي الطرف المتضرِّر»، بينما لم يعتقد الأمريكيون ذلك.

يقول جون رالستون سول، الكاتب والروائي الكندي الذي حصد العديد من الجوائز، في كتابه «الحضارة غير الواعية» (١٩٩٧) إن القرن العشرين كان قرن الأيديولوجيات، التي ذكر من بينها رأسمالية السوق الحرة، والعلوم الاجتماعية، وأيديولوجية المحافظين الجدد، والعلاج النفسي، «وجميعها قائم على قناعات مماثِلة في تصلُّبها وضيق أفقها للقناعات العنيدة التي اعتنقها البلشفيون والفاشيون» (نادر، ١٩٩٧: ٧٣٢). وهكذا «لا يزال الغرب [ومؤسساته كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي] يوزِّع «الحضارة»، ويصوِّر الاقتصاد بأنه موضوعي وقوة لا تُقاوَم ستعود بالنفع على الاختيار الشخصي الحر» (نادر، ١٩٩٧: ٧٣٣). إن الإيمان بيد السوق الخفية المعصومة من الخطأ يسهم في قضية الأعمال والتعامُل التجاري في العالم، والقوة التي تسيطر بها علينا هذه القضية، ليس فقط باعتبارنا أفرادًا من الشعب بشكل عام، بل باعتبارنا علماء أنثروبولوجيا كما حاوَلْتُ أن أبيِّن سابقًا.

إنَّ دراسة كيفية اكتساب الضعيف للقوة لا تختلف كثيرًا عن كيفية اكتساب القوي لسلطته. وتظل الإثنوجرافيا، بالرغم من كل نقائصها، نشاطًا مؤثِّرًا يساعدنا على الربط بين أشخاص مختلفين والخبرات التي يتشاركونها في زمنٍ يزداد فيه انقسامنا أكثر فأكثر، بل يزداد فيه أيضًا انعزال بعضنا عن بعض. ولكن إذا استمرَّ إجراء الدراسات الإثنوجرافية داخل نطاقات مُقيَّدة بحدود وانغلاق، وإن ظلَّتِ المقارنات التي نقيمها بين أنفسنا والآخرين ضمنيةً في أعمالنا الأكاديمية الدقيقة، فلن تتمكَّن الإثنوجرافيا من تحقيق هذا الغرض. إن الآفاق اليوم مفتوحة وواسعة أمام إجراء أبحاث أنثروبولوجية معاصرة لم يتطرَّق إليها أحدٌ؛ لأن القوى التجارية التي تغيِّر الواقع أو عمليات الكَنْز والنهب غير المنظمة نادرًا ما تكون مرتَّبةً من الناحية السياسية. لقد كان ليتش محقًّا عندما قال إن الوقت قد حان لتجاوز الثنائيات المكوَّنة منَّا ومن الآخَر، بل إننا في واقع الأمر إن لم نفعل، فسوف تَستَغِلُّ تحالفاتُ العلوم الاجتماعية أو رجالُ التسويق أو أصحابُ خطط الأمن القومي أو حتى علماء الأنثروبولوجيا أنفسهم، دراساتِنا الإثنوجرافيةَ كوسيلة لإحكام السيطرة بصورة متزايدة، لا لنشر التنوير (كما حدث في الحروب الإمبريالية). وبينما يُعَدُّ هذا التنوير عنصرًا بارزًا في المهمة المُعلَنة للإثنوجرافيا، يشير تاريخُ استغلاله وسوء استخدامه إلى وجود توافُقٍ لصيقٍ بين الإثنوجرافيا والاستعمارية والإمبريالية وعمليات الغزو الأُحادية وغيرها من الأعمال العدائية؛ ولهذا السبب يُلِحُّ ليتش على ضرورة تطبيق علماء الغرب نفس معايير العقلانية والمصداقية على فِكْر مجتمعاتهم كما يطبِّقونها على فِكْر الشعوب الأصلية و«البدائية».

إن فعلنا ذلك، فسوف تقودنا هذه الدقَّة حتمًا في رأيي لممارسة الإثنوجرافيا بأسلوب المقارنة الصريحة. على سبيل المثال، تساءلتُ في أحد أعمالي: ماذا يقصد الناس حينما يقولون إن المرأة المسلمة تعاني من القهر؟ مع مَن يقارنون هذه المرأة؟ مع مجتمعنا؟ قد تتسبَّب معدلاتُ العنف المُمارَس ضد المرأة في الولايات المتحدة في دهشةِ مَن يرون — في أعين أنفسهم — أنهم أفضل أخلاقًا من الآخرين؛ ولذلك فإن التصريح بافتراضاتنا غالبًا ما يقود إلى اكتشاف بصائر مذهلة ونتائج مدهشة عن الآخرين وعن أنفسنا كذلك. وعلى نفس المنوال، مقارنةً بمَن تُوصَف قبائل اليانومامي بالعدائية والعنف؟ هل هم أكثر عنفًا من أعضاء إحدى عصابات المدن؟ أم من واضعي الاستراتيجيات العسكرية الذين لا يتورَّعون عن توريط الجيش الأمريكي في جبهات متعددة في الشرق الأوسط؟ وحينما نتحدَّث عن التعذيب في السجون الصينية، أليس حريًّا بنا كذلك التفكير في التعذيب في السجون الأمريكية أو التعذيب الذي تمارسه جهات أمريكية أو موظفون أمريكيون؟ بالطبع يوجد تعذيب في السجون الأمريكية؛ فهناك حوالي ٨٠ ألف سجين أمريكي محجوزين في الحبس الانفرادي. وما إن نتخطَّى الحدودَ التي تفصل بيننا وبين الآخَر حتى نكتشف مثلًا — بالنظر إلى تاريخ التعذيب — وجود عملاء من جميع أنحاء العالم متورطين في ممارسة التعذيب. وهذا الوعي بالذات، الذي يرتبط بالمقارنة باعتبارها أداةَ اكتشاف، يقودنا تلقائيًّا إلى التفاعل والتنوير والتواضع بما يتناسب مع علمٍ يستهدف دراسةَ الوضع الإنساني على نحو أوضح.

لقد اعتبر بيتسون — كما جاء في مُستهلِّ هذا المقال — أن «أغلى أدوات العلم» عبارة عن مزيج من التفكير الحر والتفكير المُقيَّد، والوضع الحالي للأنثروبولوجيا ووسائل البحث المرتبطة بها يُعَدُّ وضعًا متميِّزًا يهيِّئ لها التقدُّمَ بالعلوم الاجتماعية في هذا الاتجاه؛ حيث إن فرض المهنية على الأنثروبولوجيا يضبطها، ويفرض على علمائها قيودًا بخصوص ما يجب اعتباره جيدًا أو سليمًا أو رائجًا. كما أن الأجدى بدعاة التحرُّر في ممارسة الأنثروبولوجيا أن يكون عملهم لصالح علمٍ إبداعي، وليس علمًا قائمًا على التكرار والإعادة، علمٍ شامل وليس مقصورًا على نطاق معيَّن، علم ديناميكي وليس جامدًا. وبدلًا من تحاشي عمل بحثي كثيرًا ما وُصِمَ بتورُّطه في الممارسات الاستعمارية وممارسات الإمبريالية الأمريكية، والاستتار خلف مصطلحات فلسفية بحتة نستخدمها للدفاع عن علاقتنا بهذا العمل، ومن ثم نتبرَّأ منه، علينا اعتناق القوة التي تمنحنا إياها الإثنوجرافيا المقارَنة من أجل فتح آفاق التفكُّر والعمل في الوقت الحاضر؛ إذ لا يمكن أن نتهرَّب من المسئولية الأخلاقية المُلقاة على أكتافنا باعتبارنا علماء ومواطنين، من خلال عزل أنفسنا أكثر عمَّن ندرسهم وعن الناس بشكل عام، باسم مجموعة من المعايير الموضوعية الزائفة، أو بفرض نفس حالة التبرُّؤ على زملائنا. إن الطريق الذي يتعيَّن علينا اتباعه هو الطريق الذي يجمع بين الناس لا الذي يقسِّمهم، الطريق الذي يرفع نسبة انتشار الرؤى النقدية بين الفروع المعرفية والمناطق الجغرافية السياسية المختلفة لا الذي يعيقها؛ ولذلك كان هدف كتاب «إعادة اختراع الأنثروبولوجيا» (هايمس، ١٩٦٩) هو التشكيك في أكثر مفاهيمنا رسوخًا، سواء فيما يتعلَّق بالعِرق أو النوع أو العلم. وحتى إذا فرضنا أن المزايا التي عدَّدتُها غير كافية، فأَلَنْ تجذب مثل هذه الدراسات الأنثروبولوجية — المتداخلة في كلِّ ما يتعلَّق بنا — نطاقًا أعرض من القرَّاء من خلال ارتباطها بالمواقف الحرجة الحالية وبحياة الأشخاص المعاصرين؟ إننا بحاجة إلى التأكيد على مفهوم «نحن والآخر»، وبحاجة أيضًا إلى الاحترام المتبادَل للكرامة الإنسانية، بالإضافة إلى نظريات أفضل.

مراجع

  • Bateson, Gregory (1958 [1936]) Naven: A Survey of the Problems Suggested by a Composite Picture of the Culture of a New Guinea Tribe Drawn from Three Points of View. Stanford: Stanford University Press.
  • Bateson, Gregory (1971) Steps to an Ecology of Mind. San Francisco: Chandler Publishing Company.
  • Bentley, Jeffery W. (2003) Review of Zapotec Science: Farming and Food in the Northern Sierra of Oaxaca by Roberto Gonzalez. Latin American Antiquity, 14, no. 3, pp. 357–359.
  • Borofsky, Robert (1987) Making History: Pukapukan and Anthropological Constructions of Knowledge. Cambridge: Cambridge University Press.
  • Chen, Nancy (2003) Breathing Spaces: Qigong, Psychiatry and Healing in China. New York: Columbia University Press.
  • Chomsky, Noam (1987) The Chomsky Reader, ed. James Peck. New York: Pantheon Press.
  • Cole, Donald, and Soraya Altorki (1998) Bedouin, Settlers, and Holiday-makers: Egypt’s Changing Northwest Coast. Cairo: University of Cairo Press.
  • Dinero, Steven C. (2000) Review of Bedouin, Settlers, and Holiday-Makers: Egypt’s Changing Northwest Coast by Donald P. Cole and Soraya Altorki. American Ethnologist, 27, no. 3, pp. 756.
  • Evans-Pritchard, E. E. (1976 [1937]) Witchcraft, Oracles, and Magic among the Azande. Oxford: Clarendon Press.
  • Fortune, Reo (1932) Sorcerers of Dobu: The Social Anthropology of the Dobu Islanders of the Western Pacific. London: G. Routledge & Sons.
  • Geertz, Clifford (1973) The Interpretation of Cultures. New York: Basic Books.
  • Geertz, Clifford (1995) After the Fact: Two Countries, Four Decades, One Anthropologist. Cambridge, MA: Harvard University Press.
  • Gonzalez, Roberto (2001) Zapotec Science: Farming and Food in the Northern Sierra of Oaxaca. Austin: University of Texas Press.
  • Gonzalez, Roberto (2009) American Counterinsurgency: Human Science and the Human Terrain. Chicago: Prickly Paradigm Press.
  • Gusterson, Hugh (1996) Nuclear Rites: A Weapons Laboratory at the End of the Cold War. Berkeley, CA: University of California Press.
  • Hymes, Dell (ed.) (1969) Reinventing Anthropology. New York: Pantheon Books.
  • Leach, Edmund R. (1965 [1954]) Political Systems of Highland Burma: A Study of Kachin Social Structure. Boston: Beacon Press.
  • Leach, Edmund R. (1989 [1987]) Tribal Ethnography: Past, Present, Future. Cambridge Anthropology, 11, no. 2, 1–14.
  • Lock, Margaret (1993) Encounters with Aging: Mythologies of Menopause in Japan and North America. Berkeley, CA: University of California Press.
  • MacMillan, Hugh (1995) Return to the Malungwana Drift-Max Gluckman, the Zulu Nation, and the Common Society. African Affairs, 94, 39–65.
  • Malinowski, Bronislaw (1935) Coral Gardens and Their Magic: A Study of the Methods of Tilling the Soil and of Agricultural Rites in the Trobriand Islands. New York: American Book Company.
  • Malinowski, Bronislaw (1948) Magic, Science and Religion, and Other Essays. Boston: Beacon Press.
  • Malinowski, Bronislaw (1984 [1922]) Argonauts of the Western Pacific: An Account of Native Enterprise and Adventure in the Archipelagoes of Melanesian New Guinea. Prospect Heights, IL.: Waveland Press.
  • Marcus, George, and Michael Fischer (1986) Anthropology as Cultural Critique: An Experimental Moment in the Human Sciences. Chicago: University of Chicago Press.
  • Mooney, James (1896) The Ghost-Dance Religion and the Sioux Outbreak of 1890. Washington, DC: US Government Printing Office.
  • Moses, L. G. (1984) Indian Man: A Biography of James Mooney. Urbana, IL: University of Illinois Press.
  • Nader, Laura (1969) Up the Anthropologist: Perspectives Gained from Studying Up. In Reinventing Anthropology. Dell Hymes, (ed.). New York: Pantheon Books, pp. 284–311.
  • Nader, Laura (1990) Harmony Ideology: Law and Justice in a Mountain Zapotec Village. Stanford, CA: Stanford University Press.
  • Nader, Laura (1996) Naked Science: Anthropological Inquiry Into Boundaries, Power, and Knowledge. New York: Routledge.
  • Nader, Laura (1997) Controlling Processes: Tracing the Dynamic Components of Power. Current Anthropology, 28, no. 5, pp. 711–738.
  • Nader, Laura (1999) Review of Clifford Geertz’s After the Fact: Two Countries, Four Decades, One Anthropologist. Isis, 90, no. 3, 626-627.
  • Nash, June (1989) From Tank Town to High Tech: The Clash of Community and Industrial Cycles. Albany, NY: State University of New York Press.
  • Nash, June (1993 [1979]) We Eat the Mines and the Mines Eat Us: Dependency and Exploitation in Bolivian Tin Mines. New York: Columbia University Press.
  • Paley, Julia (2003) Marketing Democracy: Power and Social Movements in Post-Dictatorship Chile. Berkeley, CA: University of California Press.
  • Rivers, W. H. R. (1906) The Todas. London: MacMillan.
  • Said, Edward (1978) Orientalism. New York: Pantheon Books.
  • Saul, John Ralston (1997) The Unconscious Civilization. New York: Free Press.
  • Stern, B. (1936) Review of Coral Gardens and Their Magic, by B. Malinowski. American Sociological Review, 1, no. 6, pp. 1016–1018.
  • Succarie, Mayssun (2004) Controlling/Liberating Ethnography. Paper submitted in the seminar “Classic Ethnographies.” Department of Anthropology, University of California, Berkeley.
  • Swedenburg, Ted (1995) Memories of Revolt: The 1936–1939 Rebellion and the Palestinian National Past. Minneapolis: University of Minnesota Press.
  • Tambiah, Stanley J. (2002) Edmund Leach: An Anthropological Life. Cambridge: Cambridge University Press.
  • Wolf, Eric (1969) American Anthropologists and American Society. In Reinventing Anthropology. D. Hymes (ed.). New York: Pantheon Books, pp. 251–263.

قراءات إضافية

  • Chomsky, Noam (1985) The Bounds of Thinkable Thought. The Progressive, 28 October, pp. 28–31.
  • Succarie, Mayssun (2000) For the Sake of Remembrance: A Reader in English for the 9th Graders in the Palestinian Camps in Lebanon. MA Thesis submitted to the American University of Beirut, Beirut.
  • Succarie, Mayssun (2008) Winning Hearts and Minds: Education, Culture, and Control. A dissertation submitted for Doctor of Philosophy in Education at the University of California, Berkeley.

هوامش

(1) See also Tambiah (2002) Chapter 10, pp. 259–90, “The Comparativist Stance: Us and Them and the Translation of Culture,” and Chapter 17, pp. 429–555, “Retrospective Assessment and Rethinking Anthropology.”

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤