حديث الإفك

حديث الإفك هو حديث القصة التي أشاعها بعض المنافقين عن السيدة عائشة (رضي الله عنها)، وعلى رأسهم عبد الله بن أُبيِّ بن سلول زعيمُ المدينة الموتور، الذي لم ينسَ قطُّ حقدَه على النبي ولا على الإسلام والمسلمين.

وحديث الإفك هذا هو الحديث الذي اجتمعت له كلُّ بواعث الفضول والوشاية، التي تُغرِي ألسنةَ الناس بالخوض في أمثال هذه الأحاديث، ولو كانت من نسج الخيال واختراع القُصَّاص.

فمِن دأبِ الناس قديمًا أن يتطلعوا إلى الأسرار، ويُكثِروا القيل والقال في الوشايات.

وهم أشد تَطلعًا إليها، وكَلَفًا بالقيل والقال فيها، إذا اشتملت على وشاية من وشايات الرجال والنساء، ولولا كَلَفُهم بهذا لَمَا اختُرِعت لهم القِصَص والروايات، التي يقرءون فيها أخبارَ رجلٍ لا وجودَ له وامرأةٍ لا وجودَ لها، وهم يعلمون أنهما من نسج الخيال.

ولكنهم أشدُّ من ذلك تطلعًا إليها وكَلَفًا بالقيل والقال فيها إذا هي تعلَّقت بعظماء الرجال وعظماء النساء.

ثم يبلغ التطلع أشُدَّه والكَلَف حدَّه إذا كان لأحدٍ من الناس غرض في ترويج الإشاعة واللَّغط بها، والاسترسال في ذيولها وحواشيها.

فإذا كان هذا الغرض على اتصالٍ بالعصبيات القومية والعقائد العامة التي تصطرع حولها الأهواء وتضطرم فيها الضغائن، ويطول فيها جدلُ المصدِّقين والمكذِّبين، ونزاعُ المحِبِّين والمبغِضين، فقد اجتمعت للقصة — كما قلنا في صدر هذا الفصل — كلُّ بواعث الفُضول والوشاية، وأحاطت بها كل مُغريات اللَّغط والتشهير.

وهذا الذي حدث بحذافيره في حديث الإفك، الذي تولَّى كِبْرَه زعيمُ الخزرج في المدينة عبد الله بن أُبيِّ بن سلول.

فهو حديث وشاية عن رجلٍ وامرأة.

وهما أعظمُ الرجال وأعظمُ النساء.

وفي اللَّغط به غرضٌ قوي لأكبر زعماء الخزرج في زمانه، وغرضٌ قوي لكلِّ مَن يبغي المساسَ بالنبي، وبالإسلام كله من طريق المساسِ بنبي الإسلام.

ولولا ذلك لَمَا سُمِع بحديث الإفك، ولا استحقَّ أن يُصغى إليه؛ لأنه أوهى وأسخف من أن يطول فيه تصحيحٌ وتفنيد.

وكأيٍّ من رئيس في قومه وُتر كما وُتر ابن سلول، واشتمل قلبه على البُغض كما اشتمل قلبُ ابن سلول على بُغض النبي، وأحبَّ أن يَهدم دعوة من الدعوات كما أحبَّ ابن سلول أن يهدم دعوة الإسلام، ولكنه مع كل هذا يتورَّع عن رجْم المحصَنات بالباطل، ويمسِك لسانه عن الخوض في وشايات الدنس؛ لأنها مَسبَّة لا تجمل بمروءةِ الكِرام.

إلا أن ابن سلول لم يكن من هؤلاء الرؤساء المتورِّعين المترفِّعين، ولم يكن له من أخلاقه ما يَعصمه أن يكذب وأن ينافق وأن يُداهِن، وأن يصطنعَ الوشايةَ ويَلَغَ في الأعراض؛ لأنه كان مطبوعًا على النفاق، مشهورًا به بين أصحابه وخصومه على السواء.

كان زعيم الخزرج بالمدينة، فكان ينافس زعماءَ الأوس بها في إرضاءِ النبي والتزلُّف إليه، ثم يخلو بأعداء الإسلام فيؤلِّبهم على المسلمين، ويُسوِّل لهم قتلَ النبي ويُوغِر صدورَهم على هذا الدينِ الجديد، وكلِّ منتصِر له وكلِّ منتسِب إليه.

وقُبيلَ حديث الإفك بأيامٍ قليلة كانت فئةٌ من الأنصار والمهاجرين تستقي، فتنازَعَ رجلان منهما على الماء كما يَحدث على كل بئر وفي كل مَوردٍ يَكثر حوله القُصَّاد، فلم يَدَعْها ابن سلول تنقضي دون أن يُثير فيها الثائرة، التي ودَّ أن تعصف بالمسلمين أجمعين، وقال مستهولًا: أَوَقَدْ فعلوها؟ واللهِ ما أرانا وجلابيب قريش هذه إلا كما قيل: سمِّنْ كلبَك يأكُلك. أَمَا واللهِ لَئن رجعنا إلى المدينة لَيُخرِجنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ. وأقبلَ على مَن حضره من قومه يُحرِّضهم، ويقول لهم: هذا ما فعلتم بأنفسِكم … أحللتُموهم بلادَكم، وقاسمتُموهم أموالَكم، وأَمَا واللهِ لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لَتحوَّلوا إلى غير دارِكم!

ونمى الحديثُ إلى النبي عليه السلام، فأسرع إليه ابنُ سلول يُقسِم ويبالغ في القَسَم أنه ما نبَسَ بحرفٍ منه.

فالخوضُ في الوشايات والولوغ في الأعراض هو أشبهُ شيءٍ بأخلاق هذا الرجل الذي مردَ على النفاق، وأصبح وأمسى حياته كلها بين الدسِّ والاختلاق، وله من الوتر العظيم الذي وُتِر به شفيعٌ عند طَبْعه السقيم؛ لأنه أضاع المُلكَ والتاجَ بظهور الإسلام.

قال أُسيد بن حضير زعيمُ الأوس يسأل النبي عليه السلام ألَّا يَدَع المدينةَ لعبد الله بن سلول: «يا رسول الله أرفِقْ، فواللهِ لقد جاءنا الله بك وإنَّ قومه لَينظمون له الخرزَ ليُتوِّجوه؛ فإنه لَيرى أنك قد استلبتَه مُلكًا.»

فلا جرَمَ يكون له غرض، أي غرض، في ترويج حديث الإفك، واتخاذه مَطعنًا في الإسلام من وراء الطعن في كرامة نبي الإسلام؛ ولهذا لم يلبث أن أفلتَتْ منه نِيتُه، فظهرت من بوادر لسانه في الكلمة التي قالها حين مرت به السيدة عائشة على جمَلٍ يَقُوده صفوان بن المعطل، فقد حُكِي عنه أنه سأل: مَن هذه؟ فقيل: عائشة. قال: امرأةُ نبيِّكم باتتْ مع رجلٍ حتى أصبحت ثم جاء يَقُودها.

وإن غرضَ ابن سلول هذا لَهُو بعينه غرضُ كلِّ مُتشبِّث بحديث الإفك إلى يومنا هذا، لِيتَّخِذ منه سبيلًا إلى الطعن في الإسلام ونبي الإسلام، وبخاصةٍ بين المبشِّرين من المستشرقين.

فمِن هؤلاء مَن غلب عليه أدبُ التربية، فاستبعَدَ حديثَ الإفك كما فعل موير Muir، حيث قال بعد الإشارة إليه: «إن سيرة عائشة قبل الحادث وبعده، لَتُوجبُ علينا أن نعتقد براءتها من التهمة.»

ومنهم مَن نقل الحكاية وخلطها بالمعجزات، التي لا يُصدِّقها غير المسلم، كما فعل واشنطون إرفنج في سيرة النبي عليه السلام، فلم يقطع بنفيٍ صريح، وترك البابَ مفتوحًا للأقاويل.

ومنهم مَن جاوَزَ الحقيقة في وصفِ ما جاءت به الروايات، فزعم أن السيدة عائشة ابتعدتْ عن النبي يومًا كاملًا، قضَتْه في صُحبة صفوان، خلافًا لما جاء في كل قصةٍ نُقِلت إلينا عن حديث الإفك، ونعني به ردويل Rodwell صاحب ترجمة القرآن، حيث عرض لهذا الحديث في حاشيةٍ من حواشيه على سورة النور.

وهؤلاء مع هذا هم أشدُّ المستشرقين تَقِيةً وحذرًا في تعرُّضهم لهذا الحديث.

لكنَّ المبشِّرين المحترفين لم يتقوا هذه التَّقِية ولم يحذروا هذا الحذر، بل جزموا بصحة الحديث وقال بعضهم إن محمدًا استنزل الآيات في سورة النور ليحمي سُمعةَ زوجته، ويدين الوشاةَ بالعقاب الذي ورد في تلك السورة. وجهْلُهم بالقرآن هو الذي أوقَعَهم في تلك الفِرْية الوضيعة، التي يخبطون فيها على غير علمٍ بمصادرها ومواردها، فإن سورة النساء — وهي سابقةٌ لسورة النور — قد نصَّت على الأربعة الشهود في إثبات الزنا: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا.

وآخَرون من أولئك المبشِّرين المحترفين رجعوا إلى تاريخ الغزوة التي جرى بعدها حديثُ الإفك ليقولوا إن الليلة كانت غير قَمْراء، وإن البحث عن العِقْد الضائع فيها عسير، مع أن الاختلاف على سَنة الغزوة — فضلًا عن شَهْرها وليلتها — كثير، يتراوح بين السنة الرابعة والسنة السادسة وما بعدها، فجاءوا هم وأخذوا بالقول الذي يُعجبهم ويُعِينهم على فِرْيتهم، وهم حتى في هذا مُغرضون متعسِّفون؛ لأن ابتداء المسير إلى الغزوة في الثاني من شعبان لا يمنع أن الجيش قضى أيامًا في ذهابه وإيابه، وعاد والليلة قَمْراء في صَحْو البلاد العربية. ولو كان في الأمر محلُّ اعتراضٍ من هذه الناحية، لَمَا فات الذين حضروا الغزوة وشهدوا النور والظلام في تلك الليلة، وهم قُصَّاصُ الأثر وأصحاب القمر في الحِلِّ والسفر، وفيهم مَن يحرص على التشهير كحرصِ هؤلاء المبشِّرين.

ومن الإسفاف أن نتتبَّع هؤلاء الوشاة في كل ما خبطوا فيه من إثم وكل ما رجموا به من ظن، كأن أخلاق الناس وحقائق التاريخ رهْنٌ بما يتمحَّلونه ووقْفٌ على ما يختلقونه. وما كانت وشاياتهم تلك بحثًا يستند إلى رأي، أو ظنًّا يعتمد على قرينة، ولكنها كانت كذبًا لا يليق بالمؤرخ، وسوءَ نيةٍ لا يليق بالإنسان، وخِسَّةً في حق امرأةٍ شريفة لا تليق بالرجل الكريم.

وإنما أومأنا إلى ضروبٍ من تلك الوشايات لنعلمَ أن الحذرَ واجبٌ هنا على قدر ضخامة الأغراض التي تخلق الوشاية، وتنطلق في ترويجها إلى أيامنا هذه وإلى ما بعد هذه الأيام، ما دام في الدنيا أناسٌ يستبيحون أن يجترئوا بالشُّبهات على امرأةٍ لا ذنبَ لها إلا أنها زوجُ نبيٍّ يريدون التشكيك فيه.

على أننا في الجهة الأخرى نُبرِّئ السيدة عائشة من هذه المظنَّة، ولا نعتمد في التبرئة إلا على الفهم الذي يفهمه المسلم ومَن لا يدين بالإسلام، ويَقبله صاحب الدين ومَن لا يأخذ بدينٍ من الأديان؛ لأن براءتها ليست من الخفاء بحيث لا يُقام عليها الدليل إلا من وحي السماء.

وكفى دليلًا هنا أنْ ليس على الظِّنَّة بها أقلُّ دليل.

•••

نشأ حديث الإفك بعد عودة النبي من غزوة بني المصطلق، وقد كان مسيرُ الجيش في عودته من هذه الغزوة مضطربًا أشدَّ اضطراب، لشيوع الفتنة بين المسلمين وأتباع عبد الله بن أُبيِّ بن سلول رأسِ المنافقين وزعيم الخزرج أقوى قبائل المدينة، والرجلِ الذي جامَلَ النبي عليه السلام كلَّ مجامَلة كريمة، فلم يُقلِع عن نفاقه ولم يَدَع قطُّ فرصةً من فرص الكيد والسعاية.

ففي طريق العودة من غزوة بني المصطلق، نجَمَ ذلك الخلافُ الذي أشرنا إليه على السقاية من بعض الآبار، فصاح صائحٌ: يا لَلخزرج! وصاح الآخر: يا لَكنانة، يا لَقريش! وشهر الفريقان السلاح، فخرج النبي غاضبًا لهذه العصبية، التي كرِهَ أن يُحيِيَها الخلاف في جيشه، وسأل: ما بال دعوى الجاهلية؟ ثم قال: دعوها فإنها مُنتِنة.

واغتنم عبد الله بن أُبيٍّ الفرصةَ فطفق يحضأ في النار، ويصيح في كلِّ مَن لقيه: «ما رأيتُ كاليوم مَذلَّة، واللهِ إني لقد ظننتُ أني سأموت قبل أن أسمع هاتفًا يهتف بما سمعت، أَمَا واللهِ لَئن رجعنا إلى المدينة لَيُخرِجنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ. حتى قال لأتباعه: لم ترضوا بما فعلتم حتى جعلتم أنفسكم أغراضًا للمنايا، فقُتلتم دونه — يعني النبي — فأيتمتم أولادكم، وقللتم وكثروا، فلا تُنفِقوا عليهم حتى ينفضُّوا من عند محمد.» إلى آخِر ما قال وبلغ النبيَّ عليه السلام.

وشاع الخبر فأذَّنَ النبي عليه السلام بالرحيل في ساعةٍ لم يكن يرحل فيها لشدة الحَر، وسأله أُسيد بن حضير: يا نبي الله، لقد رحلتَ في ساعةٍ مُنكَرة ما كنتَ تروح في مثلها؟ فقال: أَمَا بلغك ما قال صاحبكم! يُشير إلى كلام ابن سلول.

ثم سار الجيش سيرًا حثيثًا، وجعل النبيُّ عليه السلام يضرب راحلته بالسَّوط في مَراقِّها ليستعجلها، وانقضى اليومُ وليلتُه وصدرٌ من اليوم التالي حتى آذنَتْهم الشمس، ثم نزل الناس فلم يلبثوا أن وجدوا مسَّ الأرضِ حتى وقعوا نِيامًا.

ولما أخذوا في المسير هاجتْ ريحٌ شديدة كادت تدفن الرَّكب، وخطَرَ لبعضِ الجُند أن عُيَينة بن حصن ربما أغار على المدينة في هذه الغاشية، لانقضاء مدة المُوادَعة بينه وبين المسلمين، فكان هذا من دواعي العجلة واضطراب مواعيد الرحيل.

ثم دنا الليل وهم على مَقربةٍ من المدينة، فأناخ الرَّكب للراحة، وذهبت السيدة عائشة لبعض شأنها، ثم تفقَّدت عِقْدَها وهي راجعة، فإذا به قد انسلَّ منها فحبَسَها التماسُه هُنَيْهة، ثم عادت إلى مكانِ هَودَجِها، فإذا بهم قد احتملوه وهم يحسبونها فيه، لخِفَّتِها. وتهيَّبَ الجند الذين يرحلون لها أن ينادوها أو يستوثقوا من وجودها.

فأقامت حيث هي وظنَّتْ أنهم سيرجعون إليها لا محالةَ إذا أحسُّوا غَيبتَها.

وكان صفوان بن المعطل على ساقة الجيش، يتخلَّف عنه ليلتقط ما يسقط من المتاع، وربما كان النبي عليه السلام يعهد إليه في ذلك؛ لأنه كان ثقيلَ النوم فلا يستيقظ حتى يأخذ الجيش في المسير، وقد شكَتْه امرأته إلى النبي لأنه ينام ولا يصلي الصبح قبل طلوع الشمس.

فكان عليه السلام يعلم ذلك منه، ويقول له: إذا استيقظتَ فصَلِّ!

وقد يَحسن هنا أن نوجِّه شكوى امرأتِه إلى بعض معانيها، كأنها أرادت بثِقَل النوم كنايةً عن أمرٍ آخر لا تُفصح عنه؛ إذ قيل عن صفوان هذا إنه كان «حَصُورًا» لا يأتي النساء، وسُمِع وهو يُقسِم بعد حديث الإفك أنه ما كشف عن كتِفِ امرأةٍ قط.

فلمَّا نهض صفوان ليتبع الجيش في ساقته، رأى سَوادًا على البُعد، ثم عرف السيدةَ عائشة فجعل يسترجع ويُعِيد استرجاعه: «إنا لله وإنا إليه راجعون، إنا لله وإنا إليه راجعون …» كأنه يُنبِّهها بالاسترجاع؛ لأنه يتهيَّب التحدُّثَ إليها. ثم قرَّب البعير وقال: «أمَّه، قومي فاركبي.» وأخذ بزمام البعير يقوده، حتى أدرك الجيشَ في نحر الظهيرة.

حدث هذا وابنُ سلول لم يفرغ من دسيسته الأولى، التي أزعجت الجيشَ وأوقعَت الاضطرابَ في حركاته ومواعيد رحيله ومَبِيته، فسنحت له فرصةٌ للقيل والقال، لا يُضيِّعها الرجل الذي عزَّ عليه أن تنقضيَ مشاجَرةٌ بين أجيرَيْن على الماء، دون أن يُثير فيها تلك الثائرة الهوجاء، وراح يقول: «واللهِ ما نجت منه ولا نجا منها.» وأطلق لسانه في حديث الإفك على الطريق وبعد العودة إلى المدينة، عسى أن يُوقِع بين النبي وأقربِ الأصدقاء إليه أبي بكر الصديق، أو يُفلِح في تشكيك المسلمين في كرامة نبيهم، أو يُقِيم بين قومه الخزرج وسائر المسلمين شغبًا يقعون فيه عصبيةً له وأَنَفةً من هوانه، فينتقض أمر الإسلام من أوسٍ وخزرج وأنصارٍ ومهاجرين.

قالت السيدة عائشة في بعض ما رُوِي عنها: «وقَدِمْنا المدينةَ فاشتكيتُ شهرًا، والناس يُفيضون في قول أصحاب الإفك، ووصل الخبر إلى النبي وإلى أبوَيَّ، ولا أشعر بشيءٍ من ذلك، وكان يُرِيبُني أني لا أعرف من رسول الله اللطفَ الذي كنتُ أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل عليَّ فيسلِّم وعندي أمي تُمرِّضني، ثم يقول: كيف تِيكم؟ ثم ينصرف، فذاك الذي يُرِيبُني، حتى خرجتُ بعدما نقهتُ فخرجَتْ معي أم مِسطَح، وهي بنت خالة أبي بكر … وعثرت أم مِسطَح في مِرْطِها، فقالت: تعِسَ مِسطَح! قلت لها: بِئْس ما قلتِ: أتسُبِّين رجلًا شهِدَ بدرًا؟ قالت: يا هَنَتاه! أَوَلَمْ تسمعي ما قال؟ قلت: وما قال؟ فأخبرَتْني بحديث أهل الإفك، فازددتُ مرَضًا على مرضي، ورجعت إلى بيتي فمكثتُ تلك الليلة، حتى أصبحت لا يَرقأُ لي دمعٌ ولا أكتحِل بنوم. ثم دخل رسول الله وقال بعد أن سلَّم: كيف تِيكُم؟ فاستأذنتُه أنْ آتي بيت أبوَيَّ، وأنا أريد أن أتثبَّتَ الخبرَ من قِبَلهما، فأذِنَ لي رسول الله ، فجئتُ أبوَيَّ ودخلت الدار، فوجدت أم رومان في السُّفْل، وأبا بكر فوق يقرأ، فقالت أمي: ما جاء بكِ؟ قلت لأمي: يغفر الله لكِ، تحدَّث الناس بما تحدَّثوا به، ولا تذكُرينَ لي من ذلك شيئًا؟ قالت: يا بُنيَّة! هوِّني عليكِ، فواللهِ لَقَلَّما كانت امرأةٌ قطُّ وضيئةً عند رجلٍ يحبها، ولها ضرائر، إلا أكثرنَ عليها … فاستعبرتُ وبكيتُ، فسمع أبو بكر صوتي فنزل فقال لأمي: ما شأنها؟ فقالت: بلَغَها الذي ذُكِر من شأنها. ففاضت عيناه، وبكيتُ تلك الليلةَ والليلةَ التي بعدها، وأبواي عندي يظنَّان أن البكاء فالِقُ كبِدي … فبينما نحن على ذلك، دخل علينا رسول الله فسلَّم، ثم جلس وتشهَّدَ وقال: أمَّا بعد، يا عائشة، فإنه قد بلَغَني عنكِ كذا وكذا، فإن كنتِ بريئةً فسيُبرِّئك الله، وإن كنتِ ألممتِ بذنبٍ فاستغفري الله وتُوبي، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تعالى تاب الله عليه … فلما قضى رسول الله مقالتَه، قلَصَ دمعي حتى ما أُحِس منه بقَطْرة، وقلت لأبي: أجِبْ رسولَ الله! قال: واللهِ لا أدري ما أقول. فقلت لأمي: أجِيبي. فقالت كذلك: واللهِ ما أدري … ثم قلت: لقد سمعتم هذا الحديثَ حتى استقرَّ في نفوسكم، فلَئِنْ قلتُ لكم إني بريئة، والله يعلم أني بريئة، لا تصدِّقوني، ولَئِن اعترفتُ لكم بأمرٍ، والله يعلم أني منه بريئة، لتُصدقُنِّي، فواللهِ لا أجد لي ولكم مثلًا إلا قول أبي يوسف عليه السلام: فصبرٌ جميل والله المستعان. ثم تحوَّلت فاضطجعتُ على فراشي، وما كنت أظن أن الله يُنزِل في شأني وحيًا يُتلى … وكنت أرجو أن يرى رسول الله رؤيا في النوم يُبرِّئني الله بها. وعند ذلك قال أبو بكر رضي الله عنه: ما أعلم أهلَ بيتٍ من العرب دخل عليهم ما دخل عليَّ، واللهِ ما قيل لنا هذا في الجاهلية، حيث لا يُعبَد الله، فيُقال لنا في الإسلام! … فأخذ رسول الله ما كان يأخذه عند نزول الوحي، فسُجي ووُضِعت له وسادة من أدمٍ تحت رأسه، فلما سرى عنه إذا هو يضحك، وإنه لَينحدرُ منه العَرق مثل الجُمَان، فجعل يمسح العرق عن وجهه الكريم، وكان أول كلمة تكلَّمَ بها: يا عائشة! أَمَا إن الله قد برَّأك. فقالت أمي: قومي إليه. قلت: والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله. وتناوَلَ رسول الله دِرْعي فدفعتُ يده، فأخذ أبو بكر النعلَ ليَعلُوني بها، فمنعه رسول الله وهو يضحك ويُقسِم عليه ألَّا يفعل …»

إلا أن النبي عليه السلام قضى فترةً من الوقت قبل ذلك، وهو في قلقٍ شديدٍ لا يدري ماذا يفعل، واستشار الصحابة فقال له عمر بأسلوبه الحاسم: مَن زوَّجها لك يا رسول الله؟ قال: الله تعالى! قال: أفتظنُّ أن الله دلَّسَ عليك فيها؟ سبحانك هذا بهتانٌ عظيم. ودعا عليًّا وأسامة بن زيد ليستأمرهما في فِراق أهله، فقال أسامة بن زيد: أهلُك يا رسول الله ولا نعلم إلا خيرًا. وقال علي: يا رسول الله، لم يُضيِّق الله عليك والنساءُ سِواها كثير، وإن تسأل الجارية — يعني بريرة — تَصدُقك. فدعا بها وسألها: أي بريرة، هل رأيتِ من شيءٍ يُرِيبُك؟ قالت: والذي بعَثَك بالحق ما رأيتُ عليها أمرًا أغمِصُه أكثر من أنها جاريةٌ حديثةُ السن، تنام عن عجينِها فتأتي الداجنُ فتأكله. وسأل زينب بنت جحش، وهي أحبُّ نسائه إليه بعد عائشة، فقالت: أحمي سمعي وبصري، ما علمتُ إلا خيرًا، واللهِ ما أكلمها وإني لمهاجرتها، وما كنتُ أقول إلا الحق.

وفي خلال ذلك كان عليه السلام يتأذَّى بحديث الإفك، فخطب المسلمين قائلًا: أيها الناس، ما بالُ رجالٍ يؤذوني في أهلي، ويقولون عليهم غيرَ الحق؟ … ولقد ذكروا رجلًا ما علمتُ عليه إلا خيرًا، ولا يدخل بيتًا من بيوتي إلا وأنا حاضر، ولا غبتُ في سفرٍ إلا غاب معي، يقولون عليه غير الحق … فقال أُسيد بن حضير: يا رسول الله، إن يكونوا من الأوس نكفِيكَهُم، وإن يكونوا من إخواننا من الخزرج فمُرْنا أمرَك؛ فواللهِ إنهم لَأهلٌ أن تُضرَب أعناقُهم. فوثب سعد بن عبادة وصاح به: كذبتَ لَعَمْرُ اللهِ ما تُضرَب أعناقُهم، أَمَا واللهِ ما قلتَ هذه المقالة إلا أنك قد عرفتَ أنهم من الخزرج، ولو كانوا من قومك ما قلتَ هذا. وهمَّ به أُسيد بن حضير، وتساور الناس حتى كادت تكون فتنة، لولا أن أدرَكَهم النبي بحُسْن توفيقه.

•••

هذه خلاصةُ حديثِ الإفك بحذافيره كما بقي لنا في مصادره التي يَعتمد عليها اليومَ كلُّ باحث في موضوع هذا الحديث، كائنًا ما كان ظنُّه بالإسلام أو بالنبي وأهله.

وفي وسعِ القارئ أن يعرف قيمةَ هذه الوشاية من نظرةٍ واحدة؛ فهي على التحقيق وشايةٌ لا قيمةَ لها عند مُنصِف يلمس من ورائها تربة الكيد والوقيعة التي نبتَتْ فيها؛ إذ هي تربة وبيئة تنضح بسخائم الخصومة الدينية والسياسية، ومساوئ الخبث والكذب والنفاق، وخليقٌ بها أن تبعث الشكَّ في كل حديث ينبت بين طيَّاتها، ولو زعموا له من الأسانيد والشبهات أضعافَ ما زعموا لهذه الوشاية الواهية، وليس لها من سندٍ ولا شبهة إلا أن السيدة عائشة تأخَّرت في الطريق هُنَيْهة حين تحرَّك العسكر على حين فجأة، وقد كانت الرحلة كلها كثيرةَ المفاجآت في مواعيد النزول والرحيل.

تلك شُبهةٌ لا تكفي للشكِّ في امرأةٍ من عامة المسلمين الخارجين للجهاد في حضرة نبي الإسلام؛ إذ لو كانت كل امرأة تتأخَّر في الطريق تُؤخَذ بالتهمة في دينها وعِرضها، لَكانت التُّهَم في الأعراض أهونَ شيء يخطر على بال.

بل لو تأخَّرت كل امرأة في الرَّكب غير السيدة عائشة لَجاز أن تلحق بها شُبهةٌ من هذا التأخير؛ لأن الرَّكب لم تكن فيه امرأةٌ غيرها يهابها المُوكَلون بهَودَجها أن ينادوها ليتأكدوا من وجودها، ولم تكن فيه امرأةٌ أخرى تهابُ الرقبة من جيش المسلمين كما تهابها وهي زوج النبي وبنت الصِّديق، وقد كان أبوها يحملُ رايةَ المهاجرين في تلك الغزوة بعينها.

وعلى الذي يَقبلُ وشايةً كتلك الوشاية الواهية أن يُروِّض عقلَه على تصديق أمورٍ كثيرة لا مُوجِبَ لتصديقها؛ لأنها تفتقر إلى كل دليل، والأدلةُ على ما يناقضها كثير.

عليه أن يُصدِّق أن صفوان بن المعطل كان رجلًا لا يؤمن بالنبي ولا بأحكام الإسلام.

وأن يُصدِّق أن السيدة عائشة كانت — وهي زوج النبي — لا تؤمن به ولا تعمل بدِينه.

ولا دليل على هذا ولا ذاك.

بل الأدلة على إيمان صفوان وإيمان عائشة تجري في كل سياقٍ وردتْ لهما سيرةٌ فيه.

فصفوان كان مسلمًا غَيُورًا، وكانت غَيرته في حادثة الماء، التي تصاوَلَ فيها المهاجرون وأتباعُ ابن سلول، هي التي عرَّضَتْه لهجاء حسَّان بن ثابت، ولعلها هي التي بغَّضَتْه إلى ابن سلول، فتمادى من أجل ذلك في اتهامه، وقد حضر الغزوات ومات شهيدًا ولم يُذكَر قطُّ بسوء.

والسيدة عائشة آمَنت بكل كلمةٍ قالها النبي، وحفظَتها حفظَ مَن يتبرَّك بها ولا يغفل عنها. ومن إيمانها بصدق هذه الكلمات أنها اشتبكت في خصوماتٍ دامية تُثير الحفائظ، وتُهوِّن عليها أن تُحارب خصومَها باختلاق الأحاديث التي تُزري بهم وتُبطِل دَعْواهم لو كانت ترتاب في صدق الأحاديث كلها، ولكنها لم تُبِح لنفسها قطُّ شيئًا من ذلك، ولم تذكر حديثًا قطُّ على غير وجهه الذي تؤيِّده الروايات الأخرى. وقد كانت في طريقها إلى وقعة الجمل بعد وفاة النبي بزهاء ثلاثين سنة، فنبَحَتها كلابٌ على مقربةٍ من ماءٍ في بعض الطريق، فسألت: أي ماءٍ هذا؟ قال الدليل: هو ماء الحوءب. فأجفلَتْ إجفالةً مروعة وصاحت بحيث يسمعها أَدِلاؤها: إنا لله وإنا إليه راجعون. وضربت عضد بعيرها، فأناخت وأبَتْ أن تتحوَّل عن مكانها، فلما سُئِلت في ذلك قالت: إني سمعت رسول الله يقول، وعنده نساؤه: ليتَ شِعري أيتكنَّ تنبحها كلابُ الحوءب؟ ردوني، ردوني، واللهِ أنا صاحبة ماء الحوءب. وما زال الرَّكب مقيمًا في ذلك المكان يومًا وليلة، وهي مُصِرَّة على الرجعة، وهم يزعمون لها أن الدليل قد أخطأ، وأن المكان غير المكان الذي تخشاه، ولم يزل عبد الله بن الزبير يُقنعها ويُهدئ من روعها، وهو ابنُ أختها وأحبُّ الناس إليها، وبه تُكنَّى في أشهر الروايات، وهي تَأبى المسيرَ إلا أن تعود إلى مكة، حتى أرسلوا إليها مَن يصيح في الرَّكب: النجاء، النجاء، قد أدرَكَكم علي بن أبي طالب. فأذِنَتْ لهم في المسير بها، وقد أخافتها الصيحةُ وخامَرَها الشك في كلام الدليل.

هذا وليس معها في الرَّكب من سامعي ذلك الحديث غيرها، فكيف تغدر بالنبي زوجةٌ تُصدِّقه هذا التصديق، ولا تأمن أن ينكشف سرُّها بوحيٍ من الله؟

ومَن هي تلك الزوجة بعد هذا؟ هي بنتُ الصِّديق الذي لم يُوصَم بيتُه بوَصمةٍ في الجاهلية كما قال، حتى يُوصَم بهذه الوَصمة الكبرى في الإسلام ومع نبي الإسلام.

إن أقوى الأدلة لا يحسم الشكَّ هنا، فضلًا عن تلك الوشاية الواهية، ويبقى على مَن يَقبَلها أن يسأل نفسَه بعد هذا: كيف نشأتْ علاقةُ صفوان المزعومة؟ أفي تلك الليلة بعينها؟ فكيف اجترأ الرجل على مُفاتَحة أم المؤمنين، وهم يتهيَّبون المناداةَ عليها في هَودَجها؟ بل كيف تخطر له هذه المفاتَحة وهو لا يشكُّ في إيمانها بزوجها، وليس له عِلمٌ قبلَ ذلك بخبيئةِ صدرها؟ وإذا اجترأ هذا الاجتراءَ هوَسًا منه، فكيف يُصدِّق العقلُ أن امرأة النبي وبنتَ الصِّديق تكون هكذا لقطةً لأول لاقِط يصادفها؟ إن التي تكون كذلك لا يخفى سرُّها حتى يكشفه حديثُ الإفك، ويقتصر الحديث فيه على صفوان.

أما إن كانت العلاقة المزعومة قبل ذلك، فكيف خفيَت بين الضرائر والحُسادِ وقالةِ السوء من المنافقين؟ وما أغناهما إذَن عن المجازَفة في الطريق، وعن الكارثة التي تنكشف للجيش كلِّه في نحر الظهيرة؟

كل أولئك سخفٌ لا يَقبله إلا مَن يفتري بوشاية أو بغير وشاية، وسواء فيه منافِقو المدينة ومَن يصنع صنيعَهم من المؤرخين في العصر الحاضر؛ لأنهم لا يؤمنون بنبي الإسلام، بل هؤلاء أنذل وأغفل؛ لأنهم يؤمنون بمريم والمسيح، وكان عليهم أن يعصمهم عاصمٌ من هذا الإيمان.

•••

إن تفنيد حديث الإفك له مَوضعٌ من كتابنا هذا لأنه حادثٌ في تاريخ السيدة عائشة له أثرٌ في الإسلام والشريعة الإسلامية، وله أثرٌ في ضميرها لم يُفارِقها طوالَ حياتها، وربما كان له أثرٌ في موقفها من تاريخ الإسلام ترتبط به ذيوله على نحوٍ من الأنحاء، ولولا ذلك كله لَمَا استحقَّ من المؤرِّخ كبيرَ الْتِفات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤