الفصل الثالث

آراء نقدية

البريد الإلكتروني وعصر المقاطعات

آثارُ قانون مور على ابتكارِ أجهزة اتصالات ومعالَجةِ معلوماتٍ أقوى من أي وقت مضى على مدار نصف القرن المنصرم؛ أدَّتْ إلى التوسُّع الضخم في استخدام هذه الأدوات في الحياة اليومية. قليلون ممَّنْ يعيشون ويعملون في الكون الرقمي بوسعهم تصوُّر الحياة اليومية من دون هواتف محمولة، أو مشغِّلات إم بي ثري، أو أجهزة الكمبيوتر المحمولة المصغَّرة (نت بوك)، أو الكمبيوتر اللوحي. أصبحت هذه الأجهزة في كل مكان حولنا، وبلغَتِ اليومَ من الاعتيادية أننا لا نكترث كثيرًا لمستخدميها؛ إلا إذا اصطدم أحدهم بنا بينما يكتب رسالةً نصية مثلًا. لم نَعُدْ نفترض أن الشخص المنفرد الذي يسير وحيدًا محدِّقًا في الفراغ، ويُجرِي حديثًا بصوتٍ عالٍ مع شخصٍ آخَر غير مرئي؛ شخصٌ مريض عقليًّا؛ كل ما في الأمر أنه يستخدم هاتفَه المحمول المزوَّد بسماعة رأس لاسلكية. الأمر اللافت للنظر هو الذيوع السريع نسبيًّا للهواتف المحمولة المستخدَمة في الأماكن العامة منذ ٢٠٠١، ويتكهَّن خبراءُ التكنولوجيا بأن الزيادة الهائلة في عدد تكنولوجيات الاتصالات المحمولة ستتواصل بقوة في هذا القرن.

وعلى الرغم من أن تلك الأجهزة المحمولة للاتصال عن بُعْد ظاهرةٌ للعيان أكثر من غيرها، سأذهب إلى أنَّ غيرها من تكنولوجيات الاتصال عن بُعْدٍ الرقمية لها تأثيرٌ مساوٍ أو تأثيرٌ أكبرُ على المجتمعات المرتبطة بشبكات. لقد حظيَتْ تكنولوجياتٌ قليلةٌ بسرعةِ التطوُّر نفسها أو بذيوع الانتشار ذاته في المجتمعات المعلوماتية؛ كالبريد الإلكتروني والتقنيات اللاحقة عليه كإرسال الرسائل النصية والتغريد بالاستعانة بوسائل التواصل الاجتماعي.1 وعلى الرغم من أنه جرَتِ العادة على أن إرسالَ الرسائل النصية وسيلةٌ يفضِّلها المراهقون في التواصُل، فالراشدون من كل الأعمار اليومَ يستخدمون الرسائل النصية بدلًا من المكالمات الهاتفية أو إرسال البريد الإلكتروني. يعتبر كثيرٌ من مستخدمي البريد الإلكتروني (وأنا من بينهم) أنه أداةُ اتصالٍ استثنائية، وفي الوقت نفسه لعنةٌ يومية. فعلى الجانب الإيجابي، يمكن إرسال رسالة إلكترونية مهمة بضغطة زرٍّ واحدة إلى قائمةٍ تضمُّ مئات أو آلاف بل ملايين الأشخاص أيضًا مرةً واحدة. أما على الجانب السلبي، يمكن إرسال رسالة دعائية عشوائية واحدة بضغطة زرٍّ واحدة إلى قوائم تضم مئات أو آلاف بل ملايين الأشخاص أيضًا مرةً واحدة؛ فالأشخاصُ المتصلون عن بُعْد يغرقون يوميًّا في بحرٍ لا تنفك أمواجه تعلو من الرسائل المهمة والرسائل العشوائية غير المهمة. وقد قدَّرَتْ شركة سيمانتك للبرمجيات أن ٨٠ بالمائة من نسبة استخدام البريد الإلكتروني بالولايات المتحدة عام ٢٠٠٧ شغلها البريد العشوائي المزعج.2 من الواضح أن للشركة مصلحةً كُبرى في هذه السوق؛ لأنها تبيع برامجَ تصفية البريد العشوائي، لكن حتى التقدير المعتدل سيشير إلى أن استخدام البريد الإلكتروني قد تحوَّلَ إلى لعبة مطارَدة كبيرة لمحاوَلة التغلُّب على مرسلي البريد العشوائي على مستوى العالم.

قد تضاهي المكالمة الهاتفية وحدها رسالة البريد الإلكتروني أو الرسالة النصية من حيث سرعة وكفاءة الاتصال، لكن البريد الإلكتروني هو بالتأكيد وسيلةُ الاتصال المفضَّلة عند الحاجة إلى إنشاء سجل مكتوب بعملية الاتصال، أو في حالة وجود أكثر من متلقٍّ للرسالة، أو إنْ كانت ثمة حاجة إلى إرفاق مستند رقمي بالرسالة. عادةً ما أُمضي من ساعتين لثلاث ساعات في كل يومٍ من أيام عملي في كتابة رسائل البريد الإلكترونية والرد عليها؛ وهذا يتضمَّن وقتًا طويلًا أستغرقه في حذف رسائل البريد العشوائي التي تدعوني إلى جَنْي ملايين الدولارات من العمليات المالية في نيجيريا، أو استبدال قرْض تمويل عقاري جديد بقرضٍ قديم، أو مشاهدة صور فاضحة للمشاهير، أو المساهمة في قضايا اجتماعية لا حصرَ لها؛ وأُضطر إلى مراجعة الرسائل العشوائية غير المصفَّاة وحذفها، خشيةَ أن أغفل عن رسالة مهمة. وقد توقَّفت عن مطالَعة القائمة الضخمة برسائل البريد الإلكتروني المصفَّاة التي تُرسَل إليَّ يوميًّا في صورة بريد عشوائي من مؤسسات؛ إنها قائمة غلبني طولها. ولا يسعني سوى الأمل في ألَّا أتخلَّص من بعض الرسائل المهمة مع البريد العشوائي.

يرجع هذا الدور المتناقض الذي يلعبه البريد الإلكتروني جزئيًّا إلى ذيوع استخدامه. في المؤسسات الكبرى مثل الجامعات حيث أُدرِّس وأجري أبحاثي، البريدُ الإلكتروني هو الوسيلة الأساسية للتواصل غير المتزامِن؛ وهذا يعني أيضًا أن أيَّ رسالةِ بريدٍ شخصية غير مقروءة ستتكدَّس على خوادم البريد الإلكتروني التابعة للجامعة (وهي أجهزة كمبيوتر قوية تتمتع بسعة تخزين عالية) حتى تُقرَأ أو تُحذَف. من أكثر الأمور التي تَثْنِيني عن أخذ إجازة طويلة هو تلُّ رسائل البريد غير المرغوب فيها الذي سيتراكم في غيابي، والتعامُل مع هذه التراكمات يستلزم أن أعود من إجازتي مبكرًا بيوم لتصنيف الرسائل الهامة. خياري الآخَر هو أن أصطحب معي الكمبيوتر المحمول أو الكمبيوتر المحمول المصغر بحيث يتسنَّى لي قراءة البريد الإلكتروني والرد عليه بينما أقضي إجازةً بعيدًا عن المكتب. ولعل صوت الطنين الخافت الذي نسمعه عندما يَرِدنا بريدٌ هو صوت ديفيد هنري ثورو — الفيلسوف الذي نادى بالعودة إلى الطبيعة — يعلن اعتراضه على ما آلَ إليه حالنا.

إن المقابل للسرعة والراحة والكفاءة التي يتميَّز بها البريد الإلكتروني هو الوقت المستغرَق كلَّ يوم في قراءة قائمة طويلة من الرسائل والرد عليها. تشير الإحصاءات إلى أن موظفي القطاعين العام والخاص بالولايات المتحدة يقضون ٤٠ بالمائة من وقتهم بالعمل في قراءة البريد الإلكتروني وإرساله،3 ولك أن تطبِّق هذا الرقم على ملايين المهنيين المرتبطين بشبكات حول العالم، وستكتشف أن هذا الوقت المستغرَق عالميًّا في الاتصال عبر الكمبيوتر يبلغ حدًّا مدهشًا. ثمة جانب سلبي آخَر من البريد الإلكتروني، وهو اتخاذ القرار فيما ستفعل بالكمِّ الموجود أمامك؛ فكلما زاد كمُّ الرسائل، استغرقَتْ منك هذه القراراتُ وقتًا أطول. ولأن من عادتي الاحتفاظ بمقتنياتي القديمة، فأنا أُبقِي على رسائل البريد الإلكترونية غير العشوائية كلها تقريبًا؛ فربما أحتاج إلى استرجاعِ أيِّ رسالةٍ مهمة في المستقبل؛ لذا غالبًا ما أُضطر إلى تصنيف الرسائل المتصلة في ملفات تخزين مخصوصة.4 وأشك في أنه بوسعي القيام بعملي بكفاءة دون البريد الإلكتروني؛ لأنه بالغ الأهمية في التواصل السريع والفاعل بين أعضاء هيئة التدريس والطلاب وطاقم العاملين والإداريين. فبالنسبة إلى الطلاب، يوفِّر لهم سبيلًا يُعوَّل عليه لإبلاغ أعضاء هيئة التدريس بأسئلة حول فروض الدورة الدراسية والمواعيد النهائية والدرجات. إحدى النقاط غير المعهودة المثيرة للانتباه فيما يتعلق بسرعة وكفاءة البريد الإلكتروني هي أن الطلاب المعتادين على حياةٍ يوميةٍ حافلةٍ بالرسائل الفورية أحيانًا ما يتضايقون عندما لا يتلقَّوْن ردًّا آنيًّا على رسالتهم؛ وذلك لأن البريد الإلكتروني يمكن استخدامه على نحوٍ متزامنٍ لا يختلف كثيرًا عن المكالمات الهاتفية؛ ما يعكس جانبًا سلبيًّا كبيرًا من ازديادِ سرعة معالَجة المعلومات وبثِّها المرتبطة بقانون مور؛ فحيث إن المهمة يمكن إنجازها بسرعة باستخدام التكنولوجيا الرقمية، يتحول إنجازها بسرعةٍ إلى توقُّعٍ يُنتظر استيفاؤه.
ثمة جانب سلبي آخَر لهذه البيئة المتصلة بالشبكات حيث الأفراد متاحون دائمًا؛ وهو المقاطعات. يطلق المؤلف توماس فريدمان على هذه الحقبة من الزمن «عصر المقاطعات»، ويستشهد بليندا ستون، التنفيذية السابقة بميكروسوفت، التي وضَّحت أن هذه المقاطعات تخلق بيئةً يسودها «الانتباه الجزئي المستمر».5 خطر له هذا الخاطر عندما كان مسافرًا في أدغال الأمازون بالبرازيل عام ٢٠٠٦، وانقطع اتصاله لمدة أربعة أيام عن هاتفه المحمول وشبكة الإنترنت؛ فبوصفه شخصًا يعيش حياته كصحافي ومؤلف عادةً ما يكون متصلًا بالعالم طوال ساعات اليوم وطوال أيام الأسبوع، اكتشف أن هذه الفترة من الانقطاع منعشةٌ له على نحوٍ عجيب. وهو كرجل اعتاد أداء مهام متعددة في بيئة عمل مشبعة بالاتصالات والمعلومات في نيويورك، أدرك أنه لم يكن ينتبه لبيئته سوى «انتباه جزئي مستمر». وعندما غاص في أعماق الدغل — دون الاتصالات التي توفرها له الوسائط — أدرك مدى التشظِّي الذي أصبح عليه انتباهه في المدينة.
تذهب الإحصاءات إلى أن مبرمج الكمبيوتر في بيئة عمل متصلة بالشبكات يتعرَّض لمقاطعات كل ١١ دقيقة عن طريق الرسائل أو المكالمات الواردة. وعندما يتعرَّض للمقاطعة، ربما تلزمه ٢٥ دقيقة كي يعود للمهمة التي كان مضطلعًا بها.6 قد يقول البعض إن هذه المقاطعات هي جزء من عالَم العمل الحديث، لكن يجدر بالمرء التساؤل عن عدد المقاطعات المتصلة بالعمل. في استطلاعٍ أُجرِي على الشركات الأمريكية في ٢٠٠٩، وُجِد أن نصفها قرَّرَ حجْبَ موقع فيسبوك (والمواقع الشبيهة) من أجهزة الشركة بسبب جاذبيته كموقع تواصل اجتماعي وآثاره السلبية الملموسة على الإنتاجية بمكان العمل.7 فمتى أُضِيف محتوًى جديد إلى مواقع الإنترنت المشترِك بها المرءُ، تُرسَل إليه رسالةٌ إلكترونية أو رسالة فورية ومعها صافرة التنبيه المشتِّتة للانتباه التي تدعوه لمطالعتها.
كانت بدايةُ كلِّ هذا بعيدةً عن أي سوءِ نيةٍ، وهي مثال نموذجي على قانون ميرتون للنتائج غير المقصودة.8 في تأريخ ماثيو ليون وكاتي هافنر البارع للإنترنت، يرويان قصةَ أولى رسائل البريد الإلكتروني، وهي رسالة أُرسِلت في ١٩٦٤ كجزء من مبادرة وكالة مشاريع الأبحاث المتطورة التابعة للبنتاجون لربط الكمبيوترات المركزية في الجامعات البحثية الكُبرى.9 كان ذلك قبل خمس سنوات على البداية الرسمية لشبكة أربانت بجامعة كاليفورنيا، لوس أنجلوس، في ٢ سبتمبر من عام ١٩٦٩ — وهو التاريخ الذي يعتبره كثيرٌ من المؤرخين تاريخَ تدشين الإنترنت. صُمِّمت شبكة أربانت بهدف المشاركة الزمنية على الكمبيوتر لا إرسال الرسائل الشخصية، لكن سرعان ما اكتشف المستخدمون وجودَ فائضٍ من النطاق الترددي على النظام متاحٍ لما نعرفه اليومَ بالبريد الإلكتروني. وبحلول عام ١٩٧١، كان العديد من مستخدمي شبكة أربانت، بمَن فيهم ريتشارد واطسون بمعهد ستانفورد للأبحاث، قد بدءوا تجربةَ إرسال رسائل إلكترونية باستخدام بروتوكول «صندوق البريد».10
ويعود الفضل في إنشاء أول برنامجٍ للبريد الإلكتروني مرتبطٍ بشبكةٍ في ١٩٧١ إلى راي توملينسون، مبرمِج الكمبيوتر بشركة المقاولات بولت، برانيك آند نيومان (بي بي إن) في بوسطن، التي كانت تعمل لحساب مشروع أربانت. ابتكر راي منظومةً للبريد الإلكتروني لها القدرة على التواصل بين مختلف أنواع الكمبيوترات عن طريق تضمين الرمز الذائع الصيت الآن @ بين اسم المستخدِم وعنوان المضيف.11 ونظام العنونة هذا يتيح التوسُّع اللانهائي تقريبًا لعناوين البريد الإلكتروني؛ إذ يشمل الآن رمز البلد الخاص بكل أنظمة الاستضافة خارج الولايات المتحدة.12 بعد ابتكارِ راي توملينسون لهذه المنظومة الشاملة للعنونة وإدخالِه تعديلات على بروتوكولات الاتصال، سرعان ما تحوَّلَ البريد الإلكتروني إلى واحد من أكثر التطبيقات شعبيةً على شبكة أربانت، وكان بشيرًا بالشعبية التي ستنالها تكنولوجيات التواصل الاجتماعي المعاصرة مثل فيسبوك وتويتر.

سأتناول إنشاء شبكة الإنترنت في الفصلين الرابع والخامس، لكن تجدر الإشارة هنا إلى أن الرغبة البشرية في التواصل إلكترونيًّا مع الآخرين تسبق ابتكارَ الإنترنت. كان نجاحُ الهاتف كأداةِ اتصالٍ متوقِّفًا على قدرته على تيسير الحوار الصوتي في الوقت الفعلي. في المؤسسات الكُبرى في عالم اليوم المتصل، لا تُتاح عادةً مساحةٌ كبيرة للموظفين في اختيار أنماط الاتصال التي سيستخدمونها. والبريد الإلكتروني أداة رئيسية في التواصل داخل المؤسسة الواحدة وفي الاتصال بالعملاء خارجَها، وتجاهُلُ الرسائل التي تَرِدُ للموظف لفترةٍ تزيد على يوم واحد، سيؤدِّي إلى تلقِّيه مكالماتٍ هاتفيةً غاضبة من الزملاء والعملاء. وعدمُ رد الموظف بسرعةٍ على استفسارٍ من عميلٍ يمكن أن يؤدِّي إلى خسارة معامَلته، وربما فَسْخ عقد عمل الموظف. ولضمان الاستجابة السريعة على البريد، تضع بعض الشركات حدودًا زمنيةً دُنيا لردِّ الموظفين على رسائل العملاء الإلكترونية.

وهذا الضغط الزمني (من كلٍّ من المؤسسةِ وأخلاقياتِ العمل الشخصية لدى الموظف) للرد على الرسائل، مصحوبًا بعدد المقاطعات الإلكترونية المتزايد؛ يضيف مصدرًا جديدًا إلى مصادر الإجهاد في يوم العمل الاعتيادي. وبالنسبة إلى كثيرٍ من الموظفين في هذا العالَم المرتبط بشبكاتٍ، ثمة سؤالٌ جوهري مطروح حول كيفية الموازنة بين الحاجة إلى إنجاز المهام اليومية المتعلِّقة بالعمل وفي الوقت نفسه تخصيص الوقت اللازم للتعامل مع البريد الإلكتروني والبريد الصوتي والاجتماعات عن بُعْد عبر الإنترنت والمراسلات المكتوبة التقليدية. والسؤال الجوهري المطروح هنا: في هذا العالم المتصل عن بُعْد ذي أنماط الاتصال المتعددة، هل نتحكم في هذه التكنولوجيات، أم أنها هي التي تتحكَّم فينا؟ العاملون في قطاع المعلومات كثيرًا ما يشعرون اليومَ بأنهم خادمون لتكنولوجيا الاتصالات وليس تكنولوجيا الاتصالات هي التي تخدمهم. وهذه الملاحظة ليست بالجديدة، وسيكون من المفيد استعراض أعمال النقاد البارزين لدور التكنولوجيا في الحياة المعاصرة، من أجل اكتساب رؤًى مفيدة مواتية للاستعمالِ اليومَ أكثر من أي وقت آخر.

نقد جاك إيلول للتكنولوجيا

كان جاك إيلول (١٩١٢–١٩٩٤) عالِم لاهوت وعالِم اجتماع وفيلسوفًا فرنسيًّا، وكان كاتبًا غزير الإنتاج وناقدًا دقيقَ الملاحظة بشأن الدور الذي تلعبه التكنولوجيا في الحياة الحديثة؛ وهو صاحب العديد من الكتب التي تناولت تأثيرات التكنولوجيا، من بينها «المجتمع التكنولوجي»، وهو أحد أعماله التي يُنقل عنها أكثر من غيرها.13 نُشِر الكتاب في فرنسا أول مرة في ١٩٥٤، وصدرت الترجمة الإنجليزية في ١٩٦٤ بناءً على طلب ألدوس هَكسلي، صاحب رواية «عالم جديد رائع»، والذي اعتبر كتابَ إيلول عملًا تُلقَّح به الأذهان حول دور التكنولوجيا في المجتمع. حملت الطبعة الفرنسية من الكتاب عنوان «التقنية: خطر العصر». وفي متن الكتاب عرَّفَ إيلول «التقنية» بوصفها «جملة الطرائق التي توصَّلْنا إليها عقلانيًّا، وتتمتَّع بكفاءة مطلقة (في مرحلة معينة من التطور) في كل مجالٍ من مجالات النشاط البشري.»14
fig4
شكل ٣-١: جاك إيلول. تصوير باتريك ترود-شاستنيه.
fig5
شكل ٣-٢: نيل بوستمان.
هذا التعريف الجامع المانع يتجاوز الرؤية المبسطة للتكنولوجيا باعتبارها مجرد أدوات ومكونات مادية، إلى تعريفٍ أرحب كثيرًا يشمل كلَّ جانبٍ مما يطلق عليه إيلول السعي البشري «العقلاني». ومن هذا المنظور؛ فإن مختلف الأنشطة كالطهي، ولعب كرة السلة، والنوم (متأثِّرًا بتكنولوجيا مراتب الأسرة والأدوية المساعدة على النوم)، وإرسال الرسائل النصية على الهاتف المحمول، وتدريس برنامج دراسي للجامعة، والبستنة، بل حتى الجنس أيضًا (أعني استخدام وسائل منع الحمل أو تشغيل موسيقى رومانسية من مشغِّل إم بي ثري)؛ ستتضمن استخدام «التقنية» كما عرَّفَها إيلول. وجانبُ العقلانية له أهميته عند إيلول؛ لأنه يعكس رؤيتَه بأن التقنية في أي مجالٍ من مجالات النشاط البشري تتطوَّر بمرور الزمن نحو أكثر استخداماتها كفاءةً. وتطوُّرُ التقنية نحو «الكفاءة المطلقة» هو موضوعٌ محوري في كتابات إيلول حول التكنولوجيا، وهو الخيط الذي التقَطَه نقادُ دورِ التكنولوجيا في الحياة المعاصرة اللاحقون عليه؛ مثل نيل بوستمان. وكتب داريل فاشينج، الباحثُ الذي درس فِكْرَ إيلول، عن فلسفة إيلول:
التكنولوجيا الحديثة أصبحت ظاهرةً شاملة في الحضارة، أصبحَتِ القوةَ المحددة لنظامٍ اجتماعيٍّ جديدٍ حيث لم تَعُدِ الكفاءةُ خيارًا، بل ضرورة مفروضة على جميع مناحي النشاط البشري.15
وعلى الرغم من إقرار إيلول بالمنافع التي تقدِّمها التكنولوجيات المعاصرة، فقد قال إنه يوجد دومًا ثمنٌ ينبغي على المجتمع سداده مقابل تبنِّيها؛ فيعتقد إيلول أن كل ابتكارٍ يخلِّف «آثارًا مؤذيةً لا سبيلَ لفصلها عن الآثار المحبَّبة».16 ويرى أن هذه القوى «عناصرُ متضادة متصلة دومًا على نحوٍ يتعذَّر معه فَصْلُها»، مضيفًا أن تبنِّيَ المجتمع للتكنولوجيا (بالمعنى الشامل لها الذي عرَّفَه) «يطرح مشكلات أكثر من المشكلات التي يحلها»، وأن «كلَّ تقنيةٍ تنطوي على نتائج غير منظورة». وإجمالًا لهذه النقاط الرئيسية:
  • الآثار المحبَّبة للتكنولوجيا «لا تنفصل» عن آثارها السلبية.

  • هذه الآثار «عوامل متضادة» «يتعذَّر فصلها».

  • تبنِّي المجتمع للتكنولوجيا «يطرح من المشكلات أكثر مما يَحُل».

  • تبنِّي التكنولوجيا يخلِّف «نتائج غير منظورة».17
كذلك اعتبر إيلول وسائلَ الإعلام الجماهيرية ضالعةً في التطور الذي يشهده المجتمع التكنولوجي:
إن ظهور وسائل الإعلام الجماهيرية هو ما يتيح استخدام تقنيات الدعاية على نطاق مجتمعي. وتنظيمُ الصحافة والراديو والتليفزيون بهدف خلق بيئةٍ متواصِلةٍ ومستديمةٍ وكليةٍ يؤدِّي في النهاية إلى أن يكون تأثيرُ الدعاية غيرَ ملموس تقريبًا، لا لسبب إلا أن ذلك يخلِّف بيئة ثابتة. تقوم وسائل الإعلام الجماهيرية مقامَ الرابط بين الفرد ومتطلبات المجتمع التكنولوجي.18

كتب إيلول باستفاضةٍ عن الدور الذي تؤديه الدعاية في إدامة الوضع التكنولوجي الحديث، واعتبر أن وسائل الإعلام الجماهيرية تؤدِّي دورًا محوريًّا في نشره. وألمح في اقتباسه إلى الدور الذي لعبته سعةُ انتشار تكنولوجيا الاتصال في خلق «بيئة ثابتة» حيث تنهال علينا يوميًّا رسائلُ وسائل الإعلام. أبدى إيلول هذه الملاحظات حول وسائل الإعلام الجماهيرية قبل ١٩٩٤ (حين وافته المنيَّة)، ولا يسعنا سوى أن نتخيَّل نقده لإتاحة وسائل الإعلام في الزمن المعاصر طوال ساعات اليوم وطوال أيام الأسبوع عبر الهواتف المحمولة والإنترنت.

هل رؤية إيلول للتكنولوجيا مفرطة السلبية؛ لا سيما نقده للتكنولوجيا بوصفها «تطرح من المشكلات أكثر مما تَحُل»؟ عند مطالعتي لكتابات إيلول للمرة الأولى، حسبت موقفه مغاليًا في التطرف، خصوصًا عند اعتبار المنافع الخاصة التي تعود على المجتمع من توصيل الكهرباء إلى المنازل والمصانع، والتقدمات المحرَزة في التكنولوجيا الطبية، وابتكار أدوات جديدة للتواصل عن بُعد، من بين جملة أشياء أخرى. كيف يمكن أن يدفع المرء بأن المجتمع لم يستفد استفادة جمة من استحداث هذه التكنولوجيات وتبنِّيها على نطاق واسع؟

لقد غيَّرت إتاحة الكهرباء في المنازل وأماكن العمل من الحياة الحديثة. تخيَّلِ العملَ الشاق الذي كان مطلوبًا في المنزل في الأيام السابقة على توصيل الكهرباء؛ كان على جدتي أن تغسل ملابس أسرة مكوَّنة من عشرة أشخاص يدويًّا، حتى مُدَّتْ خطوطُ الكهرباء إلى مزرعتهم في أوهايو في ثلاثينيات القرن العشرين. تصوَّرْ مصنعًا حديثًا دون محركات كهربائية، أو ناطحةَ سحاب دون مصاعدَ أو نظامِ تكييف للهواء. على الرغم من ذلك تشير الأدلةُ الجديدة إلى أن المجتمعات بالعالم ربما تضطر إلى دفع فاتورة بيئية باهظة في صورة الاحتباس الحراري؛ من جرَّاء المستويات غير المسبوقة من استخدام الطاقة والتلوث الناتج عن توليد تلك الطاقة. كما يمكن ربط الاحتباس الحراري مباشَرةً بمستوى استخدامنا للتكنولوجيا الإلكترونية، خاصةً إنْ كانت هذه التكنولوجيات تُنتِجها محطاتُ طاقةٍ تحرق الفحمَ أو غيره من صور الوقود الحفري، كما هو الحال في أغلب محطات الطاقة في الصين. إنْ توقَّفْنا عن إنتاج أي زيادات إضافية في مستويات ثاني أكسيد الكربون غدًا؛ فإن مستوياته ستظل عند معدلات قياسية لمائة عام أخرى.19

عرض إيلول كذلك أفكارًا مستبصرةً فريدةً كجزءٍ من تحليله الفلسفي للعلاقة بين التكنولوجيا وعلم اللاهوت. تفيد رؤيته بأن المجتمع المعاصر «يعبد» التكنولوجيا؛ وأن التكنولوجيا بلغت مرتبةَ الإله أو أصبحَتْ شبيهةً بالإله، مع اصطدام العلم بالكتب المقدسة. إن الخلاف حول نظرية التطور الذي بدأ مع نشر كتاب داروين «أصل الأنواع» في ١٨٥٩، واستمر مصحوبًا بمعارك حول تدريس فكرة «التصميم الذكي» البديلة في المدارس، ليس سوى مثالٍ واحدٍ على هذا الصدام. كثيرٌ من مستخدمي التكنولوجيا اليومَ يأسفون على «التعقُّد» الذي أصبحت عليه مهامُّ كانت بسيطةً في يومٍ من الأيام مثل استخدام الهاتف. وإنزالُ اللعنات على جهازٍ «ذكي» معقَّدٍ ليس من قبيل العبادة في شيء.

في استطلاعِ رأْيٍ أجراه منتدى النهوض بتجربة الأجهزة المحمولة في ٢٠٠٦، شمل ١٥٠٠٠ من مستهلكي الهواتف المحمولة في ٣٧ بلدًا، كانت أكثر الشكاوى شيوعًا بين المستخدمين هي «إنهاك التشغيل».20 وقد صرَّح ديف موراي مدير المنتدى أنه «يوجد عددٌ مُبالغ فيه من الميزات التي لا يستخدمها المستهلكون أو لا يعرفون كيف يستخدمونها في المنتج، وهذا يُصِيبهم بالإحباط.»21 ويقترح موراي أنه بدلًا من تقليل عدد الميزات المتاحة لتقليص تعقُّد الهواتف المحمولة إلى الحد الأدنى، يُستحسَن لتجَّار التجزئة أن يقدِّموا للمستهلكين المعرفةَ اللازمة بالعدد الذي لا حصرَ له من الميزات على هواتفهم. لكن المستقبل لا يحمل أملًا كبيرًا بحدوث ذلك؛ إذ يوجد الآن آلاف من التطبيقات القابلة للتنزيل المتنوعة التعقيد والمتاحة لمستخدمي شبكات الجيل الرابع للهواتف المحمولة.
ورُؤَى إيلول حول إضفاء مكانة شبيهة بمكانة الإله على التكنولوجيا نقلها عنه باحثون آخرون ينتقدون الدورَ الذي تؤدِّيه التكنولوجيا بالمجتمع، وكان لفلسفته تأثيرٌ مباشِرٌ على تفكير ناقد التكنولوجيا نيل بوستمان كما بيَّنَ في كتابه العلامة «الاحتكار التكنولوجي».22 يعرِّف بوستمان الاحتكار التكنولوجي بأنه:
حالة ثقافية. كما أنه حالة عقلية. إنه يقوم على تأليه التكنولوجيا، ما يعني أن الثقافة تلتمس رخصتها في التكنولوجيا، وتجد صورَ إشباعها في التكنولوجيا، وتأتمر بأمر التكنولوجيا. وهذا يستلزم نشوء نوعٍ جديدٍ من النظام الاجتماعي، ونوعٍ جديد من الضرورة يؤدِّي إلى التحلُّل السريع لكثيرٍ مما يرتبط بالمعتقدات التقليدية.23
بحسب رؤية بوستمان، يمثِّل الكمبيوتر الرمزَ الحديث المثالي على التكنولوجيا، بما يمثِّله من استخدام متغلغل للتكنولوجيا يؤثِّر على كل جانب من جوانب حياتنا المعاصرة. إن الحوسبة تولي أهميةً خاصة للسرعة والكفاءة، وهما عنصران اعتبرهما بوستمان خصيصتين مميِّزتين للاحتكار التكنولوجي. سأستخدم البريد الإلكتروني كمثالٍ رئيسي على تكنولوجيا الكمبيوتر. استفاض بوستمان في هذه الفكرة على إيلول، وخلُص إلى أن الاستخدام الواسع الانتشار لتكنولوجيا الكمبيوتر سيُفضِي إلى «تخمة معلوماتية، معلوماتٍ دون معنًى، معلوماتٍ دون آلياتِ تحكُّم».24 والاستخدام الواسع الانتشار للبريد الإلكتروني قد أدَّى إلى تخمة معلوماتية، تخمة كان بوسع بوستمان ملاحظتها (توفي بوستمان في ٢٠٠٣ عن عمر ناهز ٧٢).25 إننا نشقى يوميًّا لاستيعاب كل هذه الرسائل الإلكترونية التي تصلنا عن طريق البريد الإلكتروني أو الهاتف أو الرسائل النصية أو التغريدات، ثم نستغرق وقتًا في تصنيف وتنظيم الرسائل التي نريد حفظها من بينها. ونعتمد على تكنولوجيا حاسوبية مرتبطة وهي مصافي البريد العشوائي لتجنبنا الاضطرار إلى فصل الرسائل الحقيقية عن البريد الدخيل الذي ينهال علينا في الرسائل اليومية. وستُتاح لنا في القريب العاجل أجهزةٌ رقمية ذكية ستفهم تفضيلاتنا في الاتصالات، وتصنِّف بريدَنا على هذا الأساس، بل وربما تردُّ على الرسائل الإلكترونية الواردة إلينا.
ترتبط هذه الظاهرة بأحد أوجه نقد إيلول الأخرى للتكنولوجيا؛ وهو أننا كمجتمعٍ عالمي نسعى إلى علاج المشكلات التي تسبِّبها التكنولوجيا بابتداع حلول تقنية أخرى. فيرى إيلول أن هذه الحلول التقنية غالبًا ما تكون أسوأ من المشكلة التي صُمِّمت لحلها. حتى مع استخدام نُظُم معقَّدة مفهومة جيدًا، كثيرًا ما تفشل الحلولُ التقنية في اللحظات الحَرِجة. وكما كتب لويس توماس بخصوص النُّظُم الحضرية المعقَّدة في كتابه الثاقب البصيرة «الميدوسا والقوقعة»: «أيًّا كان ما تنتوي فعله — بناءً على المنطق السليم — سيُفضِي بالأمور في جميع الأحول تقريبًا إلى حالٍ أسوأ لا أفضل.»26 ومصافي البريد الإلكتروني مثالٌ ممتاز على حلٍّ تقنيٍّ لمشكلةٍ سبَّبَتْها التكنولوجيا (وهي تعميم إمكانية الدخول على الإنترنت)، استوعَبَ إيلول هذا الجانب من التكنولوجيا، الذي يقدِّم لنا حكايةً ذات مغزًى وعبرةً بينما تغزو نُظُم الاتصالات الإلكترونية كلَّ شبرٍ من حياتنا، واعتمادنا بشكلٍ متزايدٍ عليها لأداء وظائف حَرِجة في مختلف أنحاء العالم.

المنهاج القويم في عصر التكنولوجيا الرقمية: الين واليانج

ربما ييسِّر النظر إلى التكنولوجيا الرقمية من منظور العقيدة الطاويَّة بلوغَ فهمٍ أكبر للعلاقات المعقدة بين المجتمع والتكنولوجيا. ويمكننا الاستعانة برمز التاجيتو وعنصرَي الين واليانج المرتبطة بالطاوية لهذا الغرض. التكنولوجيا هي عنصر اليانج النَّشِط الفاتح اللون من رمز التاجيتو، وفي الصين يُرمَز إلى اليانج بالنار. يوجد تناظرٌ بارع ها هنا؛ إذ تمثِّل التكنولوجيا عنصرَ النار بما أن اكتشاف النار كان أحد الاستخدامات الأولى للتكنولوجيا على يد أسلافنا. وبتطبيق هذا التشبيه على وسائل الاتصالات عن بُعد الرقمية الحديثة، تصبح النار (اليانج) نبضاتِ الليزر بينما تُتداوَل المعلوماتُ على الإنترنت عبر ملايين كابلات الألياف البصرية، وبينما ينبعث الوهج من شاشة التليكمبيوتر أو شاشة الهاتف. وعنصر الين؛ النصف السلبي الأدكن لونًا والذي يمثِّله الماء، يمثِّل المجتمع. ومن هذا المنطلق، سيكون من المفيد التفكير في المجتمع بوصفه ناشطًا وكذلك متفاعلًا. تنشأ التكنولوجيا للوفاء باحتياجات بشرية، ستختلف بطبيعة الحال بمرور الوقت. فقد استُحدثت المضادات الحيوية لعلاج آثار البكتيريا والأمراض المعدية التي سبَّبَتْ ملايين الوفيات بين البشر على مدار قرون. ابتكرَتِ العلومُ الطبية علاجاتٍ لأمراض تسبِّبها فيروساتٌ مثل الأنفلونزا، ثم كانت خيبة أملنا عندما اكتشفنا أن بكتيريا مثل تلك المسبِّبة للسل (التي كنا نظن أنها تحت السيطرة) قد تطوَّرَتْ إلى سلالات مقاومة للعقاقير.

تشبيهُ العلاقة بين التكنولوجيا والمجتمع بعنصرَي الين واليانج مفيدٌ لتهذيب فلسفة الحتمية التكنولوجية التي يجهر بها أمثال توماس فريدمان، وفي الوقت نفسه يتيح المجالَ للرأي القائل بأن التطورات التكنولوجية تؤثِّر بالفعل على المجتمع. والعكس أيضًا يستقيم؛ فالتكنولوجيا جزء لا يتجزأ من المجتمع الذي يخلقه الجنس البشري، والذي يتأثَّر تأثُّرًا نَشِطًا بفعل الاقتصاد والسياسة ومجموعة كبيرة من الأنشطة والمعتقدات البشرية الأخرى. وتشبيهُ العلاقة بين التكنولوجيا والمجتمع بعنصرَيِ الين واليانج تشبيهٌ ديناميكي ينطوي على حلقات تعقيب سيبرانية؛ فهذه الرؤية للكون الرقمي تعترف بأن «القدرات التكنولوجية تشكِّل فعليًّا النيات» كما ذكر توماس فريدمان؛ كما إنها تحثُّنا كذلك على التفكير في الوقت نفسه في منظور إيلول القائل بأن «التقنية» فكرة أرحب كثيرًا من مجرد أدوات وآلات؛ فالتكنولوجيا مترسخةٌ في كل جانب من جوانب حياة الإنسان المعاصرة، وهي استجابة لاحتياجاتنا، الحقيقية وكذلك المتخيَّلة. إن التكنولوجيا الرقمية تصل بالاندماج بين المجتمع و«التقنية» إلى مستوى ترسُّخٍ أعلى، مع ابتكارنا واستخدامنا تكنولوجياتٍ محمولةً ومضغوطة بوسعها أن تستوعب احتياجاتنا وتتوقعها. بلغ التطوُّر في الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا الوكيل الذكي مرحلةً وليدة، لكن باجتماعهما معًا سيبلغان بالترسُّخ الذي حظيت به التكنولوجيا الرقمية في المجتمع إلى مستوًى جديدٍ استثنائي في هذا القرن، مستوًى مُنذِرٍ بالخطر للبعض.

هل المستقبل الرقمي مستقبل مظلم؟

في أبريل من عام ٢٠٠٠، نشرت مجلة «وايرد» مقالًا بعنوان «لِمَ لا يحتاجنا المستقبل؟» كتبه بيل جوي، الذي كان يشغل آنذاك منصبَ كبير العلماء بشركة صن مايكروسيستمز.27 خلص جوي — باتكاله على الرؤى الديستوبية لمستقبل علم الجينات وعلم الروبوتات وتكنولوجيا النانو — إلى أنه من الممكن أن يحل علينا مستقبلٌ قد تستحوِذ فيه أنظمةُ الروبوتات على إدارةِ كلِّ الأنظمة العالمية (سواء أكان ذلك بإرادتنا أم ضدها)؛ فالأنظمة المرتبطة بشبكاتٍ، إنْ أُتيحت لها فرصةٌ مطلقة لإدارة شئون العالَم نيابةً عن سكان العالم من البشر، ربما تقرِّر أننا منافِسون على موارد العالَم بوسعها التخلُّص منهم، فتقضي على الجنس البشري. إنْ ذكَّرَتْك هذه الفكرةُ بمنظومة الذكاء الاصطناعي «سكاينت» القاتلة في سلسلة أفلام الخيال العلمي «المبيد» (ترمنياتور)، فأنت لستَ بمخطئ. حظي مقال بيل جوي بانتشار واسع ونقَلَ عنه كثيرون بوصفه مثالًا على الصورة التي قد تتطوَّر بها التكنولوجيا المتقدِّمة على نحوٍ يُفضِي إلى عالَم ديستوبي خلال القرن الحادي والعشرين، دون أن تفرض حكوماتُ العالم قيودًا عليها.
هُوجِم بيل جوي بعد نشره مقاله، ووُصِف بأنه من «اللوديين الجدد» (أعداء التكنولوجيا) الذين يناهضون التغير التكنولوجي الحديث. كان اللوديون مجموعةً من عمَّال النسيج الذي هاجموا آلات النسج المركَّبة حديثًا في ميدلاندز بإنجلترا في ١٨١١؛ كوسيلةٍ لتعطيل اتجاه الميكنة، لكن جهودهم لم تُكلَّل بالنجاح.28 ولما كان بيل جوي أحد مؤسسي شركة صن مايكروسيستمز، وساعَدَ على ابتكار بروتوكول التحكم بالإرسال/بروتوكول الإنترنت، بروتوكول الاتصال الأساسي للإنترنت؛ فمن الخطأ وصف بيل بأنه عدو للتكنولوجيا؛ ففي الواقع، بسبب صيته كعالِم في الكمبيوتر اشترَكَ في ابتكار الإنترنت، اطَّلَع الناس على رؤيته بشأن سيناريوهات المستقبل الديستوبية الممكنة، وأخذوها بعين الاعتبار. في القرن التاسع عشر، اصطحب عمَّال مناجم الفحم في إنجلترا وإمارة ويلز أقفاصَ طيور الكناري معهم إلى المناجم السحيقة لتحذيرهم من غازات المناجم الخَطِرة.29 وبيل جوي يوجِّه تحذيرًا مسبقًا مماثِلًا من المخاطر الممكنة لتكنولوجيات القرن الحادي والعشرين على الحضارة.
يرتبط الكون الرقمي ارتباطًا جوهريًّا بتطور تكنولوجيا النانو (فهي ضرورية من أجل استمرار قانون مور حتى العقدين المقبلين) والتحليل الحاسوبي للتسلسلات الجينية المعقدة. كما أن لتكنولوجيا المعلومات أهميةً بالغةً في تطوُّر الذكاء الاصطناعي في أنظمة الروبوتات. مع ذلك، آمل أن التكنولوجيات الرقمية ذاتها التي تدعم التطوُّرَ في هذه المجالات ستيسِّر الإخطارَ بالتبعات المحتملة، التبعات التي بوسعنا التنبؤ بها على الأقل. ذاع انتشار مقال جوي بمجلة «وايرد» على الإنترنت (ويمكن الاطلاع عليه بسهولة على الموقع الإلكتروني للمجلة)30 وأدَّى إلى جدل محتدم على الإنترنت حول أسسه المنطقية القائم عليها.

ومن قبيل المفارقة أن الكون الرقمي الذي يمكن أن يفضي إلى هذه الجوانب الديستوبية المحتملة لتغلغُل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات؛ هو نفسه المنظومة التي بوسعها أن تحذِّر الجنس البشري من مخاطر التطوير المطلق، وطيورُ الكناري في «مناجم» العصر الحديث هي المعلومات. لا عجب أن شبكة الإنترنت نشأت في الأصل كوسيلةِ تواصُل رئيسية حول الآثار المحتملة لتطور التكنولوجيا. ولقد تيسَّرَ عمل المنظمات المعنية مثل لونج ناو فاونديشن (التي تركِّز عملها على التفكير البعيد المدى) ولايفبوت فاونديشن (التي تحظى بمجلس إدارة مؤثِّر من العلماء الذين يقدِّمون النصحَ بشأن التكنولوجيا الحيوية وتكنولوجيا النانو) بفعل الإنترنت، ويؤدِّي البريد الإلكتروني في الواقع دورًا محوريًّا في اتصالاتهما.

التفاوُض على دور التكنولوجيا في الحياة الحديثة

يمكن — حتى حد معين — التفاوض على الدور الذي تؤديه التكنولوجيا في حياتنا؛ فالمرء في المجتمعات المعاصرة المرتبطة بشبكاتٍ، أمامه خياراتٌ واسعة بشأن استخدامه للتكنولوجيات من أجل التواصل والترويح عن النفس. كلنا نتخذ قرارات يومية بشأن اصطحاب هاتف محمول أو مشغِّل موسيقى رقمي أو كمبيوتر لوحي أو كمبيوتر محمول مصغر أو غيرها من الأجهزة الإلكترونية المحمولة. وعلى صعيد عالم العمل ربما لا تتوافر لنا هذه الخيارات كلها؛ إذ تزداد وتيرةُ مطالَبة أصحابِ العمل الموظفين بالاتصال بالشركة إلكترونيًّا طوال ساعات اليوم وطوال أيام الأسبوع؛ وهذا مطلب من العاملين كافة في مختلف أنحاء العالم، من بنجالور وبكين إلى برلين وبوسطن. إننا نفقد وضوحَ الحد الفاصل بين المنزل والعمل، الذي كان مرسومًا منذ توقُّف العمال عن التسوُّق في مَتاجِر الشركة التي يعملون لحسابها، وعن العيش في المساكن التي توفِّرها لهم الشركة في القرى العاملة بالتعدين في القرن التاسع عشر. كان خيار العمل من المنزل عن طريق «العمل عن بُعْد» نعمةً لكثيرين، لا سيما الآباء الذين يرعون بالمنزل أطفالًا لم يلتحقوا بعدُ بالمدرسة. الأثر السلبي الذي يعاني منه العاملون عن بُعْدٍ هو معرفة أين يرسمون الخط الفاصل بين العمل والمنزل؛ فالإتاحةُ طوالَ ساعات اليوم وطوال أيام الأسبوع يعني أن العمل لحساب صاحب العمل يمكن أن يتخطَّى ساعات العمل التقليدية بالأسبوع البالغة ٤٠ ساعة.

فضلًا عن العمل، نتفاوض مع أنفسنا وأُسَرنا حول توقيت استعمال تكنولوجيا جديدة، والكيفية التي ستُستخدَم بها. ينزعج الأبوان حيال مسألة منح ابنهم المراهق هاتفًا محمولًا لأغراض السلامة، وهم على علم بأن استخدامه سيكون اجتماعيًّا في الغالب في تبادُل الرسائل النصية. وبالنسبة إلى الراشدين، يمكن أن يعتبر الأصدقاءُ وزملاءُ العمل إغلاقَ أحدهم لهاتفه المحمول فعلًا مخالِفًا لسلوكيات المجتمع، وكذا عدم الرد على بريد إلكتروني خلال يوم. بوسعنا التفاوض على استخدام تكنولوجيا الاتصال — حتى حد معين — حيث يزداد تأثير المعايير الاجتماعية. سأتناول عملية التفاوض على استخدام التكنولوجيا من قِبَل كلٍّ من الأفراد والمنظمات في الفصول القادمة؛ فهي جانبٌ متعدِّد الأوجه ولا ينفك يتطوَّر في الكونِ الرقمي، كونِ تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. من ناحيةٍ أخرى، لا يَسَع المرء سوى الاندهاش من الشخص الأحمق الذي يتلقَّى مكالمةً على هاتفه المحمول بقاعة سينما مزدحمة أثناء عرض الفيلم، ثم يبدأ في وصف حبكة الفيلم لمحدِّثه على الطرف الآخَر.

هوامش

(1) TwitterTM is a registered trademark of Twitter, Inc. of San Francisco, California. Twitter technology is a social networking and micro-blogging service where users can read and post text-based messages (called “tweets”) of 140 characters or less. See Twitter.com.
(2) J. Hopkins, “How To Avoid Spam Avalanche,” USA Today (February 21, 2007), 3B.
(3) Ibid.
(4) An alternative e-mail option is to create and use one of Google’s Gmail accounts with a 7.3 GigaByte storage capacity. With this account capacity, one would probably never need to delete or edit received e-mail. The downside is that one’s e-mail is stored in a Google server in the Internet “cloud” with attendant privacy and security issues. See Chapter 11, on privacy and security, for further discussion of these topics.
(5) T. Friedman, “The Age of Interruption,” New York Times (July 5, 2006). Retrieved July 16, 2009, from http://query.nytimes.com/gst/fullpage.html?res=9E03EFDA1230F936A35754C0A9609C8B63&sec=&spon=&pagewanted=print.
(6) J. Erickson, “Programmer Productivity,” Dr. Dobb’s Journal (September 26, 2009). Retrieved October 5, 2009, from http://www.ddj.com/developmenttools/220100341.
(7) Associated Press, “Step Away from the Facebook-Is It Clever to Block Websites?” (July 14, 2009). Retrieved July 16, 2009, from http://www.independent.co.uk/life-style/gadgets-and-tech/features/step-away-from-the-facebook-is-it-clever-to-block-websites-1745334.html.
(8) R. K. Merton, “The Unanticipated Consequences of Purposive Social Action,” American Sociological Review, 1/6 (December 1936), 894–904.
(9) K. Hafner, and M. Lyon, Where Wizards Stay Up Late: The Origins of the Internet (New York: Touchstone, 1996).
(10) J. Abbate, Inventing the Internet (Cambridge, MA: MIT Press, 1999), 106-7.
(11) Ibid.
(12) US users of e-mail are the only netizens in the world who do not have a country code at the end of their e-mail addresses.
(13) J. Ellul, The Technological Society (New York: Alfred A. Knopf, 1964). First published in French in 1954 by Librairie Armand Colin in Paris.
(14) Ibid., p. xxv.
(15) D. J. Fasching, The Thought of Jacques Ellul: A Systematic Exposition (New York: Edwin Mellen Press, 1981), 17.
(16) J.Ellul,“The Technological Order,” Technology and Culture 3/4(Fall 1962),412.
(17) Ibid.
(18) Ellul, The Technological Society, 22.
(19) Intergovernmental Panel on Climate Change, Climate Change 2007: The Physical Science Basis-Summary for Policymakers (2007). Retrieved on March 6, 2009, from http://www.ipcc.ch/#.
(20) FAME, Global Mobile Technology Users Overwhelmed by Device Features; Under-whelmed by Buying and User Experience (February 12, 2007). Retrieved February 18, 2007, from: http://www.fameforusers.org/news/pr.html#021207.
(21) L. Cauley, “Cellphone Users Complain About ‘Function Fatigue’,” USA Today (February 14, 2007), 5B. Retrieved August 30, 2011, from http://www.usatoday.com/tech/products/2007-02-13-function-fatigue_x.htm.
(22) N. Postman, Technopoly: The Surrender of Culture to Technology (New York: Vintage, 1992).
(23) Ibid., 71.
(24) Ibid., 70.
(25) Postman lived in an age of computerization, but wrote 18 books by hand in notebooks with a felt-tip pen, did not own a computer, and never used e-mail-a remarkable achievement in this era of almost universal computer use in the academy. Source: J. Rosen, “Neil Postman (1931–2003): Some Recollections,” Press Think (2003). Retrieved March 6, 2009, from http:// journalism.nyu.edu/pubzone/weblogs/pressthink/2003/10/07/postman_life. html.
(26) L. Thomas, The Medusa and the Snail: More Notes of a Biology Watcher (New York: Viking Press, 1979), 110.
(27) B. Joy, “Why the Future Doesn’t Need Us,” Wired (April 2000). Retrieved March 14, 2009, from http://www.wired.com/wired/archive/8.04/joy.html.
(28) K. Sale, Rebels Against the Future: The Luddites and Their War on the Industrial Revolution (Reading, MA: Addison-Wesley, 1996).
(29) If the canary keeled over in its cage due to exposure to poison gasses in the mine shaft, the miners made a hasty retreat until the area could be properly ventilated. The canaries weren’t harmed in the process. Their cages contained small bottles of fresh air which were used to revive the tiny birds. They were too valuable to the miners to let them suffer any harm.
(30) See n. 27 above.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤