جمال الدين الأفغاني (١٨٣٩–١٨٩٧)

(١) جمال الدين الأفغاني وتوفيق باشا خديوي مصر

قال الخديوي توفيق باشا لجمال الدين ما معناه: إنني أحب كلَّ خيرٍ للمصريِّين، ويسُرُّني أن أرى بلادي وأبناءها في أعلى درجات الرقي والفلاح، ولكن مع الأسف إن أكثر الشعب خامل جاهل لا يصلح أن يُلقى عليه ما تُلقونه من الدروس والأقوال المهيِّجة فيلقون أنفسهم والبلاد في تهلُكة.

قال جمال الدين مجاوبًا: ليسمح لي سمو أمير البلاد أن أقول بحرِّية وإخلاص إن الشعب المصري كسائر الشعوب لا يخلو من وجود الخامل والجاهل بين أفراده، ولكنه غيرُ محروم من وجود العالِم والعاقل؛ فبالنظر الذين تنظرون به إلى الشعب المصري وأفراده، ينظرون به لسموكم. وإن قبِلتم نُصح هذا المخلصِ وأسرعتم في إشراك الأُمَّة في حُكم البلاد على طريق الشورى، فتأمرون بإجراء انتخابِ نوابٍ عن الأمة تسنُّ القوانين وتُنفَّذ باسمكم وبإرادتكم، يكون ذلك أثبتَ لعرشكم وأدومَ لسلطانكم.

هذا أهمُّ ما جرى في هذه المقابلة التي كان فيها سُمو الخديوي غير راضٍ وأسرَّ في نفسه البطش بجمال الدين ولكن لم يُظهر له شيئًا من ذلك.

(٢) جمال الدين وفكرة مجلسٍ نيابي تُشكِّله الحكومة

إن القوة النيابية لأي أُمَّةٍ كانت لا يمكن أن تحوز المعنى الحقيقي إلا إذا كانت من نفس الأمة، وأي مجلس نيابي يأمر بتشكيله ملك أو أمير أو قوةٌ أجنبية محركة لهما فاعلموا أن حياة تلك القوة النيابية الموهومة موقوفةٌ على إرادة من أحدثها.

فعزة الملك تُنغِّصها نهضة الشعب المملوك، خصوصًا إذا هو صادَم إرادة مالكه أو أميره. والتاريخ لم ينقل لنا أن ملكًا أو أميرًا أو دخيلًا بقوَّته على شعبٍ يرضى عن طيبِ خاطرٍ أن يبقى مالكًا اسمًا وأُمته هي المالكة فعلًا لإدارة شئونها وزمام أمورها على مطلق المعنى. وأعظم أماني الشعوب المملوكة التخلُّص من ربقة الأجنبي وتحكُّمه.

سترون عما قريب إذا تشكَّل المجلس النيابي المصري (أنه) سيكون ولا شك بهيكله الظاهري مشابهًا للمجالس النيابية الأوروبية، بمعنى أن أقل ما سيُوجد فيه من الأحزاب حزب للشمال وحزب لليمين. ولسوف ترون إذا تشكَّل مجلسكم أن حزب الشمال لا أثر له في ذلك المجلس لأن أقل مبادئه أن يكون معارضًا للحكومة وحزب اليمين أن يكون من أعوانها.

تستغربون قولي هذا اليوم لأن ما نبحث فيه هو أمر تصوُّري لم يخرج لحيِّز العمل بعدُ. ولكن متى رأيتم المجلس النيابي الموهوم تشكَّل، ورأيتم كلَّ عضوٍ يفرُّ من أن يكون في حزب الشمال (الناهض والمعارض للحكومة) فراره من الأسد إلى حزب اليمين؛ إذ ذاك تقولون صدق جمال الدين.

نعم، أكون صدقت، ولكن ليس لي في هذه الفراسة وفي صدق التصوُّر التصديقي أدنى فضيلة إذا رجعتم وعلمتم أن المُقدِّمات الصحيحة هي التي تُنتج النتائج الصادقة.

فمقدِّمات مجلسٍ نيابي قوَّته المُحدِثة له خارجة عن محيط الأمة، والمُحدِث له قوةٌ خارجة عن الأمة ومجلسها، يعارضها منافعُ متضادة وهدفان مختلفان؛ فمثل هذا المجلس لا قيمة له، وكما أنه لا يعيش طويلًا كذلك لا يُغني عن الأمة فتيلًا.

سترون أن الذي سيكون نائبًا عن شعبٍ لا أُعدِّد مصائبه ولا أنواع رزاياه، لفقدان حريته بكلِّ معناها، هو الذي كان آلةً صمَّاء بيد تلك القوة التي عمِلَت على وصول وطنه ومواطنيه إلى ما وصلوا إليه.

تعرفونه إذا شئتم أن تتفكروا قليلًا، وإن شئتم وصفه فأنا أقول لكم: نائبكم سيكون على مقتضى ما مرَّ من مُهيِّئاتِ مِصرِكم في زمانكم هو ذلك الوجيه الذي امتصَّ مال الفلَّاح بكلِّ مساعيه، ذلك الجبان البعيد عن مناهضة الحكام الذين هم أسقط منه همةً؛ ذلك الرجل الذي لا يعرف لإيراد الحجة تجاه الحاكم الظالم معنًى ولو كانت من الحُجج الساطعة؛ ذاك الرجل الذي يرى في إرادة القوة الجائرة كلَّ «خير وحكمة»، ويرى في كل دفاعٍ عن وطنه ومناقشة للحساب «قلة أدب» و«سوء تدبير»! و«عدم حنكة»! و«تهوُّر»! وبالتالي يرى أن كلَّ صفات العزة النفسية والمقوِّمات الأهلية القومية مآلها الويل والثبور.

وكلَّ ما يدعو إلى الذل، واحتقار القومية، وسحقِ ما تنمو به حرية الأمة، هو من مجالي حكمته العصرية!

هذا مع الأسف الذي أراه سيتكوَّن منه مجلسكم النيابي الموهوم — إذا صحَّت الأحلام — والذي سيُخالف قاعدةً كليَّةً لقواعدَ فلسفية أقرَّت أن الوجود خيرٌ من العدم؛ فعدم مثل هذا المجلس خيرٌ من وجوده.

(٣) جمال الدين وقيصر روسيا

سأل القيصر جمال الدين عن سبب اختلافه مع الشاه، فذكر له رأيه في الحكومة الشورية وضرورة اتِّباعها، وأن الشاه ينفِر من ذلك ولا يُحب أن يُقر به.

قال قيصر: إني أرى الحق في جانب الشاه؛ إذ كيف يرضى ملكٌ من الملوك أن يحكم به فلَّاحو مملكته؟

فأجاب جمال الدين بجرأةٍ وفصاحةٍ: «أعتقد يا جلالة القيصر أن عرش الملك إذا كانت الملايين من الرعية أصدقاءَ له، خيرٌ من أن تكون أعداءً يترقَّبون الفرص ويُكمِنون في الصدور سموم الحقد ونيران الانتقام.» فعَلَت عند ذلك وجهَ القيصرِ علامةُ الغضب، فقَطب حاجبيه ولم يُطل الحديثُ بعد ذلك مع جمال الدين، بل قام من مجلسه وودَّع جمال الدين بغير الشكل الذي استقبله به إذ كان وداعًا باردًا، ثم أوعز القيصر إلى أكبر رجال بلاطه أن يُسرِعوا مُتلطفِين بإخراجه من روسيا.

(٤) جمال الدين وشاه إيران

صادف وجود جمال الدين متجولًا في أوروبا فتْح معرض باريز سنة ١٨٨٩م فشخَص إليها، والتقى الشاه في «منيخ» عاصمة «باواريا» عائدًا من باريز، فاستزاره، واعتذر له عما فرط، وعتب عليه بعدم عودته إلى طهران. وأخيرًا دعاه إلى مرافقته، فأجاب جمال الدين الدعوة وسار مع الشاه إلى بلاد فارس، فلم يصل إلى طهران حتى عاد الناس — وفي مقدمتهم الأمراء والعلماء — إلى الاجتماع به والانتفاع بعلمه، والشاه لا يرتاب من أمره. وأول ما كلَّفه به أن يسنَّ ما يراه موافقًا لروح العصر من القوانين (ربما كان ذلك من الشاه بتأثير سياحته في أوروبا). فعَمِل جمال الدين بهمته المعهودة فسنَّ القانون الأساسي لمملكة فارس لتكون حكومةً مَلَكية شورية، فما أتمَّ قواعد الدستور الكليَّة ومواده وأطلع عليه الشاه ناصر الدين إلا وأَعظمَ الأمر؛ إذ رأى أن حكمه سيكون مقيَّدًا وأن أهل فارس سيكونون أَوسعَ سلطةً من الشاه بمجلسهم النيابي.

فقال لجمال الدين: أيصح أن أكون يا حضرة السيد، وأنا ملك ملوك الفُرس «شَهنشاه»، كأحد أفراد الفلاحِين؟

– اعلم يا حضرة الشاه أن تاجك وعظمةَ سلطانك وقوائمَ عرشك سيكونون بالحكم الدستوري أعظمَ وأنفذَ وأثبتَ مما هم الآن.

«والفلَّاح، والعامل، والصانع في المملكة يا حضرة الشاه أنفع من عظمتك ومن أمرائك، واسمح لإخلاصي أن أؤدِّيه صريحًا قبل فوات وقته.

لا شك يا عظمة الشاه أنك رأيتَ وقرأتَ عن أُمَّةٍ استطاعت أن تعيش بدون أن يكون على رأسها ملك، ولكن هل رأيت ملكًا عاش بدون أمة ورعية؟»

هذا الحديث الصريح من جمال الدين للشاه ناصر الدين جاء مصدِّقًا لِما وشَى به الصدر الأعظم وخوَّف الشاه منه بقوله: «إن ما يسنه جمال الدين من القوانين لا يفيد البلاد شيئًا، ولكنه ينزع سلطان الشاه منه ويعطيه إلى السوقة.» ونفَر نفورًا بيِّنًا من جمال الدين وأعرض عنه، فأحسَّ بهذا التغيير والنفور فاستأذن بالذهاب إلى بلدة شاه عبد العظيم على بُعْد عشرين كيلومترًا من طهران، فأذن له، فسار إليها وتبعه جمعٌ غفيرٌ من العظماء والعلماء والوجهاء الذين كان يخطب فيهم ويستحِثهم على إصلاح حكومتهم، وما منهم إلا وقد انفعل بخُطب جمال الدين الحماسية، وقبِلَت نفوسهم نزعة الاستقلال، وسرت تلك الروح في البلاد طولًا وعرضًا وذاع فيها عزم جمال الدين على إصلاح إيران، فخاف ناصر الدين الشاه عاقبة ذلك، فأنفذ إلى بلدة شاه عبد العظيم خمسماية فارس قبضوا على جمال الدين، وكان مريضًا فحملوه من فراشه على برذون بصورةٍ فظيعة وعليه دورٌ من الحُمَّى درجة حرارتها أربعون، ولم يسمحوا له باستراحةِ دقائق حتى أوصلوه إلى حدود المملكة العثمانية في ولاية البصرة.

(٥) جمال الدين والسلطان عبد الحميد

خرج جمال الدين، على عادته، من حضرة السلطان إلى حجرة رئيس القرناء، فقال له بلطف: يا حضرة السيد، إن إجلال السلطان لحضرتك لم يسبق له مثيل، واليوم رأيناك تُخاطبه بلهجة غريبة، وأنت تلعب بالسبحة في حضرته.

فقال جمال الدين: «سبحان الله، إن جلالة السلطان يلعب بمقدَّرات الملايين من الأمة على هواه وليس من يعترضه منهم، أفلا يكون لجمال الدين حقٌّ أن يلعب في سبحته كيف يشاء؟!» أمَّا رئيس القرناء فترك حجرته مهرولًا خائفًا يترقَّب من هذا الكلام بهذه اللهجة أن يُوشَى به إلى السلطان.

رأس بلا تاج أو تاج بلا رأس

لا يسلم — على الغالب — الشكل الدستوري الصحيح مع ملك ذاق لذَّة التفرُّد بالسلطان، ويعظُم عليه الأمر كلما صادمه مجلس الأمة بإرادته أو غلبه على هواه.

لذلك قلت: إذا أتاح الله رجلًا قويًّا عادلًا لمصر وللشرق يحكمه بأهله، ذلك الرجل إما أن يكون موجودًا أو تأتي به الأمة فتُملِّكه على شرط الأمانة والخضوع لقانونها الأساسي وتُتوِّجه على هذا القَسَم، وتُعلنه أنه يبقى التاج على رأسه ما بقي هو محافظًا أمينًا على صون الدستور، وأنه إذا حنث بقَسَمه وخان دستور الأمة إمَّا أن يبقى رأسه بلا تاج أو تاجه بلا رأس.

هذا ما يحسُن بالأمة فِعله إذا هي خَشِيت من أُمرائها وملوكها عدم الإخلاص لقانونها، أو عدم قابليتهم لقبول الشكل الدستوري قلبًا وقالبًا.

الإيمان بقدرة الإنسان

نعم، إن الإنسان من أكبر أسرار هذا الكون، ولسوف يستجلي بعقله ما غمُض وخفِي من أسرار الطبيعة، وسوف يصل بالعلم وبإطلاق سراح العقل إلى تصديق تصوُّراته، فيرى ما كان من التصوُّرات مستحيلًا قد صار ممكنًا، وما صوَّره جموده وتوقَّف عقله عنده بأنه خيال قد أصبح حقيقة.

شكل الحكم مسألةٌ أساسية

وانظروا إذ ذاك إلى نهضة الشرق، خصوصًا متى تغيَّر شكل الحكم في أهله، فتَرَوا الشرق قد عاد مشرقًا بالعلماء، زاهرًا بحقائق العلوم، مثبتًا مقرِّرًا لكلِّ ما هو نافع ويصلُح أن يُبقي أثرًا.

الاستعمار ككلِّ شيء له عمر ينتهي عنده

ولمَّا كان لحياة الأمم والدول أدوارٌ وآجال، ولحدوثها وتكوُّنها، وتعاليها، ثم توقُّفها، وانحطاطها، أسبابٌ وعوامل، هكذا وجب أن يكون الاستعمار خاضعًا لتلك النواميس الكونية، بمعنى أنه يصل إلى حدٍّ محدود وأجلٍ معلوم. وانقضاءُ أجل الاستعمار إنما يتم بزوال الأسباب التي مكَّنت أهله من التسلُّط وأكرهتِ الشعوب على الخضوعِ لهم.

(عن كتاب «خاطرات جمال الدين الأفغاني»، للمخزومي)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤