هَواجِس١ المير بشير

شهر آب موسم صيد الحجل في لبنان. وفي آخِر هذا الشهر كان الأمير بشير يخرج إلى ضواحي بتدين في موكب ملوكي للصيد.

يمشي تحفُّ به بطانة فيها الشاعر والكاتب، والطبيب والمشترع،٢ وتلتف حوله وحواليه حاشية تجرُّ أذيالها، فريق يحمل البنادق والجفوتة، وآخرون على كتف كل واحد منهم صقر أو باز.٣
تصرخ تلك الجوارح على زنودهم مصفقة بأجنحتها طربًا وحنينًا إلى المعركة العتيدة،٤ وكانت تلك الصرصرة٥ أشهى لقلب الأمير من أنَّات الناي والعود؛ لأنه أشبه خلقًا بتلك الكواسر.
كان الأمير أكثر هوى لصيد الباز، وأشد ميلًا إلى منازلة الطير للطير، وإن كان يعجب بالسلاح الذي استحضره من أوروبا، أو صنعه عند أشهر القيون٦ اللبنانيين.
ولما بلغوا «القاطع»٧ تفرَّق هواة الصيد، وأُطلقت الصقور والبئزان، فملأت الفضاء صراخًا، وكانت تلك الطيور تطرب وتنتخي٨ حين تسمع دوي البارود تردده تلك الأودية. والصوت إذا مشى بين مطاوي الجبال وتعاريجها كبر وتضخَّم وطال.

تذكَّر الأمير في ذلك النهار صقره «كاسب» الذي انتقل من هذه الدنيا الفانية حديثًا … فعزَّ عليه فقده.

أحبَّ سعادته هذا الصقر العبقري فصنع له عند أحد أبناء نفاع، في بيت شباب، تمثالًا نحاسيًّا قبل موته، ودشَّنه في حفلة كبرى واضعًا إياه في وسط الدار الداخلية، على حافة البركة الكبيرة في القصر. وقد جعلوا الماء يتدفق من منقاره كأنه الفضة البيضاء سائلة …

كان الأمير، في ذلك النهار، فرحًا مرحًا على غير عادته، ولكن امتعاضة عابرة كانت تمرُّ في خاطره حين يتذكر الفقيد العظيم — كاسب — فتجرُّه تلك الذكرى إلى التفكير بمصير إمارته بعده.

استعرض أولاده الثلاثة ليرى بينهم مَن يقوم مقامه في الغد البعيد فما وجد، فرفع رأسه وهو يقول: هيهات. ولدي قاسم أدعر٩ لا يعرف كيف يدخل ويخرج، وابني خليل قائد حرب، يصلح للتدمير لا للتدبير، وشقيقهما أمين سياسي لا ينقصه الرأي الأصيل ولكنه غير شجاع.

كان الأمير يقلب أموره على جميع وجوهها، فيرى أنه قد استراح من جميع خصومه، وأمن شر دسائسهم بعد أن ربح وقعة المختارة، وقتل سميَّه الذي كان يقض مضجعه بائتماره به.

كان الشيخ بشير نصيره أولًا، ثم صار قذى١٠ في عينه، وشجى١١ في حلقه.

وطال التفكير فتذكَّر كلمة خصمه الجنبلاطي: «البلاد لا تسع بشيرين.» وتذكر كيف أجابه هو: «المكعوم يرحل.»

أجل، إن الشيخ بشيرًا الجنبلاطي قد رحل رحلة لا رجعة بعدها، وها هو الأمير بشير يفتكر الآن بمَن يخلفه فلا يجده بين أولاده.

وبينا كانت أفكار الأمير تتداعى١٢ فتجرُّه معها من مكان إلى مكان، ومن شيء وضيع لا يُؤبَه له١٣ إلى أمور خطيرة كولاية عهده ومصير إمارته، بعد أن استراح من جميع أعدائه، إذا بصياح الرجال يعلو، وإذا بأحد بزاة المير «الأسابر»،١٤ يحلق، وهو يصارع في الجو طيرًا خطيرًا، أكبر منه وأقوى.
شرع الصيادون يطلقون بنادقهم في الفضاء تشجيعًا لطائرهم، وإثارة له، فاستكف المير محددًا النظر في الفضاء، وإن كان له من ضخامة حاجبيه رفرف كثيف يرد عين الشمس.
figure

وبعد صراع عنيف في الجو، إذا بأسبرة كان قد سماها الأمير «ميمونة»، تقبل على سيدها وبين مخالبها طائر أكبر منها، ثم استقرت على كتف العبد مهيار المختص بحملها وخدمتها، تحدق إلى سعادة المير بإعجاب ودلال.

فتنهد المسكين زال عنه الكابوس،١٥ وقال وهو لا يزال تحت تأثير فكرة مصير الإمارة: لا نقطع الأمل …

سمع المعلم بطرس ما قاله سيده، فعرف أن سعادته كان يفكر في مشكلة عظيمة الشأن، فسأل مولاه: أي أمل يا سيدنا؟

فانتبه المير وقال: كنتُ ظننت أنه لا يقوم بين البازات خلفًا لكاسب، وها إن «ميمونة» ظهرت وبرزت، فَلْنسمِّها بعد اليوم «ظافرة». قرِّبها إليَّ يا مهيار.

فتقدَّم مهيار وجثا أمام مولاه، فأخذ المير يدغدغ١٦ رأس ظافرة ويداعب برفق ريش جناحيها كما يداعب عاشق شعر حبيبةٍ تيَّمَتْه.١٧

وظلَّ يدغدغها وقتًا طويلًا، وظلَّت تتمسح بصدره حتى غيَّبت رأسها تحت لحيته العامرة، فابتسم وهو يبعدها.

وسمعت حس حجال فانطلقت كالسهم، ثم رجعت بعد حين إلى أميرها بحجل عتيق، فعَنَّ له أن يسميها اسمًا أجمل، قد يكون فيه شيء من حفظ العهد، فقال للمعلم بطرس: سمَّيْناها «كاسبة» … فما رأيك؟

فأدرك بطرس حالًا قصد مولاه، فأجاب: رأي الأمير أمير الآراء. في الاسم الجديد رعي عهد، وذكرى وفيَّة للفقيد الغالي «كاسب».

ومرَّ ابن آوى في الوادي فأطلق بعض رجال الحاشية بواريدهم وجفوتتهم فأردوه، فامتعض الأمير وقال: لا الأمير ولا رجاله يصطادون ثعالب …

•••

كان التوفيق حليف الأمير في هذا اليوم، وانجلت غمراته١٨ عن صيد كثير، حتى قال الأمير إنه اليوم الأغرُّ١٩ من أيام صيده. وعند المساء عاد الموكب إلى بتدين.

وبعد الاستحمام كان العشاء، ثم سهرة طويلة.

قعد المير على طراحته في صدر قاعة العمود، حيث اعتاد أن يجلس بعد الرجعة من المعارك غانمًا.

لبس ليلتها أحب ثيابه إليه، تلك التي كان يلبسها حين يقابل زواره الكبار: غنباز أبيض، وزنار كشميري،٢٠ شكَّ فيه خنجره الذهبي المرصَّع، فبرزت قبضته من بين فلقتي٢١ لحيته. وقدم له الغليون «الشبوق»، فأخذ ماسورته، وانبسطت أسارير وجهه، فخففت وطأة حاجبه الثقيل، ولانت شوكة شاربيه، وتلك كانت عادته: فلا يكلم إلا حين يبتسم …

قال بطرس كرامه: ما يأمر مولانا؟ فلأمرٍ ما ظهرت لنا بهذا الثوب على خلاف العادة.

فابتسم الأمير وقال: كأنك قاعد في فكري. لا فرق يا معلم بطرس بين ربح يوم صيد وربح معركة. الظفر حلو، ولو في أحقر الأمور، والغلبة أحلى ولو كانت على أجبن الطيور: الحجل.

وكان الحراس المختلفو الألوان والأجناس في مراكزهم يصغون ويسمعون.

وبعد أن سكت المير هنيهة قال: أين كاسبة؟ من حقها أن تحضر مجلسنا هذا.

وجاء بها مهيار فوضعها في أقصى السماطين،٢٢ فأومأ الأمير إليه أنْ قرِّبها، ثم قال لها: مقعدك حدي.

ومد يده إليها يدغدغ رأسها وهو يقول، بينا تشغل فكره قضية أخرى: عافاك … ربحت معركة اليوم.

ثم قال للحاشية الجالسة بين يديه في السماطين: تأملوا هذا أشرس طير، ومع ذلك لان. هذا أفتك طير أمنَّا شره وغدره. تمر يدي على رأسه باطمئنان أكاد لا أحصل عليه حين أمرها على خد أحد أبنائي. الطيور الكاسرة آلفتنا، أما أصدقاؤنا فهم دائمًا لنا بالمرصاد٢٣
figure

– نعم؛ لأننا نعرف أعداءنا ونتقيهم. الرئاسة يا معلم بطرس تخلق لنا أصدقاء موقتين، وأعداء دائمين.

وسكت الأمير ولم يشبع الموضوع بحثًا، غير أنه لم يَزِدْ على ما قال شيئًا.

كان يمر كفه على ظهر كاسبة ويمتص غليونه، ثم ينفخ الدخان فيخرج من فمه متغلغلًا بين شاربيه ولحيته. والتفت فرأى بطرس كرامة يتطاول كعادته حين يحضره شيء من الشعر، فقال له: عندك شيء؟ فأجاب المعلم: نعم، إن أمرت.

فقال الأمير: لعله في كاسبة، ونظر إليها نظرة عطف.

وقال المعلم: وفي كاسبة، وأنشد:

لله أسبرة٢٤ غرَّاء قد جعلت
أحداقها٢٥ من يواقيت ومرجان٢٦
براقة الجيد٢٧ من فرناسها خرجت٢٨
تتيه في بُرْدَتَيْ٢٩ حسنٍ وإحسان
لها من الصبح صدرٌ مشرقٌ، وكذا
من الظلام قُبَيْلَ الفجرِ جنحانِ
شهباء٣٠ ماضية المنسارِ٣١ راحتُها
مخضوبةٌ٣٢ بدم من آلِ حجلان

فأبدى الأمير استحسانه بقوله: أوم … وأتم المعلم بطرس:

لا زال صاحبُها المولى البشير تضي
سعودُهُ برفيعِ العز والشانِ٣٣
ولا تزالُ له العلياءُ خادمةً
ما صادح٣٤ الوُرْق٣٥ غنَّى فوق أفنان٣٦

لم يهتز المير اهتزازته المعهودة حين كان يسمع المديح، ورفع نظره إلى الأبيات المكتوبة على جدران القاعة، فقرأ بصوت عالٍ:

خوَّلْتَني٣٧ يا إلهي خيرَ تسميةٍ٣٨
فكنت فيك بشيرًا. أنت لِي عضدُ٣٩
يا رب أمنِنْ بعفوٍ منك لي كرمًا
واغْفر جناياتِ عبدٍ منك يرتعدُ
وجُدْ بخاتمةٍ يا رب يعقبها
ذاك النعيمُ السعيدُ الثابتُ الوطِدُ

فأسرَّ بطرس كرامة إلى الشيخ أمين الجندي: نفس سيدنا غير طيبة الليلة.

فسمع الأمير وقال: إنْ ذكَرْنا الله لا تكون نفسنا طيبة؟ بلى يا معلم بطرس. أتمنى على ربي ألا يحلني من ديار آخِرته دارًا أقل رونقًا من قاعة العمود. مَن يذكر منكم حديثًا شريفًا في هذا المعنى؟

فأخذوا يعصرون يوافيخهم٤٠ فما أدركه أحد. فقال الأمير: أنا أذكره: «بيت الرجل جنته الدنيا». فنحن ما تجبَّرنا ولا تكبَّرنا إذا بنينا مثل هذا البيت …

ثم أنشد قوله ببيت الدين:

سرى النسيم ببيت الدين ذكَّرَني
حديثَ مَن كنتُ أهوى والزمانُ صِبا
وقد شفى كبدي الحرَّى٤١ بروضتها
جري «الصفاء» الذي في سفحها انسكبا
هدى لنا نسماتٍ من نوافحهِ
مبسامها٤٢ فأزالَ الهمَّ والكربا
وبثَّ عرفَ الأقاحي٤٣ والخزامِ٤٤ ضُحًى
وادي الجنانِ فأحيا قلبيَ الوصبا٤٥

كيف رأيت يا معلم بطرس، أليست نفسي طيبة؟ ألا تكون نفسه طيبة مَن يقول شعرًا كشعرائه؟ … تمرُّ على المرءِ ساعات لا يدري كيف يتخلص من سودائها، ثم تنقضي ولا يدري كيف انفرجت تلك الأزمة.

وتحلحل ونفض رماد غليونه فتقدم الخادم لرفعه من الحضرة، وتلك كانت علامة ارفضاض المجلس الأميري والانصراف.

وبعد دقائق معدودات كان قصر الأمير صامتًا مظلمًا لا يُرى النور إلا من نوافذه التي يدخلها ضوء القمر.

لا ضوء في ذلك القصر العظيم إلا ما يرسله قنديل معلَّق في البهو، فهذا وحده كان يُضاء طول الليل.

وترك الأمير قاعة العمود واتجه نحو الشرفة التي يطل منها على الوادي ودير القمر وبعقلين، فكان يمشي بلا شعور كالراقص، فكأن المياه المرتفعة من الفسقيات،٤٦ والتي تخر من السبيل٤٧ في دار الحريم كانت تصفق له.
كان القمر بدرًا في تلك الليلة، فوجه قمر أيلول نقي اللون وإن كان مخددًا،٤٨ يراه الناظر إليه بعينه المجردة فيحسبه قطعة من فضة سائلة.

فهمهم المير وقال: هذه جنة تجري فيها ومن تحتها الأنهار. اللهم أعضنا عنها مثلها.

ولما وقف على شفير الشرفة، ألقى بنظرة على الوادي العميق القائم على كتفه القصر.

رأى أشجار التوت فخالها صفوف عسكر عارضة الرماح، مصطفة فوق جدران كأنها مدرج، جدران شيدتها يد الفلاح اللبناني وعنه ورثها الأمير.

رأى ذلك المشهد الجميل فأعجبته نفسه وشعبه حتى تخيَّلَ قضبان التوت رماحًا تصون الإمارة.

وكان موسم الحرير في تلك السنة مقبلًا جدًّا، وقد قبض الأمير من محصوله ما ملأ الصندوق، فاستبشر بالموسم المقبل، ولكنه تذكر ما طلبه منه باشا عكا، فمر في خاطره المثل القائل: لا تستكثر أولادك على عزرائيل، ولا مالك على ظالم.

انتفض صدره في تلك اللحظة، وخرجت الزفرة من أنفه علامة استهزاء لم يَدْرِ الأمير أهي له أم عليه، إلا أنه اطمأنَّ أخيرًا إلى استطاعته تأدية ثمن «الخلعة» مهما أغلاها الباشا.

وكان الوادي يزداد رهبةً كلما مال القمر صوب بعقلين، فتمثل لعينيه وادي يوشافاط حيث ينتظر أن يقف للدينونة.

ونظر إلى الحور والسرو والشربين، فحسب تلك الأشجار عمالقة تريد منازلته، ورفع عينيه إلى الجبال المناوحة فخال الأشجار المنتصبة على قممها الشامخة جيوشًا متأهبة.

وقفز فكره إلى موقع قصره الاستراتيجي، فأعجبه وقال: من أين يأتينا العدو ولا نراه؟ أمن الوادي، والسبيل كالدرج اللولبي؟ أمن الدير ودون ذلك أهوال؟ أمن بعقلين، وعيون الحراس ساهرة لا تنام؟ إننا لا نؤخذ ما دام الله معنا.

وما ذكر رضا الله عنه حتى لاحت ضحاياه.

مرُّوا أمامه في تلك الدقيقة الرهيبة كجنود معركة منهزمين، أو جنود سلَّموا وألقوا سلاحهم، فتعجَّب من أين تجيء هذه الأفكار السوداء. وأراد أن يخبئها تحت لحافه، فهرع إلى مخدعه، فما غمضت عينه حتى رأى في نومه حيَّة رقطاء تنساب نحو «كاسبة»، فاستلَّ خنجره وضرب، فإذا بالطعنة تصيب رأسها فماتت …

استيقظ مغمومًا، فترك فراشه، ولبس غنبازه، وخرج غير متزنر ولا شاكًّا خنجرًا.

أراد أن يعود إلى الشرفة حيث كانت تطيب له الجلسة ليلة الأرق، فما توسَّط ساحة دار الحريم حتى رأى نفسه مندفعًا للعود أدراجه، فانكفأ،٤٩ وإذا به يخرج إلى صحن الدار حيث النافورة٥٠ الكبرى.

وقف هناك حيث ظنَّ أنه يتغلب على هواجسه بخرير الماء، ولكنه لم يفلح.

حدق النظر إلى دائرة واجهة القصر الكبرى، فرأى «المعمولة»٥١ والأقراص كأنها تدور، ثم رأى النقوش التي تشبه الدانتلا٥٢ تحمرُّ أمام عينيه، ففركهما، ولكن كل شيء ظلَّ على حاله.
تفرَّس بما حُفر على عمودي بوابة الدار البرَّانية٥٣ الرخامية، فخال تلك الخطوط المجدولة أفاعي متعانقة … والتفت إلى غنبازه فرأى عليه نقطًا حمراء تتسع دوائرها كلما أمعن في تأملها.

لم يصدق ما كان يتراءى له، وأيقن أن لا شيء مما توهم، فشدد عزمه وفرك عينيه مرارًا فتغيَّر المشهد.

رأى حجارة واجهة القصرة البيضاء قد استحالت إلى حمرة حجارة عكار التي نقلها فخر الدين وبنى بها قلعة دير القمر حين قهر ابن سيفا، فصاح الأمير: الله، ماذا بنا الليلة! صار بطل المزة وسانور أضعف الناس. ما هذه الأوهام!

ومشى نحو الشرفة حيث كان أولًا، فرأى رجلًا يشخر وينخر.٥٤ صاعدًا نحو القصر في الطريق اللولبي.
كان الرجل يطحر ويزحر٥٥ في تلك العقبة.
كان يمشي ثم يقف، فرابه٥٦ أمره. رآه يتقدم في طريق القصر، بلا وجل، فقال: هذا حامل خبر مستعجل.

وأخذ يخمن ويحسب ويظن، فما أصاب في واحد من ظنونه.

وحين دنا الرجل من القصر، وكاد أن يختفي في أروقة٥٧ أقبيته، قبض عليه الخفير، وأجَّله إلى الصباح، فصاح الرجل: عليَّ أن أقابل سعادته الآن.

فقال الخفير: لا تنسَ أن الليل ناصف. ثم التفت إلى القمر وقال: أكثر أكثر. الساعة الخامسة — زواليه — تقريبًا. ما صبح إلا فتح. مَن يتجاسر على دق باب سعادته في هذه الساعة؟

فقال الرجل: ما العمل، يا أخي، أنا قعدان حسن شهاب. اسمح لي بالدخول، وأنا المسئول.

– لا، لا، لا. لا قعدان ولا قيمان، وإذا غضب سعادته فمَن يردُّ لي رأسي إلى محله؟ لا، لا، لا.

فسمع صوت من الشرفة يقول: خالد، اسمح له، وتعالَ أنت معه. فعرف الخفير خالد أنه صوت سيده المير فتعجب.

ومشى الخفير خالد مع الرجل، فإذا بالأمير قاعد ينتظره في قاعة دار الحريم. نهض له حين عرفه، وقَبَّل كتفه حين سلَّم، ثم التفت بالخفير التفاتة معناها: انصرف.

وروى قعدان لعمه المير بشير ما حل بالمير قاسم، وكيف وقع في يد عصابة بلاد جبيل. فأسكت الأمير هنيهة هذا الخبر، ثم قال لقعدان: قُلْ للحارس الخارجي يحضر.

وقال له حين أقبل: المعلم بطرس.

وجاء المعلم بطرس، فكانت بين المير ومستشاره مداولة طويلة انتهت مع الصبح.

وقبل شروق الشمس كانت خيَّالة المير تطأ بحوافر خيلها ساحة دير القمر.

وظل غضب الأمير يشتد فيتوعد ويتهدد.

وقعت عينه على بيت ابنه قاسم، فحرق٥٨ على أسنانه وتمنى لو كان قاسم فيه ليهدَّه٥٩ على رأسه.
أما بطرس كرامه فكان يتضرع إليه ملتمسًا كتم الخبر، فالخيالة ذاهبة، ومن عادتها أن تذهب، فلا يحسن أن تدري «المناصب»٦٠ بالأمر فتشمت بالأمير.

فصاح الأمير: وماذا يورثني هذا التنبل غير الشماتة؟ قاسم مهما علمناه لا يتعلم. أكبر مصائبي هي في أولادي. نسيت حين سألتني أمس عن كلمة قلتها في الصيد. كنت أستعرض أولادي ثلاثتهم، فما وجدت فيهم واحدًا يستطيع أن يخلفني. صح فينا القول المأثور: النجيب … النجيب … نسيت المثل، كمِّله أنت.

فقال المعلم بطرس: النجيب لا يُنجِب. وهذا لا يصح فيك إن شاء الله.

فقال الأمير: بلى صحَّ يا بطرس.

– أنت غضبان الآن يا سيدي، ومتى ذهب الغضب تعرف أن مثل هذا قد يحدث. المهم أن ندركه قبل أن يصاب بأذى.

فانتفض الأمير وقال: وجِّه الآن رسالة إلى قائد الخيَّالة، قُلْ له يأمرك المير أن تضرب، وتقتل، وتنهب، وتحرق كل بيت، وكل قرية تعرف أن العصابة دخلتها. لا بد من الإتيان برأس الشدياق سركيس مهما كلف الأمر. هذا الكلب يأسر ابن المير بشير؟ يا خجلتي عند الباشا إذا بلغه الخبر! بلاد جبيل شوكة في عيني، ولا بد من قلع هذه الشوكة.

فقال بطرس: إن حزب سعادتك قوي في بلاد جبيل.

فصاح المير: لا تصدق! هذا كلام كذابين يهمهم بياض الوجه، يهمهم الاستغلال، ومتى دارت الدوائر على المير كان هؤلاء أول مَن يطبِّل ويزمر للراكب. النار تحت الرماد يا معلم، نسمة هواء تشعلها. بلاد عنيدة، تحب المير يوسف وأولاده. هؤلاء حزب المير يوسف وأولاد باز.

– ولكنهم صاروا كلهم تحت التراب.

– وحبهم ما زال في القلوب … أنا المخطي. جعلت من أولاد باز شهداء تقدِّسهم العامة. آه من العوام … إنهم دائمًا أعداء الجالس على الكرسي، يتذكرون الرائح، وينسون جميع خطاياه.

– لا تضطرب يا مولاي. كل شيء هادئ. هذا حادث بسيط، فالأعداء الكبار راحوا.

فنفر المير وقال: حادث بسيط! لصوص يقبضون على حاكمهم، وتقول حادث بسيط؟ الله! كيف يكون الحادث المركب يا بطرس، إذا كان هذا بسيطًا؟ لا تهوِّنها.

وفي تلك الدقيقة أدخل صاحب الإذن على الأمير رجلًا يحمل رسالة فيها أن المير قاسم قد نجا، وهو الآن في سرايته بجبيل، وقد سيَّر رجاله وراء العصابة وهم الآن يتعقبون آثارها.

فقال بطرس كرامه: أتأمر يا مولاي بإرجاع الخيَّالة؟

– لا، لا، لا. فَلْيعملوا كما قلت، وَلْيقبضوا على كلِّ مَنْ ليس على «الغرض».٦١ فَلْيذبحوا مواشيهم، وينكلوا٦٢ بهم، ولا يخرجوا من بيوتهم حتى يأتوهم برجال العصابة. ليأخذوا الأب بجريرة٦٣ الابن، والزوجة بذنب رجلها، وغير هذا لا يطوِّع بلاد جبيل هذه البلاد العنيدة … آه من هذه البلاد. حاولوا الثورة عليَّ مرات، وكانت أعدائي حولي وحواليَّ في كل مكان، وغلبتهم، أما الآن، وقد استرحت من الجميع، فما بقي عليَّ إلا هؤلاء، فَلْنتبع رأس الحيَّة الذنب!
اكتب يا بطرس لقاسم، وقُلْ له: إذا لم تأتِ برأس الشدياق سركيس فلست أهلًا أن تُدعَى شهابيًّا، ولا تكون ابن المير بشير إن عجزت.
figure

أصلح غلطتك بالانتقام من بلاد جبيل، أريد أن أرى من شرفة بتدين دخان بلاد جبيل يتصاعد فوق أرز جبل جاج، أريد أن أرى جبيل تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله.

وظلَّ كبس البيوت والتثقيل على الناس في بلاد جبيل أشهرًا، ففُرِضت الغرامات على القرى، وكانت فرصة سانحة للوشايات والتشفيات، فانتقم الأخ من أخيه، والجار من جاره.

وظلَّ الأمير ينتظر قدوم رأس الشدياق سركيس وتقتيل أبطال عصابته، والخَيَّالة عاجزون عن ذلك مع عظم جورهم وشدة فتكهم وقسوتهم.

شفى هذا التنكيل نفس الأمير بشير، ولكنه لم يُبرِئ سقمها؛ فحين جاء ابنه قاسم إلى بتدين بعد أشهر، لم يسمح له بالدخول عليه.

١  الهواجس: الصوت الخفي تسمعه ولا تفهمه، وأيضًا كل ما يقع في خلدك.
٢  المشترع: رجل القانون، المحامي.
٣  الباز: طير من الجوارح يُصاد به، وهو أنواع كثيرة.
٤  العتيد: الحاضر المهيَّأ، الجسيم (المقبلة).
٥  صرصر الصقر: صوَّت.
٦  القيون: الحداد، ويُطلَق أيضًا على كل صانع.
٧  القاطع: الحاجز، وهنا الجهة المقابلة من الجبل.
٨  تنتخي: تتحمس.
٩  أدعر: غير مرن.
١٠  القذى: ما يقع في العين من تبن وقش وغيره.
١١  الشجى: ما اعترض في الحلق من عظم وغيره.
١٢  تداعى: أقبل، دعا بعضهم بعضًا.
١٣  لا يُؤبَه له: لا يُلتفَت له.
١٤  الأسابر: طير من الجوارح أعظم من الباشق طويل الجناحين.
١٥  الكابوس: ما يحصل للإنسان في نومه فيزعجه وكأنه يخنقه.
١٦  الدغدغة: تجميش في مواضع من البدن يهيج له الضحك، والعامة تقول: زكزك.
١٧  تيَّمه: عبده وذلَّ له.
١٨  غمراته: مكارهه وشدائده.
١٩  الأغرُّ: الحسن، الكريم الأفعال.
٢٠  كشمير: نسبة إلى كشمير، وهي بلاد في التتر شمالي دلهي، ويُنسَب إليها نوع من الأقمشة الجيدة.
٢١  الفلقة: نصف الشيء المفلوق — المشقوق.
٢٢  السماطين: الصفين، والسماط الشيء المصطف.
٢٣  المرصاد: المراقبة ليوقع به الشر.
٢٤  أسبرة: طير من الجوارح.
٢٥  الحدقة: سواد العين.
٢٦  الياقوت: حجر كريم صلب شفاف. المرجان: صغار اللؤلؤ.
٢٧  الجيد: العنق.
٢٨  الفرناس: جبل الشعراء في اليونان، وهنا مكمنها.
٢٩  البُرْد: كساء من الصوف الأسود يُلتحَف به، مفردها بُرْدة.
٣٠  شهباء: مؤنث الأشهب؛ الأسد.
٣١  المنسار: المنقار. الراحة: باطن اليد ممرغة بدماء الحجل لكثرة صيدها من تلك الطيور.
٣٢  مخضوبة: ملطَّخة.
٣٣  الشان: عالي المقام.
٣٤  صدح: غنى.
٣٥  الوُرْق: جمع ورقاء، الحمامة.
٣٦  الفنن: الغصن المستقيم. أفنان جمع فنن: غصون.
٣٧  خوَّل: أوكل.
٣٨  تسمية: لقب.
٣٩  عضد: سند.
٤٠  يأفوخ: الموضع الذي يتحرك من الرأس، وهو فراغ بين عظام الجمجمة تلتقي فيه العظام.
٤١  الحرَّى: المحمومة.
٤٢  المبسم: الثغر.
٤٣  الأقاحي: جمع الأقحوان، وهو نبات له زهر أبيض.
٤٤  الخزام: نبات زهره من أطيب الأزهار.
٤٥  الوصب: المرض والوجع الدائم ونحول الجسم، وقد يُطلَق على التعب والفتور في البدن.
٤٦  الفسقية: الحوض.
٤٧  السَبَل: المطر النازل من السحب قبل أن يصل إلى الأرض، ومنها كلمة السبيل أي: الحوض الذي تجري به المياه.
٤٨  مخدد: محفر.
٤٩  انكفأ: رجع.
٥٠  ناف: طال وارتفع، والنافورة حوض المياه.
٥١  المعمولة: قطعة حجرية مكوَّرة ومزخرفة.
٥٢  الدانتلا: قماش.
٥٣  البرانية: الخارجية.
٥٤  شخر: صات من حلقه أو أنفه. ونخر: مدَّ الصوت والنفس في خياشيمه.
٥٥  طحَر: أخرج نفَسه بأنين. وزحر: أخرج الصوت أو النفس بأنين عند عمل أو شدة.
٥٦  رابه: حيَّره.
٥٧  الرواق: سقف في مقدم البيت.
٥٨  حرق: سمع له صريف.
٥٩  هدَّ: هدم.
٦٠  المناصب: المسئولون أصحاب الحل والربط.
٦١  الغرض: أي من حزبه.
٦٢  نكَّل به: أصابه بنازلة، صنع به صنيعًا يحذر غيره إذا رآه.
٦٣  جريرة: ذنب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤