محمَّد كرد علي

تحية باريز

سلامٌ عليكِ مُرضعةَ الحكمة، وربيبةَ الرخاء والنعمة، ورُوح الانقلابات الاجتماعية والسياسية، ومُحيِيةَ المدنية الأصلية في الأقطار الغربية والشرقية، ومُعلِّمة العالم كيف يكون الخلاص من الظالمِين، والضرب على أيدي الرؤساء والنبلاء والمالِكِين. أنتِ هذَّبت طبائع البشر حتى غدَوا يشعرون باللطف والذوق وفائدة العلم والعمل. أنتِ كنتِ في مقدمة العواصم التي انبعث منها تمجيد العقل بل تأليهه، فقضيت بالتقدُّم له على كل شيء في الوجود، وبالغتِ في إكرام رجال العقول من أبنائك …

سلامٌ عليك يا واضعةَ حقوقِ الإنسان، وملحقة الأذهان بالتناغي بحب الأوطان، والداعية إلى ثلِّ عروش الجبَّارِين والمخرِّبِين. أنتِ لم تُرهبكِ تقاليد أبطال القرون الوسطى، ولا بطش الباطشِين من المحافظِين عليها، ولم تُعلِّقي مسائلك على القضاء والقدَر، بل أخذتِ بالأسباب والمسببات، فقتلتِ من أراد قتلك، ووضعتِ من لم يهمَّه رفعُكِ، وكنت للناهضِين من الناس خير مثال …

سلامٌ عليك يا ملقِّنة الخلق معنى الإخاء والحرية والمساواة، ليتعاشروا بالمعروف ويقوم نظام اجتماعهم على تبادُل المنافع حتى لا يبقى تمييزٌ في الحقوق والواجبات بين المُختلفِين في الموالد والديانات، وقطعتِ التفاضُل إلا بالأعمال الصالحة والأحلام الراجحة …

السلام على هذه العاصمة التي أَحسنَت إلى الشرق فيما مضى فعلَّمته حتى استمدَّ منها النور. فإن قلنا معاشر الشرقيِّين، ولا سيما سكان الشرق الأقرب: إننا نأخذ عن المدنية الغربية، فإنما نعني المدنية الفرنسوية، وبعبارةٍ أصح المدنية التي تنبعث أشعتها من باريز ومن طريقها وبِلُغتها وأسلوبها تَيسَّر لنا أن نستطلع سائر مدنيات الأرض …

سلامٌ عليكِ أنتِ العاصمة التي تركتِ القصور الفخيمة التي عمرت بدماء الأمة مباحةً للناس يدخلونها وكانت بؤرة المظالم والمغارم، ومُنبَعث الشهوات والأهواء، ولطالما جأرَت جوانبها بالدعاء إلى السماء من حَيف الكبرياء، أيام كان يوقِّع أحد ملوكها وهو على سرير نومه توقيعًا واحدًا يترك من الغد مِائة ألف أُسرة في هذه البلاد تبيتُ جائعةً عريانة ليعمِّر بما يجمع قصرًا له أو يدفعه لمحبوبته صبرةً واحدةً. فلمَّا أضناكِ الظلمُ والعنتُ قمتِ تجعلين من تلك القصور الناشئة متاحفَ عامة، ومن دور الظلم والظلمات مجالس عدلٍ وعلمٍ ونورٍ …

سلامٌ عليك يا بلد كونت وروسو وفولتير وديدرو وسيمون ومونتسكيو وهوغو وباسكال ورينان ومئات أضرابهم ممن بذلوا حياتهم في حسن خدمتك، فلم تُنسَ عوارفهم عليك بعد مماتهم …

أنتِ إن خجلتِ من ذكرى الحروب الصليبية، وديوان التفتيش الديني، ومذبحة القديس برتلماوس … وغير ذلك من الأعمال البربرية في عصور الظُّلمة، فإن سكانك يفاخرون وحق لهم الفخر بأنهم أحفاد ثورة سنة ١٧٨٩ قاموا من الأعمال المشكورة في عصور النور بما يُنسي الماضي إلا أقلَّه، إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ!

(عن كتاب «غرائب الغرب»)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤