في السياسة العامة

قلنا في الفصل السابق إن السيدة عائشة لم تقض حياتها فارغة خلال السنين الطوال التي انقضت بعد وفاة النبي عليه السلام؛ «لأنها في حدة نفسها ورفعة مكانها لا تقبل الفراغ».

فأما حدة نفسها، فمن السهل بعد إلمامة يسيرة بمزاجها وتكوينها الذي يشبه تكوين أبيها أن نعرف كيف يتعذر الفراغ على هذه السليقة الحية التي نشط بها المزاج العصبي، ولم يقعد بها الترهل والإعياء.

وأما رفعة مكانها، فهي أحرى أن تشغلها عن الفراغ مريدة له أو غير مريدة؛ لأنها تعودت أن يؤبه لها طوال حياتها، ولم تتعود قط أن تكون غفلًا في بيئتها، وهي أرفع بيئة بين قومها.

نشأت عزيزة في آلها وذويها، عزيزةً في بيت أبيها، عزيزةً في أعز البيوت العربية بعد زواجها. فمن الحق لها ولنشأتها، ومن الواجب لها ولنشأتها أن يؤبَه لها طوال حياتها، وألا يكون فراغها بمثابة الإغضاء عنها.

هذه حقيقة لو التفت لها ولاة الأمر كما ينبغي في حينها لسلمت السياسة العامة في ذلك الحين من جرائر الخطأ الذي وقعت فيه.

ولا بدع في تقرير الحقيقة، ولا في تعظيم خطرها، والتنبيه إلى تبعاتها.

فما من دولة قط إلا قد اتخذت لها أصولًا مرعية في سياسة أقطابها، ومراسم كبرائها وكبيراتها توافق ما لهم أو لهن من الشأن في الدولة، وما يكون لميولهم أو ميولهن من الآثار في السياسة العامة، أو السياسة العليا على التخصيص، وهي أصول لم تغفل مرة إلا كان لها أثر غير منظور ولا محسوب له حساب في توجيه الأمور.

وقد كانت «أصول» السياسة العليا في معاملة السيدة عائشة — رعايةً لمكانتها وسليقتها — أن تظل بالمكان الذي يستفاد فيه من عملها وعلمها، وأن تعرف لها مهمتها الكبرى في تقرير السنة النبوية، أو تبويب الدستور الإسلامي كما يؤخذ من أحاديث النبي ومأثوراته وعاداته، في معيشته وعباداته، وكان هذا وحده عملًا خليقًا أن يشغل أيام السيدة عائشة على أحسن الوجوه الصالحة لها وللمسلمين وللدولة الإسلامية.

كان هذا واجبًا لها وجوب الحق، ووجوب المصلحة، ووجوب السياسة.

وكان هذا الواجب «أصلًا مرعيًّا» من أصول السياسة العليا أيام أبي بكرٍ وعمر سواء قصدا إليه أو ذهبا فيه مذهب البداهة ومقتضيات الأمور …

ولكنه خولف أو عدل عنه بعد الخليفتين الأولين. خولف أو عدل عنه لأسباب يرجع بعضها إلى حكومة عثمان، وبعضها إلى طوارئ الزمن، وبعضها إلى السيدة عائشة على اختيار منها أو على ما تحولت بها إليه دوافع الأحوال.

•••

جاء الخطأ الأول في هذه السياسة من القائمين بالأمر في حكومة عثمان، وكان خطأ عجيبًا حقًّا؛ لأنه لا يفهم على وجه من وجوه المصلحة، ولا تدعو إليه ضرورة من ضرورات الدولة، ونعني به نقص العطاء الذي كان مقدورًا للسيدة عائشة في عهد الفاروق، أعدل من لاحظ العدل في تقسيم الأعطية على حسب المراتب والحقوق.

إن نقص عطاء السيدة عائشة كان يكون سائغًا عندها وعند المسلمين والمسلمات إذا دعت إليه حاجة في خزانة الدولة، ولكنه لا يسوغ ولا تستريح إليه النفس والأموال تتدفق على خزانة الدولة بالألوف التي يحار فيها الإحصاء، وغنائم أفريقية وحدها تبلغ مليونين ونصف مليون من الدنانير، فيعطي خمسها لبنت الخليفة وزوجها مروان بن الحكم، وغير ذلك من القطائع والأعطية التي يُخَصُّ بها القريبات والقريبون ولا يضبط لها حساب.

إن الغضب من هذا لن يكون غضب الحريص على مال، ولم تكن السيدة عائشة خاصة ممن يحرص على مال أو يبذله في ترف أو يخزنه للمكاثرة والادخار، فما سمع عنها قط أنها أنفقت المال في غير الكفاف من الرزق والإحسان إلى المعوزين، وما تركت بعدها بقية تدل على حرص ولا ادخار.

ولقد كانت تنكر التزيد من الثراء على الصحابة الأجلاء، وإن كان من التجارة والحسب الموروث؛ فكان عبد الرحمن بن عوف — وهو مثل من أمثلة عدة — وافر الثراء على عهد النبي عظيم السخاء في خدمة الدين، ودخلت له عير إلى المدينة فيها سبعمائة بعير تحمل البر والدقيق والطعام، فارتجت لها المدينة وسمعت رجتها في بيت عائشة، فما نجا به من لومها إلا أنه ذهب إليها يشهدها أن العير بأحمالها وأحلاسها وأقتابها في سبيل الله.

فغضب السيدة عائشة من نقص العطاء لم يكن غضب الحريص على مال والطامع في ادخار، ولكنه كان غضبًا عادلًا من غضاضة لا حاجة إليها ولا حكمة فيها، ولا تستريح إليها النفس بتعليل مقبول.

وشاع النقد والسخط من ولاة عثمان وحواشيه، وكثر القيل والقال في مخالفتهم للدين وتوسعهم في اقتناء الدور والحطام.

ومثل من الأمثلة العدة في هذا الباب تولية الوليد بن عقبة أخي عثمان لأمه خلفًا لسعد بن أبي وقاص على الكوفة وهو من أعلام الصحابة المحبوبين بين جلة المسلمين.

وكان الوليد متهمًا بالخمر، وشاع في المدينة أنه أَمَّ الناس يومًا في صلاة الصبح وهو سكران، فلما فرغ التفت إليهم وقال: هل أزيدكم، فإني أجد في نفسي نشاطًا؟

ولم يكن عجيبًا أن يلجأ الشاكون منه إلى بيت عائشة فيمن لجَئُوا إليه من كبار الصحابة وهم غير قليلين، وإنما لجَئُوا إليها بعد أن قدموا على الخليفة فتبرمت بهم حاشيته وبَرَّءُوا الوليد عنده مما اتهمه به أهل مِصْرِهِ، فقال لهم: أكلما غضب رجل منكم على أميره رماه بالباطل؟ لئن أصبحت لكم لأنكلن بكم. فاستجاروا ببيت النبي وعائشة فيه.

ثم أصبح عثمان «فسمع من البيت صوتًا وكلامًا فيه بعض الغلظة، فقال مغضبًا: أما يجد مرَّاق أهل العراق وفسَّاقهم ملجأ إلا بيت عائشة؟ فسمعته، فقيل إنها رفعت نعل رسول الله وقالت: تركت سنة رسول الله صاحب هذه النعل … وتسامع الناس فجاءوا حتى مَلَئُوا المسجد، فمن قائل: أحسنت، ومن قائل: ما للنساء وهذا؟ حتى تحاصبوا وتضاربوا بالنعال، ودخل رهط من أصحاب رسول الله على عثمان وناشدوه الله أن يعزل أخاه».

ولم يكن من شأن هذه السياسة من حاشية عثمان أن تكف السيدة عائشة عن نقد الولاة وقبول الشكاة، بل قربت هذه السياسة بينها وبين اللاجئين إليها. فلما شكا الناس من والي عثمان في مصر — عبد الله بن أبي سرح — واتهموه بقتل رجل ممن شكوه إلى الخليفة، فزعت وفود المصريين إلى بيت عائشة، فأرسلت إلى الخليفة تندد بواليه، وتقول له: تقدم إليك أصحاب رسول الله وسألوك عزل هذا الرجل فأبيت، فهذا قتل منهم رجلًا فأنصفهم من عاملك.

وجعل وفود المصريين يلقون المصلين بالمسجد في أوقات الصلاة، ويبسطون لهم ظلامتهم وشكايتهم إلى أم المؤمنين وكبار الصحابة، فألحف كبار الصحابة على الخليفة في إنصافهم، وأثمرت غلطات الحاشية ثمرتها في توجيه الشاكين إلى طلب المزيد من حماية أم المؤمنين، فاختاروا محمد بن أبي بكر — أخاها — ليخلف عبد الله بن أبي سرح حين خيرهم الخليفة فيمن يؤثرونه للولاية بعده، ووقعت الطامة بعد ذلك بتدبير لا تُعلم جليته حتى الآن، وإنما الرأي الراجح أنه من تدبير مروان بن الحكم على غير علم من عثمان ونصحائه المخلصين.

ذلك أن الوفود القافلة إلى أمصارها عثرت في طريقها بغلام يحمل كتابًا في أنبوبة من رصاص وفيه أنه: «إذا أتاك محمد بن أبي بكر ومن معه فاحتل في قتلهم، وأبطل كتابه، وقر على عملك حتى يأتيك رأيي في ذلك إن شاء الله».

فأعقب هذا الكتاب ما لا بد أن يعقبه من الأثر في نفوس الصحابة وفي نفس السيدة عائشة وفي نفوس الوفود المتجمعة من الأمصار، وقذف بالفتنة القائمة يومئذ في طريق غير مأمون.

وظاهر من هذا العرض السريع أن اختلال الأحوال في عهد عثمان هو الذي تحول بالسيدة عائشة عن موقفها الأول من حكومة أبي بكر وعمر إلى موقف الاشتراك في السياسة العامة والمجاهرة بالنقد الشديد لحكومة عثمان وولاة عثمان وحاشية عثمان.

بل هو الذي جعل لها مهمة تطلبها وتسعى إليها، وهي مهمة الوساطة بين الشعب والخليفة أو مهمة الحماية لمن يجهرون بالشكوى ويخافون عقباها.

فلولا الحمق الذي اشتهرت به حاشية عثمان لما تركت السيدة عائشة في مكانتها العليا من الأمة الإسلامية وهي تشعر أنهم قد أنزلوها من الرعاية والمبالاة دون منازل بناتهم وزوجاتهم وأصحاب القرابة والزلفى لديهم.

ثم تمادى الأمر فلم يقبلوا من المسلمين أن يلوذوا ببيتها ويفزعوا إلى جوارها، ولو تناولوا الأمر بالرفق لاستفادوا من لياذهم بذلك البيت وفزعهم إلى ذلك الجوار.

وكانت الطامة الكبرى أن تأتمر الحاشية الحمقاء بحياة أخيها، وتنفذ إلى مصر من يأمر واليها بقتله وهو قادم من قبل الخليفة لولاية الحكم فيها.

ومن المحقق عندنا أن الخليفة نفسه براء من هذه الدسيسة التي يتورع عنها مثله في بره وتقواه؛ فإن الرجل الذي تورع عن إهراق قطرة دم في سبيل الدفاع عن حياته، والخطر محدق به من جميع جهاته، لن يأمر بسفك دم ابن صديقه وزميله، ولا ذنب له إلا أن الشاكين ندبوه للولاية حين سألهم عمن يختارونه فأجابهم لما ندبوه إليه.

ولكن ما الذي أصاب الجاني المدبر للدسيسة؟ ولمَ نجا من العقوبة؟ ولمَ لمْ يُكشَف للملأ لولا أنه من رجال الحاشية، وأن رجال الحاشية هم الذين ستروه وأنقذوه؟ وماذا لو أن الغلام الذي كان يحمل الأمر بالقتل وصل إلى مصر ولم يعترضه الشاكون في الطريق؟ ألم يكن القتل نافذًا في محمد بن أبي بكر كأن الكتاب قد صدر من الخليفة بغير خلاف؟

فهذه الحاشية الحمقاء قد بدأت بالغض من مكانة السيدة عائشة لغير ضرورة محتومة ولا مفهومة، وانتهت بالتآمر على قتل أخيها لغير ذنب جناه، وسلكت في خلال ذلك مسلكًا تأباه السيدة عائشة من الحاكمين وغير الحاكمين، وهو مسلك الإسراف والتهالك على الحطام.

فغير عجيب أن يكون للسيدة عائشة موقف عداء من تلك الحاشية، وأن تنادي على رأس المنادين بتبديل حكمها وتأليب الناس عليها، وأن تضيق ذرعًا بعثمان؛ لأنه يمضي حيث مضت تلك الحاشية في جنفها وغلوائها.

قيل إنها تربصت به حتى أقبل يخطب الناس فدلت قميص النبي ونادت: «يا معشر المسلمين، هذا جلباب رسول الله لم يَبلَ وقد أبلى عثمان سنته.»

ولم تذكر الحاشية الحمقاء مكانة السيدة عائشة، وأمان جوارها، وما يرجى من الخير في شفاعتها إلا بعد فوات كلِّ فرصة، وضياع كل أمل، واستعصاء كل تدبير.

فلما حوصر عثمان وحيل بينه وبين الزاد والماء ذهبت أم حبيبة إلى داره وهي زميلة للسيدة عائشة من أمهات المؤمنين، فاعترض الثوار بغلتها وكانت معها إداوة ماء. قالوا: ما جاء بك؟ قالت: إن وصايا بني أمية عند هذا الرجل، فأحببت أن أسأله عنها لئلا تهلك أموال الأيتام والأرامل، وكانت أم حبيبة أموية من آل أبي سفيان، فاجترأ الثوار عليها وقالوا: كاذبة؟ وقطعوا حبل البغلة بالسيف، فنفرت وكادت تسقط عنها، فتلقاها كرام الناس فأخذوها وذهبوا بها إلى بيتها.

وكانت السيدة عائشة قد كرهت المقام بالمدينة وهي على هذه الحال من الفتنة الطاغية، فتجهزت للحج واستصحبت أخاها محمدًا فأبى وتخلف بالمدينة.

عند ذلك لجأ مروان بن الحكم — وهو رأس البلاء — إلى جوار السيدة عائشة التي كان يغري عثمان بها لاحتماء الناس ببيتها، فقال لها: يا أم المؤمنين، لو أقمت كان أجدر أن يراقبوا هذا الرجل … فقالت: أتريد أن يصنعوا بي كما صنعوا بأم حبيبة ثم لا أجد من يمنعني؟ لا والله ولا أعبر ولا أدري إلى ما يسلم أمر هؤلاء.

وفي رواية أخرى: أن مروان هذا تذكر الجود بالمال في ذلك المأزق الميئوس منه، فذهب إلى السيدة عائشة يستبقيها لتصلح الأمر، فقالت: قد فرغت من جهازي وأنا خارجة للحج … قال عندئذ: فيدفع لك بكل درهم أنفقته درهمين؛ فلم تملك عائشة نفسها على ما جاء في هذه الرواية أن تقول: «لعلك ترى أنني في شك من صاحبك، أما والله لوددت أني أطيق حمله فأطرحه في البحر!»

وليس أكثر ولا أغرب من الأحاديث التي نُسبت إلى عائشة في خلال هذه الفتنة قبل خروجها من المدينة وبعد خروجها منها، وأشد هذه الأحاديث وأقساها أن بعضهم سمعها تقول: «اقتلوا نعثلًا فقد كفر»، وأنها كانت تسأل من تلقاه أن يخذل الناس عن عثمان وشيعة عثمان.

فأما الصحيح من هذا كله فهو أنها كانت تنقم من حكومة عثمان، وتتمنى لها الزوال.

ويجوز الشك بعد ذلك في كثير من نصوص الأحاديث التي نسبت إليها بصدد هذه الفتنة؛ لأن بني أمية مثلوا بأخيها محمد بن أبي بكر عند دخولهم مصر أبشع تمثيل، فقتلوه ظمآن ووضعوه في جوف حمار ميت ثم شووه، وهذا بعد أن جروه من رجله في أسواق مصر، وأشهدوا على مثلته السفلة والصبيان. ثم أرسلوا قميصه الذي قتل فيه وهو بدمه إلى المدينة، فلبسته نائلة زوجة عثمان ورقصت به، وشوت أخت معاوية بن حديج خروفًا وأهدته إلى السيدة عائشة — في ذلك العيد — وهي توصي الرسول أن يقول لها: هكذا كان شيُّ أخيك! فما أكلت السيدة عائشة بعدها شويًّا قط وأقسمت لا تأكله حتى تلقى الله.

فلما تسامع المسلمون بأنباء هذه المثلة الشنعاء غضبوا للسيدة عائشة أن يشمت بها ولاة الدولة الجديدة هذه الشماتة، وخاف الأمويون من جرائرها، وندم عقلاؤهم على ما كان من سفهائهم، واحتاجوا إلى المبالغة في تشويه نصيب عائشة من فتنة عثمان، فأضافوا بألسنتهم وألسنة أتباعهم وصنائعهم أقاويل وأباطيل تمتزج بما نسب إلى السيدة عائشة، فلا يعرف منها الخالص والمشوب، ولا يسهل النفاذ من بينها إلى موقع المبالغة والتلفيق.

وخليق بنا أن نزداد حذرًا من هذه المبالغات على قدر أصحاب المصلحة في قبولها. وقد اتفق على تكبير نصيب عائشة من التحريض على عثمان مصدران متناقضان، وهما مصدر أصحاب معاوية ومصدر الشيعة أصحاب علي: يريد الأولون ما قدمناه من تخفيف وزرهم في المثلة بأخيها والحيف عليها، ويريد الآخرون أن يبطلوا موقفها من مطالبة عليٍّ بدم عثمان، وأن يثبتوا براءة عليٍّ من دم الخليفة القتيل ومشاركة عائشة في مجمة قاتليه، فضلًا عن مصلحة القاتلين أنفسهم في التعلل بهذا السند الذي يعفيهم من لومٍ كثير.

•••

كذلك بدأت السيدة عائشة مشاركتها الأولى في السياسة العامة، وهي إلى الاضطرار أقرب منها إلى الاختيار.

أما مشاركتها الثانية فقد كان اختيارها فيها أكثر من اضطرارها؛ فإنها تلقت خلافة علي من مبدئها بالسخط والمقاومة، وأذنت لبعض الطامحين إلى الخلافة أن يتوسلوا بجاهها ويشركوها معهم في خصوماتها، وكان أكرم لهم ولها لو أنهم جنبوها هذه الخصومة، وأنزلوها بحيث يعتصم بها الفريقان، ويستوي في جيرتها العسكران، فتركوا لها مندوحة للمراجعة يوم دعاها الدعاة بعد تفاقم الفتنة إلى السعي بينهم بالتوفيق.

وأصوب ما قيل في هذا المعنى مقال ذلك الفتى السعدي الذي تصدى للزبير وطلحة فقال لهما: أما أنت يا زبير فحواري رسول الله، وأما أنت يا طلحة فوقيت رسول الله بيدك، وأرى أم المؤمنين معكما، فهل جئتما بنسائكما؟

نعم، لقد أصاب ذلك الفتى من بني سعد حين أقام الحجة عليهما بهذا السؤال الذي يغني عن كل جواب، فما من أحد يلومهما أن يوافقا السيدة عائشة في الرأي أو توافقهما فيه، وإنما الملام الذي لا محيص عنه أن يتجاوزا النداء برأيها إلى الخروج بها في حومة قتال، وهما لم يخرجا إليها بالمحارم والأزواج.

كانت في طريقها إلى مكة يوم لقيت ابن عباس موفدًا من قبل عثمان ليتلو على الحجاج كتابه، ويطلب النصفة بينه وبين الثائرين عليه، فاقترحت عليه أن يخذل الناس عن عثمان، وأن يشككهم فيه، ورشحت للخلافة طلحة بن عبيد الله؛ لأنه «اتخذ على بيوت الأموال والخزائن مفاتيح، فإنْ يَلِ الخلافة يَسِرْ بسيرة ابن عمه أبي بكر رضي الله عنه».

قال لها ابن عباس: يا أمه! لو حدث — أي اعتزال عثمان — ما فزع الناس إلا إلى صاحبنا … قالت: إيهًا عنك لست أريد مكابرتك ولا مجادلتك.

وألفت نفسها في مكة بين العثمانية والأموية يوم نزلت بها قبيل مقتل عثمان، فعنَّ لها أن ترجع إلى المدينة لتدرك الأمر قبل فواته، ولكنها سمعت في الطريق ببيعة عليٍّ فقالت فيما رواه عبيد بن أبي سلمة وهو من خُئُولتها: ليت هذه انطبقت على هذه إن تم الأمر لصاحبك. مشيرة إلى السماء والأرض، ثم صاحت بركبها: ردوني! ردوني! وجعلت تتوعد في الطريق: أن تطالب بدم عثمان … فقال لها عبيد بن أبي سلمة: ولم؟ والله إن أول من أمال حرفه لأنت! قالت: «إنهم استتابوه ثم قتلوه، وقد قلت وقالوا، وقولي الأخير خير من قولي الأول.»

وما لبثت في مكة قليلًا حتى تجمع فيها كل ناقم على علي بن أبي طالب من أعدائه ومنافسيه، فقضت أيامها بمكة بين العثمانية والأموية والولاة الذين أحسوا بزوال الدولة والثروة، والذين أوجسوا من حساب الخليفة الجديد، ولحق بهم طلحة والزبير، وكلاهما طامح إلى الخلافة يائس من الأنصار في المدينة، فاتفقوا جميعًا على كلمة واحدة لا اتفاق بينهم فيما عداها، وهي المطالبة بدم عثمان؛ لأن المطالبة به تغنيهم عن القدح في الخليفة الجديد، وليس الاتفاق على القدح فيه بمستطاع.

كذلك لذلك ارتفعت الصيحة بدم عثمان.

وفي هذه البيئة غلبت على السيدة عائشة نية الخروج إلى البصرة بتلك الدعوة التي اتفقوا عليها، وأكبر الظن أنها كانت وشيكة أن تحجم عن الخروج إليها لولا غلبة البيئة، واجتماع الأصوات من حولها على نداء واحد، فإنها ما عتمت في الطريق أن صُدمت أول صدمة حتى همت بالرجوع، ثم أصرت عليه لولا احتيالهم في إقناعها بمختلف الحيل.

عبروا بماء الحوأب فنبحتهم كلابه، وسألوا: أي ماء هذا؟ فقال الدليل: هذا ماء الحوأب. فصرخت بأعلى صوتها قائلة: إنا لله وإنا إليه راجعون، إني سمعت رسول الله يقول وعنده نساؤه: «ليت شعري! أيَّتُكن تنبحها كلاب الحوأب؟» ثم ضربت عضد بعيرها فأناخته، وهي تقول: أنا والله صاحبة كلاب الحوأب طروقًا، ردوني، ردوني، ردوني. وأقامت يومًا وليلة لا تريم مكانها، حتى جاءوا لها بخمسين رجلًا من الأعراب رشوهم فشهدوا أنهم جازوا الماء، وقالوا لها: مهلًا يرحمك الله، فقد جُزْنَاه. ثم صاح عبد الله بن الزبير: النجاء، النجاء، فقد أدرككم عليُّ بن أبي طالب. فأذنت لهم في المسير بعد امتناع شديد.

•••

ونعتقد أن وقفتها عند ماء الحوأب لم تكن آخرة التردد من جانبها في أمر القتال، فإننا في الواقع لم نقرأ بين أخبار وقعة الجمل المتشعبة خبرًا واحدًا ينم على عزمة قتال مبيتة لغرض مرسوم، ويؤخذ من كلامها لأبي الأسود الدؤلي حين أشخصه إليها عامل عليٍّ بالبصرة، أنها كانت تستبعد خروج أحد من المسلمين لقتالها، فقد سألته: أفتظنُّ يا أبا الأسود أن أحدًا يُقدِم على قتالي؟ وكان أبو الأسود رجلًا صعب المراس في نصرة عليٍّ فأجابها: والله لتقاتلن قتالًا أهونه الشديد. وكان مما قاله لها قبل ذلك: ليس على النساء قتال ولا لهن الطلب بالدماء، وإن عليًّا لأولى بعثمان منك وأمسُّ رحمًا فإنهما أبناء عبد مناف.

ولم تزل بالبصرة على هذا التردد كلما اشتبك أتباعها وأتباع عثمان بن حنيف والي عليٍّ عليها، فتحاجزوا عن الحرب غير مرة في المربد وفي دار الرزق، ونادى أصحاب عائشة بالكف عن القتال بعد أن تورط فيه الفريقان بدار الرزق نهارًا كاملًا من الصباح إلى الغروب كثر فيه القتلى والجرحى من الجيشين.

ثم أنفذ عليُّ بن أبي طالب رسوله القعقاع بن عمر إلى طلحة والزبير وعائشة، فبدأ بعائشة وسألها: أي أمه! ما أشخصك وما أقدمك هذه البلدة؟ قالت: أي بُني، الإصلاح بين الناس. قال: فابعثي إلى طلحة والزبير حتى تسمعي كلامي وكلامهما. فبعثت إليهما فجاءا، فقال لهما: إني سألت أم المؤمنين ما أقدمها فقالت الإصلاح بين الناس، فما تقولان أنتما؟ أمتابعان أم مخالفان؟ قالا: متابعان! قال: فأخبراني ما وجه هذا الإصلاح؟ فوالله لئن عرفناه لنصلحن، ولئن أنكرناه لا يصلح. فذكرا قتلة عثمان وحكم القرآن، قال: لقد قتل بالبصرة ستمائة رجل فغضب لهم ستة آلاف واعتزلوكم وخرجوا من بين أظهركم، وطلبتم حرقوص بن زهير فمنعه ستة آلاف، فإن تركتموهم كنتم تاركين لما تقولون، وإن قاتلتموهم والذين اعتزلوكم فأديلوا عليكم فالذي حذرتم أعظم مما تراكم تكرهون، وإن أنتم منعتم مضر وربيعة من هذه البلاد اجتمعوا على حربكم وخذلانكم نصرة لهؤلاء … فسألته عائشة: فماذا تقول أنت؟ قال: إن هذا الأمر دواؤه التسكين … فإن أنتم بايعتمونا فعلامة خير وتباشير رحمة ودرك بثأر، وإن أنتم أبيتم إلا مكابرة هذا الأمر واعتسافه كانت علامة شر وذهاب هذا المآل، فآثِرُوا العافية ترزقوها وكونوا مفاتيح الخير كما كنتم، ولا تعرضونا للبلاء فتعرضوا له فيصرعنا وإياكم.

قالوا: قد أصبت وأحسنت، فارجع، فإن قدم عليٌّ وهو على مثل رأيك صلح الأمر. ثم أقرَّ عليٌّ وساطة رسوله وأشرف القوم على الصلح لولا أن حبط هذا المسعى بسفاهة السفهاء من العسكرين فترامى هؤلاء وهؤلاء، وجمحت الفتنة جماحها الذي خرجت به من أعنة الرؤساء.

ولم ييأس الفريقان بعد هذا من وساطة الصلح، ولم يكن التردد من شأن عائشة وحدها، بل كان أنصارها جميعًا يترددون ولا يستقرون على صنيع، وقد قال لها الزبير يومًا: ما كنت في موطن منذ عقلت إلا وأنا أعرف فيه أمري غير موطني هذا. قالت: ما تريد أن تصنع؟ قال: أريد أن أدعهم وأذهب.

وربما تقابل الخصمان وجهًا لوجه فتناصحا على مسمع من العسكرين تناصُح الإخوان … نادي عليٌّ خصمه الزبير يومًا: يا زبير ارجع، فقال: وكيف أرجع الآن وقد التقت حلقتا البطان؟١ وهذا والله العار … قال عليٌّ: يا زبير ارجع بالعار قبل أن تجمع العار والنار.

فرجع، وأهاب به ابنه عبد الله يستثيره: أحسست رايات ابن أبي طالب، وعلمت أنها تحملها فتية أنجاد؟ قال: قد حلفت ألَّا أقاتله. قال: كفِّر عن يمينك وقاتله.

وبينما هم في تقديم وتأخير ومشاورة ومثاورة أقبل كعب بن سور إلى عائشة فقال لها: أدركي، فقد أبى القوم إلا القتال، لعل الله أن يصلح بك. فركبت وألبسوا هودجها الأدراع، وتعالت الضجة من هنا وهناك، فسألت: ما هذا؟ قالوا: ضجة العسكر. قالت: بخير أو بشر؟ قالوا: بشر. إذ كان القتال قد نشب بين الفريقين من تصارع الغوغاء وتدافع الغلاة وإفلات الأعنة من الرؤساء.

ويبدو لنا من جملة الوقائع أن حملة الجمل كانت حملة اندفاع، ولم تكن حملة تدبير وتقدير، ولا كان أحد من دعاتها يملك زمامها ويتجه به إلى مصير معروف.

وإلا فما يكون ذلك المصير، إن أصحابها لم يريدوا بها أن يفسدوا الأمر على عليِّ بن أبي طالب ليصلحوه لمعاوية، فليس منهم زعيم من حزبه والعاملين لدولته.

ولم يتفقوا على ولاية واحد منهم بعد هزيمة عليٍّ إن تمت هذه الهزيمة، وليست هي بالمركب الذلول.

إنما هي حملة تهويل إلى المقاسمة في الأمر على وجه من الوجوه التي أشاروا إليها قبل مفارقتهم المدينة: فيتولى بعضهم العراق وبعضهم اليمن، ويصبح الأمر شركة أو «شورى» بينهم وبين الخليفة، على قولهم الذي عبروا به عن طلب الولاية في بعض الأحاديث بينهم وبينه.

وفهم الحملة كلها على هذا الوجه أقرب ما نراه لفهم السيدة عائشة في موقفها من القتال ومن السياسة العامة على الإجمال.

نعم، إن فهم مأساة الجمل هي وسيلتنا إلى فهم السيدة عائشة؛ لأننا نعرف مصادرها ومواردها ومبلغ الأخطار المنظورة من ورائها عند الهجوم عليها، فنعرف النية التي جنحت بالسيدة عائشة إلى الدخول فيها، وهي كل ما يعنينا من تاريخ تلك المأساة في هذا السياق.

والذي يبدو لنا من تلك الحوادث التي لخصناها فيما تقدم أن مأساة الجمل لم تكن عند السيدة عائشة إلا دفعة من دفعات الحدة التي طبعت عليها، قدحتها المفاجأة وأوقدتها كثرة المغريات بعداوة عليٍّ في بيئة لم يرتفع فيها صوت لغير أعدائه، ومهدت لها حوادث الماضي تمهيدها الذي رسم لها الوجهة، واندفع بها عن هذه الخطة دون غيرها.

فمن تمهيد الحوادث الماضية أن طلحة والزبير وعليًّا لم يكونوا غرباء عن السيدة عائشة، ولم تكن هي غريبة عنهم بميولها وسوابق شعورها.

فطلحة من بني عمومتها، ومن بني تيم قبيلتها وقبيلة الخليفة الأول أبيها.

والزبير زوج أختها أسماء، وابنه عبد الله ابنها الذي اختارته لكنيتها في بعض الروايات، فكانت تكنى من أجله بأم عبد الله.

وعليٌّ أقرب الناس إلى بيت النبي وزوج ابنته وأبو حفيديه، وصاحب الرأي الذي لا ينسى في حديث الإفك، وهو نصيحته للنبيِّ بتطليقها.

ومن الحق أن نقول إن الشعور الذي تُكِنُّه السيدة عائشة لعلي من جراء هذه النصيحة شعور طبيعي لا غرابة فيه.

فلا ريب أن عليًّا — رضي الله عنه — قد أخطأه التوفيق في تلك النصيحة؛ إذ لم يكن من الإنصاف أن تُطلَّق عائشة لشبهةٍ لغط بها المنافقون وطلاب الوقيعة بين النبي وأصحابه، ولن يفهم الناس من تطليقها إلا أن النبي قد أدانها وأنف من معاشرتها، ولن يصيبها ذلك وحدها، بل يلصق بها وبأبيها وآلها وصمة لا تُمحَى في زمانها ولا بعد زمانها، وقد يتعدى الأمر عائشة وآلها إلى الإسلام كله فيتخذ المنافقون من صدق حديثهم الذي أفكوا به مطعنًا في صدق الدين ونبيه، وهذا كله إلى أن الإدانة بمثل تلك الشبهة لا توافق التحرز الشديد الذي قضى به الدين في هذه القضايا ولو مست من هن دون عائشة في القدر والثقة. فما نحسب عليًّا قد سها عن هذا كله وهو ينصح إلى النبي بتلك النصيحة إلا لفرط الغيرة على تنزيه سمعة النبي وبيته، واستكباره في هذا الصدد أن يقال ما يقال، ولو لم يكن ثَمَّ برهان على ما قيل.

وما من أحد يجهل الشعور الذي تقابل به النساء نصيحة كتلك النصيحة، فأقل ما يقال إنه شعور لا غرابة فيه.

ثم ها هي ذي مسألة الخلافة والترشيح لها من بين عظماء الصحابة الذين بقوا على قيد الحياة بعد موت أبي بكر وعمر وعثمان، ومن هؤلاء الصحابة عليٌّ وطلحة والزبير، وكلهم قد نُدِبوا للاجتماع في بيت عائشة لاختيار واحد منهم للخلافة، وقال لهم عمر يومئذ: «إني نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم ولا يكون هذا الأمر إلا فيكم، وقد قُبِضَ رسول الله وهو عنكم راضٍ، وإني لا أخاف الناس عليكم إن استقمتم، ولكنَّ ما أخاف عليكم اختلافكم فيما بينكم فيختلف الناس، فانهضوا إلى حجرة عائشة فتشاوروا واختاروا رجلًا منكم.»

وكان جائزًا أن يقع الاختيار في بيت عائشة على طلحة أو الزبير؛ لأنهما وكيلان من وكلاء الشورى.

ثم انقضت خلافة عثمان، وتجددت المسألة كرة أخرى على النحو الذي شهدته عائشة قديمًا في بيتها. فمع من يكون شعورها؟

إن طلحة والزبير مرشحان للخلافة منذ اثنتي عشرة سنة، وقد تكرر اختيار الخليفة من غير بني هاشم حتى أصبح في رأي بعضهم كالعرف الذي جرى عليه التقليد، وليس لعلي سند قاطع من القرآن أو السنة يبطل ذلك العرف ويسقط حجة طلحة والزبير. فإذا كانت السيدة عائشة أَمْيَلَ إلى طريق طلحة والزبير بشعورها وسابقة رجائها، فليس ذلك — كما أسلفنا — بغريب ولا مخالف للمعهود في طبائع الناس.

على أننا لا نريد بما تقدم أن نسوِّغ موقف السيدة عائشة من وقعة الجمل وخصومات الخلافة، وإنما أردنا تفسير شعورها على الوجه الذي لا غرابة فيه، ولم نرد تسويغه في نظر العقل ولا في نظر التاريخ.

فعليٌّ قد أخطأه التوفيق في نصيحته، وعائشة قد أخطأها التوفيق في مكافحته من أجل هذه النصيحة، وإن كانت لا تُلام على أنها كانت تتمنى الخلافة لسواه.

ولكننا إذا ذكرنا هذا كان علينا أن نذكر معه أن السيدة عائشة ندمت على موقفها من يوم الجمل أشد ندامة، فكانت تقول بقية حياتها: ليتني مت قبل يوم الجمل، وقالت مرة: ليت كان لي من رسول الله بنون عشرة وثكلتهم ولم يكن يوم الجمل. وكانت كلما خاض الناس في حديث ذلك اليوم تبكي حتى تبل خمارها.

وعلينا أن نذكر أنها صانت خصومتها عن كل كلمة نابية في حق عليٍّ — رضي الله عنه — فلم تتهمه بدم عثمان ولم تتجاوز بالتهمة بعض من بايعوه، وقالت عنه غير مرة إنه الصوام القوام، وإنه أحب الناس إلى رسول الله.

وعلينا أن نذكر أن المغريات بالاندفاع في هذه الغاشية كثيرة: حدة في الطبع، ومفاجأة تبتدر الحدة، وبيئة مطبقة بالعداء لعليٍّ، وسعي حثيث من أقرب الناس إليها وأقربهم إلى إقناعها.

وإنها مع هذا أقدمت على مورد مبهم لا يتضح الشر فيه، وترددت هنالك بين إقدام وإحجام، واعتقدت أن الأمر لا يفضي إلى قتال، وأصغت إلى دعوة الإصلاح ودعت إليه.

وهو حادث لا بد له من عبرة، وإن عبرته لأحق عبر التاريخ الإسلامي بالتسجيل.

١  البطان: حزام الدابة، والتقاء الحلقتين كناية عن التهيؤ للركوب والمسير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤