بعْدَ النَّبِيِّ

عاشت السيدة عائشة بعد النبي ستًّا وأربعين سنة، وتوفيت وهي في نحو السبعين من عمرها، سنة ثمانٍ وخمسين للهجرة.

وقد توفي النبي — عليه السلام — في بيتها وفي زيارتها، ودفن بالمكان الذي كان ينام فيه.

وقد علم كثير من الناس عند اشتداد المرض به أنه مرض الوفاة، ولكنه كان قد صحا بعض الصحو قبيل يوم وفاته حتى استأذنه أبو بكر في الخروج إلى بيته بالسنح، وتفرق المسلمون متفائلين وهم يرجون الخير ويبعدون عن خواطرهم نذير الخوف. فلما قبض عليه السلام بعد ذلك روعت عائشة أيما روع، وتعاظمها الخطب أن تملك صبرها وهو يموت بين سحرها ونحرها، فنسيت لهول الساعة ما ينبغي لها أن تستقبل به هذا الوداع الذي لا يتكرر ولا تهونه سابقة وداع مثله، إنها أم المؤمنين التي لبثت السنين بعد السنين تلقنهم ما لقنها النبي من سداد التجمل ووقار الحزن في الملمات … إذا هي تنسى كل ذلك ساعة فقده، وإذا هي امرأة والهة بين النساء تلتدم وتضرب وجهها، قالت: «… وجدت رسول الله يثقل في حجري، فذهبت أنظر في وجهه فإذا بصره قد شخص وهو يقول: «بل الرفيق الأعلى من الجنة» قلت: خُيِّرتَ فاخترت والذي بعثك بالحق. وقبض بين سحري ونحري ودولتي ولم أظلم أحدًا. فمن سفهي وحداثة سنِّي أنه قبض وهو في حجري، ثم وضعت رأسه على وسادة، وقمت ألتدم مع النساء وأضرب وجهي.»

ولم تشهد دفنه عليه السلام بعد وفاته بيومين؛ لأن المسلمين كان قد بلغ في تنافسهم في حبه أن يتولى كل فريق منهم مراسم دفنه على ما تعود في بلده وبين أهله، وكان أهل مكة يسوُّون قاع القبر وأهل المدينة يقوسونه، فبعث العباس بن عبد المطلب رجلين يدعو أحدهما أبا عبيدة بن الجراح ويدعو الآخر أبا طلحة، وأولهما يضرح كأهل مكة والآخر يضرح كأهل المدينة؛ فعاد صاحب أبي طلحة به ولم يعد صاحب أبي عبيدة، فحفر اللحد على طريقة أهل المدينة، وتولى القائمون على الجثمان الكريم دفنه بعد انقطاع المودعين عند هزيعٍ من الليل. قالت عائشة وفاطمة — رضي الله عنهما: «ما علمنا بدفنه حتى سمعنا صوت المساحي من جوف الليل.»

وما برحت منذ تلك اللحظة تلازم البقعة الخالدة ولا تفارقها إلا للعمرة أو الحج أو لزيارة قريبة، وقلما كانت تزور.

واتخذت سكنها في الحجرة المجاورة لقبره وهي لا تحسب أنها قد فارقت منه غير مشهد جثمانه؛ فقد كانت تزوره زيارة الأحياء، ودفن أبوها إلى جواره بعد سنوات، فكانت تزورهما كذلك زيارة الأحياء. فلما دفن معهما عمر جعلت بعدها تنتقب وتلبس ملابس الحجاب وهي تزور أولئك الأصدقاء المتجاورين، كأنهم بقيد الحياة.

وكانت في أوائل العقد الثالث على أكبر تقدير عند وفاته عليه السلام، فعاشت في صحبته زهاء عشر سنين، وعاشت في ذكراه خمسين سنة. وحسبنا من شعور الناس بجلال تلك الذكرى في نفسها أن أحدًا لم يخطر له خاطرة عن السيدة عائشة تجيز التفكير في حياة زوجية أخرى كأنه خاطر حرمته قداسة تلك الذكرى وهيبة ذلك الوفاء، فضلًا عن الحكم بتحريمه في سورة الأحزاب على سبيل التشريع.

ولم تكن حياة السيدة عائشة فارغة في خلال السنين الطوال من لدن فارقها زوجها العظيم وهي تجاوز العشرين إلى أن فارقت الدنيا وهي تقارب السبعين؛ لأنها في حدة نفسها ورفعة مكانها لا تقبل الفراغ. فما هو إلا أن هدأت ثائرة الفتنة بعد وفاة النبي — عليه السلام — وتوفر المسلمون على تحصيل مراجع الدين حتى كانت هي المرجع الأول فيما حفظ عندها من آي القرآن وما حفظته من السنن والأحاديث، وحتى كان بيتها مثابة الزوَّار من أبنائها وبناتها، يدعونها يا أمه! ومنهم من هي في سن بناته الصغريات، ويا له من دعاء محبب إلى الأسماع!

وكانت إذا فرغت من تلقين الأحاديث وجواب السائلين تأوي إلى الصلاة والتسبيح في جوار الضريح، أو تعمل في مهنة البيت ذلك العمل الذي كان النبي — عليه السلام — يسرها بمساعدتها فيه.

ومن أهم الأشياء التي ينبغي أن تلاحظ في حياة السيدة عائشة بعد النبي — عليه السلام — أنها قضت خلافة أبي بكر وعمر وهي لا تشعر بأن مكانها في عهد النبي قد تغير أو بأن أمرًا من أمور السياسة العامة يدعوها إلى التعرض له راضية أو ساخطة، حتى كانت خلافة عثمان فتغيرت هذه الحال، وكان لتغييرها دلالة كبيرة وأثر كبير.

ففي عهد أبي بكر كانت أمور السياسة العامة تجري على أحكام الدين، وتركن منه ومن أصحابه إلى سند ركين، وكان الخليفة أباها وهو أول من يدعوها بأم المؤمنين.

وفي عهد عمر كانت أمور السياسة العامة تضطرب أو تسكن، ولكنها في كلتا الحالتين لا تنشعب ولا تؤذن بانصداع، وكان عمر أهيب خليفة عرفه الإسلام وأحب خليفة إلى عائشة رضي الله عنها. سرت صداقة الأبوين أبي بكر وعمر إلى بنيهما فكانت عائشة وحفصة أصدق صديقتين تتفقان وتتكاشفان كلما وقع الخصام في بيت النبي عليه السلام، وحفظت له أجمل الشكر لموقفه من حديث الإفك حين شاوره النبي فقال له: إن الله هو الذي زوجكها وإنه سبحانه وتعالى لم يدلس بها عليك. وتم هذا الشكر حين ولي الخلافة فرعى لها المكانة الأولى بين المسلمين، وخص بيت النبي بالحصة العليا من الحفاوة والعطاء.

فمضى العهدان — عهد أبي بكر وعمر — وليس في الحياة الخاصة ولا في الحياة العامة ما يشعرها بتغيير أو ينزع بها إلى نوازع السياسة، وما تعارض منها أو جنح إلى التحزيب والتأليب.

ثم تغيرت الأمور في عهد عثمان، ولولا هذا التغيير لما عرف للسيدة عائشة نصيب من السياسة العامة بعد موت النبي، وهو الموقف الذي تحولت بها الأحوال إليه بعد اجتناب السياسة العامة قرابة عشرين سنة، على غير سابقة له في سيرتها الأولى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤