المنهج الأيديولوجي في النقد

هناك شبه اتفاق على أن النقد هو فن تمييز الأساليب، وبالطبع لم يكتمل هذا المفهوم إلا في العصور الحديثة؛ فالنقد وإن يكن قد ظهر في العصور القديمة معاصر لإنشاء الأدب، إلا أنه كان في أول الأمر تأثريًّا غير قائم على مناهج أو مدارس محددة الأصول، حتى جاء الفيلسوف الإغريقي القديم «أرسطو» فوضع لأول مرة في تاريخ البشر نظرية فلسفية عامة لجميع الفنون عندما أرجعها جميعًا إلى محاكاة الطبيعة والحياة، ثم قرر ما هو واضح من أنها تختلف بعد ذلك في الوسيلة؛ فالأدب يحاكي الطبيعة والحياة باللغة، والموسيقى تحاكيها بالنغم، والرسم والتصوير بالخطوط والألوان، كما أن المحاكاة قد تكون لما هو واقع فعلًا أو لما هو ممكن الوقوع أو لما هو واجب الوقوع؛ أي إن المحاكاة تكون للواقع وللممكن وللمثال.

وبذلك قرر أرسطو وحدة الفنون في مصدرها وهدفها رغم اختلاف وسائلها، وإذا كان أرسطو قد استطاع أن يسيطر بنظريته العامة عن الفنون على الإنسانية كلها تقريبًا خلال العصر القديم والوسيط، بل خلال عصر النهضة أيضًا، وأثناء سيادة المذهب الكلاسيكي في القرن السابع عشر فإن قرن الثورة الفكرية والاجتماعية التي أخذت تنمو وتشتد في القرن الثامن عشر حتى انتهت بالثورة الفرنسية الكبرى عام ١٧٨٩م قد اجتاحت أيضًا سيطرة أرسطو، بحيث لم يكد يبدأ القرن التاسع عشر حتى أخذت تظهر المذاهب الأدبية والنقدية التي تمردت على أرسطو ونظريته ومبادئه الفلسفية والجمالية، فالرومانسيون لا يرون أن الأدب والفن محاكاة للطبيعة والحياة بل خلق وإبداع، ووسيلتهما ليست الملاحظة والتأمل، بل الإلهام المبدع والخيال الخلاق على نحو ما كان يرى أفلاطون.

وبتمرد الرومانسيين على أصل النظرية وهو المحاكاة، كان من الطبيعي أن يتمردوا على جميع القواعد والأصول الكلاسيكية التي رأوا فيها قيودًا وأغلالًا على العبقرية والفردية، وكانت هذه الثورة الرومانسية أكبر تمهيد لظهور المنهج التأثري في النقد في أواخر القرن التاسع عشر، ولكن هل ظهور هذا المنهج التأثري كان معناه التخلي عن المنهج الموضوعي وإغفاله نهائيًّا؟ وهل يستقيم النقد أو يمكن أن يستقيم على أساس من التأثرية الخالصة، أم أن التأثرية منهج فاسد يجب عدم الأخذ به، ويحسن أن نعود إلى الموضوعية ولو وفقًا لمقاييس ومبادئ وأصول جديدة غير الأصول والمبادئ الأرسطية الكلاسيكية؟

والواقع أن القرن العشرين وعصرنا الحاضر قد شهدا مجادلات حامية حول التأثرية والموضوعية والمفاضلة بينهما في العملية النقدية، وخصوصًا بعد أن نما التفكير نتيجة لازدهار العلوم في عصرنا الحاضر.

فخصوم التأثرية يرون أنها تستند إلى الذوق الخاص في إدراك مواضع الجمال أو القيم في الأعمال الأدبية أو الفنية ويقولون إن الذوق ظاهرة فردية لا تخضع لمعايير عامة، بل من الشاق إرجاعها إلى عناصرها الأولية؛ فالذوق شيء مركب تدخل فيه عوامل لا حصر لها من الجنس والتراث والبيئة والتكوين العضوي والنفسي لكل إنسان، وكثيرًا ما تختلط به النزوات والأهواء والغرور والادعاء، ولا سبيل إلى إخضاع أحكامه لمنطق واضح، وقد يُغنِّي كل على ليلاه.

ولكننا مع ذلك لا نستطيع أن نغفل التأثرية في العملية النقدية، بل لا ينبغي لنا ذلك، فلا بدَّ من أن يبدأ الناقد بتعريض صفحة روحه أو مرآة روحه للعمل الأدبي أو الفني ليتبين الانطباعات التي تتركها تلك الأعمال فيها، والناقد الفاقد الحساسية لا يستطيع أن يكون ناقدًا حقًّا ما لم يكن قادرًا على أن يتلقى من العمل الأدبي، أو الفني، انطباعات واضحة لأنه عندئذٍ سيكون كالصفحة المعتمة أو المرآة التَّرِبة ولن تجديه بعد ذلك في شيء جميع قواعد علم الجمال وأصوله ونظرياته أو ألوان الأدب والفن المختلفة، بل إن معرفة المبادئ والأصول الجمالية والفنية وحدها لا تكفي لتكوين ناقد، ومثله في ذلك من يظن أنه يستطيع أن يُجيد لعبة الشطرنج بمجرد معرفته للمبادئ التي تتحرك وفقًا لها كل قطعة من قطع هذه اللعبة؛ فالواقع أن الأمر يحتاج إلى دربة ومران وحساسية وإدراك.

وتجاربنا اليومية تثبت أنه لا يمكن أن يعني أي وصف للوحة زيتية في دليل المعرض عن مشاهدة تلك اللوحة وتلقي الانطباعات منها مباشرة، كما أن أي تحليل كيماوي لنوع من الشراب لا يمكن أن يعطينا أي معرفة بمذاقه الخاص.

ورجال الكيمياء يفسرون هذه الحقيقة تفسيرًا علميًّا بقولهم إن كل مركب تتولد فيه خصائص لا توجد في عناصره الأولية، فالماء مثلًا يتكون من الأكسجين والأيدروجين وفق نسبة محددة، ومع ذلك فهو مركب سائل مع أن عنصرَيْه الأوليَّيْن غازيان، وله مذاق خاص لا تجده في الأوكسجين أو الإيدروجين، وإنما جاءته تلك الخواص من عملية التركيب والتفاعل ذاتها.

وما يصح في علوم المادة يصح أيضًا في الأدب والفنون فقد نستطيع أن نحلل المسرحية إلى عناصرها من حوار وأحداث وصراع وشخصيات، ومع ذلك لا ندرك قدرتها على التأثير في النفوس ما لم نعرض لها — كمركب متكامل — صفحة روحنا؛ وذلك لأن تركيب هذه العناصر بنسبها المحددة بعضها مع بعض هو الذي يولد قدرتها على التأثير ويحدد نوعية هذه القدرة، وهكذا يقضي العلم الذي لا مفر من أحكامه الحتمية بأنه لا مفر من الاعتماد على التأثرية في إدراك حقيقة العمل الأدبي أو الفني وقدرته أو عجزه عن التأثير في الناس على نحو معين، وهذا هو الهدف النهائي لكل أديب أو فنان، قد يحققه أو يخطئه التوفيق في تحقيقه.

وإذن فالتأثرية مرحلة أولى وجوهرية في النقد الأدبي أو الفني، وإنما أسرف التأثريون عندما ظنوا أن تلك التأثرية يمكن أن تصبح منهجًا نقديًّا مكتفيًا بذاته ويمكن الوقوف عنده، فقرَّاء مثل هذا الناقد لا يستطيعون الإفادة من نقده ما ظل ذاتيًّا خالصًا، ولا بد للناقد التأثري من أن يعتبر تأثريته مرحلة أولى يجب أن يُتبِعها بمرحلة أخرى موضوعية يستطيع تحقيقها بأن يحاول تبرير انطباعاته وتفسيرها ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، بحيث تصبح انطباعاته الخاصة وسيلة إلى المعرفة التي يمكن أن تصحَّ لدى الغير فيقتنع بها، فهنا يلجأ طبعًا إلى مبادئ وأصول الفن الذي ينقده، لكي يستطيع تبرير انطباعاته بحجج عقلية باعتبار أن العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الأصحاء من البشر، وإن يكن من المؤكد أن أي ناقد لا يمكن أن يستطيع تبرير وتسبيب جميع انطباعاته وأحاسيسه الجمالية المرهفة الهروب، وفي ذلك يقول الموسيقي العربي القديم إسحاق الموصلي في حديثه عن جمال النغم: «إن من الأشياء أشياء تدركها المعرفة ولا تحيط بها الصفة.» أي إن هناك من الجمال ما يدركه الإنسان بإحساسه ولكنه لا يستطيع العبارة عنه وتبريره وتسبيبه بالصفات اللغوية؛ أي بالحجج العقلية التي يستطيع الغير إدراكها، وبالتالي الاقتناع بالإحساس الجمالي الذي تلقاه الناقد الخبير الحساس، وقديمًا قالوا إنه من المستحيل أن نجعل من الأبله سقراطًا.

كان المنهج التأثري والمنهج الموضوعي هما اللذان يتصارعان في النقد في أواخر القرن الماضي وأوائل الحاضر قبل أن تظهر وتسيطر فلسفات جديدة على وظائف الأدب والفن وأهدافها في الحياة، وهي فلسفات لم تعد تسلِّم للآداب والفنون بأنهما نشاط جمالي فحسب، وأهم هذه الفلسفات: الفلسفة الاشتراكية والفلسفة الوجودية اللتان نتج عنهما منهج نقدي جديد نستطيع أن نسميه بالمنهج الأيديولوجي، وهو منهج يختلف عما كان يسمى في أواخر القرن الماضي بالمنهج الاعتقادي؛ فهو لا يريد أن يؤاخذ الأدباء والفنانين على أساس من معتقدات خاصة يتعصَّب لها الناقد وتعمي بصيرته، على نحوِ ما كان بعض النقاد المتعصبين الذين يشوهون أدب مفكر حُر كفولتير لأنه لا يحترم الاحترام الكافي في نظرهم عقائد المسيحية، ويسخر من رجال الدين، ويرى أن مصدر نفوذهم إنما هو جهل العامة وغباؤهم، بل يسعى المنهج الأيديولوجي إلى تبين مصادر الأدب والفن من جهة، وأهدافها أو وظائفها من جهة أخرى عند هذا الأديب أو ذاك، وهو في المفاضلة بين المصادر والأهداف عند الأدباء والفنانين المختلفين إنما يرتكز على منطق العصر وحاجات البيئة ومطالب الإنسان المعاصر، فهذا المنهج يرى أن الأدب والفن لم يعودا مجرد تسلية أو هروب من الحياة ومشاكلها وقضاياها ومعاركها، وأن الأديب أو الفنان يجب ألا يعيش في المجتمع ككائن طفيلي، أو شاذ أو جبان هارب أو سلبي باكٍ، أو مهرج ممسوخ، وهو عندما يعرض للمصادر التي يستقي منها الأديب موضوعاته قد يفضل التجربة الحية المعاشة على التجربة التاريخية البالية، وبخاصة إذا لم تصلح وعاء لمشكلة معاصرة تشغل الأديب أو تشغل مجتمعه وإنسانيته الراهنة. والنقد الأيديولوجي لا يكتفي بالنظر في الموضوع، بل يتجاوزه إلى المضمون أي إلى ما يفرغه فيه الأدب أو الفنان من أفكار وأحاسيس ووجهة نظر، فالموضوع الواحد قد يصب فيه أديبان مختلفان مفهومين متناقضين تبعًا لاختلاف نظرة كل منهما إليه واختلاف طريقة معالجته له.

ويرى المنهج الأيديولوجي بحق أن ما كان يسمى في أواخر القرن الماضي بالفن للفن لم يعد له مكان في عصرنا الحاضر، الذي تصطرع فيه معارك الحياة وفلسفاتها المتناقضة، وأن الأدب والفن قد أصبحا للحياة ولتطويرها الدائم نحو ما هو أفضل وأجمل وأكثر إسعادًا للبشر، ويرى النقد مجرد صدًى للحياة، بل يجب أن يصبحا قائدين لها؛ فقد انقضى الزمن الذي كان يُنظَر فيه إلى الأدباء والفنانين على أنهم طائفة من الفرديين الآبقين الشُّذَّاذ، أو المنطوين على أنفسهم أو المجترين لأحلامهم وآمالهم الخاصة، أو الباكين لضياعهم وخيبة آمالهم في الحياة، وحان الحين لكي يلتزم الأدباء والفنانون بمعارك شعوبهم وقضايا عصرهم ومصير الإنسانية كلها وبخاصة في عصر تسير فيه الاكتشافات العلمية بخطًى حثيثة، وقد تُساء استخدام تلك الاكتشافات فتصبح وسيلة لتدمير البشر بدلًا من إسعادهم، ذلك ما لم ينشط رجال الأدب والفن إلى تحمُّل مسئولياتهم في تغذية الوجدان البشري وتنمية الضمير الإنساني على النحو الذي يمكن البشر من السيطرة على العلم وتسخيره لخيرهم، وما أصدق مفكر عصر النهضة الفرنسي «رابليه» عندما قال: «إن علمًا بلا ضمير خراب للنفس.» ومصير الإنسانية كلها رهين بتنمية هذا الضمير بفضل تحمل الأدباء والفنانين لمسئولياتهم كاملة والسير بتلك المسئوليات بنفس الخطى الحثيثة التي يسير بها اليوم التقدم العلمي.

وعلى أساس كل هذه الحقائق نرى المنهج الأيديولوجي في النقد يُناصر اليوم عدة قضايا أدبية وفنية كبيرة مثل قضية الفن للحياة، وقضية الالتزام في الأدب والفن، وتفضيل الأدب أو الفن القائد على الأدب أو الفن الصدى، ومن الواضح أن كل هذه القضايا ترتبط بواقع الحياة المعاصرة وقضاياها ومعاركها، وإن يكن من الواجب أن نفطن أيضًا إلى أن الواقعية ليس معناها محاكاة الواقع ولا تصويره آليًّا؛ وذلك لأن العبرة في الواقعية بالمضمون الذي يصبه الأديب أو الفنان في الواقع؛ أي وجهة نظره إلى هذا الواقع والحكم الذي يريد أن يوحي إلينا به من خلال الصور الفنية التي اختارها لموضوعه؛ ولذلك ليست هناك واقعية مجردة بل هناك واقعية متشائمة التي عرفها الغرب في القرن التاسع عشر، وهي التي تؤمن بأن الإنسان شرير بطبيعته وبحكم تكوينه الفسيولوجي نفسه، وكأنه بذلك شر حتمي لا فكاك منه إلا بأن يغير الإنسان من طبيعته العضوية، وهناك الواقعية المتفائلة التي وإن لم تنكر وجود الشر في الحياة إلا أنها تعد أن الشر عرض تولده عند الأفراد ظروف المجتمع الفاسدة وتكوينه المورفولوجي غير السليم، ومن ثمة فلا محل للتشاؤم؛ لأن أسباب الشر من الممكن إزالتها، وبذلك يعود الإنسان خيرًا وهذا هو مصدر تفاؤلهم.

والشيء الذي نحرص على أن نختم به حديثنا عن المنهج الأيديولوجي في النقد هو منهج لا يريد أن يسلب الأدب أو الفنان حريته، وكل ما يرجوه هو أن يستجيب الأدب والفنان لحاجات عصره وقيم مجتمعه بطريقة تلقائية، وهو لا بدَّ مستجيب إذا فهم وضعه الحقيقي في المجتمع، وأدرك مسئوليته الكاملة، ونهض بالدور القيادي الحر الذي يُعزِّز مكانة الأديب والفنان، ويرتفع بها إلى مستوى الإيجابية الفعالة التي يعتبر الاحتفاظ بالقيم الفنية الجمالية أهم وسيلة لتحقيقها؛ فالأدب أو الفن بغير القيم الجمالية والفنية، لا يفقد طابعه المميز فحسب، بل يفقد أيضًا فاعليته؛ لأن تلك القيمة الفنية والجمالية هي التي تفتح أمامه العقول والقلوب، حتى قال أفلاطون: «لو صيغت الحقيقة امرأة لأحبها الناس جميعها.» «وهو يرمز بالمرأة للجمال وقدرته على استهواء العقول والقلوب.»

وفي ضوء كل هذه الأسس العامة يحدد المنهج الأيديولوجي في النقد وظائفه في ثلاث مهام؛ هي:
  • أولًا: تفسير الأعمال الأدبية والفنية، وتحليلها مساعدة لعامة القراء على فهمها، وإدراك مراميها القريبة والبعيدة، وفي هذه الوظيفة يعتبر النقد عملية خلَّاقة قد تضيف إلى العمل الأدبي أو الفني قيمًا جديدة ربما لم تخطر للمؤلف على بال، وإن لم تكن مقحمة عليه.
  • ثانيًا: تقييم العمل الأدبي والفني في مستوياته المختلفة؛ أي في مضمونه وشكله الفني، ووسائل العلاج كاللغة في الأدب، والتكوين والتلوين وتوزيع الضوء والظلال في التصوير مثلًا، وذلك وفقًا لأصول كل فن مع مراعاة تطوُّر تلك الأصول عبر القرون.
  • ثالثًا: توجيه الأدباء والفنانين في غير تعسف ولا إملاء ولكن في حدود التبصير بقيم العصر وحاجات البشر ومطالبهم وما ينتظرونه من الأدباء والفنانين، وهذه وظيفة يدور حولها اليوم جدل شديد، ولكنه جدل ينصرف إلى الأسلوب والنِّسب أكثر مما ينصرف إلى المبدأ في ذاته، وكل ما يجب أن نحذره في أداء هذه الوظيفة هو عدم خنق العبقريات، أو حرمانها من الحرية التي لا تصلح الحياة ذاتها بدونها، وإن كانت العبقرية الصادقة قادرة على أن توجه نفسها وأن تقود نفسها، وأن تنفعل بعصرها وبمقتضيات هذا العصر وحاجات البشر، ولا يمكن لعبقرية حقة أن تتسكع أو تهرب؛ فالعبقرية قدرة إيجابية فعالة، وبغير الإيجابية لا تستطيع أن تعيش وأن تثمر، وأما الهروب أو التسكع فمن خصائص أشباه العبقرية لا العبقرية نفسها.

وهكذا يتَّضح لنا كيف أن المنهج الأيديولوجي قد حدَّد مجال عمله في النظر في مصادر الأدب والفن وأهدافهما، كما حدد وظائفه في تفسير تقسيم وتوجيه الأعمال الأدبية والفنية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤