المرأة العربية

كانت نظرة العرب إلى المرأة نظرة طبيعية مرتجلة.

ونعني بالنظرة الطبيعية المرتجلة أنها النظرة التي لا يشوبها إحساس دخيل من وهم العقائد أو حكم التشريع، ولكنها تمضي على الفطرة التي توحيها ضرورة الساعة أو ضرورة البيئة، وتختلف على حسب اختلاف هذه الضرورات.

فالعرب لم يضربوا اللعنة قط على المرأة في جاهليتهم الأولى؛ لأن اللعنة التي ضربت على المرأة في القرون الأولى وامتدت إلى القرون الوسطى، إنما جاءت من الإيمان بالخطيئة التي انحدرت بآدم وحواء من نعيم الفردوس، وأصبحت المرأة ملعونة موصومة بالنجاسة والشر عند بعض الناس؛ لأنهم ألقوا عليها تبعة الشهوات التي تثيرها فيهم، وجعلوها حبالة للشيطان مُذ كانوا يحسون بغوايته الخفية كلما أحسوا بغواية الشهوة الحيوانية، ومناطها المرأة قبل غيرها من هذه الأحياء.

فالعرب لم ينظروا قط إلى المرأة هذه النظرة، ولم يحكموا عليها قط بالنجاسة والأصالة في الشر والخباثة؛ لأنهم لم يعرفوا الخطيئة بهذا المعنى في عهد الجاهلية.

كذلك لم يعرفوا التشريع الموضوع الذي يحكم عليها بالاستعباد والخطة المتفق عليها في المنزلة الاجتماعية، وإنما عُرف هذا وأشباهه عند الرومان قبل الإيمان بالخطيئة، وقبل الإيمان بالدين؛ لأنهم كانوا أصحاب ملك عريض لا غنى لهم فيه عن ترتيب الحقوق والمعاملات بين أبناء المجتمع وبناته كافة، فلما رتبوا هذه الحقوق نظروا إلى المرأة في زمانهم نظرتهم إلى كل ضعيف تابع لغيره، ولم يلاحظوا في ذلك عنتًا خاصًّا بها ولا ضغينة «جنسية» موجهة إليها دون غيرها؛ لأنهم نظروا هذه النظرة بعينها إلى أبنائهم الصغار وإلى القاصرين منهم على الإجمال، فعاملوهم معاملة الضعفاء، وأعطوهم من الحقوق ما يعطاه الضعفاء، وهم مع ذلك في عزة الأقارب والأبناء.

هذه النظرة أيضًا لم يعرفها العرب في جاهليتهم الأولى؛ لأنهم لم يضطروا إلى وضع تشريع كامل لدولة كاملة، ولكنهم تركوا أنفسهم على سجيتها كما تختلف بها عاداتها ومأثوراتها، وارتجلوا معاملة المرأة ارتجالًا كما تدعوهم إلى ذلك ضرورة البيئة أو ضرورة اللمحة الحاضرة؛ فربما عاملوها معاملة الرقيق المستضعف في بعض الأحيان، وربما نسبوا إليها الأبناء دون الآباء من الرجال في أحيان أخرى.

والمرجع في كل أولئك إلى أحوال المعيشة العامة في الجزيرة العربية، وخلاصتها السريعة أنها أحوال نزاع شديد على المرعى وموارد الماء لقلة المرعى وكثرة طلاب هذا وذاك.

وهذا النزاع الشديد يجعل القدرة على «حماية الذمار» مقدمة على كل قدرة؛ لأنها مسألة تتعلق بها الحياة والفناء.

وهو كذلك خليق أن يجعل المرأة في بعض الأحوال كَلًّا ثقيلًا على عواتق ذويها؛ لأنها تستنفد القوت ولا تشترك في حمايته والذود عنه.

وهذا الذي يفسر لنا كثيرًا من النقائض العجيبة في الآداب العربية؛ لأنها — عند الرجوع بها إلى أسبابها — لا تحسب من النقائض، ولا تزال متشابهة متقاربة في الأصول.

فمن ذلك مثلًا أن الحرب نشبت بين بني بكر وبني تغلب أربعين سنة لأن البسوس ابنة منقذ أضافت رجلًا فضرب كليب ناقة ذلك الرجل وهو في ضيافة البسوس، فأقسم ابن أختها جساس لها «ليُقتَلنَّ غدًا جمل هو أعظم عقرًا من ناقة جارك»، وقتل كليبًا سيد بني تغلب في ثأر تلك الناقة، أو من أجل كرامة امرأة في ناقة جارها.

وإلى جانب ذلك يعلم القارئ أن قبائل من العرب كانت تدفن بناتها في طفولتها فرارًا من عارها أو إشفاقًا من نفقتها.

ويلوح أنهما نقيضان لا يلتقيان. والواقع أنهما غير نقيضين، وأن البيئة التي تدعو إلى إحدى الخصلتين حقيقة أن تدعو إلى الأخرى.

فإن آداب الحماية تجعل المرأة أحق شيء بأن يحمى، وأن يغار عليه الحماة؛ لأنها أمس بالرجل من أرض المرعى ومن ماء البئر ومن الجمل والناقة، فمن فرط فيها فما هو بقادر على حماية شيء من هذه الأشياء. ومن هنا فرط الغيرة على العرض وإيثار الموت للبنت على العار.

وإذا رجعنا إلى الأصل في «آداب الحماية» وهو النزاع الشديد الذي أوجبه شح الأرض بالري والطعام، فالحاجة إلى القوت خليقة أن تغري بالقسوة المهينة، وأن توسوس للمعوزين في سنوات الضيق بالتخلص ممن يستنفد القوت ولا يعين على تحصيله أو الذود عن موارده، ونعني بهن البنات الزائدات عن حاجة القبيلة في تلك السنوات.

وربما ظن بعضهم أن الوأد كله من مخافة العار كما قال البحتري وهو يعزي بني حميد ذلك العزاء العجيب عن فقد فتاة:

أَتُبَكِّي مَنْ لا يُنَازِلُ بِالسَّيـ
ـفِ مُشِيحًا وَلا يَهُزُّ اللِّوَاءَ

ويختم عزاءه بقوله:

وَلَعَمْرِي مَا العَجْزُ عِنْدِيَ إِلا
أَنْ تَبِيتَ الرِّجَالُ تَبْكِي النِّسَاءَ

فقد قال في تلك القصيدة:

لَمْ يَئِدْ كُثْرَهُنَّ قَيْسُ تَمِيمٍ
عَيْلَةً، بَلْ حَمِيَّةً وَإِبَاءَ

يشير إلى قيس بن عاصم سيد بني تميم الذي أقسم ليئدن كل بنت ولدت له؛ لأن ابنته اختارت صاحبها الذي سباها على العودة إلى أهلها، فكلام البحتري إن صدق فإنما يصدق على قيس وأمثاله، ولكنه لا ينفي أن العرب وجد فيهم من يئد البنات عَيلة — أي إشفاقًا من النفقة — كما وجد فيهم من يئد البنات أنفة من العار، وآية ذلك أن صعصعة بن ناجية كان يشتري البنات من آبائهن ليستحييهن، فيقبلون ذلك ويبيعونهن راضين عن بيعهن، حتى قيل إنه افتدى ثمانين ومائتي وليدة بالشراء، ولو كان آباؤهن يئدونهن خشية العار وحده لما أغنى عنهم إقصاؤهن وهن في قيد الحياة، ولحق بهم في بيعهن عار لا يقبله من يأنف من العار، والقرآن الكريم يقول: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ.

ونخرج من هذا جميعه بأن هذه النقائض الظاهرة مصدرها واحد، وهو النزاع على الرزق وما أوجبه من تقديس فضائل الحماية والدفاع عن الحرمات. فهذا المصدر يفسر لنا وأد البنات خشية الإملاق كما يفسر لنا وأدهن خشية العار، ويفسر لنا احتقار البكاء على المرأة كما يفسر لنا إعزاز جارها حتى لتنشب الحرب أربعين سنة غضبًا من إصابة ناقة في جوار خالة رئيس، ويرجع كله إلى نظرة طبيعية تجري مع الحوادث في مجراها، فلا يشوبها وهم من عقيدة دينية، ولا يخالطها قيد من أحكام التشريع.

•••

ومن لوازم هذا النزاع الشديد في مظهر آخر من مظاهر البادية العربية أنه جعل المرأة عاملة نافعة في حياة الأسرة وحياة القبيلة؛ لأن المعيشة الضنك التي كان يعيشها البدوي في صحرائه المجدبة تأبى عليه الترف والبذخ، ولا تتسع لإسراف المدني الذي ينفق على المرأة ولا أرب له عندها غير المتعة والمسرة، ولا عمل لها عنده غير الراحة والزينة. فكانت المرأة العربية — في البادية خاصة — تعمل كل ما تستطيع أن تعمله لخدمة أسرتها وقبيلتها، وتعلم كل ما تستطيع أن تعلمه لإتقان عملها وتجويد خدمتها؛ فكانت ترعى الإبل والشاء، وتمخض اللبن، وتغزل الصوف، وتصنع الخيام، وتضمد الجراح، وتطب لنفسها في شئون الحمل والولادة، وتحذق من هذه الشئون ما تجهله المرأة الحضرية في كثير من أمم العصر الحديث، وتعينها على ذلك حاجتها إلى تطبيب نفسها وقيامها على رعي الأحياء التي تلازمها في غدوها ورواحها وفي صحتها ومرضها وفي حملها وولادتها وفي اختيار الأصلح والأجدى لنسلها ونتاجها.

وقد رويت عن نساء العرب صفات أخرى للحمل والرضاعة تشبه هذه الصفة في جملة معناها، وهي صفات لا يشترط أن تطابق العلم الحديث في جميع تحليلاته وتفصيلاته، بل حسبها على سذاجتها أن تدل على طب معروف في علاج الحمل والولادة والرضاع، وأن الأمر في هذه الشئون لم يكن عند المرأة العربية هملًا متروكًا للمصادفات، كما يشاهد ذلك في بيئة الكثير من الحضريات المعاصرات.

•••

إلا أن الشظف الذي كان يعم الجزيرة العربية ويذكي فيها ذلك النزاع الشديد على الرزق لم يكن خلوًا من الجوانب التي يرق فيها ويلطف وتسري منها الرقة واللطف إلى العلاقة بين الرجال والنساء؛ فتنعم المرأة بالرفق الذي يرفع من مكانتها، ويهذب من معاملتها في سائر البيئات الإنسانية لا في الجزيرة العربية وحدها.

وأهم هذه الجوانب جانب النشأة في بيئة الحضارة، وجانب النشأة في بيئة السيادة.

فالحضارة تصقل الطباع، وتهذب حواشي النفوس، وتغني القبائل عن القتال وعن ثورة الغضب للذمار المهدد بالليل والنهار، وأول ما يظهر هذا الصقل والتهذيب في العلاقة بين الرجل والمرأة؛ لأنها العلاقة التي تمتحن بها الكياسة وآداب الخطاب.

والسيادة تعلم السادة أن يعنوا بمكان بناتهم من العزة والرخاء، فلا يسلمونهن لمن ينزل بهن عن منزلة العقائل المبجلات اللواتي يغنين في بيوتهن عن الخدمة المسفة والعيش الذليل.

ولهذا كان سادة العرب يختارون الأزواج لبناتهم، ثم لا يكتفون باختيارهم حتى يشركوهن في الرأي ويدخلوهن في المشورة، ومن أنباء ذلك التي استفاضت في الأدب العربي أن الحارث بن عوف المري قدم على أوس بن حارثة الطائي خاطبًا، فدخل أوس على زوجته ودعا ببنته الكبرى، فقال لها: يا بنية! هذا الحارث بن عوف سيد من سادات العرب قد جاءني طالبًا خاطبًا، وقد أردت أن أزوجك منه، فما تقولين؟ قالت: لا تفعل. قال: ولم؟ قالت: لأني امرأة في وجهي ردة وفي خلقي بعض العهدة، ولست بابنة عمه فيرعى رحمي، وليس بجارك في البلد فيستحي منك، ولا آمن أن يرى مني ما يكره فيطلقني فيكون عليَّ وعليك من ذلك ما فيه.

فصرفها ودعا بابنته الوسطى، وعرض عليها ما عرضه على الكبرى، فقالت: إني خرقاء، وليست بيدي صناعة، ولا آمن أن يرى مني ما يكره فيطلقني!

فلما دعا بأختهما الصغرى قالت: «… ولكنني والله الجميلة وجهًا، الصناع يدًا، الرفيعة خلقًا، الحسيبة أبًا، فإن طلقني فلا أخلف الله عليه بخير!»

وهذه الفتاة الصغرى — واسمها بُهيسة — هي التي تزوجها الحارث وزفت إليه، فأنكرت منه أنه يدخل عليها في ثياب العرس والحرب قائمة بين عبس وذبيان فلا يشغله عن الطيب والزفاف أن يصلح بينهما … فأكبر منها زوجها هذه الحكمة، وسعى في الصلح بين الحيين حتى استُجِيبَ إليه.

وممن جاءت الأنباء على اختلاف الروايات باستشارتهن في الزواج: هند بنت عقبة أم معاوية بن أبي سفيان، وقد خطبها سيدان من قومها، فاستخبرت أباها عنهما، فقال يصفهما: «أما أحدهما ففي ثروة وسعة من العيش، إن تابعته تابعك، وإن ملت عنه حط إليك، تحكمين عليه في أهله وماله. وأما الآخر فموسع عليه منظور إليه في الحسب الحسيب والرأي الأريب، مِدْرَهُ أرومَتِهِ وعِزُّ عشيرته، شديد الغيرة لا ينام على ضعة ولا يرفع عصاه عن أهله.»

فقالت: «يا أبت! الأول سيد مضياع للحرة، فما عست أن تلين بعد إبائها، وتضيع تحت جناحه، إذا تابعها بعلها فأشرت، وخافها أهلها فأمنت؟ ساء عند ذلك حالها، وقبح عند ذلك دلالها، فإن جاءت بولد أحمقت، وإن أنجبت فمن خطأ ما أنجبت، فاطوِ ذكر هذا عني ولا تُسمِّه عليَّ بعد! وأما الآخر فبعل الفتاة الخريدة الحرة العقلية، وإني لأخلاق مثل هذا لموافقة، فزوجنيه.»

ويلوح من تكرار هذه الأنباء أن استشارة البنات في أمر زواجهن كان سنة من السنن المرعية بين سادات العرب، لا يشذ عنها إلا القليل.

•••

ومن البديه أن هذه العادات والآداب التي تنشأ من بيئة الوطن ومناخه تعم الأمة برمتها، ولا يقع فيها التفاوت إلا ما لا بد منه بين فرد وفرد، أو بين طبقة وطبقة، على المثال الذي قدمناه.

بيد أنك قد ترى في الأمة طائفة من عليتها أو بيتًا من بيوتها يخيل إليك أنهم خصوا من دونها بصفوة هذه الآداب ونقاوة هذه العادات.

أو يخيل إليك أن آداب الأمة كلها إنما كانت تحضيرًا مقصودًا لهذه الطائفة أو لهذا البيت، يأخذون منه بالخلاصة المصفاة واللباب المختار.

فإذا صح هذا الوصف في قبيلة من قبائل العرب فهو أصح ما يكون في قبيلة بني تَيْم، ثم في بيت أبي بكر الصديق الذي كان في موضع الذؤابة من هذه القبيلة.

فقد اجتمعت لبني تيم خلاصة الآداب التي نجمت من فرائض الحماية والذود عن الذمار، ثم تناولتها بالصقل والتهذيب بيئة السيادة وبيئة الحضارة.

وكان بيت الصديق على التخصيص مثلًا في هذه الآداب جميعها يحتذى به بين الحواضر العربية.

لأن سيادة هذا البيت لم تكن سيادة طغيان وقتال، ولكنها كانت سيادة شرف وأمانة، وكانت حصته في الجاهلية من مقاوم الشرف حصة الوفاء بالمغارم وضمان الديون، وعمله الأكبر في الجاهلية يدور على التجارة ومعاملة الناس، ولا يدور على البأس والإكراه.

فنشأ البيت كله على الرفق والدماثة ورقة الحاشية، واشتهر بتدليل نسائه وبناته حتى قيل — كما جاء في الأغاني — إنهن كن أحظى خلق الله عند أزواجهن، وكانت عند الحسين بن علي — رضوان الله عليهما — أم إسحاق بنت طلحة، فكان يقول: «والله لربما حملت ووضعت وهي مصارمة لي لا تكلمني.»

وندر من أبناء الصديق — رضي الله عنه — من لم يكن له مع امرأته شأن يذكر في باب المحبة بين الأزواج.

فعبد الله أكبر أولاده بنى بعاتكة بنت زيد العدوية فهام بها وشغل عن خاصة أمره وعامته، حتى نصح له أبوه بطلاقها فطلقها وهو كاره، ثم أدركه الندم فنظم فيها القصائد، ومنها:

أَعَاتِكُ لا أَنْسَاكِ مَا ذرَّ شَارِقٌ
وَمَا لَاحَ نَجمٌ في السَّماءِ محلقُ
أَعَاتِكُ قَلبِي كُلَّ يومٍ وَلَيلَةٍ
لَديكِ بَما تُخفِي النُّفُوسُ مُعَلَّقُ
وَلَمْ أَرَ مِثْلِي طَلَّقَ اليومَ مِثْلَهَا
وَلَا مِثلهَا فِي غَيرِ شَيءٍ تُطَلَّقُ

وأخوه عبد الرحمن نَفَلَهُ عمر بن الخطاب ليلى بنَةَ الجودي من حسان غسان الموصوفات بالقسامة والجمال فلازمها، ولم يفارقها فترة إلا نظم الشعر في الحنين إليها، ومن قوله فيها:

تذكَّرت ليلى والسَّمَاوة بيننا
فما لابنةِ الجودي ليلى ومَا لِيَا
وأنَّى نلاقيها! بلى، ولعلها
إذا الناس حجُّوا قابلًا أن توافِيَا

وأفرط في التعلق بها حتى لامته شقيقته السيدة عائشة — رضي الله عنها — وما زالت به حتى جفاها، فعادت تلومه في جفائها، وتقول له: «أفرطت في الأمرين، فإما أن تنصفها، وإما أن تجهزها إلى أهلها» فجهزها إلى أهلها.

ومن ذرية الصديق «ابن أبي عتيق» صاحب عمر بن أبي ربيعة شاعر الغزل المشهور، وكان يسمع بالجفاء بينه وبين الثريا، فيركب من مدينة إلى مدينة ليصلح بينهما، ولا يترجل عن مطيته حتى يتم الصلح على ما يرومه.

وهو مع هذا كان يتحرج من نزوات عمر ويسأله: ألم تخبرني أنك ما أتيت حرامًا قط؟ فيقول: بلى! فيستخبره عن قوله:

ومَا نِلْتُ منها محرمًا غَير أنَّنا
كلانا من الثَّوبِ المورد لابس

ثم لا يتركه حتى يجيبه بما يدفع شكه، ويرده إلى حسن ظنه.

•••

فآداب الرجال والنساء في بني تيم كانت مثالًا للرعاية التي تظفر بها المرأة العربية في بيئة السيادة وبيئة الحضارة.

ولكنها لم تزل عربية في قرارها، ولم تنقطع عن آداب الأمة التي جعلت عرضها أحق شيء بالحماية، وأقمن حصن أن تمنعه وتغار عليه.

فكان أبو بكر نفسه مثلًا من أمثلة الغيرة بين أهله وقومه، وقد قال ابن سيرين: كان أغير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن نفرًا من بني هاشم دخلوا على زوجته أسماء بنت عميس، فكره دخولهم عليها، وشكاهم إلى النبي — عليه السلام — فقام على المنبر فقال: لا يدخلن رجل بعد يومي هذا على مغيبة إلا أن يكون معه رجل أو اثنان.

ولما شبَّب عمر بن أبي ربيعة بعائشة بنت طلحة التيمية تجمع فتيان تَيم فأنذروه لئن تعرض لها بعد ذلك ليقتلنه شر قتلة، فأقسم لا عاد.

وعائشة هي التي كانت تعاتب في كشف وجهها فتقول: «إن الله وسمني بميسم جمال أحببت أن يراه الناس ويعرفوا فضله عليهم، فما كنت لأستره، ووالله ما فيَّ وصمة يقدر أن يذكرني بها أحد.»

فهو دلال لا ينسى الصيانة، ورفق لا ينسى الغيرة، وآداب سيادة وحضارة لا تنسى الأصول المعروفة في آداب البداوة.

وفي هذه البيئة التي تحوطها الحمية والرعاية نشأت ربَّة هذه الدراسة وموضوع هذا الكتاب: عائشة بنت الصديق رضي الله عنها.

ولكنها تفردت برعاية لم تشركها فيها ولائد هذه البيئة؛ فقد تربت على النعمة والخير، وتدربت على العزة والكرامة، وتعلمت القراءة التي لم يكن يتعلمها من نجباء الأبناء في بيوت السادة إلا القلة المعدودة.

فصح أن يقال إن الرعاية التي ظفرت بها ربة هذه الدراسة كانت هي خلاصة الكرامة التي هيأتها لبناتها حمية البداوة، وصقلتها مع الزمن شمائل الحضر ومآثر الشرف والسيادة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤