الشيخ حسين المرصفي والوسيلة الأدبية

كلنا يعلم أن نهضتنا الأدبية المعاصرة قد ابتدأت تُؤتي ثمارها في النصف الآخر من القرن الماضي، وأن تلك الثمار كانت شعرًا، بل شعرًا لمحمود سامي البارودي بنوع خاص، وقد مهَّدت لتلك النهضة عدة عوامل من المؤكد أن أهمها كان بعث التراث العربي القديم بفضل فن الطباعة الحديثة الذي وفد إلى مصر منذ الحملة الفرنسية، بل منذ تأسيس مطبعة بولاق على وجه مُحدَّد؛ فبفضل هذا الفن أمكن طبع الكثير من أمهات كتب الأدب العربي القديمة، ودواوين الشعراء، ورسائل البُلغاء، وكتب اللغة وعلومها، ونشْر ذلك كله وتداوله.

ولما كانت كل نهضة أدبية لا بدَّ أن تصاحبها نهضة مماثلة في دراسة الأدب ونقده؛ فقد كان من الطبيعي أن يظهر في تلك الفترة إلى جوار محمود سامي البارودي رائد البعث الشعري، وعبد الله فكري رائد البعث النثري أستاذ وناقد يبعث علوم اللغة العربية وطرائق النقد الأدبي التقليدي عند العرب القدماء، وكان هذا الأستاذ الناقد هو الشيخ حسين أحمد المرصفي الذي لا نعلم تاريخ ميلاده، وإنما نعلم أنه تُوفي في ٥ جمادى الثانية سنة ١٣٠٧ﻫ/١٨٨٩م، ولسوء الحظ لا نعرف أيضًا الكثير عن تاريخ حياته، وكل ما نعرفه هو أنه وُلد كغيره من المراصفة الكثيرين في قرية مرصفا بمركز بنها بمديرية القليوبية، وأنه كان ضريرًا تلقَّى العلم بالأزهر، وبلغ من ذكائه واجتهاده أن تولَّى التدريس فيه حتى سنة ١٨٧١م، عندما نظمت في عهد نِظارة علي باشا مبارك الثانية للمعارف المصرية محاضرات عامة بالمدرج الكبير الذي كان يُسمَّى دار العلوم بسراي درب الجماميز، وكان يحضر هذه الدروس كما جاء في كتاب «التعليم في مصر» لأمين باشا سامي طلبة المدارس العالية وفريق من طلبة الأزهر، كما كان يحضرها علي باشا مبارك نفسه ومعه طائفة من كبار موظفي الحكومة وديوان المعارف، واختير لإلقاء المحاضرات جماعة من المُبرِّزين في نواحي العلم المختلفة من مصريين وأجانب، ووقع الاختيار على الشيخ حسين أحمد المرصفي ليلقي محاضرتين في علوم الأدب في يومي الأحد والأربعاء من كل أسبوع «وكان زمن المحاضرة الواحدة ساعة، ونصف ساعة»، وكان من زملاء الشيخ في هذه المحاضرات العامة المسيو فيدال باشا لفن السكك الحديدية والمسيو جيجيون بك لفن الآلات، والمسيو هنري بروكسن باشا للتاريخ العام، والمسيو يكتيت لعلوم الطبيعة، والمسيو فرانس باشا لفن الأبنية، والشيخ أحمد المرصفي مواطن الشيخ حسين للتفسير والحديث، والشيخ عبد الرحمن البحراوي مفتي الحقانية لفقه أبي حنيفة النعمان، وإسماعيل باشا الفلكي ناظر المهندسخانه لعلم الفلك، وأحمد ندا بك لعلم النباتات، وكانت هذه المحاضرات هي النواة لإنشاء مدرسة دار العلوم بناءً على التماس من علي باشا مبارك بتاريخ ٣٠ من يوليو سنة ١٨٧٢م، ومن هذا التاريخ ترك الشيخ حسين المرصفي التدريس في الأزهر ليكون أول أستاذ للأدب العربي وتاريخه بدار العلوم.

وقد خلَف الشيخ حسين المرصفي ثلاثة كتب؛ هي: «زهرة الرسائل» و«الكلمات الثمان»، وهو كتاب يتَّصل بالاجتماع والتربية الوطنية؛ إذ تحدث فيه الشيخ عن ثماني كلمات كبيرة المضمون الاجتماعي والقومي، وهي: الوطن والحرية والأمة والعدالة، والظلم والسياسة والتربية والحكومة، وأخيرًا كتابه الضخم الذي يهمنا الحديث عنه هو كتاب «الوسيلة الأدبية للعلوم العربية» الذي يقع في جزأين تزيد صفحاتهما على تسعمائة من القطع الكبير.

(١) الوسيلة و«الأورجانون»

وكتاب «الوسيلة الأدبية للعلوم العربية» يتضمن المحاضرات التي ألقاها الشيخ حسين المرصفي على طلبة دار العلوم في السنوات الأولى من إنشائها، ويختتمه الشيخ حسن ابن الشيخ حسن أبي زيد سلامة بحمد الله على تمام طبعه في سنة ١٢٩٦ﻫ، مما يوحي بأن الشيخ حسين هذا هو الذي كتب هذه المحاضرات إملاءً عن أستاذه الشيخ حسين المرصفي، وإن لم يُفصح الشيخ حسن أبي زيد سلامة عن ذلك. والكتاب على أية حال شديد الشبه بكتب الأمالي العربية القديمة كأمالي أبي علي القالي، وأمالي المبرد وغيرهما، وإن اختلف عن الأمالي القديمة في أنه لم يقتصر على الأدب وروايته، بل شمل جميع علوم اللغة العربية من نحو وصرف وعروض وفصاحة وبيان وبديع ومعانٍ، ثم الأدب بفرعيه الشعر والنثر متحدِّثًا عن كل فن على حدة، ولكن على طريقة الاستطراد والتداعي المعروفة في كتب الأمالي القديمة، واستشهاد الشيخ حسين المرصفي ومحفوظاته الضخمة تنمُّ عن ذوق سليم في الاختيار، كما ينمُّ حديثه عن علوم اللغة عن فقه وتعمُّق، وحافظة جبَّارة، فضلًا عن حديثه عن رائدَي البعث الأدبي في عصره محمود سامي البارودي الشاعر وعبد الله فكري الناثر، وإيراده عددًا من قصائد البارودي الشعرية ومقطوعات عبد الله فكري النثرية، والموازنة بينها وبين شعر القدماء ونثرهم.

وعبارة «الوسيلة الأدبية» تُذكرنا على نحو لا يُدفع بعبارة «الأورجانون» التي أُطلقت على مجموعة كتب الفيلسوف أرسططاليس فكلمة أورجانون الإغريقية الأصل، والتي أصبحت في اللغتين الإنجليزية والفرنسية أورجان، معناها أصلًا الأداة أو الوسيلة، وقد اعتُبرت مؤلفات أرسطو وسيلة للمعرفة والتفكير المنطقي بل كانت كلها تعتبر خلال القرون الوسطى المنبع الأول والأخير لكل معرفة ومنطق وتفكير فلسفي، على نحو ما اعتُبرت وسيلة الشيخ حسين المرصفي أداة تعلم اللغة العربية وآدابها ووسيلة إنشاء الشعر والنثر في عصره، وفي الجيل الذي تلا عصره، وعلى هذا الكتاب يلوح أنه قد تتلمذ عدد كبير من رواد النهضة الأدبية الحديثة، سواء من أقام هذه النهضة على أساس بعث التراث العربي القديم والرجوع إليه بدلًا من الزخرفة الهاوية التي كان قد آل إليها الأدب العربي في عصوره الأخيرة، أو من جمع بين التراث العربي القديم والتراث الغربي الوافد.

ولقد سمعنا أستاذنا الدكتور طه حسين يذكر الشيخ حسين المرصفي ووسيلته في الكثير من دروسه بالجامعة أو أحاديثه مع طلبته، ومن طريف ما أذكر في هذا الصدد أن الدكتور طه حسين حدَّثني يومًا عن نادرة أدبية لطيفة ساقتها مناسبة لا أذكرها، قال:

«ويُروى أن عائشة بعثت يومًا بدويًّا ليأتيها بقبس من نار، وبينما كان هذا البدوي يلتمس القبس رأى قافلة تسير إلى مصر فسار معها، ومكث بمصر عامًا ثم عاد، وفي أثناء عودته تذكر القبس ورأى نارًا عن بُعد فعدا إليها، فتعثر ونهض وهو يقول: لعن الله العجلة!»

وبينما كنت أراجع الوسيلة لكتابة هذا المقال وقعت في ص٢٢٨ من المجلد الثاني منها على مثلٍ عربي قديم من بين الأمثال الكثيرة التي أوردها الشيخ، وشرح تاريخها، وهذا المثل يقول: «تعست العجلة» ويتحدث عنه الشيخ؛ قائلًا: «إن أول من قال هذا فند مولى عائشة بنت سعد بن أبي وقاص، وكان أحد المغنِّين المجيدين، وكانت عائشة أرسلته يأتيها بنار، فوجد قومًا يخرجون إلى مصر فخرج معهم، فأقام بها سنة ثم قدم فأخذ نارًا وجاء يعدو فعثر وتبدد الجمر فقال؛ تعست العجلة.» ولربما يكون أستاذنا الدكتور طه قد طالع هذا المثل أو تلك النادرة في إحدى أمهات الكتب العربية القديمة، ولكني مع ذلك فرحت باكتشافي هذا؛ لأنه جاء مؤيدًا لإحساسي بأن الدكتور طه حسين قد تتلمذ بلا ريب على «الوسيلة» واغترف منها الكثير في طرائق تفسيره ونقده اللغوي لنصوص الأدب العربي القديم والحديث شعرًا ونثرًا، وأنا لا أزال أذكر حرص الدكتور طه حسين الشديد على سلامة اللغة وعمق فقهها، حتى لكنت أدهش دائمًا لشدة نقده لأسلوب صديقه الحميم الدكتور محمد حسين هيكل الذي كان يحرص على جزالة المعنى أكثر من حرصه على جزالة اللغة، بل لم يتحرَّج من أن يُضمن قصته الأولى «زينب» الكثير من العبارات العامية أو الدارجة ذات اللون الريفي المحلي الدال والعصير الشعبي الجميل.

ويقول صديقنا الأستاذ محمد عبد الغني حسن في فصل عقده للحديث عن الشيخ حسين المرصفي في كتابه «أعلام من الشرق والغرب»، نقلًا عن تراجم أعيان القرن الثالث عشر للمرحوم أحمد تيمور باشا: «إن الشيخ المرصفي قد رأى الفرصة المناسبة ليتعلم في مدرسة العميان على طريقة بريل اللغة الفرنسية ويتقنها كتابة وقراءة وكلامًا.» ويرجع أن الشيخ حسين ربما يكون قد سبق إلى ذلك بعامل نفسي من الغيرة؛ إذ رأى مواطنه الشيخ زين المرصفي وزميله في عضوية المجلس العالي للتعليم وصيفه في الأزهر يلمُّ ببعض اللغات ويجيد الفرنسية، فآثر أن يتعلم ذلك اللسان الذي كان يغرب به الشيخ زين المرصفي على شيوخ الأزهر، ولكننا مع ذلك لم نحس في كتاب الوسيلة الأدبية الضخم بأي أثر للثقافة الفرنسية وأدائها عند مؤلفها، بل أحسسنا في بعض مواضعها أنه قد كان هناك شك يخامره في أن الأمم الأخرى لها آداب وأشعار كالأدب العربي وشعره، وفضلًا عن ذلك فمن المؤكد أنه لو كان الشيخ حسين قد تعمَّق اللغة الفرنسية حقًّا لاستطاع أن يميز بين علوم اللغة المختلفة، وأن ينزل كلًا منها منزلته على ضوء ما استقرت عليه علوم اللغات الأوروبية بما فيها الفرنسية، فلا ينزل علم البيان وعلم المعاني منزلة علم البديع، ولا يخص علم البديع بذلك القدر الكبير من العناية التي خصَّه بها؛ حيث شغل هذا العلم ما يزيد على مائة صفحة من الجزء الثاني من كتابه، وحيث فصَّص أوجه البديع تفصيصًا لم يدع مجالًا لمستزيد، وكأنه قد أحصى جميع الأوجه التي تحذلق علماء البديع المتأخرون في سردها، والتفريق بينها، مع أنها كلها لا تخرج عن كونها محسنات لفظية عقيمة كانت من الأسباب الرئيسية في تحويل الأدب العربي كله إلى زخارف خاوية من كل معنى عميق أو إحساس صادق، وكأنما الأدب قد استحال إلى مجرد زخارف مثل ما يعرف في الفنون التشكيلية بالأرابيسكا، على حين يعتبر علم البيان دراسة أصلية لوسائل أكيدة من وسائل التصوير الأدبي، بل الخلق الجمالي عن طريق التشبيهات والاستعارات والمجازات؛ أي الصور الأدبية التي تميز الأدب كفن تصويري عن غيره من أنواع الكتابة التقريرية، وعلى حين يعتبر علم المعاني دراسة للتراكيب اللغوية وطرق الأداء والتلوين الفكري والعاطفي، مما يقابل علمي الأسلوب Stylistique والتراكيب Syntaxe في اللغات الأوروبية.

وبالرغم من صدق كل هذه الملاحظات، فإننا لا نستطيع أن نستند إليها لننكر إمكان تعلم الشيخ حسين المرصفي اللغة الفرنسية وإتقانها قراءة وكتابة وكلامًا، وذلك بحكم ما لاحظناه في دراستنا لأدباء العرب المحدثين وأساتذتهم من قلة تأثرهم بآداب اللغات الأوروبية ومناهج دراستها بالرغم من تعلمهم لتلك اللغات، وحصولهم على درجات علمية من جامعاتها؛ وذلك لأن التأثر بتلك الآداب، ومناهج دراستها لا يُتاح إلا لمن يتعمقون دراسة تلك الآداب واستخدام مناهج الدراسة اللغوية عند الغرب، وتكون طبيعتهم من المرونة والتفتُّح بحيث تتمثل تلك الآداب والمناهج، ولا تظل معرفتهم بها كالزَّبد الذي يعلو صفحة المياه، على حين تظل الأغوار راكدة كما كانت.

(٢) منهج البحث

وأيًّا ما كان الأمر فإن الشيخ حسين المرصفي يعتبر بلا شك من روَّاد البعث الأدبي المعاصر، ومن بُناته الأصليين، على نحو ما نحس من قراءتنا لوسيلته الأدبية الضخمة، وبخاصة الفصول التي كتبها عن صناعتَي الشعر والنثر وطريقة تعلمهما، ثم الفصول التي يوازن فيها بين الشعراء والناثرين والمحدثين وأبرز فيها سمات التفوق الأدبي والفني.

ومن أهم ما تحدَّث عنه الشيخ حسين المرصفي في وسيلته المنهج الذي رسمه لمعاصريه وتلاميذه لتجويد إنتاجهم الشعري والنثري والسمو به إلى مرتبة الأدب العربي القديم البالغ الروعة والجمال.

فهو يوصي شُداة الشعر مثلًا بأن يحفظوا أكثر ما يستطيعون من الشعر الجزل القديم مضيفًا — وهنا موضع الجدة والطرافة — أن ينسوا بعد ذلك ما حفظوه حتى لا يظلوا عبيدًا له، وحتى لا ينقلب شعرهم إلى ترقيع من الذاكرة، بدل أن يكون شعر حياة ومعاناة، فيقول ص٤٦٨ وما بعدها من الجزء الثاني من الوسيلة: «اعلم أن لعمل الشعر وإحكام صناعته شروطًا؛ أولها الحفظ من جنسه؛ أي من جنس شعر العرب، حتى تنشأ في النفس ملَكة ينسج على منوالها، ويتخيَّر المحفوظ من الحر النقي الكثير الأساليب، وهذا المحفوظ المختار أقل ما يكفي فيه شاعر من الفحول الإسلاميين مثل ابن أبي ربيعة وكثير وذي الرمة وجرير وأبي نواس وحبيب والبحتري والرضي وأبي فراس وأكثر شعر كتاب الأغاني؛ لأنه جمع شعر أهل الطبقة الإسلامية كله، والمختار من شعر الجاهلية، ومن كان خاليًا من المحفوظ فنظمه قاصر رديء، ولا يعطيه الرونق والحلاوة إلا كثرة المحفوظ، فمن قلَّ حفظه أو عُدم لم يكن له شعر، وإنما هو نظم ساقط، واجتناب الشعر أولى بمن لم يكن له محفوظ، ثم بعد الامتلاء من الحفظ، وشحذ القريحة للنسج على المنوال يُقبل على النظم، بالإكثار منه تستحكم ملَكته وترسخ، وربما يقال: إن من شرطه نسيان ذلك المحفوظ، لتُمحى رسومه الحرفية الظاهرة؛ إذ هي صادرة عن استعمالها بعينها، فإذا نسيها وقد تكيفت النفس بها انتقش الأسلوب فيها، كأنه منوال يأخذ بالنسج عليه لأمثالها من كلمات أخرى.»

وفي هذه العبارات جماع الأسس السليمة للبعث الشعري المعاصر، بل لكل خلق شعري سليم.

فالشعر لا تنمو ملكته في النفس إلا بكثرة مطالعة الجيد منه وحفظه، كلما استطاع الشباب إلى ذلك سبيلًا، وهذه هي الطريقة الوحيدة لتحصيل ملَكة الشعر منذ أقدم العصور حتى اليوم، وفي اللغات كافة.

وبعد حصول هذه الملكة لا بدَّ من الدربة الطويلة على النظم والإكثار منه حتى تستحكم الملكة، كما يقول الشيخ حسين بحق، وفي قوله هذا ما يذكِّرنا برأي مماثل للأديب الناقد الفرنسي الكبير «ديهامل» عندما ذكر في كتابه «دفاع عن الأدب» أن القصَّاص العملاق «أو نوريه دي بلزاك» قد سوَّد مئات الصفحات قبل أن يعثر على بلزاك، فالذي لا شك فيه أن الكتابة عامة والشعر خاصة صناعة يجب أن يحذقها صاحبها بطول المران قبل أن يجرؤ عليها.

وأخيرًا يقرر الشيخ حسين المبدأ الثالث، وإن يكن لسوء الحظ قد استهله بقوله: «ربما يُقال.» وكان الأجدر به أن يحذف حرف الاحتمال من هذا المبدأ؛ وذلك لأنه من الضروري أن يتحلل كل إنتاج شعري أصيل من الذاكرة لكي يصبح شعر حياة، وإن لم يكن هناك بأس من أن تصب هذه الحياة في قوالب كلاسيكية متينة تستقر ملكتها في النفس من إدمان المطالعة، ثم الحفظ والنسيان حتى تصبح المحاكاة مدرسة للأصالة.

وأما ما أغفل الشيخ حسين ذكره بحق، فهو تضييع الأديب الشاب وقته في دارسة دقائق اللغة والعروض العويصة، فمثل هذه الدراسة مهما عمُقت قلَّما تخلق أديبًا وإن كانت عظيمة النفع في النقد سواء أقام بهذا النقد الأديب نفسه، أم الناقد المحترف، لعلنا نحس بأن إغفال الشيخ حسين للحديث عن ضرورة مثل هذه الدراسات بالنسبة للأديب في حديثه عن الطريقة التي كون بها صديقه العظيم محمود سامي البارودي باعث الشعر العربي المعاصر؛ حيث قال عنه: «هذا الأمير الجليل، ذو الشرف الأصيل، والطبع البالغ نقاؤه، والذهن المتناهي ذكاؤه، محمود سامي باشا البارودي، لم يقرأ كتابًا في فن من فنون العربية، غير أنه لما بلغ سن التعقيل، وجد من طبعه ميلًا إلى قراءة الشعر وعمله؛ فكان يستمع إلى بعض من له دراية وهو يقرأ بعض الدواوين أو يقرأ بحضرته حتى تصوَّر في برهة يسيرة هيئات التراكيب العربية ومواقع المرفوعات منها والمنصوبات والمخفوضات حسبما تقتضيه المعاني والتعلقات المختلفة، فصار يقرأ ولا يكاد يلحن، وسمعته مرة يسكن ياء المنقوص والفعل المعتل بها المنصوبين، فقلت له في ذلك، فقال: هو كذا في قول فلان وأنشد شعرًا لبعض العرب، فقلت: تلك ضرورة، وقال علماء العربية: إنها غير شاذة، ثم استقل بقراءة دواوين مشاهير الشعراء من العرب وغيرهم حتى حفظ الكثير منها دون كلفة، واستثبت جميع معانيها ناقدًا شريفها من خسيسها، واقفًا على صوابها وخطئها، مدركًا ما كان ينبغي وفق مقام الكلام وما لا ينبغي، ثم جاء من صنعة الشعر اللائق بالأمراء، كأبي فراس والشريف الرضي والطغرائي …»

وهذا هو المنهج السليم الذي اهتدى إليه محمود سامي البارودي بفطرته السليمة، وسجَّله الشيخ حسين في صدق وإخلاص، فقراءة النصوص الجيدة، وحفظ خيارها هما — كما قلنا — الوسيلة الفعَّالة لإتقان صناعة الأدب، بل الوسيلة التي لا يمكن أن تُغني عنها أية دراسة لغوية أو نقدية، كما أنها كانت الوسيلة التي مكنت محمود سامي البارودي في شعره، ونبض حياته الخاصة والعامة في ثناياه، ولا أدل على ذلك من مجموعة الأشعار القيمة التي خلَّفها لنا البارودي في مختاراته التي تذكِّر بمختارات أبي تمام في ديوان «الحماسة».

واستنادًا إلى هذه المبادئ التي أثبتها أو أغفلها الشيخ حسين في وسيلته يمكن القول بأنه قد وجه الأدب والأدباء الوجهة الصحيحة في بعث الأدب العربي الناصع عامة والشعر العربي خاصة، باعتبار أن الشعر هو الذي يكون الجانب الأكبر من تراث الأدب العربي القديم.

(٣) فن الموازنة

وذوق الشيخ حسين المرصفي الأدبي السليم نستطيع أن نتبيَّنه في طريقة موازنته بين الأدباء والشعراء الذين يورد نثرهم أو شعرهم، ويعقد فيه الموازنات، وبالرغم من صداقته الحارة للأديبين الكبيرين عبد الله باشا فكري ومحمود سامي البارودي باشا، فإنه لم يحتمل قط حججًا للإشادة بأدبهما الذي كان جميع المعاصرين يشهدون لهما بالتفوق فيه، ويرون في أحدهما رائدًا للنثر والآخر رائدًا للشعر، ولعلنا نستطيع أن نتبيَّن صدق هذه الحقيقة من النظر في موازنته بين معارضات محمود سامي البارودي وقصائد الفحول القدماء التي عارضها ذلك الشاعر الفذ على نحو ما هو مفصل في ص٤٧٤ وما بعدها من الجزء الثاني من الوسيلة، فهو مثلًا يورد القصيدة التي مدح فيها أبو نواس الخصيب بن عبد الحميد العجمي أمير مصر من طرف الرشيد وكان قد قصده من بغداد، ومطلعها:

أجارةَ بيتينا أبوكِ غيورُ
وميسورُ ما يرجي لديكِ عسيرُ

ثم يأخذ في شرحها ونقد ما يراه دارجًا مطروقًا من معانيها، مثل الرحلة لكسب المال إرضاءً للحبيبة؛ حيث يورد عددًا من الأبيات التي تداول فيها الشعراء المعنى نفسه مثل قول أحدهم:

دعيني أطوفُ في البلاد لعلَّني
أصادفُ حرًّا أو أموت فأُعذرا

ويقول الآخر:

سأطلبُ بعد الدارِ عنكم لتقربوا
وتسكبُ عيناي الدموعَ لتجمدا

أو الأبيات التي يكثر فيها اللفظ ويقل المعنى، مثل قول أبي نواس في هذه القصيدة:

فما جازَه جودٌ ولا حلَّ دونَه
ولكن يصيرُ الجودُ حيث يصيرُ

فالشيخ حسين يرى بحق أن هذا البيت من الشعر الذي كثر لفظه وقلَّ معناه؛ إذ معناه، أنه لا يفارقه الجود، ويُرجح الشيخ فضلًا عن ذلك أن أبا نواس قد أخذ هذا المعنى عن الشنفرى، فأساء الأخذ؛ لأنه استند إلى قياس تضمَّن فارقًا كبيرًا بين «الجود» في قول أبي نواس «والحزم في قول الشنفرى»:

ظاعنٌ بالحزمِ حتى إذا ما
حلَّ، حلَّ الحزمُ حيث يحلُّ

وهكذا يستمر الشيخ حسين في شرح قصيدة أبي نواس ونقدها حتى ينتهي منها، ليورد بعد ذلك قصيدة «الأمير» التي في وزن قصيدة أبي نواس وعلى رويها؛ أي التي تعتبر معارضة لها، ومطلعها:

تلاهيتُ إلا ما يُجنُّ ضميرُ
وداريتُ إلا ما ينم زفيرُ

حتى ينتهي من القصيدة ثم يقول في تقريظها:

«انظر هداك الله لأبيات هذه القصيدة فأفردها بيتًا بيتًا تجد ظروف جواهر أفردت كل جوهرة لنفاستها بظرف، ثم اجمعها وانظر جمال السياق وحُسن النسق؛ فإنك لا تجد بيتًا يصح أن يُقدَّم أو يُؤخَّر، ولا بيتين يمكن أن يكون بينهما ثالث، وأكِلكَ إلى سلامة ذوقك وعلو همتك، إن كنت من أهل الرغبة في الاستكمال، لتتبع هذه الطريقة المثلى».

وهذه العبارات وإن تكن تقريظًا خالصًا إلا أننا نحس فيها بشيء يعتبر جديدًا كل الجدة في عصر الشيخ حسين، وهذا الشيء هو حديثه عن نسق القصيدة وأنك لا تجد بيتًا يصح أن يُقدم أو يُؤخر، ولا بيتين يمكن أن يكون بينهما ثالث، فمثل هذا النقد لم نسمع به في نقدنا الأدبي المعاصر إلا بعد ذلك بما يقرب من نصف قرن عندما رأينا الأستاذين العقاد والمازني يطالبان متأثرَين بالشعر الغربي بوحدة القصيدة العضوية وتنسيق تصميمها، حتى رأينا الأستاذ العقاد ينقد قصيدة شوقي في رثاء الزعيم مصطفى كامل نقدًا لاذعًا، ويستخدم في هذا النقد تفكك القصيدة، وانعدام النسق فيها، بحيث استطاع الناقد أن يُقدم ويُؤخر كيفما شاء من أبيات القصيدة، دون أن يضطرب فيها معنًى أو إحساس أو صورة.

(٤) النقد التقليدي

ومع ذلك فنحن لا نستطيع أن نزعم أن الشيخ حسين المرصفي قد جدَّد أصول النقد الأدبي على نحو ما فعل صاحبا «الديوان»، وصاحب «الغربال» فيما بعد، فالشيخ حسين نفسه لا يزال يقرر أن للبيت مثلًا وحدة شعرية مستقلة بذاتها؛ حيث يقول في مستهل حديثه عن الشعر: «إنه كلام مفصل قطعًا متساوية في الوزن متحدة في الحرف الأخير من كل قطعة، وتُسمى كل قطعة من هذه القطعات عندهم بيتًا، ويُسمى الحرف الأخير الذي تتَّفق فيه رويًّا وقافية، وينفرد كل بيت بإفادته في تركيبه حتى كأنه كلام وحده مستقل عما قبله وما بعده، وإذا أُفرد كان تامًّا في بابه، في مدح أو تشبيب أو رثاء، فيحرص الشاعر على إعطاء ذلك البيت ما يستقل في إفادته، ثم يستأنف في البيت الآخر كلامًا آخر كذلك، ويستطرد للخروج من فن إلى فن، ومن مقصود إلى مقصود، بأن يوطئ المقصود الأول ومعانيه إلى أن يناسب المقصود الثاني، ويبعد الكلام عن التنافر، كما يستطرد من التشبيب إلى المدح، ومن وصف البيداء والطلول إلى وصف الركاب أو الخيل أو الطيف، ومن وصف الممدوح إلى وصف قومه وعساكره، ومن التفجع والعزاء في الرثاء إلى التأثر وأمثال ذلك.»

ومن البيِّن أن مثل هذا المنهج النقدي لا يخرج في شيء عن منهج النقد التقليدي عند العرب هو ما يعتبر اليوم قديمًا باليًا بالنسبة إلينا، بعد أن اتَّسعت آفاقنا النقدية، وأصبحنا نبحث في فلسفة الأدب وأهدافه ومصادره ووظائفه في الحياة وفي خصائصه الجمالية ومبادئه الفنية، وأصالته المتميزة.

خاتمة

ومع كل ذلك فإننا لا نستطيع أن نغفل عند حديثنا عن النقد والنقاد في نهضتنا الأدبية المعاصرة مثل هذا الرائد الشيخ حسين المرصفي الذي بعث النقد التقليدي وساعد في حركة البعث الأدبي كله وطرائفه مساعدة فعالة، بل اهتدى بفطرته السليمة إلى بعض ما تردَّى فيه بعض نقاد العرب القدماء مثل قدامة بن جعفر عندما عرَّف الشعر في كتابه نقد الشعر؛ بقوله: «إنه الكلام الموزون المقفَّى.» وجاراه في هذا التعريف جميع من خلفه، على حين نرى الشيخ المرصفي بفطرته الأدبية السليمة يقول: «وقول العروضيين في حدِّ الشعر إنه الكلام الموزون المقفَّى ليس بحدِّ لهذا الشعر باعتبار ما فيه من الإعراب والبلاغة والوزن والقوالب الخاصة، فلا جرم أن حدهم ذلك لا يصلح له عندنا، فلا بدَّ من تعريف يعطينا حقيقته من هذه الحيثية، فنقول: إن الشعر هو الكلام البليغ، المبني على الاستعارة والأوصاف، المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والروي، مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده، الجاري على أساليب العرب المخصوصة به.»

ويكفيه فخرًا في هذا التعريف أنه فطن إلى خاصية أساسية تميز الأدب عامة والشعر خاصة عن غيره من الكتابات، وهي التصوير البياني بدلًا من التقرير الجاف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤