تقديم

هذه مجموعة من الأبحاث خصَّصتُ كل واحد منها بناقد من نقادنا العرب المحدثين، منذ عصر النهضة الأدبية التي ابتدأت في عالمنا العربي في أواخر القرن الماضي بالعودة إلى تراثنا العربي القديم، بعد أن استطعنا البدء في نشره بفضل فن الطباعة الحديث الذي كانت مطبعة بولاق الأميرية رائدته الكبيرة.

ومن المؤكد أنه لم يكن مجرد مصادفة، معاصرة شاعر البعث الكبير محمود سامي البارودي للشيخ حسين المرصفي، الذي عاد هو الآخر إلى منابع النقد الشعري القديمة ليبعث أصول هذا الفن القوية، على نحو ما بعث البارودي ديباجة الشعر العربي القديم الناصعة القوية.

ولما كان فن القصيدة الشعرية أو ما يُسميه الأوروبيون بفن الشعر الغنائي هو الذي يكون العمود الفقري لتراثنا العربي القديم؛ فقد كان من الطبيعي أن يستأثر هذا الفن بالمجهود الأكبر من رجال فترة البعث، وأن يستأثر نقده بنصيب مماثل، وأن يستمر هذا الاتجاه مطَّردًا، حتى بعد أن أخذت صلاتنا بالآداب العالمية تزداد توثقًا وعمقًا ونفاذًا إلى اللباب لا القشور، وينعكس كل ذلك على الشعر والنقد معًا، وتدور المعارك النقدية حول القديم والتزام حدوده، والجديد المتأثر بآداب الغرب وثقافته وفلسفاته الفنية والنقدية، على نحو ما يستطيع القارئ أن يتبين من خلال هذه الأبحاث التي ذهب نقد الشعر والنقاد بمعظمها، وذلك بينما فنون الأدب الجديدة التي أخذنا أصولها عن الغرب لم ترد إشارات إلى نقدها إلا عند الحديث عن الناقدَين الوحيدَين اللذين تعرضا لبعض هذه الفنون كفن القصة وفن المسرحية، وهما الدكتور لويس عوض والأستاذ يحيى حقي.

ولقد كنت أعتزم في أول الأمر أن أترك هذه الأبحاث موزعة في مظانها الأولى حتى أستكمل الحديث عن أكبر عدد ممكن من النقاد المعاصرين، بل وكنت أفكر أحيانًا أن أجعل الحديث عن النقاد المعاصرين جميعًا جزءًا من كتاب كبير عن النقد الأدبي المعاصر على نحو ما فعلت في كتابي الكبير عن النقد عند العرب القدماء، وهو كتاب «النقد المنهجي عند العرب»؛ حيث لم أقتصر على الحديث عن النقاد بل تناولت أيضًا القضايا الأدبية الكبرى والمعارك التاريخية حول التجديد في الشعر العربي القديم ونشأة علوم اللغة والبلاغة العربية.

ولكني عدت فرأيت أنه لا داعي لحجز هذه المجموعة من الأبحاث عن النشر في كتاب يجمع أطرافها راجيًا أن تسنح الفرصة لإتمام ما بدأت هنا وإنجاز العمل كله، بحيث أستكمل البحث عن النقاد كأساس جوهري لحديث شامل عن النقد العربي الحديث والمعاصر كله بقضاياه ومناهجه ومعاركه الهامة.

وفي رأيي أن هذه المجموعة من الأبحاث لن يخلو نشرها مُجمَّعة من فائدة ولو فائدة الريادة والتخطيط المبدئي لمثل هذا البحث الطويل المتَّصل بالنهضة الأدبية كلها، وبفنونها المختلفة وقضاياها العويصة ومناهجها المتباينة، وأعني به تاريخ النقد العربي الحديث.

محمد مندور

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤