ميخائيل نعيمة والغربال

أصدرت «المطبعة العصرية» أول طبعة من كتاب «الغربال» لميخائيل نعيمة في سنة ١٩٢٣م، وقد صدرت منه أخيرًا الطبعة السادسة مما يدل على صلابة هذا الكتاب وقوة مقاومته لطوفان الزمن؛ فهو لا يزال يُقرأ، ولا يزال يؤثر في الأدباء والنقاد والمفكرين.

وكتاب «الغربال» لم يُؤلفه الأستاذ ميخائيل نعيمة دفعة واحدة وفقًا لمنهج مرسوم، وإنما هو مجموعة من المقالات النقدية التي نشرها المؤلف في الصحف أو كتبها كمقدمات لبعض مؤلفاته مثل مقاله عن «الرواية التمثيلية العربية» فهي مقدمة لمسرحيته المسماة «الآباء والبنون»، وليس في هذا ما ينقص من قيمة الكتاب وأهميته في شيء؛ فإن عددًا كبيرًا من روائع إنتاجنا الأدبي المعاصر ليس إلا مجموعات من المقالات التي نشرها رواد أدبنا ونقدنا المعاصر في الصحف والمجلات من أمثال «في أوقات الفراغ» للدكتور محمد حسين هيكل، و«الفصول» و«ساعات بين الكتب» و«مطالعات في الكتب والحياة» … إلخ للأستاذ عباس محمود العقاد، «حصاد الهشيم» و«قبض الريح» … إلخ للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني، و«حديث الأربعاء» بأجزائه الثلاثة … إلخ للدكتور طه حسين، و«في الميزان الجديد» و«نماذج بشرية» و«قضايا جديدة في أدبنا الحديث» … إلخ للدكتور محمد مندور، وكذلك الأمر في عدد من أمهات كتب النقد العالمية مثل «أحاديث الإثنين» بأجزائها الواحد والعشرين لناقد فرنسا الأكبر سانت بيف، ثم «أحاديث الإثنين الجديدة» له أيضًا، و«انطباعات المسرح» للناقد المسرحي الفرنسي الكبير جيل لميتر، و«أربعون عامًا في المسرح»، للناقد الفرنسي الآخر فرنسيس سارسي، و«فن المسرح في هامبورج» للناقد الألماني الكبير ليسنج، وغيرها من المؤلفات الضخمة في آداب الأمم المختلفة.

وإذا ذكرنا أن الأستاذ ميخائيل نعيمة قد وُلد على الأرجح بمدينة بسكنتا بجبل لبنان في سنة ١٨٨٩م، يكون معنى ذلك أنه قد كتب كل هذه المقالات التي جمعها كتاب «الغربال»، ولما يكد يتجاوز الثلاثين من عمره، ومع ذلك فباستطاعتنا أن نؤكد أن ميخائيل نعيمة كانت قد توافرت لديه عندئذٍ من الثقافة والخبرة بالحياة ما مكَّنه من أن يستقر في فلسفة نهائية في وظيفة الأدب، وفي منهج النقد مع قوة الحق بل فتوة كان من الطبيعي أن تضعف بعد ذلك بتقدم المؤلف في السن وسيطرة روح المسالمة، بل روح التصوف على نفسه، حتى انتهى إلى ما هو عليه اليوم في شيخوخته من تسامح ومحبة واستجمام بل عُزلة، تثير في نفوسنا اليوم أعمق التأمل عندما نطالع في غرباله تلك الحملات القوية العنيفة على أنصار الأدب التقليدي ومن يُسمِّيهم ضفادع الأدب الذين كانوا ولا يزالون أحيانًا يواصلون النقيق كلما عثروا بتجديد في اللغة ووسائل تعبيرها، بحيث نستطيع أن نؤكد أنه إذا كان ميخائيل نعيمة قد عاد بعد «الغربال» إلى النقد الأدبي، فإننا لا نظن أنه قد أتى بجديد، فضلًا عن تأكدنا من أن روح التسامح لا بدَّ أن تكون قد أضعفت من عنف تمسكه بما يعتبره الحق والخير والجمال.

وأما أساس حكمنا على ميخائيل نعيمة بأنه كان قد استكمل ثقافته وخبرته بالحياة عندما كتب مقالاته النقدية التي يضمها «الغربال»؛ فتجده في تاريخ حياته الحافل منذ خطواته الأولى، بالتجارب الثقافية وبخبرات الحياة؛ ففي الثامنة عشرة من عمره ترك ميخائيل نعيمة مسقط رأسه في بسكنتا في مدينة الناصرة بفلسطين؛ حيث التحق بمدرسة المعلمين الروسية، وبعد أربع سنوات اختارته إدارة المدرسة لتحصيل العلم على نفقتها في روسيا، فسافر إلى «بلوتافا»؛ حيث درس في كليتها خمس سنوات، توجَّه بعدها إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام ١٩١١م ونزل بولاية واشنطن؛ حيث يُقيم أخواه ودرس الحقوق والآداب في جامعتها إلى عام ١٩١٦م وجعل ينشر في مجلة «الفنون» مقالات نقدية وقصصًا، ثم راسله صاحب المجلة نسيب عريضة ودعاه بإصرار للقدوم إلى نيويورك، وهنا تعرَّف إلى الأدباء الذين تكوَّنت منهم «الرابطة القلمية»، وفي عام ١٩١٨م انخرط في الجيش الأمريكي وذهب إلى ساحة الحرب في فرنسا وانتهز فرصة وجوده في أوروبا ليستمع إلى سلاسل من المحاضرات في فرنسا وبلجيكا، وبعد انتهاء الحرب ترك الجندية عام ١٩١٩م وعاد إلى نيويورك وأقام فيها ثلاثة عشر عامًا أسهم خلالها في نشاط الرابطة الأدبي على حين كان يشتغل موظفًا في متجر براتب متواضع، ومن طريف ما يُذكر ما علمته منه شخصيًّا من أنه قد كتب قصيدة «أخي» الشهيرة وهو جالس في المتجر يُحصِّل الأثمان من المشترين، وبعد أن تُوفي جبران غادر ميخائيل نعيمة المهجر حاملًا معه كُتبه المخطوطة ليعود إلى لبنان عام ١٩٣٢م؛ حيث لا يزال يُقيم في قريته الحبيبة بسكنتا، وكان من بين ما حمل من مخطوطات كتبها وهو في المهجر ديوانه الشعري «همس الجفون» ثم قصصه وخواطره التي تضمها كتبه «كان ما كان» و«المراحل» و«مذكرات الأرقش»، وأما كتبه الأخرى مثل «زاد المعاد» و«كرم على درب» و«البيادر» و«لقاء» و«الأوثان» و«جبران خليل جبران» و«في مهب الريح» و«صوت العالم» و«النور والديجور» و«مرداد» و«دروب» و«أكابر» وكتابه الأخير «أبعد من موسكو ومن واشنطن»، فقد كتبها بعد عودته من المهجر.

وأما الكتب التي طُبعت له وهو لا يزال في المهجر فلا تكاد تعدو مسرحية «الآباء والبنون» سنة ١٩١٨م ثم كتاب «الغربال» الذي سنتناوله الآن بالحديث.

وكتاب «الغربال» يضم إحدى وعشرين مقالة منها ما خصَّصه للهجوم العنيف على الأدب العربي التقليدي والتزمُّت، وعلى التحجر اللغوي مثل مقالي «الحباحب» و«نقيق الضفادع»، ثم على العروض التقليدي في مقال «الزحافات والعلل»، ومنها ما تناول فيه بالنقد التطبيقي بعض المؤلفات الأدبية التي كانت قد ظهرت عندئذٍ مثل مقال عن «القرويات» هو ديوان لرشيد سليم الخوري طُبع بمطبعة مجلة الكرمة في سان باولو بالبرازيل في أمريكا الجنوبية سنة ١٩٢٢م، وآخر عن «الريحاني في عالم الشعر»، وثالث عن ديوان «السابق» الذي نشره جبران خليل جبران بالإنجليزية في سنة ١٩٢٠م، ورابع عن قصة «ابتسامات ودموع» التي عرَّبتها الآنسة مي عن كتاب «الحب الألماني» لماكس مولر، ومحاضرة للآنسة مي أيضًا في الجامعة المصرية الأهلية بدعوة من جمعية مصر الفتاة عن «غاية الحياة»، وخامس عن ديوان «أغاني الصبا» الذي نشره محمد الشريقي سنة ١٩٢١م، وسادس عن كتاب النبوغ الذي صدر لمؤلفه لبيب الرياشي عام ١٩٢١م، وسابع عن ترجمة الشاعر خليل مطران لمسرحية «تاجر البندقية» لشكسبير وقد صدرت عن دار الهلال سنة ١٩٢٢م، وثامن عن الجزأين اللذين صدرا من كتاب «الديوان» للأستاذين العقاد والمازني، وتاسع عن «العواصف» لجبران خليل جبران، وعاشر عن كتاب «الفصول» الذي صدر عن مطبعة السعادة سنة ١٩٢٢م للأستاذ عباس محمود العقاد، وأخيرًا مقال عن ديوان كان لا يزال مخطوطًا للشاعر نسيب عريضة وهو ديوان «الأرواح الحائرة»، ثم مقال عنيف بعنوان «الدرة الشوقية» وفيه ينقد نقدًا لاذعًا قصيدة طويلة كانت مجلة الهلال قد نشرتها في عدد أبريل سنة ١٩٢٢م للشاعر أحمد شوقي بعد أن أنشدها في احتفال أُقيم في دار الأوبرا السلطانية بمناسبة إنشاء جمعية تعاون لمساعدة الفقراء في القطر المصري.

وبعد كل ذلك نذكر مقالاته عن النقد البنَّاء، وهي المقالات التي يتحدث فيها عن «الغربلة» و«محور الأدب» و«الرواية التمثيلية العربية» و«المقاييس الأدبية» و«الشعر والشاعر» ثم مقال قصير يدعو إلى ضرورة الترجمة عن الآداب الأجنبية بعنوان «فلنترجم».

(١) الغربال والديوان

وهناك مسألة تاريخية هامة يجب أن نفصِل فيها أولًا؛ وهي ظهور كتابَي «الديوان» و«الغربال» في وقتين بالغي التقارب؛ إذ ظهر الديوان في سنة ١٩٢١م، وظهر الغربال في سنة ١٩٢٣م، والكتابان يرميان إلى هدف واحد هو الهجوم العنيف على مدرسة الأدب التقليدي أي مدرسة البعث، والدعوة إلى أدب جديد، مما قد يوحي بتأثير أحدهما على الآخر، ولكن الاستقراء التاريخي السليم يؤكد أن هذا التأثر المتبادل لم يحدث، وقد أكد الأستاذان نعيمة والعقاد لنا شخصيًّا عدم حدوث هذا التأثر، وقررا أن كلًّا من الاتجاهين قد تولَّد بطريقة تلقائية ونتيجة لظروف متشابهة هي اتصال الجانبين المهجري والشرقي بالآداب والثقافات الأوروبية، ثم إحساس كل من الجانبين بأن اتجاهات الأدب العربي التقليدي لم تعد تكفي حاجات العصر المتطورة، وإذا بكل منهما يسير في خط موازٍ للآخر دون سبق التقاء، وقد اكتفى كل منهما بأن يُحيِّي الآخر تحية حارة ويشد على يده على بعد المزار؛ إذ حدَّثني الأديبان نعيمة والعقاد أنهما لم يسبق لهما التقاء شخصي إلا في مؤتمر الأدباء العرب الذي انعقد في القاهرة في ديسمبر سنة ١٩٥٧م.

وأما التحية التي تبادلها الجانبان فموجودة في كتاب الغربال نفسه؛ حيث كتب الأستاذ ميخائيل نعيمة عن «الديوان» مقالًا حماسيًّا حارًّا استهله بقوله: «ألا بارك الله في مصر؛ فما كل ما تنثر ثرثرة، ولا كل ما تنظمه بهرجة، وقد كنت أحسبها وثنية تعبد زخرف الكلام وتؤلِّه رصف القوافي، فكم زمَّرت لبهلوان، وطبَّلت لمشعوذ «وطيبت» لسكران! غير أني عرفت اليوم بالحس ما كنت أعرفه أمس بالرجاء، عرفت أن مصر مصران لا واحدة: مصر ترى البعوضة جملًا والمدرة جبلًا، ومصر ترى البعوضة بعوضة والمدرة مدرة، ومصر لها ميزان بكفة واحدة ومقياس بطرف واحد، ومصر لها ميزان بكفتين ومقياس بطرفين، فهي تفصل بين الرطل والدرهم، وتميز بين الفتر والفرسخ، إن مصر هذه — مصر الثانية — قد قامت اليوم تناقش الأولى الحساب؛ فانتصبت وإياها أمام محكمة الحياة وسلاحها الوجدان الحي ومحكها الحق؛ لأنها تقول لها: «إما أن تثبتي لي حقك باعتباري فأسكت، أو أريك كل ما فيك من زيف فتسكتين.» وبعبارة أخرى إن مصر تُصفِّي اليوم حسابها مع ماضيها.»

وقد رد الأستاذ العقاد هذه التحية بمثلها في مقدمة كتب الغربال، وفيها يقول: «لو لم يكتب قلم نعيمة هذه الآراء التي تتمثل للقارئ في هذه الصفحات لوجب أن أكتبها أنا، فأما وقد كتبها وحمل عبئها فقد وجب على الأقل أن أكتب مقدمتها.» ثم يقول عن مضمون الكتاب: «والحق أنني قد وقعت من قراءة هذه الصفحات على قرابة صحيحة وجوار ملاصق في الحي الذي أسكنه في هذه الدنيا الأدبية الجديدة. رأيت قلمًا جاهدًا في طلب الشعر الصحيح، شعر الحياة لا شعر الزحَّافات والعِلل، ورأيته ينعى على الشعر الرث الذي تركنا بلا شعر ولم يبقَ «في حياتنا ما ليس منظومًا سوى عواطفنا وأفكارنا» ورأيته يريد من الشاعر أن يكون نبيًّا ويُنكر أن يكون بهلوانًا، ويريد من الشعر أن يكون إلهامًا وينكر أن يكون «ضربًا من الحَجْل والجمز، والمشي على الأسلاك، والانتصاب على الرأس، ورفع الأثقال بالأسنان، ولف الرجلين حول العنق، إلى ما هنالك من الحركات التي يجيدها القِردة أيما إجادة».»

(٢) المنهج النقدي

وأهم ما يجب أن نعرض له هو البحث عما إذا كان ميخائيل قد سار على منهج نقدي معيَّن، ومن مقاله عن «الغربلة» نتبيَّن أن منهج نعيمة النقدي هو المنهج التأثري الذاتي، فهو يقول: «إن لكلِّ ناقد غرباله، لكلٍّ موازينه ومقاييسه، وهذه الموازين والمقاييس ليست مسجلة لا في السماء ولا في الأرض، ولا قوة تدعمها وتظهرها قيمة صادقة سوى قوة الناقد نفسه، وقوة الناقد هي ما يبطن به سطوره من الإخلاص في النية والمحبة لمهنته والغيرة على موضوعه، ودقة الذوق ورقة الشعور وتيقُّظ الفكر، وما أوتيه بعد ذلك من مقدرة البيان لإيصال ما يقوله إلى عقل القارئ وقلبه، فالناقد الذي توفَّرت له مثل هذه الصفات لا يعدم أناسًا ينضوون تحت لوائه ويعملون بمشيئته فيستحبون ما يحب، ويستقبحون ما يقبح وهو وراء منضدته سلطان تأتمر بأمره وتتمذهب بمذهبه، وتتحلى بحلاه وتتذوَّق بذوقه ألوف من الناس إذا طرق سبيلًا سلكوه وإذا صب نقمته على صنم حطموه، وإذا أقام لهم إلهًا عبدوه وخرُّوا له وسبَّحوه.

غير أن الناقدين طبقات كما أن الشعراء والكُتاب طبقات، فما يقال في الواحد منهم لا يصلح أن يقال في كلها، إلا أن هناك خُلَّة لا يكون الناقد ناقدًا إذا تجرَّد منها، وهي قوة التمييز الفطرية، تلك القوة التي توجد لنفسها قواعد ولا توجدها القواعد، والتي تبتدع لنفسها مقاييس وموازين ولا تبتدعها المقاييس والموازين؛ فالناقد الذي ينقد حسب القواعد التي وضعها سواه لا ينفع نفسه ولا منقوده ولا الأدب بشيء؛ إذ لو كانت لنا قواعد ثابتة لتمييز الجميل من الشنيع والصحيح من الفاسد لما كان من حاجة إلى النقد والناقدين، بل كان من السهل على كل قارئ أن يأخذ تلك القواعد ويطبق عليها ما يقرؤه، لكننا في حاجة إلى الناقدين؛ لأن أذواق السواد الأعظم منا مشوهة بخرافات رضعناها من ثدي أمسنا، وترهات اقتبلناها من كف يومنا، فالناقد الذي يقدر أن ينتشلنا من خرافات أمسنا وترهات يومنا والذي يضع لنا محجة لندركها في الغد هو الرائد الذي سنتبعه والحادي الذي سنسير على حدوه.»

ومن الواضح أن مثل هذا المنهج النقدي لا يكفي بالتفسير والتقييم، بل من الممكن أن ينتهي إلى خلق أدبي مبتكر على نحوِ ما يؤكده نعيمة في المقال نفسه بقوله: «إن الناقد مبدع عندما يرفع النقاب في أثر ينقده عن جوهر لم يهتدِ إليه أحد حتى صاحب الأثر نفسه، فكم سألت من هذا القبيل: ليت شعري هل درى شكسبير يوم خط روايته وأغانيه أنها ستكون خالدة؟ أم تراه وضعها يقضي بها حاجة وقتية ظن أنها ماتت بموته؟ إنني من الذين يرجحون الرأي الثاني لذلك يُجلُّون الناقدين الذين «اكتشفوا» شكسبير بعد موته إجلالهم للشاعر نفسه؛ إذ لولاهم ما كان لنا شكسبير. وفي اعتقادي أن الروح تتمكن من اللحاق بروح كبيرة في كل نزعاتها وتجوالها فتسلك مسالكها وتستوحي موحياتها وتصعد وتهبط صعودها وهبوطها لروح كبيرة مثلها، ثم إن الناقد مولِّد؛ لأنه فيما ينقد ليس في الواقع إلا كاشفًا نفسه؛ فهو إذا استحسن أمرًا لا يستحسنه لأنه حسن في ذاته، بل لأنه ينطبق على آرائه في الحسن، وكذلك إذا استهجن أمرًا فلعدم انطباق ذلك الأمر على مقاييسه الفنية؛ فللناقد آراؤه في الجمال والحق، وهذه الآراء هي نبات ساعات جهاده الروحي ورصيد حساباته الدائمة مع نفسه تجاه الحياة ومعانيها.»

(٣) المقاييس الأدبية

المنهج الذي يرتضيه نعيمة إذن هو المنهج التأثري الذاتي؛ فلكل ناقد غرباله الذي يتفاوت دقةً واختلالًا، ومع ذلك فهناك مقاييس عامة يستطيع الناقد أن يعثر عليها إذا ما تأمل وظيفة الأدب في الحياة، والحاجات الإنسانية التي يجب أن يشبعها، وهذه الحاجات هي ما أخذ ميخائيل نعيمة يبحث عنه في مقاله عن «المقاييس الأدبية».

ولو أننا عدنا إلى تلك الفترة التاريخية التي كتب فيها نعيمة كتابه «الغربال» لنحاول أن نتحسس الحاجات التي كان العرب يطلبون إلى الآداب والفنون عندئذٍ إشباعها؛ لوجدنا أن تلك الحاجات إنما كانت تنبع عن الذات الفردية التي أخذت تنفتح وتسعى إلى تأكيد وجودها في زمن أخذ الوعي القومي ينتشر فيه، فيعكس على الأفراد إحساسًا قويًّا بذواتهم ورغبة عارمة في تأكيد تلك الذوات، وبخاصة بعد أن اطلعوا على الآداب الغربية وعلى الشعر الغربي بالذات، وأحسوا فيه بنبض قائليه، حتى لترى الاتجاه الرومانسي عند الغرب يستهوي أفئدتهم المتعطشة إلى الحرية وإلى التعبير عن الذات، مما جعل الدعوة إلى التجديد في الشرق العربي وفي المهاجر تلتقي تلقائيًّا عن دعوة واحدة هي الدعوة إلى شعر الوجدان الذاتي.

واستطاع الناقد الحساس ميخائيل نعيمة أن يتَّخذ من روحه بؤرة تتجمع فيها حاجات عصره الفنية الجديدة واتخذ من هذه الحاجات مقاييس عامة للأدب، ولخَّص تلك الحاجات في أربع:
  • أولًا: حاجتنا إلى الإفصاح عن كل ما ينتابنا من العوامل النفسية من رجاء ويأس، وفوز وفشل، وإيمان وشك، وحب وكره، ولذة وألم، وحزن وفرح، وخوف وطمأنينة، وكل ما يتراوح بين أقصى هذه العوامل وأدناها من الانفعالات والتأثيرات.
  • ثانيًا: حاجتنا إلى نور نهتدي به في الحياة، وليس من نور نهتدي به غير نور الحقيقة، حقيقة ما في نفسنا وحقيقة ما في العالم من حولنا، فنحن وإن اختلف فهمنا عن الحقيقة لسنا ننكر أن في الحياة ما كان حقيقة في عهد آدم ولا يزال حقيقة حتى اليوم وسيبقى حقيقة حتى آخر الدهر.
  • ثالثًا: حاجتنا إلى الجميل في كل شيء؛ ففي الروح عطش لا ينطفئ إلى الجمال وكل ما فيه مظهر من مظاهر الجمال، فإنا وإن تضاربت أذواقنا فيما نحسبه جميلًا وما نحسبه قبيحًا لا يمكننا التعامي عن أن في الحياة جمالًا مطلقًا لا يختلف فيه ذوقان.
  • رابعًا: حاجتنا إلى الموسيقى؛ ففي الروح ميل عجيب إلى الأصوات والألحان لا ندرك كنهه؛ فهي تهتز لقصف الرعد ولخرير الماء ولحفيف الأوراق، لكنها تنكمش من الأصوات المتنافرة وتأنس بما تآلف منها.

ثم يُظهر ميخائيل نعيمة طبيعة هذه المقاييس وتفاوتها بتفاوت الأفراد في الدرجة لا في الجوهر؛ فيقول:

«هذه بعض حاجاتنا الروحية إن لم تكن أهمها، وهي معنا في كل حين، فهي وإن تنوعت في الناس بتنوع الأفراد والشعوب والأزمنة والأقطار لا تتنوع بجوهرها بل بدرجات شدتها وقوة شعورنا بها، وهي المقاييس الثابتة التي يجب أن نقيس بها الأدب فتكون قيمته بمقدار ما يسد من بعض هذه الحاجات أو كلها، ويكون أثمنه أجلاه بيانًا وأغناه حقيقة وأطلاه رونقًا وأشجاه وقعًا.»

ومن البيِّن أن كل هذه المقاييس إنما تنبع من الذات الفردية، وهي تستند إلى حاجات لا تُرضي جميع المذاهب الأدبية التي تصطرع اليوم في العالم، فمن تلك المذاهب من يريد من الأدب أن يفصح عن روح الجماعة ومطالبها ومشكلاتها لا عن الذوات الفردية، ومنها من لم يعد يقتنع من الأدب بإشباع حاجات روحية بل يطالبه بأن يهدي الروح ذاتها، عن طريق الإيحاء، ويخرجها من الذاتية إلى الغيرية، ومن الأثرة إلى الإيثار، ومن الشكوى والتشاؤم إلى الأمل والتفاؤل، ومن الخوف واليأس إلى الثقة والاستبشار، ولكننا مع ذلك لا يمكن أن نتنكر لحقيقة هذه الحاجات التي يدعونا صاحب الغربال بحق إلى أن نتخذ منها مقاييس للأدب، وقد تدخلها النسبية ولكنها مع ذلك لا يمكن أن تنفصل عن الحياة التي لا نعرف لها في النهاية من بؤر غير الذوات الفردية، التي أصبحت النوازع المنبعثة من طبيعتها تختلط وتنصهر مع النوازع التي تنعكس فيها من المجتمع.

ولا أدل على عمق ما في هذه المقاييس من نسبية من أن نلاحظ أن الداعي إليها من أنصار المنهج التأثري الذاتي النقد لا المنهج الموضوعي شبه العلمي، وبالفعل نرى ميخائيل نعيمة يهاجم عروض الخليل بن أحمد في مقاله عن «الزحَّافات والعِلل» هجومًا عنيفًا ويتهمه بأنه قد حوَّل الشعر العربي إلى نظم لا ينبض بفكر أو حياة، مع أنه من المؤكد أن العروض ليس هو المسئول عن ذلك؛ فالعروض ما هو إلا مجموعة من القواعد التي تحدد وتصحح القوالب الموسيقية للشعر، ونحن في حاجة إلى الموسيقى كما يقول ميخائيل نعيمة نفسه، وقد لا ترضينا هذه القوالب أو تلك، ولكننا لا نستطيع أن نغفل العنصر الموسيقي في الشعر، لا لأنه يطربنا فحسب، بل لأنه وسيلة من وسائل الأداء لا تقل أهمية عن الألفاظ والتراكيب، بل قل تفوقها؛ لأن النغم كما يقول ابن عبد ربه: «فضل في المنطق لم يقدر اللسان على استخراجه فاستخرجته الطبيعة بالألحان على الترجيع لا على التقطيع.» أي أن النغم وسيلة للتعبير عن ظلال المعاني وألوانها النفسية المتباينة من حزن إلى فرح، ومن غِبطة وتوثب إلى كآبة وانقباض، وإذا كان بعض أدباء المهجر قد ثاروا على عروض الشعر العربي، ونادوا بالشعر المنثور وجاراهم في ذلك أدباء المشرق من أمثلة الآنسة مي والأستاذ حسين عفيف فإن هذه الدعوة لم يطل عمرها؛ وذلك لأنها على الأقل لم تُشبع حاجتنا إلى الموسيقى حتى رأينا شباب شعرائنا المعاصرين يعدلون عنها إلى محاولة جديدة لم يفصل فيها الزمن بعد، وهي محاولة اتخاذ التفعيلة وحدة موسيقية بدلًا من البيت، وعلى العكس من ذلك نعتقد أن التحلُّل من القافية الموحدة أمر استطاع ذوقنا العربي أن يقبله، بل استطاع أيضًا أن يتحلل من وحدة الوزن في المطولات وبخاصة في المسرحيات الشعرية.

ومن البديهي أننا لا نعترض على مهاجمة الأستاذ ميخائيل نعيمة لعروض الخليل والتهكم به تعصبًا لهذا العروض في ذاته، بل تعصبًا لموسيقى الشعر التي تعتبر من مقوماته الأساسية التي إذا فقدها فقد خاصية من الخصائص الكبرى التي تميزه عن النثر الذي لا بدَّ هو الآخر أن تكون له موسيقاه، وأن يكون له إيقاعه النفسي، ولكنها موسيقى وإيقاع يختلفان في نسقهما أكبر الاختلاف عن موسيقى الشعر الواضحة المعبرة وعن إيقاعه المنظم المحدد على نحو ما أوضحناه في مقالنا المنشور بالعدد السابق من هذه المجلة عن «الشعر العربي: غناؤه وإنشاده ووزنه».

وأخيرًا وليس آخرًا نود أن نسترعي النظر إلى هذه المقاييس الجديدة التي حاول أن يؤكدها الأستاذ ميخائيل نعيمة ورجال جيله كلهم من أمثال العقاد والمازني إنما تنصرف أولًا وقبل كل شيء إلى الشعر، بل إلى فن محدد من فنون الشعر هو الشعر الغنائي الذي ورثناه عن أجدادنا العرب وأخذ نقادنا ومفكرونا يقتتلون حوله خلال الربع الأول من هذا القرن بل إلى سنوات بعد ذلك، مغفلين فنونًا أخرى أخذت تظهر في أدبنا المعاصر مثل فن المسرحية الشعرية وفن القصة والأقصوصة وفن السيرة وفن المقالة، فهذه كلها فنون لا نكاد نعثر على آراء فيها وفي مناهج نقدها عند نقاد الجيل السابق.

(٤) معركة اللغة

ومشكلة أخرى خطيرة عرض لها الناقد ميخائيل نعيمة في غرباله هي مشكلة اللغة؛ حيث أخذ يهاجم في مقاله «نقيق الضفادع» الأدباء والنقاد المتزمِّتين في اللغة وقواعدها وعلومها، ويرى في تزمتهم هذا ما يشبه نقيق الضفادع، وعنده أن اللغة ما هي إلا مجرد رموز كغيرها من الرموز التي استخدمتها ولا تزال تستخدمها الإنسانية كوسيلة للإفصاح عما يختلج في النفس من فكر أو إحساس، وحسبها أن تستطيع أداء هذه الوظيفة، بل من الخير تبسيط تلك الرموز إلى أقصى حدٍّ مستطاع؛ لأنها كلما ازدادت تبسيطًا ازدادت قدرة على تحقيق وظيفتها في نقل الفكر والإحساس من نفس إلى نفس.

هذه هي نظرة الأستاذ ميخائيل نعيمة إلى اللغة، ومن حسن الحظ أنها ظلت نظرة نظرية فلم يخرج هو نفسه ولا خرج زملاؤه من أدباء المهجر على لغتنا الفصحى وقواعدها، وإن كانوا قد جددوا أحيانًا كثيرة كما جدد بعض إخوانهم في الشرق من وسائل أدائها التعبيري وتركيباتها اللغوية فضلًا عن مفردتها.

وناقدنا المثقف ميخائيل نعيمة وإخوانه من أدباء المهجر الأفذاذ لا يمكن أن يغيب عنهم أن قواعد اللغة ليست قيودًا متطفلة، بل أدوات تعبير بالغة الأهمية، وإذا كانت ألفاظ اللغة هي رموز التعبير عن ذوات الأشياء والمفاهيم، فإن أدوات الإعراب هي وسائل التعبير عن العلاقات التي تقوم بين دلالات الألفاظ من فاعلية ومفعولية وإخبار وإنشاء وتجديد زمني ونوعي للأحداث، واللغة التي تتهاون في قواعدها إنما تتهاون في أهم جانب من جوانب وظيفتها وهو جانب التعبير عن الروابط والعلاقات.

وفضلًا عن كل ذلك فإن اللغة إذا كانت تنزل إلى مستوى الرموز في التعبير عن بعض الحقائق العلمية والرياضية فإنها كثيرًا ما ترتفع إلى مستوى الغاية في الأدب؛ وذلك لأن الأدب إنما يتميز كثيرًا عن غيره من الكتابات بأنه لا يهدف إلى مجرد نقل معنى أو إحساس من نفس إلى نفس بل يهدف أحيانًا كثيرة إلى ما نسميه بالتصوير البياني، وقد تتركز عملية الخلق الأدبي في هذا التصوير ذاته، وبذلك لا تصبح اللغة مجرد أداة للتعبير أو التقرير بل تصبح كالرخام الذي ينحت منه الفنان تمثاله أو كالألوان التي يلون بها المصور رسومه.

وأما عن نوع اللغة التي يستخدمها الأديب فنحن مع الأستاذ ميخائيل نعيمة في تفضيله اللغة الحية السلسة عن اللغة الحوشية الميتة، كما أننا معه في الدعوة إلى التجديد في طرائق التعبير والتصوير في أنواع التنغيم والتلحين اللغوي ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا محتكمين دائمًا إلى إحساس المرهفين المثقفي الأذواق من أدبائنا ونقادنا وفنانينا.

وعلى هذا الأساس وفي ضوء هذه الحقائق ترانا نتفق مع الأستاذ عباس محمود العقاد عندما حرص في المقدمة التي كتبها «للغربال» على أن يوضح مخالفته لرأي الأستاذ نعيمة في مشكلة اللغة، فقال: «أما كلمتي أنا ففي خلاف صغير بيني وبين المؤلف لا أعرضه للمناقشة إلا لأن الاتفاق بيننا في غير هذا الموضع عظيم، وزبدة هذا الخلاف أن المؤلف يحسب العناية باللفظ فضولًا ويرى أن الكاتب أو الشاعر في حِلٍّ من الخطأ ما دام الغرض الذي يرمي إليه مفهومًا، واللفظ الذي يؤدي به معناه مفيدًا ويعن له أن التطور يقضي بإطلاق التصرف للأدباء في اشتقاق المفردات وارتجالها، وقد تكون هذه الآراء صحيحة في نظر فريق من الزملاء الفضلاء ولكنها في نظري تحتاج إلى تنقيح وتعديل، ويؤخذ فيها بمذهب وسط بين التحريم والتحليل.

فرأيي أن الكتابة الأدبية فن، والفن لا يُكتفَى فيه بالإفادة ولا يُعنَى فيه بمجرد الإفهام، وعندي أن الأديب في حِل من الخطأ في بعض الأحيان، ولكن على شرط أن يكون الخطأ خيرًا وأجمل وأرقى من الصواب، وأن مجاراة التطوير فريضة وفضيلة، ولكن يجب أن نذكر أن اللغة لم تُخلَق اليوم فنخلق قواعدها وأصولها في طريقنا، وأن التطور إنما يكون في اللغات التي ليس لها ماضٍ وقواعد وأصول، ومتى وُجدت القواعد والأصول فلماذا نهملها أو نخالفها إلا لضرورة قاسرة لا مناص منها؟

ومع هذا يلوح لي أن الخلاف بيننا خلاف في التطبيق لا في الجوهر؛ لأن المؤلف الألمعي يعرف العلاقة بين اللفظ والمعنى أحسن تعريف فلا يجوز باللفظ ولا بالمعنى عن حده في البلاغة، وله في هذه المجموعة أقوال في هذا المعنى منها قوله في بلاغة شكسبير: «إن بين أفكاره وأكسيتها اللغوية ترابطًا هو غاية في الدقة والفن، وهذا الترابط هو ما يكسبها جلالها الملوكي وسلاستها السحرية ورنتها الموسيقية، ومن ترجمها دون جلالها وسلاستها ورنتها يكون كمن أخذ من الشجرة ساقها بعد أن عرَّاه من الفرع والغصون والأوراق.» وليس يقول قائل من عشَّاق البلاغة اللفظية غير ذلك في هذا الصدد ولا أكثر من ذلك.»

(٥) بين العامية والفصحى

لم يَحِد إذن أدباء المهجر وشعراؤه عن الفصحى في تأليف ما أغنوا به أدبنا المعاصر من شعر جيد، ولا تمردوا على قواعد تلك اللغة بحيث لم يتمخض هجوم الأستاذ ميخائيل نعيمة عن نتائج تطبيقية، وذلك فيما عدا مسرحية «الآباء والبنون» التي فضَّل الأستاذ ميخائيل نعيمة أن ينطق شخصياتها باللغة الفصحى حينًا والعامية حينًا آخر وفقًا لمقتضى مستوياتهم الثقافية، وقال في ذلك:

«إن أكبر عقبة صادفتها في تأليف «الآباء والبنون» وسيصادفها كل من طرق هذا الباب سواي هي اللغة العامية والمقام الذي يجب أن تعطاه في مثل هذه الروايات، وفي عرفي — وأظن الكثيرين يوافقون على ذلك — أن أشخاص الرواية يجب أن يخاطبوا باللغة التي تعوَّدوا أن يُعبِّروا بها عن عواطفهم وأفكارهم وأن الكاتب الذي يحاول أن يجعل فلاحًا أميًّا يتكلم بلغة الدواوين الشعرية والمؤلفات اللغوية يظلم فلاحه ونفسه وقارئه وسامعه، لا بل يظهر أشخاصه في مظهر الهزل حيث لا يقصد الهزل، ويقترف جرمًا ضد فن جماله في تصوير الإنسان حسبما نراه في مشاهد الحياة الحقيقية، وهناك أمر آخر جدير بالاهتمام متعلق باللغة العامية، وهو أن هذه اللغة تستر تحت ثوبها الخشن كثيرًا من فلسفة الشعب واختباراته في الحياة وأمثاله واعتقاداته التي لو حاولت أن تؤديها بلغة فصيحة لَكنت كمَن يترجم أشعارًا وأمثالًا عن لغة أعجمية، وربما خالفنا في ذلك بعض الذين تأبطوا القواميس، وتسلَّحوا بكتب الصرف والنحو كلها؛ قائلين: إن كل الصيد في جوف الفرا، وإن لا بلاغة أو طلاوة في اللغة العامية لا يستطيع الكاتب أن يأتي بمثلها بلغة فصحى، فلهؤلاء ننصح أن يدرسوا حياة الشعب ولغته بإمعان وتدقيق.

الرواية التمثيلية من بين كل الأساليب الأدبية لا تستطيع أن تستغني عن اللغة العامية، وإنما العقيدة هي أننا لو اتبعنا هذه القاعدة لوجب أن نكتب كل رواياتنا باللغة العامية؛ إذ ليس بيننا من يتكلم عربية الجاهلية أو العصور الإسلامية الأولى، وذلك يعني انقراض لغتنا الفصحى، ونحن بعيدون عن أن نبتغي هذه الملمة القومية، فأين المخرج؟

وعبثًا بحثت عن حل لهذا المشكل فهو أكبر من أن يحله عقل واحد، وجل ما توصلت إليه بعد التفكير هو أن أجعل المتعلمين من أشخاص روايتي يتكلمون لغة معربة والأميين اللغة العامية، لكنني أعترف بإخلاص أن هذا الأسلوب لا يحل العقدة الأساسية؛ فالمسألة لا تزال بحاجة إلى اعتناء أكبر من رجال اللغة وكُتابها.»

وصدق ميخائيل نعيمة في تحفُّظه الأخير؛ فالمشكلة أعقد وأخطر من الحل الذي ارتضاه، وهو حل يطابق تمامًا الحل الذي اهتدى إليه كاتبنا المسرحي الآخر فرح أنطون وأوضح بواعثه في المقدمة التي كتبها لمسرحيته «مصر الجديدة ومصر القديمة»، وفي رأينا أن هذه المشكلة يمكن أن تزول وتصبح لا وجود لها إذا صححنا فهمنا لطبيعة الفن المسرحي الذي لا يهدف إلى استنباط لسان مقال شخصياته الروائية بل لسان حالها، والواقعية أو الطبيعية التي نسعى إلى إبرازها في الفن المسرحي ليست واقعية أو طبيعية اللغة بل واقعية أو طبيعية النفس البشرية ببعديها السيكولوجي والاجتماعي، فالمهم هو أن تنطبق الشخصيات بمكنون روحها، وسيان بعد ذلك أن يكون تعبيرنا عن هذا المكنون بالعامية أو الفصحى، والذي يرجح لدينا الفصحى على العامية ليس داعي القومية العربية وحده، بل إنه أيضًا داعٍ فني هو أن اللغة الفصحى أقدر على التعبير عن الكثير من الأحاسيس العميقة التي قلَّما تُستخدَم لهجاتنا العامية في التعبير عنها، وبخاصة إذا ذكرنا أن الكثير من لهجتنا العامية قد يظل استخدامه مقصورًا على التعبير عن حاجات حياة بدائية ظلت متخلفة عشرات بل مئات السنين؛ نتيجة للعوامل التاريخية المعروفة، وربما كان هذا هو السبب في ألا نرى اليوم أدباءنا يكتبون المسرحيات الجدية باللهجة العامية التي يقصرون عادة استخدامها على مسرحيات الكوميديا المحلية الخفيفة.

(٦) النقد التطبيقي

وفي ضوء هذا المنهج النقدي العام تناول الأستاذ ميخائيل نعيمة عددًا من المؤلفات الأدبية المعاصرة شعرًا ونثرًا بالنقد التطبيقي في عدد من المقالات التي نشر أهمها في الغربال، وفي رأينا أن مقالات النقد التطبيقي التي نُشرت بالغربال هي المقالات الأكثر لصوقًا بمنهج نعيمة العام، وهو المنهج التأثري الذاتي الذي دعا إليه نعيمة وهو لا يزال في عنف الشباب، فتجهَّم أيما تجهم كما سبق أن قلنا لأدب البعث التقليدي، وابتهج أيما ابتهاج باتجاه التجديد الأدبي الذي ساهم من أصحاب «الديوان» في الدعوة إليه دعوة حارة عنيفة نخشى ألا تكون خالصة دائمًا من التحامل، وعلى نحو ما نحس في نقد نعيمة العنيف لقصيدة شوقي في مقاله المعنون ﺑ «الدرة الشوقية» بالرغم من أن هذه القصيدة بالذات قد تضمنت عددًا من النغمات الرائعة الصفاء النابضة بحرارة الحياة مثل فرحته بالعودة إلى وطنه في نهاية الحرب العالمية الأولى بعد نفيه خلالها إلى إسبانيا في قوله:

فيا وطني لقيتكَ بعد يأسٍ
كأني قد لقيتُ بكَ الشبابا

(٧) مستقبل الأدب العربي

وأخيرًا لا نحب أن نختتم هذا المقال عن ميخائيل نعيمة الناقد الأدبي الممتاز الذي ساهم بغرباله في توجيه أدبنا المعاصر وجهته الحديثة مساهمة قوية لا تكاد تعدلها غير مساهمة «الديوان»، دون أن نشير إلى مقال فلسفي قيِّم منشور في كتابه «دروب» تحت عنوان «ماهية الأدب ومهمته»، وفيه يقول بحق عن مستقبل الأدب العربي:

والأدب في دنيا العرب ما بلغ بعدُ أشده ولن يبلغه حتى تكون لنا أمور ثلاثة:
  • (١)

    لغة سلسة القياد.

  • (٢)

    أمة لا تعاني — في جملة ما تعاني — مركب النقص.

  • (٣)

    حرية الكلمة.

(٨) تكوين نعيمة

ولا يتبقى لكي نلم بحقيقة نعيمة النقدية إلمامًا كاملًا إلا أن نلقي بعض الضوء على تكوينه الثقافي والروحي، وهو ذلك التكوين الذي لا بدَّ أن يتضح في نقده ما دمنا قد قررنا أنه يؤثر منهج التأثرية الذاتية ويؤمن بأن لكل ناقد غرباله الذي يستمده من ذات نفسه.

وتكوين ميخائيل نعيمة الروحي والثقافي تكوين غني معقد؛ فهو يجمع في ثقافته بين الشرق وتراث الغرب، بل يجمع بين التراث الأوروبي الأمريكي والتراث الروسي بسحره الصقلي، وروحانيته الناقدة التي نحسها عند أعلامه، وبخاصة عند تولستوي ودستوفسكي اللذين يلوح لنا أن ميخائيل نعيمة قد تمثَّل روحيهما منذ شبابه الغض.

وأما عن تكوين ميخائيل نعيمة الروحي وهو التكوين الأبعد غورًا في نفسه من التكوين الثقافي، بل هو التكوين الذي نفذ إلى أعماق روحه وأخذ ينمو معه ويعمق على مر الأيام والتقدم في الحياة؛ فهو بلا ريب التكوين الذي تغذي بلباب المسيحية الرحيمة وما في كتبها المقدسة، وبخاصة العهد القديم، من آيات شعرية نافذة التعبير السحري، في مثل «المزامير» و«سِفر الجامعة» و«سِفر أيوب» و«نشيد الإنشاد»، ولقد تأملنا في كل مقال من مقالات نعيمة فلم نجد واحدًا منها يخلو من تعبير شعري ديني أو من آية أو بضع آيات برمَّتها، ولا أظنني شعرت بمثل هذا الإحساس الشعري الجميل عند قراءاتي لأحد من رجال أدبنا العربي المعاصر مثلما أحسست عندما قرأت أو أقرأ لميخائيل نعيمة أو للمرحوم إبراهيم عبد القادر المازني أو جبران خليل جبران.

أكتفي هنا للتدليل على صدق إحساسي باتخاذ مقال نعيمة عن «عواصف» جبران مثلًا؛ حيث وقعت في هذا المقال على آيتين من آيات الكتاب المقدس وردا في سياق حديثه على نحوٍ يكاد يكون تلقائيًّا، والآية الأولى من سفر الجامعة وهي عبارة باطل الأباطيل وقبض الريح في قوله: «هذه هي غاية الوجود في نظر جبران؛ الطموح إلى ما رواء الوجود، أما كل ما من شأنه أن يقتل أو يخدر هذا الطموح فباطل الأباطيل، وقبض الريح (باطلة هي المدينة وكل شيء فيها).» والآية الأخرى من قول المسيح، وهي: «إذا لا يختفي مصباح تحت مكيال ولا مدينة على رأس جبل.» في قوله: «غير أن الأمم العربية بل الآداب العربية وإن أنكرت جبران عامًا ستقدس ذكره أجيالًا؛ إذ لا يختفي مصباح تحت مكيال ولا مدينة على رأس جبل.»

(٩) همس نعيمة

وفوق كل ذلك، فإنني قد أخذت أحس كلما توثقت صلتي الروحية بميخائيل نعيمة وأدبه، أن مصدر ما سميته في كتابي «في الميزان الجديد» بالهمس في شعره وفي شعر عدد من إخواننا شعراء المهجر، إنما هو روحانية المسيحية وما في كتبها المقدسة من شعر مرهف هامس، حتى لنراه هو نفسه يختار لديوانه اسم «همس الجفون»؛ وذلك لأن شعره يقع في النفس موقع الأسرار التي يتهامس بها الناس يؤنس النفس ويشعرها بالواجب الوطني همسًا دون خطابة ولا تشدق، والهمس عندي إحساس بالأدب المصوغ من الحياة كقطعة منها، وهذا هو المقياس الأكبر الذي أرتضيه في كتابي المذكور، وها أنا أحس بعد أن فصَّلت القول في منهج نعيمة النقدي بأنه يرتضيه معي ونعم الصحبة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤