لويس عوض والنقد التفسيري

والاتجاه التفسيري في نقد الدكتور لويس عوض للأعمال الأدبية الجديدة ليس إلا امتدادًا لتخصُّصه كأستاذ للأدب، وأساتذة الأدب يغلب على عملهم دراسةُ المؤلَّفات الأدبية التي غربَلَها الزمن، فاحتفظ بالجيد منها وطوى الرديء، بحيث لم يَعُد في دراستها مجالٌ واسع لتقييمها على أساس من الجودة أو الرداءة، كما أنه لم يَعُد هناك بالبداهة مجالٌ للنقد التوجيهي فيها، وإنما يُعِيد أساتذةُ الأدب تناوُلَها بالدراسة لإعادة فهمها وتفسيرها وتوليد الجديد منها، في ضوء ثقافتهم الواسعة وخبراتهم الدائمة التجدُّد، وهم بفضل هذه الدراسات قد يُعِيدون خلْقَ تلك الأعمال الأدبية القديمة بإعطائها مفاهيمَ جديدة، حتى ليقول أحد كبار الأساتذة العالميين: «فإن شيئًا لم يؤثِّر في الآداب القديمة كما أثَّرت الآداب الحديثة.» بمعنى أن الدارسين المُحدَثين قد يُعِيدون فهم الأعمال الأدبية القديمة في ضوء ثقافتهم الحديثة، فيسكبون في تلك الأعمال قِيَمًا ومفاهيمَ جديدة ربما لم تخطر لكُتَّابها القدماء ببال، ولكنها مع ذلك لا تُعتبَر غريبة ولا مُقحَمة على أعمالهم الأدبية، وإن ظلت كامنةً خلف سطورهم وفي أعماق مؤلَّفاتهم، حتى يجيء الأساتذة المحدَثون فيستخرجونها منها وكأنهم قد خلقوها خلقًا جديدًا، وهذا هو ما فعله لويس عوض في الدراسات الأدبية التي نشرها من قبل، مثل مجموعة مقالاته عن الأدب الإنجليزي التي نشرها في صدر حياته في مجلة «الكاتب المصري»، التي كان يرأس تحريرها عندئذٍ أستاذُنا الدكتور طه حسين، ثم جمعها لويس بعد ذلك بين دفتَيْ كتاب، ومثل المقدمات الضافية التي لبعض المؤلَّفات الأدبية التي قام بترجمتها، مثل المقدمة التي كتبها لترجمته لكتاب فن الشعر للشاعر اللاتيني الكبير «هوراس»، ومثل المقدمة الأخرى الكبيرة التي كتبها لترجمته لقصيدة من مطولات الشعر الإنجليزي الرومانسي، وهي قصيدة «بروميثيوس طليقًا» للشاعر الإنجليزي الكبير «شللي»، وهي المقدمة التي يلوح لنا أن الاتجاه التفسيري في دراسات لويس ونقده قد ظهر فيها أوضح ما يكون، بل واتَّسم هذا الاتجاه التفسيري بِسمة الاتجاه الفكري العام في فهم الأدب ومذاهبه واتصالهما بالحياة العامة واتجاهاتها وتطوُّرها الاقتصادي؛ حيث نراه يربط ظهور المذهب الرومانسي بالتطور الاقتصادي والصناعي والاجتماعي الذي حدث في القرن التاسع عشر في أوروبا، وأدى إلى ظهور الطبقة البرجوازية الصناعية والتجارية ومشاكلها الخاصة، وضياع طبقة المثقفين والأدباء والشعراء فيها، مما دعاهم إلى العزلة والانطواء حينًا، والهرب من واقع الحياة المريرة والتحليق في عالم الخيال أو رحاب الطبيعة حينًا آخر، بكل ما يصحب هذا الوضع القَلِق من أنينٍ وشكوى وثورةٍ وتمرُّد.

ولويس عوض في مجموعة مقالاته التي يضمها كتابه الجديد «دراسات في أدبنا الحديث»، يواصل نفس الاتجاه التفسيري، ومجموعةُ هذه المقالات لا تُعتبَر كلها مما اعتدنا تسميته بالنقد الأدبي والفني؛ لأنها تضم إلى جوار المقالات النقدية أبحاثًا ودراسات؛ من أهمها البحث المطول الذي كتبه عن المسرح المصري القديم، وكان قد سبق أن نشره في كُتَيِّب منفصل بعد نشره كمقالات في جريدة «الشعب». ويحدِّثنا الدكتور لويس بأنه قد استعان في كتابة هذا البحث بما انتهت إليه دراسات عالِم الآثار المصرية الأب «دوريتون» مدير المتحف المصري الأسبق، وقد نُشِرت تلك الأبحاث في كتاب هذا العالِم الذي طُبِع في القاهرة بعنوان «صفحات في علم الآثار المصرية القديمة»، وهذا شيء طيب؛ فلويس لم يتخصَّص في الدراسات المصرية القديمة، ولكن استعانته بأبحاث عالِمٍ متخصص ﮐ «دوريتون» لم تُفقِده أصالته ولا حرمته من أن يأتي بجديد في هذا المجال، وكان تجديده في نفس الاتجاه التفسيري الذي استقرَّ عليه منهجه. إننا لَنحسُّ من هذا البحث أن الدكتور لويس عوض قد خرج منه بنظرية عامة عن العقلية المصرية وطريقة تكوينها وتأثير البيئة الزراعية فيها منذ أقدم العصور، وهذه فكرة أساسية وخطيرة في اتجاه لويس التفسيري في دراسة الأدب ونقده على السواء، ولا أدَلُّ على ذلك من أن نراه يستند على هذه الفكرة العامة في تفسير كثير من الظواهر الأدبية الكبرى التي لا يزال الباحثون يختلفون حول تفسيرها، مثل ظاهرة اختفاء فن المسرح في مصر بالرغم من معرفة الفراعنة له، ثم تعثُّر هذا الفن في مصرنا الحديثة منذ أكثر من قرن.

(١) الملحمة والمسرحية

الدكتور لويس عوض يستخلص من دراسته لبيئة زراعية كبيئة مصر القديمة أن هذه البيئة قد آمنت بالاختيار لا الجبر الذي يراه من خصائص البيئة المدنية لا الريفية، وعنده أن الإيمان بحرية الإنسان واختياره معناه الإيمان بالمطلَقات؛ أيْ بالمبادئ المجردة المطلَقة كالخير المُطلَق، وهذه المطلَقات هي التي تكوِّن جوهر العقلية الملحمية التي يصطدم فيها البطل الممثِّل للخير المُطلَق مع العدو أو الوغد الممثِّل للشر المطلَق، والأدب الملحمي إنما يقوم على الجهاد الخارجي الذي ينشب بين البطل الخيِّر والبطل الشرير، وعنده أن هذه كانت عقلية البيئة الريفية في مصر القديمة، وأن هذه العقلية لم تستطع أن تتطور من الجهاد الملحمي إلى الصراع الدرامي، الذي يرى أن العقلية اليونانية قد تطورت إليه ونما عنها، فازدهرت في أدبها فنُّ المسرح وخلد وتجدَّد شبابه في عصر النهضة الأوروبية الحديثة، وعلى أساسه قام فن المسرح القديم إلى غير رجعة، حتى إذا أخذنا هذا الفن منذ قرن أو أكثر عن أوروبا في نهضتنا الحديثة، أخذت العقلية الملحمية تطغى على كُتَّاب المسرح عندنا من جديد، كأنها رسيسة قدمية لا سبيلَ لخلاصنا منها. وهو ينقب عن هذه العقلية الملحمية عند كبار كتَّابنا المسرحيين المعاصرين، وفي مقدمتهم توفيق الحكيم، وإن يكن قد أخذ يُبشِّرنا بأننا في سبيل التحوُّل من هذه العقلية الملحمية إلى العقلية الدرامية التي ستكفل لفننا الدرامي النهوض واللحاق بالفن الدرامي العالمي، الذي لا بدَّ أن يحدث فينا أثره بحكم اتصالِنا المتزايد به، وتشرُّبِنا لروحه.

(٢) بناء ميتافيزيقي

هذا هو البناء الفكري الكبير الذي يخرج به الدكتور لويس عوض عن دراسته للمسرح المصري والمسرح المصري المعاصر على السواء، وهو بناء ينمُّ عن ذكاء وثقافة واسعة وقدرة على استبطان الأمور، ولكنه بعد ذلك بناء ميتافيزيقي قد يروِّعنا صرْحُه العام، ولكن لَبِناته ليست من الصلابة بحيث تصمد للفحص والنقد والتثبُّت، ولقد تكون فيه لَبِنات نستطيع أن نتفق على سلامتها، ولكن منها ما لا يمكن أن نطمئن إلى سلامته، ومن الواضح أن الصروح الكبيرة قد تُودي بها لَبِنةٌ أو بضع لَبِنات ضعيفة.

ومن هذه اللَّبِنات الضعيفة القولُ بأن البيئة الريفية بيئة تؤمن بحرية الإنسان واختياره، ولا تؤمن بالجبر والقضاء والقدر، فلربما كان العكس هو الصحيح؛ فأهل الريف هم الذين يعيشون تحت رحمة قوى الطبيعة وظواهرها التي خلط بينها الإنسان البدائي وبين إرادة قوة عليا مجردة أو غير مجردة، سمَّاها الإله أو الآلهة، أو القدر أو الجبر، أو ما سمَّاه اليونان القدماءَ بالآنانكية بمعنى الضرورة الكونية المنبعثة عما نسميه اليومَ بقوانين الطبيعة الحتمية، وكذلك الأمر بالنسبة للعقلية المدنية؛ أيْ عقلية سكان المدن، فما نظن أن عقلية الإنسان القديم الذي كان يسكن المدن ويعمل في الحِرَف أو في التجارة قد كانت عقليةً تؤمن بالجبر أو بالقضاء والقدر، ولعلها كانت على العكس أقرب إلى الإيمان بحرية الإنسان واختياره، باعتبار أن مادة عمله وحياته كانت طواعيةً لإرادته واختياره من المادة التي كان يعمل فيها أهل الريف الزراعيون.

والقول بأن العقلية التي تؤمن بالجبر وبالقدر هي العقلية التي يزدهر فيها فن المسرح القائم على الصراع الدرامي، بينما العقلية المؤمنة بالاختيار لا يزدهر بينها غير الأدب الملحمي القائم على الجهاد أو الصراع الخارجي كله؛ قول يقبل المناقشة، بل أخشى أن أقول إنه قول يجانبه الصواب الذي نستطيع استقراءَه من دراستنا لتاريخ هذه الفنون في الآداب العالمية.

صحيح أن فكرة الجبر أو القدر قد لعبت تاريخيًّا دورًا خطيرًا وفعَّالًا في ازدهار الفن الدرامي، وبخاصة فن التراجيديا عند اليونان القدماء، حتى بلغ هذا الفن ذروته في القوة وإثارة أعماق النفوس والضمائر، ولكن هذه حقيقة تاريخية نسبية وليست حقيقة فنية مطلقة كما يريد الدكتور لويس عوض أن يقول. وإذا كنا قد رأينا البطل في التراجيديا اليونانية القديمة يدخل في صراع مع الآلهة أو القوى المجردة أو المطلَقة، على نحوٍ يجعل من الصراع الدرامي شيئًا رهيبًا لا مثيلَ لقوته، على نحوِ ما نرى جدَّ البشر المزعوم «برميثيوس» يدخل في مسرحية الشاعر «أيسكيلوس» في صراع مع كبير الآلهة «زيوس»؛ لأنه اختلس من ضوء الشمس قبسًا من نور ونار يرمزان للمعرفة التي قد تُبدِّد هيبة الآلهة وسيطرتها على نفوس البشر. وإذا كنا نرى بطلًا تعيسًا منكوبًا ﮐ «أوديب» يدخل في صراع مماثل مع القدر، الذي حاك حوله الشِّبَاك لكي يُوقِعه في جريمة منكرة هي قتل أبيه والزواج من أمه، فإننا لا نرى في كل هذا شيئًا يختلف عما يُسمِّيه لويس بالجهاد الملحمي؛ إذ إنه في النهاية لا يخرج عن كونه صراعًا خارجيًّا، هو ما يسمِّيه صديقنا بالجهاد الملحمي.

والصراع الخارجي ليس على أية حال خاصًّا بالملحمة ولا بالمسرحية، وإنما هو نوع من الصراع الذي قامت عليه التراجيديا في مرحلة من مراحلها التاريخية، وهي المرحلة اليونانية في ظل ديانة كانت تؤمن بالجبر والضرورة الكونية، وبما نسميه في الديانات السماوية بالقضاء والقدر، ونحن نلاحظ أن تغيُّرَ العقلية البشرية بتغيُّر الدِّين من الوثنية إلى ديانات التوحيد الروحية السماوية، وانتقالَ الصراع الدرامي من الخارج إلى داخل النفس البشرية؛ لم يتطوَّر بالمسرح من مرحلة ملحمية إلى مرحلة درامية تضمن له النجاح والازدهار، بدليل أن الفن المسرحي، وبخاصة فن التراجيديا، قد وصل إلى الذروة في عصر الكلاسيكية الذي تلا النهضة الأوروبية، مع أن المذهب الكلاسيكي قد نقل الصراع الدرامي إلى داخل نفسية البطل، وجعله يجري بين العاطفة والواجب أحيانًا كما نرى في مسرحية «السيد» للشاعر الفرنسي الكبير «كورني»، أو بين عواطف النفس المتصارعة المتضاربة على نحوِ ما نرى في مسرحية «أندروماك» مثلًا للشاعر الفرنسي الآخَر راسين، أو مسرحية «فدر» له أيضًا. وتطوَّرَ بعد ذلك الصراعُ الدرامي واتخذ أشكالًا مختلفة؛ فجرى بين الفرد والمجتمع حينًا، وبين طبقة اجتماعية أخرى حينًا آخَر، بل وانتهى عند كاتبنا المعاصر توفيق الحكيم إلى أن يصبح صراعًا بين الرموز أو بين ما يسمِّيه هو نفسه «المطلَق من المعاني» كالحياة والزمن في أهل الكهف، أو الحقيقة والواقع في «أوديب»، أو الحياة والفن في «بيجماليون»، أو الواقع والمثال في «إيزيس».

وهكذا نستطيع أن نمضي شوطًا وأشواطًا في استقصاء الحقائق الأدبية والفنية، لنستند إليها في مناقشة الصرح الفكري الذي أقامه الدكتور لويس عوض على قضايا ليست يقينية، ومع ذلك يترتَّب على كل قضية منها قضيةٌ أخرى يزيد بها الصرح ارتفاعًا، فنعجب بذكائه واتِّساع ثقافته وقوة تفكيره، ولكن كل هذه الروعة لا تستطيع أن تنمِّي فينا الروح النقدية التي لا تكاد تتناول هذه القضايا المتلاحقة بالفحص حتى نراها تنفر من الحقائق التي يثبتها الاستقراء في مجال الآداب العالمية، وإن يكن كل ذلك لا يسلب أبحاثَ الدكتور لويس عوض قيمتَها الفذَّة في تزويدنا بالكثير من الحقائق الأدبية والفنية، والإيحاء لنا بالتفكير وتجديد المحاولات في مجال الفهم والتفسير لكثير من الظواهر الأدبية الكبرى، التي لا يستطيع علاجَها إلا أستاذٌ متمكِّن ﮐ «لويس عوض».

(٣) مَشقَّات التفسير

ولا يحسبنَّ أحدٌ أن الاتجاه التفسيري في النقد أقلُّ مَشقَّةً من الاتجاه التقييمي والتوجيهي؛ ذلك لأنه إذا كان التقييم والتوجيه يحتاجان إلى التمتُّع بحاسة جمالية مرهفة، أو إلى الإيمان بقِيَم إنسانية واجتماعية معينة، فإن الاتجاه التفسيري يحتاج إلى ثقافة وخبرة بالغة، وهذه الثقافة وتلك الخبرة هي التي تجعل من لويس عوض ناقدًا تفسيريًّا ممتازًا يخرج القارئ من كتاباته بثقافة أدبية واسعة. ولقد نختلف معه كمتخصصين في عدد من التفسيرات، ولكن هذا الخلاف إنما يثور عندما يتخطَّى لويس النقدَ التطبيقي؛ أيْ نقد أعمال أدبية معينة إلى النظريات والتفسيرات العامة التي تُعتبَر من أبنية الفكر المطلَق. ومن المعلوم أن للفكر واكتشافاته نشوةً مُغرِية قد لا نستطيع مغالَبتَها عندما تدفعنا إلى الإعراض عن التفسيرات القريبة المعقولة إلى التفسيرات البعيدة المولَّدة؛ حرصًا على الأصالة وبرغبة في الإبداع، وباستطاعتنا أن نجد مثلًا واضحًا لهذه النشوة المُغرِية عند لويس عوض في تفسيره لموت المسرح القديم بأنه كان بسبب تغلُّب العقلية الملحمية على الفراعنة في بيئتهم الزراعية الريفية، وذلك بالرغم من أن هذا التفسير العام وأمثاله قد أخرجَتْه أبحاثٌ ومناقشات عالمية لا حدَّ لها عن طبيعة العقلية العامة واختلافها باختلاف الشعوب والأجناس أو باختلاف البيئات الطبيعية والبشرية. وقد استوفى القرن التاسع عشر البحثَ في هذه الكليات منذ النقاد الفرنسيين الكبار «تين» و«رينان» و«سانت بيف»، وأصبحنا نُفضِّل في القرن العشرين أن نستمد التفسيرات من تحليل الوقائع معتمِدين على الوقائع التاريخية الثابتة، وعلى أساس هذا المنهج نستطيع أن نفسِّر موت المسرح كتمثيليات وكفن أدائي، وهذه معلومات تفيد أن هذا المسرح قد ظل حبيسًا في الأساطير الدينية كما ظل أداؤه حبيسًا داخل المعابد ومحتكرًا من الكهنة، ولسوء الحظ لم يستطع الانسلاخَ عن الدين ليدلف إلى الحياة المدنية كما حدث عند اليونان القدماء، وعلى نحو ما يبدو لنا من مقارنة تطوُّره من «أيسكيلوس» إلى «يوربيدس» الذي اتهمه المحافظون في عصره بأنه قد أنزل المسرح من السماء إلى الأرض، كما اتهموا معاصره «سقراط» بنفس التهمة في مجال الفلسفة. ومن المعلوم أن «يوربيدس» وسلفه المباشر «سوفوكليس» كانا أكثر تأثيرًا في بعث المسرح وازدهاره عند الكلاسيكيين في القرن السابع عشر الميلادي، وبخاصة في فرنسا، وكل ذلك فضلًا عن الاختلاف الكبير الواضح في طبيعة الديانات والأساطير اليونانية القديمة عن الديانة والأساطير المصرية القديمة، وذلك بحكم أن الديانة اليونانية قد كانت الديانة القديمة التي يتضح فيها الطابع الناسوتي دون غيرها من الديانات القديمة الأخرى، وبخاصة الديانات الشرقية الغارقة في الرمز والتجريد، بينما نرى اليونان القدماء وقد تصوَّروا آلهتهم على شاكلة الإنسان بكافة فضائله ونقائصه، وإن اختلفت النِّسَب، مما سهَّل تطوُّرَ الفن الدرامي عندهم نحو الحياة المدنية، وخروجه من دائرة الطقوس إلى دائرة الحياة الإنسانية بعواطفها ومشاكلها وأنواع الصراع المختلفة التي تجري فيها، وذلك بينما ظل المسرح المصري القديم حبيسَ الدين والمعابد والكهنة حتى اختنق فيها ومات بموت تلك الديانة الوثنية القديمة، وما أظن أن الإيمان بالاختيار وأن العقلية الملحمية كان لهما دخلٌ كبير في هذه الظاهرة.

على أننا لا نكاد نترك هذه النظرية العامة التي تحدَّث عنها الدكتور لويس عوض لننظر في نقده التطبيقي لعدد من أعمالنا المسرحية الجديدة، حتى يروقنا لويس بمقالاته عن توفيق الحكيم في «إيزيس» و«بيجماليون»، وعن محمد عثمان جلال في «طرطوف»، وعن يوسف إدريس في «جمهورية فرحات» و«اللحظة المحرجة»، وعن ألفريد فرج في مسرحية «سقوط فرعون»؛ ففي كل هذه المقالات تُسعِف لويس ثقافتُه الأدبية الواسعة في تحديد وفهم الخصائص الإنسانية والفنية لكلٍّ من هؤلاء الكُتاب، وتحديد الطريقة المثلى لتفسير أعمالهم الأدبية وتمييز خصائصها، وكان الدكتور لويس يصدر في كل ذلك عن المفهوم الاشتقاقي الأصيل لكلمة «نقد» Criticism في اللغات الأوروبية؛ فهذه الكلمة مشتقة كما هو معروف من الفعل اليوناني القديم «كرينو» Crino، ومعناها يميِّز أو يحدِّد، وبذلك يكون معنى النقد الأصيل عند اللغات الأوروبية هو التمييز والتحديد؛ أي البحث عن الخصائص المميزة لكل عمل أدبي، وإيضاح نوع الخطوط التي يتكون منها نسيجها، فنراه مثلًا كناقد مثقف خبير يكتشف في «جمهورية فرحات» للدكتور يوسف إدريس شبيهًا بما عُرِف عند الرومان القدماء باسم مسرحية اﻟ masque أي القناع؛ حيث تتحوَّل الشخصيات التي تتابع على مكتب الصول فرحات إلى مجرد أنماط نكاد نعرفها من منظرها الخارجي وكأنه قناع مميز، وكل منها يمثِّل طائفة اجتماعية محددة، كما نراه في نفس المسرحية يستعين بثقافته الواسعة بالمقارَنة بين حلم الصول فرحات عن المدينة الفاضلة، والأحلام المشابهة التي صوَّرها الكُتَّاب العالميون منذ «مور» الإنجليزي حتى حلم المدينة الفاضلة الصناعية عند أحد الكُتَّاب الإيطاليين المحدثين، وكل ذلك مع قدرة صادقة على التمييز بين الأسس الفلسفية المختلفة لكلِّ هذه المدن الفاضلة، وإيضاح أصالة يوسف إدريس بأنه قد اختار لحلم بطله أساسًا جديدًا استمدَّه من إحساسه بحاجتنا المُلِحَّة إلى فضيلة عزيزة منتجة، وهي فضيلة الأمانة التي كاد يُفتَكُ بها في بلادنا طول قرون الفقر والذل والمهانة.

(٤) بيني وبين لويس

وبالرغم من إعجابي بكتابات لويس عوض النقدية التطبيقية، إلا أنني قد كانت لي خلافات معه في بعضها، وقد أشار هو بنفسه في بعض هذه المقالات إلى هذه الخلافات، بينما اكتفى في البعض الآخر — على عادته — بأن يسجِّل وجهةَ نظره دون إشارةٍ إلى الخلاف معي؛ لأنه بطبيعته لا يحب الجدل.

ولربما كان من أهم مواضع الخلاف بيني وبينه الرأي الخاص بموقف الأديب من الأساطير القديمة ومدى حريته في التصرُّف فيها، وقد ظهر هذا الخلاف عند حديثنا معًا عن مسرحية «إيزيس» لتوفيق الحكيم؛ حيث رأى لويس أن الحكيم قد تصرَّف أكثر مما يحق له في الأسطورة الفرعونية القديمة، وبذلك أنقص من جلالها، بينما رأيت أنا أن الحكيم قد أحسن صنعًا بإنزاله هذه الأسطورة من سموات الخيال إلى حقائق الإنسان الأرضية، واستطاع في مهارة أن يستخدم هذه الأسطورة في علاج مشكلة أبدية، وهي مشكلة الصراع بين المثالية والواقعية في شئون السياسة وإدارة الحُكْم. وقد عُدْت إلى هذه المشكلة وفصَّلتُها في كتابي الأخير عن مسرح توفيق الحكيم، وحييت عنده التطور الذي لاحظته في اتجاهه — بعد ثورتنا الأخيرة — من التجريد إلى الواقعية، والارتباط بواقع حياتنا ومشاكلها، كما حييت تطوُّر نظرته إلى المرأة من «جالاتيا» في مسرحية «بيجماليون» إلى «إيزيس» الإيجابية الفعَّالة في المسرحية التي تحمل اسمها؛ حيث نرى توفيق الحكيم يفضِّلها على «بينيلوب» رمز المرأة الإغريقية القديمة، ويشيد بإيجابية «إيزيس» ويقارنها بسلبية «بينيلوب»، رغم نُبْل المرأتين ووفائهما للزوج العزيز.

(٥) في الشعر والقصة

وبالرغم من أن حديث الدكتور لويس عوض عن المسرح وفنونه يستغرق الجانب الأكبر من كتابه، إلا أنه قد جمع فيه أيضًا عددًا من الأبحاث عن دواوين الشعر، وعن مجموعات القصص القصيرة التي ظهرت حديثًا، مثل دواوين صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي، ومثل مجموعات قصص ليوسف إدريس وشكري عياد، وهو في حديثه عن هذين الفنين يصدر عن نفس المنهج التفسيري الذي يتميز به، وإن تكن تفسيراته لا تخلو طبعًا من أحكام تقييمية وتوجيهية كامنة، وإن كنت لا أستطيع أن أطيل أكثر من ذلك بتناوُل بعض تفصيلات هذا المنهج التفسيري، فإنني أكتفي بأن أعلن اغتباطي بهذا الكتاب، وأن أدعو إلى إضافته إلى تراثنا النقدي المعاصر القائم على الثقافة والخبرة والفهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤