حُقوقُ المَرْأة

في حياة السيدة عائشة ميزان صادق لحقوق المرأة في عصرها، وقد يقاس عليه الميزان الصادق لحقوق المرأة في جميع العصور.

فالحياة البيتية وما يتصل بها من حياة التربية والتعليم ومعونة الرجل في واجباته العامة هي خير ما تتولاه المرأة من الأعمال.

والسياسة — ولا سيما السياسة في عصور الاضطراب — هي المجال الذي يحسن بها اجتنابه ولا يرجى لها التوفيق فيه، وقد تؤدي فيه هنالك الخير إذا التزمت منه جانب المسالمة وكانت لها وسيلة إليها. أما جانب الرئاسة والإشراف فلا طاقة لها به، ولا يتأتى لها أن تتولاه إلا إذا نقلت إليه شئون البيت ومزجته بما يهمها من أواصر القرابة والمعيشة الزوجية.

فالسيدة عائشة كانت ربة بيتها وشريكة زوجها، وكان زوجها العظيم يعينها في شئونه، ويكون في مهنة البيت ما دام فيه.

وكانت هي تعينه على شئون الهداية والإصلاح كلما وسعتها المعونة فيها، وقد لقَّنت الناس ما تلقنته منه فأحسنت التلقين.

وهذا في جملته هو قوام الحقوق بين الجنسين.

ولكنها على ذكائها وعلمها، وعلى أنها في بيت الرئاسة نشأت وفي بيت الرئاسة عاشت، وأنها تعودت أن يُؤبَه لها وتُسمَع كلمتها، قد تحولت بها طوارئ العصر إلى السياسة العامة، فكانت فيها طوعًا لأواصر البيت ودواعي المودة والنفور التي توحيها، ولم تكن مثلًا يُقتَدى به في توجيه الأمور العامة كما كانت مثلًا للنساء كافة وهي ربة بيتها وشريكة زوجها.

بل هي قد كانت أول مثل يستشهد به المستشهد على صواب الحقوق التي عرَّفها الإسلام للنساء: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ.

فلم تأت العصور بعد ذلك بإنصاف للمرأة أصوب من هذا الإنصاف. فليس المهم أن تساوي الرجل في كل شيء وأن يكون لها مثل حقوقه ومثل واجباته؛ لأن المماثلة مع الاختلاف ليست هي الصواب، وليست هي الإنصاف.

ولكنَّ المهم أن تكون حقوقها مساوية لواجباتها، وأن يكون لها مثل ما عليها، وألا تظلم في حياتها الخاصة والعامة شيئًا، ولا يفوتها عمل تصلح له، وتحسن أداءه، وتغني فيه غناء الرجل ولا يغني فيه الرجل غناءها.

وقوام ذلك كله أنهن: لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ.

وهي الدرجة التي ينفرد بها الرجال حيث تبطل المشاركة في الملكات والأعمال.

وإنما كان هذا قوام الإنصاف في حقوق الجنسين؛ لأنه حكم قائم على الواقع الذي لا يتغير اليوم، ولم يتغير قط، ولن يتغير في الغد مهما تتغير أحكام الشرائع وأقاويل أصحاب الأقوال والآراء.

وكل حكم قائم على إنكار الواقع أو المغالطة فيه فهو جهالة تنكشف لا محالة في يوم من الأيام، وإن لم تنكشف كانت كالداء المكتوم أَوْبَل ما يكون وهو مجهول.

والواقع أن الرجل والمرأة مختلفان، وأن اختلافهما حقيقة علمية وحقيقة تاريخية وحقيقة حسية، وحقيقة تُعرَف بالعقل والبداهة.

فالمرأة تخالف الرجل في وظائف الغدد، وفي تكوين الأعضاء، وفي شواغل الذوق والإحساس.

والمرأة تخالف الرجل في أعمالها وتكاليفها منذ القدم في جميع الشعوب، ومن قال إن هذه المخالفة من فعل الرجال وسيطرتهم وليست من فعل الطبيعة وسيطرتها فقد قال إنها من فعل الطبيعة وليست من فعل الرجال.

والمرأة تخالف الرجل في القدرة حتى حين تشاركه في العمل الذي تفردت به منذ زمن طويل، فهي منذ زمن طويل تزاول الطهي والخياطة والتجميل والولادة، وتندب الموتى وتُشيِّعُهم بالبكاء والتعديد، ولكنها لا تبلغ شأو الرجل في هذه الصناعات إذا وقعت المزاحمة بينهما في إحداها، فالطاهي يفوق الطاهية، ومبدع الأزياء يفوق مبدعتها، والطبيب المُولِّد مقدم على الطبيبة المُولِّدة، وكل ما نظمته النساء من الرثاء لا يوازن قصيدة من الرثاء الجيد في شعر الرجال.

والمرأة تخالف الرجل، ولا بد أن تخالفه على سنة الفطرة التي عمَّت الأحياء، فإن سنة الفطرة لا ترمي إلى توحيد العمل، بل إلى توزيعه وتنويعه، ولا تجعل جنسين ليشتركا في حقوق واحدة وواجبات واحدة، بل تجعلهما جنسين ليختلفا في الحقوق كاختلافهما في الواجبات.

هذه هي الحقيقة الماثلة بين أعيننا، وعلى أساسها ينبغي أن تنبني المذاهب والآراء، أما الذين يضعون المذاهب والآراء ثم يقسرون الحقيقة على موافقتها فأولئك على باطل، ولن تقوم للباطل قائمة في عالم الطبيعة.

ومن أمثلة المذاهب التي تقسر الحقيقة على موافقتها مذهبُ الشيوعيين في التسوية الكاملة بين الرجل والمرأة؛ فهم يريدون أن يهدموا الأسرة؛ لأن الأسرة في زعمهم أصل الاستغلال، وإن الاستغلال قائم على الاختلاف بين حقوق الرجل وحقوق المرأة، ولهذا يجب أن يبطل هذا الاختلاف، وأن تتقرر المساواة بين الرجال والنساء في جميع الأحوال وجميع الأعمال.

وهذا تسخير للحقيقة في سبيل الرأي، وهو وحده كفيل بالقضاء على المذهب الشيوعي واقتساره عاجلًا أو آجلًا على موافقة الحقيقة التي يريد هو أن يقتسرها على هواه.

•••

فليس الإنصاف إذن أن يتساوى الرجل والمرأة في جميع الحقوق والواجبات وهما مختلفان هذا الاختلاف الظاهر للعيان، الماثل للعلم والحس منذ كان الإنسان، بل قبل أن يكون الإنسان؛ حيث يختلف الذكر والأنثى في عالم الحيوان.

ولكن الإنصاف الذي يجتمع فيه حكم الفطرة وحكم الآداب الإنسانية هو أن تأخذ من الحقوق كفاء ما عليها من الواجبات، وأن تُعطَى حقوقها وتُسأَل عن واجباتها بالمعروف: ولَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، لا بالإرهاق والإذلال، فهنالك تهذيب الإنسان إلى جانب حكم الفطرة، وهما خير مناط لإنصاف الشرائع والآداب.

•••

وليس من الحَيدِ عن سواء التفكير أن يستطرد الفكر هنا إلى سؤال لا بد أن يخطر على البال، وهو السؤال عن تعدد الزوجات: أهو من الإنصاف؟ أهو من الكرامة والمعروف؟ أهو من سُنَّة الفطرة وتهذيب الإنسان؟

واعتقادنا نحن أن المثل الأعلى للزواج هو الزواج بين رجل وامرأة يتحابان ويمتزجان بالجسم والروح ولا يفترقان مدى الحياة.

ولكننا نعتقد مثل هذا الاعتقاد أن المثل الأعلى لم يُخلَق قَطُّ لتفرضه القوانين على جميع الناس.

إنما المثل الأعلى هو الحالة النادرة التي تتيسر كلما تيسر الكمال أو تيسرت مقاربة الكمال.

وليست هذه بالحالة التي تفرضها القوانين على كل رجل وكل امرأة من جميع مراتب التفكير والتهذيب.

فإنما تفرض القوانين ما يُستطَاع بين عامة الرجال وعامة النساء، وما تسمح به أخلاق الزوجين وضرورات المعيشة التي لها عليهما سلطان مسموع كسلطان الأخلاق.

ولا حاجة إلى فرضها على الأمثلة النادرة بين صفوة الرجال وصفوة النساء؛ لأن هذه الأمثلة النادرة في غنى عن تعليم القوانين.

والإسلام لم يقل إن تعدد الزوجات هو المثل الأعلى، ولم يفرضه على كل مسلم، ولم يحمده من كل مسلم، ولم يُخلِهِ من شرطٍ عسيرٍ، هو العدل في المعاملة وإن تعذر العدل في المحبة، ولم يفعل إلا أنه وضع التشريع في موضعه الذي يحسب فيه حساب المثل النادر والمثل الشائع، ولم تأت بعده شريعة حلت هذه المشكلة بغير الهرب منها أو المغالطة فيها، كما هو الواقع الملموس في الأمم التي تحظر تعدد الزوجات ولا تحظر المعيشة مع الخليلات، أو معاملة النساء كمعاملة العجماوات.

وفي المجتمع الإنساني حالة يكثر فيها عدد النساء ويقل عدد الرجال، ولم تستطع الحضارة التي ينعون باسمها تعدد الزوجات أن تمنع تلك الحالة أو تبطل عواقبها، فلا نزال في كل جيل نشهد حربًا من الحروب العالمية التي تنجلي عن ثلاثين أو أربعين مليونًا من الفتيات أو الأرامل بغير قرناء.

وقل ما شئت في تعدد الزوجات فهو خير من التبذل الوبيل، أو من إعطاء المرأة محلًّا في المصنع بديلًا من محلها في البيت والأسرة.

وقد ينطلق الهوس بالمساواة إلى أبعد من هذا المدى فيسأل سائل: وهل يجوز للمرأة تعديد الأزواج كما يجوز للرجل تعديد الزوجات؟

وجواب ذلك أنه بحكم الفطرة لا يجوز؛ لأن الرجل يستطيع أن يؤدي واجب الأبوة مع تعدد زوجاته، ولا تستطيع المرأة أن تؤدي واجب الأمومة لأربعة أزواج أو لزوجين اثنين.

كذلك له هو من حق مراقبتها والسهر عليها أكثر من حقها هي في مراقبته والسهر عليه.

لأنها تستطيع أن تخدعه بولد ليس من لحمه ودمه، أو تخدعه في أمسِّ شعور به بعد شعوره بكيانه.

ولكنه هو لا يستطيع أن يخدعها بولد ليس من لحمها ودمها، وأن يصيبها بمثل هذا المصاب الأليم الذي ليس آلم منه ولا أفجع في نكبات النفوس.

وهنا محل عادل للدرجة التي للرجال على النساء، كالعدل في محل تلك الدرجة عند التفرد بحق تعديد الزوجات، وعند التفرد بحقوق تخالف حقوق النساء، تبعًا للخلاف في التركيب والتكوين.

•••

على أن البحث في حرية الزوجة والبحث في حرية المرأة مسألتان اثنتان لا مسألة واحدة.

لأن الآراء على تناقضها تلتقي في مسألة حرية الزوجة عند ملتقى واحد وهو تقييدها بحقوق الزوج كائنًا ما كان الرأي في قداسة الزواج؛ فالذي لا ينكر الخيانة ينكر السرقة والاغتصاب، والذي لا يؤمن بالعاطفة الخالصة يؤمن بشروط القسمة بين الشريكين، ومما لا جدال فيه أن الزواج شركة لها شروطها، وأهون ما يقال في تلك الشروط أنها كشروط الشركة في المال، فلا يجوز للزوجة أن تختلس من حقوق شريكها، ولا أن تسرق نصيبه المقسوم بينهما على السواء، وهنا الملتقى بين القائلين بالوفاء والقائلين بالمحافظة على حصة الشريك.

وخلاصة ذلك كله أن حقوق المرأة لم تكن قط مسألة فرد ولا مسألة أمة أو مجتمع موقوت، ولكنها كانت ولن تزال مسألة النوع الإنساني بأسره، فلا مناص فيها من الضوابط التي تعبر عن مصلحة النوع، وتتجاوز المصلحة العاجلة والغرض القريب.

ولهذا تصدق الأديان؛ لأنها تنطق بلسان الفطرة السليمة، وتكذب المذاهب التي تحسب أن ضوابط الجنس في المرأة والرجل من اعتساف الأديان؛ لأن الإباحة التي تنادي بها هذه المذاهب تدل على جهل بالفطرة، وهي تنادي نداءها باسم العلم والمعرفة الحديثة، وهنا فلنحسب للقدم مزيته الأولى؛ إذ هو قدم الفطرة الباقية، وهي أسبق إلى المعرفة الصادقة من كل حديث.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤