مغامرة تماثيل نابليون الستة

لمْ يكن غريبًا على السيد ليستراد، المُحقِّق في سكوتلانديارد، أن يزورنا زيارةً قصيرةً بين ليلةٍ وأخرى. وقد كان شيرلوك هولمز يُرحِّب بزياراته؛ لأنها كانت تُمكِّنه من البقاء على اطلاعٍ على كل ما كان يجري في مَقرِّ الشرطة الرئيسي. وفي مُقابل المعلومات التي كان ليستراد يأتي بها، كان هولمز دائمًا على استعدادٍ للإصغاء إلى تفاصيل أي قضية يتولَّى المحقِّقُ أمرَها. وكان يستطيع بين الفَينة والفَينة — ودون تدخُّلٍ ملحوظٍ — أن يُقدم فكرةً مفيدةً، أو أن يُبدي اقتراحًا ما بناءً على دِرايته الكبيرة وخبرته الواسعة.

في هذه الليلة تحديدًا تحدَّث ليستراد عن الطقس والصُّحف. بعد ذلك توقَّفَ عن الكلام، وأخذ ينفُث نفثاتٍ متقطِّعة من دُخَان سيجاره وهو مُستغرِقٌ في التفكير. وهنا نظر إليه هولمز باهتمام، وسأله: «هل ثمَّةَ ما يستحقُّ الاهتمام؟»

«في الواقع، لا يا سيد هولمز. ليس أمرًا شديدَ الأهمية.»

«فلتُخبرْني به إذن.»

أخذ ليستراد يضحك، وقال: «حسنٌ يا سيد هولمز، فلا يفيدُ إنكار أنَّ ثمَّة ما يشغلني بالفعل. رغم هذا فإنه أمرٌ يبلغ من السخافة الحدَّ الذي جعلني أتردَّد في أن أُزعجك به. من ناحية أُخرى، فعلى الرغم من أنه تافه، فلا شكَّ أنه غريب. وأنا أعرف أنك تميل إلى كلِّ ما هو خارجٌ عن المألوف، لكنَّني أرى أنه مما يُحسِنه الدكتور واطسون أكثرَ منَّا.»

فقُلتُ: «هل هو مرضٌ ما؟»

«إنه نوعٌ من الجنون بأيِّ حال. وهو جنونٌ غير تقليدي كذلك؛ فإنك لن تتخيَّل أنَّ أيًّا ممن يعيشون في أيامنا هذه قد يكره نابليون الأول إلى الحدِّ الذي يدفعه إلى تحطيم كلِّ ما يراه من تماثيله.»

غاصَ هولمز في كرسيه، وقال: «ليس هذا مما أُعنى به.»

«بالتأكيد، هذا هو ما قلتُه. ولكن، عندما يسطو الرجل على المباني ليُحطِّمَ تماثيل ليست مِلكَه، فإن هذا يُبعد الأمر عن الطبيب ويضعه بين يدَي رجل الشرطة.»

اعتدل هولمز في جِلسته ثانيةً وقال: «سطو! هذا مثيرٌ للاهتمام جدًّا. أخبِرْني بالتفاصيل.»

أخرج ليستراد مُفكرته الرسمية ليُنعش ذاكرته من صفحاتها، وقال: «أُبلغَ عن أول حالةٍ منذ أربعة أيام. لقد وقعتْ في متجر مورس هدسون، وهو شخصٌ يمتلك مؤسَّسةً لبيع الصور والتماثيل في طريق كيننجتون. كان المساعد قد ترك المتجر الأمامي هنيهة، فسمع صوتَ شيءٍ يتكسَّر، فأسرع إلى الداخل ليجد تمثالًا نصفيًّا من تماثيل نابليون المصنوعة من الجصِّ مُهشَّمًا كِسَرًا فوق المنضدة التي كان موضوعًا عليها مع قِطَعٍ فنيَّةٍ أخرى. أسرع المساعد بالخروج إلى الشارع، وأخبره العديد من المارَّة أنهم رأوا رجلًا يجري خارجَ المتجر. لكنه برغم هذا لمْ يستطع أنْ يرى أيَّ أحد، ولا أن يجِد أيَّ وسيلةٍ للتعرُّف على ذلك الوغد. لقد بدا الأمر واحدًا من تلك الأعمال التخريبية الخرْقاء التي تحدُث بين الحين والآخر، وقد أُبلِغَ شُرطيُّ الدورية به على هذه الصورة. لمْ تكن قِيمة القالب الجصِّي تربو على شلناتٍ قليلة، وبدا الأمر برمَّته صبيانيًّا جدًّا بحيث لا يستحقُّ أي نوعٍ من التحقيق.

أما الحالة الثانية فقد كانت أكثر خطورةً وأيضًا أكثر غرابة. وهي لمْ تقعْ إلا في الليلة الماضية.

ففي طريق كيننجتون، وعلى مسافةِ بضع مئاتٍ من الياردات من متجر مورس هدسون، يقيمُ طبيبٌ مُمارسٌ مشهور، يُدعى الدكتور بارنيكوت، وهو يمتلك واحدةً من أكبر العيادات في الضِّفة الجنوبية لنهر التِّمز. يقع منزلُ هذا الطبيب وعيادتُه الرئيسية في طريق كيننجتون، لكنَّ لديه — على بُعد مِيلَين — عيادةً فرعية ومستوصفًا في طريق لووار بريكستون. الدكتور بارنيكوت هذا من مُعجبي نابليون المُتحمِّسين، وبيتُه مليءٌ بصور الإمبراطور الفرنسي وآثاره وبالكُتب التي تتحدَّث عنه. ومنذ مدةٍ قصيرةٍ اشترى من متجر مورس هدسون نُسختَين جصِّيتَين مُتطابقتَين من تمثال رأس نابليون الشهير الذي أبدعه النحَّاتُ الفرنسي ديفاين. ثم إنه وضع واحدًا من هذَين التِّمثالَين في رَدْهة بيته الواقع في طريق كيننجتون، ووضع الآخر على رفِّ مدفأةِ العيادة التي في طريق لووار بريكستن. في الواقع، لقد ذُهِل الدكتور بارنيكوت عندما عادَ هذا الصباح ووجد أن بيته تعرَّضَ للسطو أثناء الليل، وأنه لمْ يُسرَق شيءٌ برغم هذا سوى الرأس الجصِّي الذي كان في الردهة. لقد حمَله شخصٌ ما إلى الخارج وحطَّمه بطريقةٍ وحشية على سُور الحديقة، حيث عُثر تحتَه على شظاياه المُتناثِرة.»

هنا أخذ هولمز يفرك إحدى يديه بالأخرى، وقال: «هذا أمرٌ جديدٌ كليًّا بالتأكيد.»

«لقد اعتقدتُ أنه سيروقُك. لكنَّني لم أصِل إلى النهاية بعد. لقد كان الدكتور بارنيكوت على وشْك الوصول إلى عيادته الفرعية في الساعة الحادية عشرة. ولك أن تتخيَّل دهشتَهُ عندما وجد — فور وصوله إلى هناك — أن النافذة كانت قد فُتِحت أثناء الليل، وأن القِطَع المُتكسِّرة من تمثاله الثاني كانت منثورةً في جميع أنحاء الغُرفة. لقد سُحِقتْ إلى ذرَّاتٍ في مكانها الذي كانت فيه. ولمْ تُوجَد أيُّ علامات في أيٍّ من الحالتَين يُمكننا من خلالها الاستدلالُ على شخصية المُجرِم أو المخبول الذي تسبَّب في هذا الأذى. والآن يا سيد هولمز، ها أنت ذا قد اطَّلعتَ على وقائع القضية.»

قال هولمز: «إنها أحداثٌ غريبة، إن لم تكن صاعقة. أتسمح لي بالسؤال عمَّا إذا كان التمثالان اللذان تهشَّما في حجرتَي الدكتور بارنيكوت مُماثلَين تمامًا لذلك الذي تحطَّم في متجر مورس هدسون؟»

«لقد صُنعت باستخدام قالبٍ واحد.»

«لا بدَّ أن تُضعِف حقيقةٌ كهذه من احتمالية أن يكون الرجل الذي حطَّمَهما مُتأثرًا بأي نوع من أنواع الكراهية المُطلقة لنابليون. وإذا أخذنا بعين الاعتبار مئات التماثيل الموجودة في لندن للإمبراطور العظيم، فإن من المُبالغةِ الِاعتقاد بأنه قد يتصادَف لشخصٍ مُشوَّشٍ كهذا ممَّن يُقاومون تقديس التماثيل أن يبدأ بتحطيم ثلاثة تماثيل من النوع نفسه.»

قال ليستراد: «في الواقع، لقد فكرتُ فيما فكرتَ فيه، لكنَّ مورس هدسون هذا هو البائع الوحيد للتماثيل النصفية في تلك المنطقة من لندن، وهذه التماثيل الثلاثة كانت هي الوحيدة الموجودة في متجره منذ سنين؛ لذا، فعلى الرغم من وجود مئات التماثيل في لندن — كما تقول أنت — فمن الوارد جدًّا أن هذه التماثيل الثلاثة كانت هي الوحيدة الموجودة في ذلك الحي. وعليه، فإن من المُتوقَّع لمُتعصِّبٍ ما مِن سكان الحيِّ أن يبدأ بتحطيمها هي. ما رأيك يا دكتور واطسون؟»

فأجبتُ: «ما من حدودٍ لما يُمكن أن يتسبَّب فيه المسُّ الأحادي. ثمَّةَ حالة مرَضيةٌ أطلق عليها علماء النفس الفرنسيون المُعاصرون اسمَ «الاستحواذ»، وهي ربما تكون طفيفة التأثير على الشخصية، ويُصاحبها صحة تامَّة للعقل في كلِّ جانبٍ آخر. وإن من المُحتمَل لرجلٍ أمعنَ في القراءة عن نابليون، أو ربما يكون ورِثَ أذًى حصلَ لعائلته من الحرب العُظمى مع فرنسا، أنْ يُصاب بحالة الاستحواذ المرَضية هذه، وأنْ يميل، وهو تحت تأثيرها، إلى الإسراف في التَّعدِّي.»

قال هولمز وهو يهزُّ رأسه: «ليس ذلك بالتفسير المقبول عزيزي واطسون؛ لأنه لا يمكن لأيِّ قدرٍ من الإصابةِ بحالة الاستحواذ أن يُمكِّنَ مريضَ المسِّ الأُحادي، المُثير للاهتمام الذي تتحدَّث عنه هذا، من اكتشاف الأماكن التي كانت هذه التماثيل النصفية فيها.»

«حسنٌ، فكيف تُفسِّر أنت الأمر؟»

«أنا لا أُحاول فعل هذا، لكنني ألاحظ فقط أن ثمَّةَ طريقةً مُعينة في تصرُّفات الرجل الغريبة. على سبيل المثال، في ردهة منزل الدكتور بارنيكوت، حيث كان من المُمكن للصوت أن يُوقِظ الأُسرة، أخذ التِّمثال إلى الخارج قبل أن يُحطِّمه، بينما في العيادة الفرعية، حيث لم يكن يخشى كثيرًا أن ينتبِه إليه أحد، فقد هشَّمه في مكانه الذي كان فيه. يبدو الأمرُ مُغرقًا في التفاهة، لكنني برغم هذا، وعندما أفكر جديًّا في أن بعضًا من قضاياي النموذجية للغاية لمْ تكن بداياتُها واعدةً بالمرَّة، فإنني لا أجرؤ على إطلاق وصْفِ التفاهة على أيِّ شيء. ولعلَّك تذكُر يا واطسون كيف انتبهتُ أولَ ما انتبهتُ إلى قضية أسرة أبرنيتي المُروِّعة من خلال مقدار انغماس نبتة البقدونس في الزُّبد في أحد أيام الحر. لهذا يا ليستراد لا يَسعُني أن أضحك من تماثيلك الثلاثة المكسورة، وسأكون مُمتنًّا لك للغاية إذا أطلعْتَني على أيِّ تطوُّراتٍ جديدة في هذه السلسلة الفريدة من الأحداث.»

وقع تطوُّر الأحداث الذي سأل عنه صديقي بشكلٍ أسرع وأكثر مأساوية للغاية ممَّا كان يُمكنه أن يتخيَّل؛ حيث سمعتُ طرقًا على الباب في صباح اليوم التالي وأنا لا أزال أرتدي ملابسي في حجرة النوم، وإذا بهولمز يدخل الحجرة وفي يدِه برقية، وقرأها هولمز بصوت عالٍ:

تعالَ على الفور، ١٣١، شارع بت ستريت، كينسنجتون.

ليستراد

سألتُ قائلًا: «ما الأمر إذن؟»

«لا أدري؛ ربما حدَث شيءٌ ما. لكنَّني أظنُّ أنها تَتِمَّة قصة التماثيل. في هذه الحالة فإن صديقنا — مُحطِّم التماثيل — بدأ يُنفِّذ عملياته في منطقةٍ أخرى من لندن. هناك قهوة على المنضدة يا واطسون، وهناك عربة أجرة تنتظِرُني أمام الباب.»

في غضون نصف ساعة كنَّا قد وصلْنا إلى شارع بِت ستريت، وهو موضعٌ صغيرٌ هادئٌ منعزلٌ يقع مباشرةً إلى جوار واحدٍ من أكثر أحياء لندن نبضًا بالحياة. كان المنزل رقم ١٣١ واحدًا من صفٍّ من المنازل المُتلاصِقة؛ كانت جميعها دون أيِّ شُرفات، وكانت مُتوسطة الحال وعمليةً تمامًا. وعندما اقتربْنا منها وجدْنا حشدًا من الناس لافتًا للنظر مُصطفًّا على السياج الواقع أمام المنزل. وهنا صفَرَ هولمز تأثرًا، وقال: «يا إلهي! إنها مُحاولة قتلٍ على الأقل. لا شيءَ أقلَّ من هذا يُوقِف فتى بريد لندن. إن كتِفَي ذلك الرجل المُتقوِّستَين ورقبتَهُ الممدودة لتنمُّ عن وقوع عُنف. ما هذا يا واطسون؟ إن الدَّرَجات العُليا من السُّلَّم مغمورة بالماء والأخرى جافة. لكنَّ هناك ما يكفي من آثار الأقدام على أي حال. حسنٌ، حسنٌ، ها هو ذا ليستراد عند النافذة الأمامية، وسنعرف كل شيءٍ عن الأمر قريبًا.»

استقبلَنا المحققُ بوجهٍ مُتجهِّم وقادنا إلى غرفة الجلوس، فرأينا بها رجلًا كهلًا شديدَ شَعَثِ الشَّعر، شديدَ القلق، يرتدي ثيابًا منزليةً خفيفة، ويذرَع الغرفةَ جَيئةً وذهابًا. قدَّمه لنا المُحقِّق وأخبرَنا أنه صاحب المنزل؛ السيد هوراس هاركر، الصحفي بجريدة سنترال بريس سينديكيت.

قال ليستراد: «إنها مسألة تماثيل نابليون النصفية مرةً أخرى. لقد بدوتَ مُهتمًّا بالموضوع ليلةَ أمس يا سيد هولمز؛ لهذا اعتقدتُ أنه ربما يسرُّك أن تكون حاضرًا الآن، حيث إن الأمر قد اتَّخذ مُنعطفًا أشدَّ خطورةً من ذي قبل.»

«وإلامَ تحوَّلَ إذن؟»

«إلى جريمة قتل. سيد هاركر، أتسمَحُ بإخبار هذَين السَّيِّدَين بما حدَث بالتحديد؟»

استدار إلينا الرجل الذي يرتدي ثياب المنزل بوجهٍ بلَغَ الغايةَ من الحُزن، وقال: «إنه لشيءٌ غريبٌ أن أُمضي حياتي كلَّها وأنا أجمع أخبارَ الآخرين؛ والآن — وقد أصبحتُ أنا جزءًا من خبَر حقيقي — فإنني أجِد نفسي قد وصلتُ إلى حدٍّ من الاضطراب والارتباك لا أستطيع معه أن أضع كلمتَين مُتجاورتَين. ولو أنني كنتُ جئتُ إلى هنا بصِفَتي صحفيًّا لكنتُ أدرتُ الحوارَ الصحفيَّ بنفسي وكتبتُ عمودَين في كل جريدة من جرائد المساء. لكنْ — والحال على ما هي عليه الآن — فإنني أُفرِّط في حدثٍ صحفيٍّ قيِّم بتكرار قصتي مرةً بعد مرةٍ على مسامع سلسلةٍ من أناسٍ مُختلفين، ولا يُمكنني أن أستفيد أنا منها. لكنني، برغم هذا، قد سمعتُ عنك يا سيد شيرلوك هولمز. ولو أنك فقط فسَّرتَ هذا الأمر الغريب فسيُعوِّضني ذلك عن المشقَّة التي سأتكبَّدُها في سرْد القصة عليك.»

جلس هولمز وأصغى للقصة.

«يبدو أن الأمر برمته يتمحور حول تمثال نابليون النصفي الذي اشتريتُه لهذه الغرفة التي نحن فيها منذ حوالي أربعة أشهر. لقد حصلتُ عليه بثمنٍ زهيدٍ من متجر هاردينج براذرز، وهو متجرٌ يفصِله بيتان عن محطة هاي ستريت. إنني أقوم بقدرٍ كبيرٍ من عملي الصحفي أثناء الليل، وغالبًا ما أظلُّ أكتُب حتى الصباح الباكر. وهكذا مضتِ الأمور اليوم؛ لقد كنتُ جالسًا، في حوالي الساعة الثالثة، في حُجرتي التي أخلو فيها بنفسي من أجل العمل، والتي تقَعُ في الجزء الخلفي من سطح المنزل، وساعتَها تأكدتُ أني سمعتُ بعض الأصوات في الطابق السُّفلي. لقد أصغَيتُ سمعي، ولكنها لم تتكرَّر، فاستنتجتُ أنها أتتْ من الخارج. وفجأةً، وبعد حوالي خمس دقائق، دوَّتْ صرخةٌ مُرعبةٌ للغاية؛ أفظع صوتٍ سمعتُه في حياتي يا سيد هولمز. ستظلُّ هذه الصرخة تتردَّد في أُذني ما حَيِيت. تجمَّدتُ في مكاني من الرُّعب مدة دقيقة أو دقيقتين. لكنني بعدها أمسكتُ المِسعارَ ونزلتُ إلى الطابق السُّفلي. وعندما دخلتُ هذه الغرفة وجدتُ النافذةَ مفتوحةً، ولاحظتُ على الفور أن التمثال قد اختفى من فوق رفِّ المدفأة. لمْ أتوصَّل إلى السبب الذي قد يدفع أيَّ لصٍّ لسرقة شيءٍ كهذا، فلم يكن سوى قالَبٍ جصِّي ولمْ تكن له قيمة حقيقية البتَّة.

تستطيع أن ترى بنفسك أنَّ بإمكانِ أيِّ شخصٍ يخرج من هذه النافذة المفتوحة أنْ يصِل إلى عتبة الباب الأمامية إذا خطا خطوةً واسعة. لقد كان من الواضح أن هذا هو ما فعلَه اللص؛ لذا استدرتُ وفتحتُ الباب. وعندما خرجتُ في الظلام كدتُ أسقط فوق جثةِ رجلٍ كانت مُمدَّدةً هناك. عندئذٍ رجعتُ مُسرعًا لأُحضِر مصباحًا، فرأيتُ الرجل المسكين. كان في حلقه جرحٌ بليغٌ وكان المكان كله يسبَحُ في الدماء. كان راقدًا على ظهره، ورُكبتاه مُنثنيتَين وفمُّه مفتوحًا بصورةٍ مُرعِبة. سوف تُطارِدني صورته في أحلامي. وبالكاد أسعفَني الوقتُ لكي أنفُخ في صفَّارة الشرطة التي كانت معي، لكن من المؤكد أنِّي فقدتُ الوعي بعد ذلك؛ لأنني لم أدرِ بشيءٍ أكثر من هذا إلى أن وجدتُ الشرطيَّ واقفًا عند رأسي في الردهة.»

سأل هولمز: «حسنٌ، مَن الرجل الذي قُتِل؟»

قال ليستراد: «ليس ثمَّةَ ما يدلُّ على هُويته. سوف ترى الجثة في مُستودَع الجثث، لكنَّنا لمْ نعرف عنها شيئًا إلى الآن. إنه رجل طويل القامة أسفع الخدَّين قوي البِنية لا يُجاوِز عمره الثلاثين. وهو يرتدي ملابس رثَّة، لكن برغم هذا لا يبدو عليه أنه من العُمَّال. كانت الجثة تَسبَح في بِركة من الدماء إلى جوارها سكينٌ صُنع مقبضها من قرْن الغزال. لكنني لا أعرف أكانت هي سلاح الجريمة، أم كانت سكين القتيل نفسه. لم يكن مكتوبًا على ملابسه اسمٌ، ولم يكن في جُيوبه سوى تفَّاحة، وحبل، وخريطة لمدينة لندن، وصورة. ها هي ذي.»

كان واضحًا أنها التُقطتْ سريعًا بواسطة كاميرا صغيرة. كانت تُظهِر رجلًا رشيقًا حادَّ الملامح يُشبه القِرد، كان حاجِباه غليظَين وكان الجزء السُّفلي من وجهه بارزًا بروزًا غريبًا جدًّا يُشبه خطْمَ الرُّبَّاح.

سأل هولمز بعد تأمُّلٍ دقيق في هذه الصورة: «وماذا حدث للتمثال؟»

«وصلتْنا أخبارٌ عنه قبل مجيئك مباشرة. لقد عُثر عليه مُهشَّمًا في الحديقة الأمامية من منزلٍ خالٍ في طريق كامبدن هاوس. أنا ذاهبٌ لأراه الآن. هل ستُرافِقني؟»

«بالتأكيد. لكنني أريد إلقاء نظرةٍ على المكان فقط.» فحص هولمز السجَّاد والنافذة. ثم قال: «إما أنَّ ساقَي الرجُل كانتا طويلتَين جدًّا، وإما أنه كان رشيقًا للغاية؛ لأنه في وجود فناء للمنزل بالأسفل، فإن الوصول إلى حافة هذه النافذة وفتحها لمْ يكن بالإنجاز الهيِّن. أما الرجوع فقد كان سهلًا نسبيًّا. هل ستأتي معنا لترى حُطام تمثالك يا سيد هاركر؟»

جلس الصحفي المُنفطِر القلب خلف منضدة للكتابة، وقال: «لا بدَّ أن أستفيد شيئًا من الحدَث، رغم أنَّني متأكد أن الطبعات الأولى من جرائد المساء قد صدرَتْ بالفعل حاملةً التفاصيل الكاملة. يبدو أنه حظي العاثر! أتذكُر عندما انهار المُدرَّج المسقوف في مِضمار السِّباق بمدينة دونكستر؟ حسنٌ، لقد كنتُ الصحفيَّ الوحيد في المدرَّج، وكانت جريدتي الجريدة الوحيدة التي لمْ تتحدَّث عن الأمر، لأن صدمتي كانت أكبر من أن أستطيع الكتابة. وسأتأخَّر الآن كثيرًا في الكتابة عن جريمة وقعتْ أمام عتبة بابي.»

عندما غادرْنا الغرفة سمِعْنا لقلَمِه صريرًا مُدوِّيًا وهو يحثُّ السيرَ فوق ورقة الفولسكاب.

لمْ تكن البُقعة التي عُثر فيها على أجزاء التمثال المُتكسِّرة تبعُد سوى مئاتٍ محدودة من الياردات. وقعتْ أعيُننا للمرة الأولى على هذا التمثال من تماثيل الإمبراطور العظيم، الذي يبدو أنه كان يُثير في عقل هذا المجرم المجهول قدرًا هائلًا من الكراهية المَحمومة المُدمِّرة. كانت أجزاؤه المُتكسِّرة مُتناثرةً فوق الحشائش. التقط هولمز كثيرًا منها وأخذ يتفحَّصها بعناية. ومن خلال وجهه المُركِّز وهيئته العازِمة تأكَّدتُ أنه قد توصَّل أخيرًا إلى دليل.

سأله ليستراد قائلًا: «أتوصَّلتَ إلى شيء؟»

لكنَّ هولمز هزَّ كتِفَيه نافيًا، وقال: «لا يزال الطريق أمامنا طويلًا. ومع ذلك … ومع ذلك … حسنٌ، لدَينا بعض الحقائق المُوحية التي نستطيع التصرُّف بناءً عليها. لقد كان الحصولُ على هذا التمثالِ التافِهِ أكثرَ قيمةً في نظر هذا المجرم الغريب من حياة إنسان. هذه واحدة. ثُمَّ هناك هذا الأمر الغريب وهو أنه لمْ يُحطِّمْه داخل المنزل، ولا خارج المنزل مباشرةً، لو كان تحطيمه هو غايته الوحيدة.»

«لقد فقدَ السيطرة على نفسه واضطربَتْ حركتُه عندما رأى ذلك الرجل الآخر. إنه لمْ يكن يدري تقريبًا ما كان يفعل.»

«حسنٌ، هذا احتمالٌ قوي. لكنني أريد أن ألفت انتباهك تحديدًا إلى موقع هذا المنزل الذي تحطمَ التمثال في حديقته.»

تلفَّت ليستراد حوله، ثم قال: «لقد كان منزلًا خاليًا؛ لذا فقد كان يُدركُ أنه لن يُزعِجه أحدٌ وهو في حديقته.»

«نعم، لكنَّ في أول الشارع منزلًا خاليًا آخر ولا بدَّ أن يكون قد مرَّ به قبل أن يصِل إلى هذا المنزل. فلِماذا لمْ يُكسِّره هناك، ومن الواضح أن كلَّ ياردة حَمَلَه معه فيها كانت تزيد من خطورة أن يُقابِله شخصٌ ما؟»

قال ليستراد: «إنَّني أستسلِم.»

أشار هولمز بيده إلى مصباح الشارع الذي فوق رءوسنا، وقال: «لقد كان يستطيع أن يرى ما كان يفعله هنا بينما لم يكن يُمكنه ذلك هناك. هذا هو ما دفعه للمجيء إلى هنا.»

قال المُحقِّق: «يا للهول! هذا صحيح. لقد انتبهتُ لهذا الأمر الآن. إن تمثال الدكتور بارنيكوت لمْ يتحطَّم بعيدًا عن ضوء مِصباحه الأحمر. حسنٌ يا سيد هولمز؛ ماذا ينبغي لنا أن نفعل بهذه المعلومة؟»

«أن نتذكَّرها؛ أن نحتفِظ بها في عقولنا مؤقتًا. وربما نعثُر فيما بعدُ على شيءٍ ما تكون له علاقة بها. ما الخطوات التي تعزم على اتِّخاذها الآن يا ليستراد؟»

«إن أكثر الطرق فاعِليَّةً لفَهم القضية — في رأيي — هو التعرُّف على هُوية القتيل. ولن تكون هناك صعوبة في هذا. وعندما نعرِف من هو ومن أصدقاؤه فسنكون في سبيلنا إلى معرفة ما الذي كان يفعله في شارع بت ستريت ليلةَ أمس، ومن الذي قابله وقتله عند باب منزل السيد هوراس هاركر. ألا تعتقد ذلك؟»

«من دون شك؛ ورغم هذا فليستْ هذه هي الطريقة عينها التي سأتعامل بها مع القضية.»

«ماذا ستفعل إذن؟»

«آه، ينبغي لك ألا تسمح لي بالتأثير عليك بأيِّ طريقةٍ كانت! أقترِح أن تسير أنت في طريقك وأن أسير أنا في طريقي. ثم يُمكننا أن نُقارِن بين ما توصَّلنا إليه بعد ذلك، وسيُكمِّل كلٌّ مِنَّا عمل الآخر.»

قال ليستراد: «حسنٌ إذن.»

«إذا كنتَ سترجِع إلى شارع بت ستريت فربَّما ترى السيد هوراس هاركر. أخبِرْه نقلًا عنِّي أنني قد حسمتُ رأيي في الموضوع تمامًا، وأنه من المؤكَّد أن قاتلًا مخبولًا خطيرًا يُعاني من أوهامٍ حول نابليون كان في منزله ليلة أمس.»

وهنا جحظتْ عينا ليستراد، وقال: «لكنك لا تعتقِد ذلك في الحقيقة. أليس كذلك؟»

فابتسم هولمز، وقال: «ألا أعتقد ذلك؟ حسنٌ، ربما لا أعتقِده. لكنني واثق أنه سيُثير اهتمام السيد هوراس هاركر ومُشتركي جريدة سنترال بريس سينديكيت. والآن يا واطسون، أعتقِد أننا سوف نجِد أن أمامنا يومَ عملٍ طويلًا ومُعقَّدًا نوعًا ما. سيكون من دواعي سروري يا ليستراد لو أمكنك أن تُقابِلنا في شارع بيكر في الساعة السادسة من مساء اليوم. وحتى ذلك الحين فأنا أودُّ أن أحتفِظ بهذه الصورة التي وُجدتْ في جيب القتيل. لكن من المُحتمَل أن ألجأ إليك طالبًا الرفقة والمساعدة في القيام بحملةٍ صغيرة سنحتاج إلى تنفيذها الليلة. وذلك إذا ثبتتْ صحةُ ما أفكر فيه. وحتى ذلك الوقت، مع السلامة وأرجو لك التوفيق!»

سرتُ أنا وشيرلوك هولمز حتى وصلنا إلى محطة هاي ستريت، حيث توقَّف عند متجر هاردينج براذرز؛ المكان الذي اشترى منه الصحفي التمثال. أخبَرَنا مساعدٌ شابٌّ أنَّ السيد هاردينج لن يأتي قبل وقت الأصيل، وأنه هو نفسه قادمٌ إلى العمل حديثًا ولن يكون بإمكانه أن يُعطيَنا أي معلومات. وهنا ظهرتْ على وجه هولمز علامات الانزعاج وخيبة الأمل، ثم قال أخيرًا: «حسنٌ، حسنٌ يا واطسون، ليس لنا أن نطمع في أن تسير الأمور كلها على هوانا. ينبغي أن نعود في فترة الأصيل ما دام السيد هاردينج لن يكون موجودًا إلَّا في ذلك الوقت. إنني أُحاول — كما لا شكَّ أنك خمَّنتَ — أن أتتبَّع مصدر هذه التماثيل لأعرِف ما إذا كان هناك شيءٌ غير عاديٍّ ربما يتبيَّن منه سبب نهايتها الغريبة. فلنتوجَّه إلى السيد مورس هدسون، في طريق كيننجتون، ولنرَ إن كان بإمكانه أن يُلقِيَ أيَّ قدرٍ من الضوء على المسألة.»

بعد ساعةٍ من السَّير بالعربة وصلنا إلى مؤسَّسة تاجر التماثيل. كان رجُلًا بدينًا قصيرَ القامة أحمرَ الوجه حادَّ الطبع.

قال: «نعم يا سيدي. فوق منضدتي تمامًا يا سيدي. لا أدري لماذا ندفع الرسوم والضرائب إذا كان أيُّ قاطع طريقٍ يستطيع أن يدخل إلى هنا ويُكسِّر بضائع الناس. نعم يا سيدي، أنا الذي بعتُ الدكتورَ بارنيكوت تمثالَيه. شيءٌ مُخزٍ يا سيدي! مكيدةٌ تخريبية، هكذا أراها أنا. لا يُتوقَّع من غير أحدِ دُعاة الفوضى أن يَشرع في تحطيم التماثيل. إنهم الجمهوريون الحُمر، هكذا أُسمِّيهم. مِمَّن حصلتُ على التماثيل؟ لا أدري ما علاقة هذا السؤال بالأمر. حسنٌ، إذا كنتَ حقًّا تريد أن تعرف، فإنني حصلتُ عليها من شركة جيلدر وشركاه، في شارع تشيرتش ستريت، بمُقاطعة ستِبني. إنها شركة شهيرة في مجال تجارتِنا، وهم كذلك منذ عشرين سنة. كم تمثالًا كان عندي؟ ثلاثة — اثنان وواحدٌ ثلاثة — تِمثالا الدكتور بارنيكوت وواحدٌ تهشَّم في وضَحَ النهار فوق منضدتي. هل أعرف هذه الصورة؟ لا، لا أعرفها. بل إنني أعرفها. يا إلهي، إنه بيبُّو. لقد كان إيطاليًّا تقريبًا وكان يعمل بالقطعة، وقد كان وجوده نافعًا للمحل. كان يستطيع النحتَ قليلًا والطلاءَ بالذهب وعملَ البراويز، بالإضافة إلى أعمالٍ صغيرة متنوعة. لقد ترك الرجل العمل عندي في الأسبوع الماضي، ولمْ أعرف عنه شيئًا منذ ذلك الحين. لا، لا أعرف من أين جاء ولا إلى أين ذهب. كما أنه لمْ يُزعجْني طوال فترة بقائه هنا. لقد غادر قبل تحطيم التمثال بيومين.»

قال هولمز عندما خرجنا من المتجر: «حسنٌ، هذا هو كل ما كان يُمكننا أن نتوقَّع الحصول عليه من مورس هدسون. وقد أصبح بيبُّو هذا عنصرًا مُشتركًا في كلٍّ من كيننجتون وكينسنجتون، ومن ثَمَّ فهو يستحقُّ رحلةً من عشرة أميال بالسيارة. والآن يا واطسون، لنذهب إلى شركة جيلدر وشركاه في مقاطعة ستِبني؛ حيث مصدر التماثيل ومنشؤها. ولسوف أُصاب بالذهول إذا لمْ نحصُل على شيءٍ من الدعم هناك.»

تعاقبَ مرورُنا سريعًا عبرَ أطراف كلٍّ من المناطق الراقية في لندن، ثم فنادق لندن، ومنها إلى مسارحها، ثم أماكنها الأدبية، ثم التجارية، ثم أخيرًا مناطق لندن المُجاورة للبحر، حتى وصلْنا إلى مدينةٍ واقعة على ضِفة النهر يبلُغ عدد سكانها مائة ألف إنسان، وفيها كان منبوذو أوروبا يتعرَّقون من الحَرَّ في المنازل المُتعدِّدة الشُّقَق ويملئونها برائحتهم الكريهة. وهنا — في طريق عام، كان في السابق مقرَّ إقامة تُجَّار المدينة الأثرياء — عثرْنا على المنحوتات التي كُنَّا نبحث عنها. كان في الخارج فناءٌ كبيرٌ مليءٌ بالنُّصُب التذكارية الحجرية. أما بالداخل فكان هناك غرفة كبيرة بها خمسون عاملًا ينحتون التماثيل أو يُفرِّغونها في قوالب. كان المديرُ ألمانيَّ الجنسية وكان رجلًا ضخمَ البِنية أشقرَ الشَّعر، وقد استقبلَنا استقبالًا مُهذَّبًا، وأجابَ عن أسئلة هولمز كلها إجاباتٍ واضحة. وعند مُراجعة سجلَّاته اتَّضح أنَّ مئات القوالب كانت قد أُخذتْ عن نموذجٍ رخاميٍّ لتمثال رأس نابليون الذي صنعه النحَّاتُ الفرنسي ديفاين، ولكنَّ القوالب الثلاثة التي أُرسِلت إلى مورس هدسون منذ سنةٍ تقريبًا كانتْ عبارة عن نِصفِ مجموعةٍ مكوَّنةٍ من ستَّةِ قوالب. أما القوالب الثلاثة الأخرى فقد أُرسِلت إلى هاردينج براذرز، في كينسنجتون. لكنه لمْ يعرِف لِمَ قد تختلِف هذه القوالب الستَّة عن أيٍّ من القوالب الأخرى. كما لمْ يستطع تخمين ما قد يدفع أيَّ شخصٍ للرغبة في تحطيمها. في الواقع، لقد سخِر من الفكرة. لقد كانت تُساوي ستَّةَ شلنات بسعر الجملة، لكن بائع التجزئة كان يستطيع أن يَجني اثني عشر شلنًا أو أكثر. كانت الصورة الكلية للتِّمثال تُؤخَذ من قالبَين لجانبَي الوجه، ثم كانت هاتان الصورتان الجانبيَّتان المصنوعتان من جصِّ باريس تُلصَقان معًا لتُكوِّنا الصورة الكاملة للتمثال النصفي. غالبًا ما كان يُؤدي هذه المَهمَّةَ عمالٌ إيطاليون في الغرفة التي كنَّا بها. وكانوا عندما ينتهون من صُنع التماثيل يضعونها لتجفَّ فوق منضدة في الممر، ومن ثم يُخزِّنونها. هذا هو كل ما استطاع أن يُخبرنا به.

لكنْ كان لإبراز الصورة تأثيرٌ ملحوظٌ على المدير. حيث اتَّقد وجهه من الغضب، وانعقد حاجباه فوق عينَيه الجرمانِيَّتَين الزرقاوَين، وصاح قائلًا: «آه، الوغد! نعم، بالتأكيد، إنني أعرفه جيدًا جدًّا؛ فلطالما كانت هذه المؤسَّسة مؤسَّسةً مُحترمة، ولمْ تكن المرة الوحيدة التي استقبلْنا الشرطة داخلها على الإطلاق إلا بسبب هذا الرجل نفسه. كان هذا منذ أكثر من سنة. فلقد طعن إيطاليًّا آخر بسكين في الشارع، ثم جاء إلى المصنع والشرطة في أثره، وقد قُبض عليه من هنا. كان اسمُه بيبُّو؛ أما اسم عائلته فلمْ أعرفه مُطلقًا. لقد نلتُ جزائي على توظيف رجل له وجهٌ كهذا. لكنه كان حِرَفيًّا جيِّدًا، كان من أجود الحرفيِّين.»

«بِمَ حُكم عليه؟»

«لقد نجا الرجل من الموت ونال هو عقوبةً مُخفَّفة، حيث سُجن لمدة سنة. لا أشكُّ أنه أصبح خارج السجن الآن؛ لكنه لم يجرؤ على أن يُرِيَنا وجهه هنا. إن أحد أبناء عمِّه يعمل لدَينا هنا، وأعتقِد أنه يستطيع أن يُخبرك عن مكانه.»

صاح هولمز قائلًا: «لا لا، لا تُخبر ابن عمِّه بأي شيء؛ ولا بكلمةٍ واحدة، أرجوك. إن الأمر بالِغ الأهمية، وكلَّما أوغلتُ فيه اتَّضحتْ أهميتُه أكثر. لكنني لاحظتُ عندما راجعتَ أنت بيع تلك القوالب في دفتر حساباتك أنها كانت بتاريخ الثالث من يونيو في السنة الماضية. فهل تستطيع أن تُخبرني بتاريخ اعتقال بيبُّو؟»

أجاب المدير: «أستطيع أن أُخبرك به على وجه التقريب من خلال مُراجعة كشف الأجور.» ثم واصل كلامه بعد تقليب بعض الصفحات قائلًا: «نعم، كانت آخِر مرةٍ تقاضى فيها أجرًا بتاريخ يوم عشرين من شهر مايو.»

قال هولمز: «شكرًا لك، لا أظنُّ أنني سأحتاج إلى التطفُّل على وقتك وصبرك أكثر من هذا.» وبعد كلمة تحذيرٍ أخيرة مِن أنْ يذكُر أيَّ شيءٍ عن تحقيقنا، وَلَّيْنا وجهَينا ناحية الغرب مرةً أخرى.

كانت فترة الأصيل قد تجاوزتْنا بكثير قبل أن نتمكَّن من تناوُل وجبة غداءٍ سريعة في أحد المطاعم. كان إعلان إحدى الجرائد مُعلقًا عند مدخل المطعم وكان مكتوبًا فيه: «جريمة في كينسنجتون. مجنون يرتكب جريمة قتل.» وأظهرَتْ محتويات الجريدة أن السيد هوراس هاركر قد نشر ما يعرفه عن الحادث في نهاية المطاف. كان بها عمودان يصِفان القصة وصفًا مُثيرًا مُنمَّقَ الألفاظ. أسند هولمز الجريدة على حامل الإبريق وراح يقرؤها وهو يتناوَل طعامه. وأثناء قراءته أخذه الضَّحِكُ بينه وبين نفسه مرةً أو مرَّتَين.

قال: «إن ذلك جيد يا واطسون، استمِع لهذا:

ممَّا يبعَث على اليقين هنا، العلمُ بأنه ليس من الوارد وقوعُ اختلافٍ في الرأي حول هذه القضية، لأن السيد ليستراد، وهو واحد من أكثر ضُبَّاط الشرطة تمرُّسًا، والسيد شيرلوك هولمز، الخبير الاستشاري المعروف، قد توصَّلا كلاهما إلى أنَّ سلسلة الأحداث الغريبة التي انتهت بهذه النهاية المأساوية إنما تسبَّب فيها الجنونُ وليس الجريمةُ المُتعمَّدة. ليس ثمَّةَ تفسير مقبول لأحداث القضية سوى الاضطراب العقلي.

إن الصحافة مؤسَّسة بالغة النفع يا واطسون، لكن فقط إذا كنتَ تعرف كيف تستفيد منها. والآن، إذا كنتَ أنهيتَ تناوُلَ طعامك، فسوف نعود مرةً أخرى إلى كينسنجتون لنرى ما سيقوله مدير متجر هاردينج براذرز عن القضية.»

تبيَّن أنَّ مؤسِّس ذلك المتجر الضخم شخصٌ رشيقٌ مُهذبٌ قصيرُ القامة، كما كان شديد الأناقة سريع البديهة، ذا ذهنٍ صافٍ ولسانٍ حاضر.

قال: «نعم يا سيدي، لقد قرأتُ القصة بالفعل في جرائد المساء. السيد هوراس هاركر أحد عملائنا. لقد بِعنا له التمثال النِّصفي منذ بضعة أشهر. وقد طلبْنا ثلاثة قوالب من هذا النوع من شركة جيلدر وشركاه، من مُقاطعة ستِبني. لكنها بِيعت الآن كلها. لمن؟ حسنٌ، أعتقِد أننا نستطيع إخبارك بهذا بسهولة كبيرة إذا رجعْنا إلى دفتر مبيعاتنا. نعم، ها هي ذي مُدوَّنة هنا. واحدٌ بِيع للسيد هاركر، تعلم هذا، وواحدٌ للسيد جوسايا براون، من لابيرنم لودج، لابيرنم فيل، بمقاطعة تشيزك، وواحدٌ للسيد سانديفورد، من طريق لُووار جروف، بمدينة ريدينج. لا، لمْ أرَ من قبلُ قطُّ ذلك الوجه الذي تُريني إياه في الصورة. ليس من السهل على المرء أن ينساه، أتستطيع ذلك يا سيدي، لأنه يندُرُ أن أكون رأيتُ وجهًا أشدَّ قُبحًا منه. هل بين طاقم مُوظفينا أيُّ إيطاليِّين؟ نعم يا سيدي، لدَينا كثيرٌ منهم بين الحِرَفيِّين وعمال النظافة. أظنُّ أن بإمكانهم النظرَ إلى سِجلِّ المبيعات هذا إذا أرادوا ذلك؛ فليس هناك سبب مُحدَّد لإبقائه في مكان مُغلَق. حسنٌ، حسنٌ، إنه أمرٌ غريبٌ للغاية، وأرجو أن تُخبرني بأيٍّ مِمَّا قد تُسفِر عنه تحرِّياتُك.»

دوَّن هولمز عدة مُلاحظات أثناء إدلاء السيد هاردينج بشهادته، ولاحظتُ أنه كان راضيًا كُليًّا عن التحوُّل الذي كانت تسير إليه الأمور. لكنه برغم هذا لمْ يُعقِّب بشيءٍ سوى أنَّنا إذا لمْ نُسرع فسنتأخَّر على موعدنا مع ليستراد. كما توقَّعنا، كان المُحقِّق موجودًا بالفعل عندما وصلْنا إلى شارع بيكر ستريت، ووجدناه يذرَع المكان جَيئةً وذهابًا وهو في حالة شديدة من التلهُّف. وقد بدا من مظهره المُوحي بالأهمية أنَّ يومه لمْ يذهب سُدًى، وقال: «أخبِرْني، كيف سارت الأمور يا سيد هولمز؟»

ردَّ صديقي قائلًا: «كان يومُنا حافلًا جدًّا، ولم يضِعْ هباءً البتَّة. لقد قابلْنا بائعَي التجزئة كليهما وصاحبَ مصنع البيع بالجملة كذلك. أستطيع أن أتتبَّع كلَّ تمثال من التماثيل الآن من البداية.»

صاح ليستراد: «التماثيل! حسنٌ، حسنٌ، إنَّ لك طُرقك الخاصَّة سيد شيرلوك هولمز، وليس لي أن أقول كلمةً واحدةً ضِدَّها، لكنَّني أظنُّ أني أنجزتُ عملًا أفضلَ مِمَّا فعلتَه أنت. لقد تعرَّفتُ على هُوية القتيل.»

«أحقًّا ما تقول؟»

«وعثرتُ على دافعٍ لارتكاب الجريمة كذلك.»

«رائع!»

«لدَينا مُحقِّق مُتخصِّص في العمل في شارع سافرن هيل والحي الإيطالي. في الواقع، كان هذا القتيل يرتدي حول عُنقه قلادةً بها رمز كاثوليكي من نوعٍ ما، وقد جعلني هذا، إضافةً إلى لون بشرته كذلك، أعتقِد أنه من الجنوب. لقد عرفه المُحقِّق هيل بمجرَّد أن وقعتْ عينُه عليه. اسمه بييترو فينوتشي، من بلدية نيبلز الإيطالية، وهو واحد من أفظع سفَّاحي لندن. لقد كانت له صِلة بالمافيا، وهي، كما تعلم، منظمة سياسية سِرِّية تفرِض قراراتها عن طريق القتل. إنك ترى الآن كيف بدأ الأمر يتَّضِح. من المُحتمَل أن يكون الرجل الآخر إيطاليًّا كذلك، وعضوًا في المافيا أيضًا. لقد انتهك هذا الرجلُ قوانينهم بطريقةٍ ما. لذلك كان بييترو يتعقَّبه. وربما تكون الصورة الفوتوغرافية التي وجدناها في جيبه هي صورة ذلك الرجل نفسه؛ كانت معه كي لا يطعن شخصًا آخر. لقد تعقَّبَ الرجل، ورآه وهو يدخُل إلى أحد المنازل، لذلك كَمَنَ له في الخارج، لكنه تلقَّى إصابةً مُميتةً في الشجار بينهما. ما رأيك في هذا يا سيد شيرلوك هولمز؟»

صفَّق هولمز استحسانًا، وصاح قائلًا: «رائع يا ليستراد، رائع! لكنني لمْ أفهم تفسيرك حول تحطيم التماثيل جيدًا.»

«التماثيل! إنك لا تستطيع إخراج تلك التماثيل من رأسك أبدًا. إنها ليستْ بشيءٍ في نهاية المطاف؛ سرقة تافهة، ستة أشهر على الأكثر. إن ما نُحقِّق فيه في الحقيقة هو قضية القتل، وأنا أؤكد لك أنَّني أجمع خُيوطها كلها في يدي.»

«والخطوة القادمة؟»

«في غاية السهولة. سوف أذهب مع هيل إلى الحي الإيطالي، ثم أعثُر على الرجل الذي معنا صورتُه وأقبِض عليه بتُهمة القتل. هل ستأتي معنا؟»

«لا أظن. أتصوَّر أننا نستطيع بلوغ غايتنا بطريقةٍ أسهل. لكنني لستُ مُتأكدًا؛ لأن الأمر كله مُتوقِّفٌ على … حسنٌ، الأمر كله مُتوقِّفٌ على عُنصرٍ خارج سيطرتنا تمامًا. لكنني واثقٌ تمامًا — في الواقع، أُراهن بنسبة اثنين لواحد — أنك لو رافقْتَنا الليلةَ فسأتمكَّن من مساعدتك في القبض عليه.»

«إلى الحي الإيطالي؟»

«لا؛ أعتقد أن احتمالية العثور عليه في مقاطعة تشيزيك أكبر من هذا. إذا أتيتَ معي إلى تشيزيك الليلةَ يا ليستراد، فإنني أعِدُك أن أذهب معك إلى الحي الإيطالي غدًا، ولن يحدُث مكروهٌ بسبب هذا التأخير. والآن، أظنُّ أنه سيكون من المُفيد لنا جميعًا أن نأخُذ قسطًا قليلًا من النوم؛ لأنني لا أنوي المُغادَرة قبل الحادية عشرة، كما أنه ليس من المُحتمَل أن نعود قبل الصباح. سوف تتناوَل العشاء معنا يا ليستراد، ثم يُمكنك أن تنام على الأريكة حتى يحين موعد انطلاقنا. والآن يا واطسون، سأكون مُمتنًّا لك إذا طلبتَ لنا واحدًا من عمال شركات النقل السريع، فأنا أريد إرسال رسالة، ومن المُهمِّ أن يذهب بها على الفور.»

قضى هولمز الليل في التفتيش في ملفَّات الصُّحُف اليومية القديمة التي كانت تملأ إحدى الغرف التي نُخزِّن فيها الأمتعة التي لا نستخدِمها. وعندما نزل في النهاية كانت فرحةُ الظَّفَر في عينيه، لكنه لمْ يُخبر أيًّا مِنَّا بنتيجة بحثه. أما عنِّي أنا، فقد سِرتُ على طريقته التي كان يتعقَّبُ بها مُختلفَ انعطافات هذه القضية المُعقَّدة حذْوَ القُذَّة بالقُذَّة، وعلى الرغم من هذا فلمْ أُدرك الغاية التي كنَّا سنصِل إليها، لكنني كنتُ أعرف جيدًا أن هولمز كان يتوقَّع مِن ذلك المجرم الغريب أن يُحاول السطوَ على التمثالين المُتبقِّيَين، وقد تذكرتُ أن أحدهما كان في مقاطعة تشيزيك. لا شكَّ أن الغاية من رِحلتنا كانت أن نقبِض عليه مُتلبِّسًا بجريمته، ولا شكَّ كذلك أنني لم أملِك إلَّا أن أُعجَب بالطريقة الماكِرة التي أقحم بها صديقي معلومةً مُضلِّلةً في جريدة المساء، وذلك ليُوهِم الرجل بأنه يستطيع مُواصلةَ خطته دون أن يخضع للعقاب. لمْ أندهِش عندما اقترح هولمز عليَّ أن آخُذ مُسدَّسي معي. وقد أخذ هو نفسُه سوطَ الصيد المتعددَ المزايا الذي كان سلاحه المُفضَّل.

في الحادية عشرة كان أمام الباب عربةٌ ذات أربع عجلات، وقد اتَّجهْنا بها إلى مكانٍ يقعُ على الجانب الآخر من جِسر هامرسمث بريدج. في هذا المكان أُمِر الحُوذيُّ بالانتِظار. ثم مَشيْنا قليلًا حتى وصلْنا إلى طريقٍ مُنعزلٍ على جانبَيه منازل جميلة كالهدَّاب على أطراف الثوب، كانت تُحيط بكلِّ منزل منها مساحة من الأرض خاصَّة به. وفي ضوء مصباح الشارع قرأنا هذه العبارة «فيلا لابيرنم» على عِضادة بوابة أحد هذه المنازل. كان واضحًا أن ساكني المنزل أوَوا إلى فُرُشهم؛ لأنه كان مُظلمًا باستثناء نافذةٍ مروحِيَّةٍ فوق باب الردهة، كانت تُلقي دائرةً باهتة وحيدة من الضوء على مَمشى الحديقة. أما السياج الخشبي الفاصل بين أرض المنزل والطريق فكان يُلقي بظلٍّ مُظلمٍ كثيفٍ على جانبه الداخلي، وقد جلسْنا مُستوفِزين في هذا الظل.

همس هولمز: «أخشى أنه سوف يطول بكم الانتظار. من حُسن حظِّنا أنها لا تُمطر. علينا أن نكون مُمتنِّين لهذا. لا أعتقِد أن بإمكاننا حتى أن نُجازِف بالتدخين من أجل تمضية الوقت. لكنَّ فُرصتنا في الحصول على شيءٍ يُعوِّضنا عن عنائنا كبيرة.»

لكنْ، تبيَّن أنَّه لم يكن مُقدَّرًا لفترة مُراقبتِنا أن تكون بذلك الطول الذي خوَّفَنا منه هولمز، وقد انتهتْ نهايةً مُفاجئةً وغريبةً للغاية؛ ففي لحظةٍ، ومن دون أدنى صوتٍ يُحذِّرنا من قُدومه، انفتحتْ بوابة الحديقة، وأسرعَ طيفُ إنسانٍ رشيقٍ قاتم اللون — يُشبه نشاطُه وسرعةُ حركته نشاطَ وسُرعة القرد — أسرع بالدخول إلى ممشى الحديقة. رأيناه ينطلِق بخفَّةٍ حتى تخطَّى الضوء القادم من فوق الباب واختفى في ظلِّ المنزل القاتم. سادتْ فترة طويلة من الصمت حبسْنا فيها أنفاسَنا، وبعدها سمِعْنا صوتَ صريرٍ رقيقٍ للغاية. كان شخصٌ ما يفتح النافذة. لكن الصوت انقطع، وساد الصمتُ مرةً أخرى. كان الرجل يشقُّ طريقَه إلى داخل المنزل. ثم رأينا ضوء مِصباح باهتًا ينبعِث فجأةً داخل الحجرة. لكن من الواضح أن ما كان يبحث عنه لمْ يكن موجودًا، لأننا رأينا ضوء المصباح مرةً ثانيةً من وراء ستارةٍ أخرى، ثم من وراء غيرها.

همس ليستراد: «هيا بنا إلى النافذة المفتوحة، سوف نقبِض عليه وهو يتسلَّقها لكي يخرُج.»

لكن قبل أن نتحرَّك ظهر الرجل مرةً أخرى. وعندما خرج إلى رقعة الضوء الباهِتة رأيناه يحمِل شيئًا أبيضَ تحت ذراعه. ثم راح ينظُر خِفيةً إلى كلِّ اتِّجاهٍ حوله. لكنَّ سكونَ الشارع الخالي بعث فيه الطمأنينة. ومن ثَمَّ أدار ظهره إلينا ووضع ما كان يحمِله على الأرض، ثم على الفور دوَّى صوتُ دقٍّ حادٌّ تلاه صوتُ طقطقةٍ وخشخشة. كان الرجل مُستغرقًا للغاية فيما كان يفعله لدرجة أنه لمْ ينتبِه مُطلقًا لوقْع أقدامنا ونحن نتسلَّل فوق النجيل. وثبَ هولمز على ظهره كوثبةِ النمر، وبعد هنيهة أمسكتُه أنا وليستراد من كِلا معصمَيه وأوثقناهما بأصفاد اليدين. عندما أدرْناه ناحِيَتنا رأيتُ وجهًا شاحبًا قبيحًا ذا ملامح مُتشنِّجة غاضبة يُحدِّق إلينا بغضب، وأدركتُ أنه هو بالفعل الرجل الذي كان في الصورة التي كنَّا قد حصلْنا عليها.

لكن انتباه هولمز لمْ يكن مُركِّزًا على أسيرنا. وإنما كان يَجثم عند درجة الباب مُنهمكًا في فحصٍ دقيقٍ للغاية لذلك الشيء الذي جلبه الرجل من المنزل. لقد كان تمثالًا نصفيًّا لنابليون يشبه التمثال الذي رأيناه في صباح ذلك اليوم، وكان مُهشَّمًا كِسَرًا مثله. حمل هولمز كل قطعةٍ من هذه القطع بعناية إلى ناحية الضوء، لكنها لم تكن تختلف بأي طريقة عن أيٍّ من قطع الجصِّ المُحطَّمة الأخرى. ما إن أتمَّ هولمز فحصه حتى أضاءت أنوار الردهة وانفتح الباب وخرج صاحب المنزل، كان رجلًا مرِحًا مُمتلئ الجسم، وكان يرتدي قميصًا وبنطلونًا.

قال هولمز: «أظنُّك السيد جوسايا براون. أليس كذلك؟»

«بلى يا سيدي؛ وأنت، من دون شك، السيد شيرلوك هولمز. أليس كذلك؟ لقد تسلمتُ الرسالةَ التي أرسلتَها مع عامل شركة النقل السريع، وفعلتُ ما طلبتَه منِّي تمامًا. لقد أغلقْنا كلَّ الأبواب من الداخل وانتظرْنا حتى يجِدَّ جديد. حسنٌ، إنني سعيد جدًّا لرؤيتك وقد قبضتَ على المجرم. أرجو أن تتفضَّلوا بالدخول أيُّها السادة، لتتناولوا وجبةً خفيفة من الطعام.»

لكنَّ ليستراد كان مُتلهِّفًا على إيصال الرجل إلى مكانٍ آمن؛ لذا ففي ظرف دقائق معدودة استُدعيتْ عربةُ الأجرة وكنَّا نحن الأربعة في طريقنا إلى لندن. لمْ ينبس أسيرُنا ببنت شفة؛ وإنما راح يُحدِّق إلينا من تحت ظلِّ شعره المُتلبِّد. وفي لحظة من اللحظات، عندما كانت يدي في مُتناوله، عضَّها بأسنانه كأنه ذئب جائع. مكثْنا في مركز الشرطة وقتًا طويلًا بما يكفي لنعلم أنه لمْ يُعثَر من تفتيش ملابسه إلا على قليلٍ من الشِّلنات وسكينٍ طويلة ذات غمدٍ؛ على مِقبضِها آثارٌ كثيرةٌ لدمٍ أُريق حديثًا.

قال ليستراد ونحن ننصرِف: «هذا جيد. إن المُحقِّق هيل يعرف هذه الفئات كلها، وسوف يتعرَّف على اسمه. سترى كيف ستثبُت صحةُ حدْسي حول المافيا. لكن لا شكَّ أنني في غاية الامتِنان لك يا سيد هولمز على الطريقة البارِعة التي قبضتَ عليه بها. رغم أنني لمْ أفهمها كلها جيدًا حتى الآن.»

قال هولمز: «أخشى أن الوقت مُتأخِّرٌ جدًّا ولا يسمح بالتوضيح. علاوة على هذا، فهناك جزئيةٌ أو اثنتان لمْ تكتمِلا بعد، وهذه قضية من تلك القضايا التي تستحقُّ أن تُنجَز إلى النهاية. لكنك إذا زُرتَني في بيتي مُجدَّدًا، غدًا في الساعة السادسة، فأعتقِد أنه سيُمكنني أن أُريك أنك حتى هذه اللحظة لمْ تُحِط علمًا بهذه القضية التي تتميَّز بمُميِّزاتٍ تجعلها مُتفرِّدةً تمامًا في تاريخ الجريمة. ولو سمحتُ لك بتدوين مزيدٍ من قضاياي الصغيرة يا واطسون، فأتوقَّع أنك سوف تبثُّ الحياة في أوراقك بالحديث عن مغامرة تماثيل نابليون الفريدة.»

عندما التقَينا ثانيةً في مساء اليوم التالي كان لدى ليستراد مزيدٌ من المعلومات عن أسيرنا. كان اسمه بيبُّو، أما اسم عائلته فمجهول. لقد اشتُهر بين أفراد الجالية الإيطالية بكونه إنسانًا كسولًا عديم النفع. كان من قبلُ نحَّاتًا ماهرًا وكان يكسب رزقه بنزاهة، لكنه سلك مسالك الشرِّ وزُجَّ به إلى السجن مرَّتَين من قبل؛ مرةً من أجل سرقةٍ تافهة، ومرةً — كما سمِعْنا سابقًا — من جرَّاء طعن أحدِ القرويين. وهو يُجيد التحدُّث بالإنجليزية بطلاقةٍ كبيرة. أما دوافعه لتحطيم التماثيل فظلَّت مجهولة، وقد رفض الإجابة عن أي أسئلةٍ تتعلَّق بالموضوع؛ لكنَّ الشرطة اكتشفتْ أن ثَمَّةَ احتمالًا كبيرًا أن يكون هو الذي صنع هذه التماثيل نفسها، لأنه كان مُنخرطًا في هذا النوع من العمل في مؤسَّسة جيلدر وشركاه. أنصتَ هولمز في أدبٍ إلى كلِّ هذه المعلومات التي كنَّا نعرِف كثيرًا منها بالفعل؛ لكنني — وأنا الذي أعرِفه جيدًا — كنتُ أرى بوضوحٍ أن أفكاره كانت في مكانٍ آخر، وأبصرتُ تحتَ ذلك القِناع الذي اعتاد على ارتدائه مزيجًا من القلق والترقُّب. لكنه في النهاية وثَبَ من كرسيه والتمعَتْ عيناه. كان جرس الباب يدق. وبعد دقيقةٍ سمِعْنا وقْع أقدام على السُّلَّم، ثم دخل إلى الغرفة رجلٌ كهلٌ ذو وجهٍ أحمر وسالفتَين رماديَّتَين. كان يحمِل في يده اليُمنى حقيبةَ سفرٍ قماشيةً عتيقة الطراز، ثم وضعها فوق المنضدة، وقال: «هل السيد شيرلوك هولمز هنا؟»

تبسَّم صديقي وانحنى له احترامًا، وقال: «أنت السيد سانديفورد المُقيم بمدينة ريدينج على ما أظن. أليس كذلك؟»

«بلى يا سيدي، لعلِّي أكون قد تأخَّرتُ بعضَ الشيء؛ لكن القطارات كانت سيئة. لقد كتبتَ إليَّ بخصوص تمثالٍ نصفيٍّ عندي.»

«بالضبط.»

«ها هي ذي رسالتُك. لقد قلتَ: «أرغَبُ في اقتناء نُسخة من تمثال رأس نابليون الذي صنعه النحَّاتُ الفرنسي ديفاين، وأنا مُستعدٌّ أن أدفع لك عشرة جنيهات مُقابل النسخة التي عندك.» هل هذا صحيح؟»

«بالتأكيد.»

«لقد اندهشتُ للغاية من رسالتك، لأنَّني لمْ أستطِع أن أتصوَّر كيف عرفتَ أن لديَّ شيئًا كهذا.»

«لا بدَّ أن تكون تفاجأت، لكنَّ التفسير بسيط للغاية؛ لقد قال السيد هاردينج، مديرُ متجر هاردينج براذرز، إنهم باعوك آخرَ نُسخة لديهم، وأعطاني عنوانك.»

«أوه، هكذا جرَتِ الأمور. أليس كذلك؟ هل أخبرك كم دفعتُ ثمنًا لها؟»

«لا، لمْ يُخبرْني.»

«حسنٌ، إنني رجلٌ أمينٌ، لكنني لستُ غنيًّا. لقد دفعتُ خمسة عشر شِلنًا فقط في مُقابل التمثال، وأعتقِد أنه يجدُر بك معرفة هذا قبل أن آخُذَ عشرة جنيهات منك.»

«لا شكَّ أن تردُّدَك في قَبول الثمن يدفع إلى احترامك يا سيد سانديفورد. لكنني حددتُ السعر، وأنا عازم على الالتزام به.»

«في الواقع، هذا كرمٌ بالغٌ منك يا سيد هولمز. لقد أحضرتُ التمثال معي كما طلبت. ها هو ذا!» فتحَ الرجل حقيبته، وأخيرًا رأينا فوق منضدتنا نموذجًا كاملًا من ذلك التمثال الذي لم نرَه أكثر من مرةٍ من قبل إلَّا مُفتَّتًا.

أخرج هولمز ورقةً من جَيبه ووضع على المنضدة ورقةً من فئة عشرة الجنيهات، وقال: «سوف تتفضَّل مشكورًا بتوقيع هذه الورقة في حضور هذين الشاهِدَين يا سيد سانديفورد. إنها تُقرِّر ببساطة أنك تنقِل إليَّ كل حقٍّ كنتَ تملِكه في التمثال على الإطلاق. أنا رجلٌ مُنظَّم، أتعلَم، وأنت لا تعرِف مُطلقًا إلامَ قد تسير الأمور بعد ذلك. شكرًا لك يا سيد سانديفورد؛ ها هو ذا مالُك، وأتمنَّى لك ليلة سعيدة.»

عندما توارى ضيفُنا عن الأنظار استحوذت حركات شيرلوك هولمز على انتباهِنا. حيث بدأ بإخراج قطعة قماش نظيفة بيضاء من أحد الأدراج ووضعها فوق المنضدة. ثم وضع تمثاله الجديد في وسط قطعة القماش. وأخيرًا، التقط سوط الصيد وضرب تمثال نابليون ضربةً شديدةً مُفاجِئةً على أمِّ رأسه. هنا تهشَّم التمثال، وأسرع هولمز بالانحناء فوق ما تبقَّى من شظاياه. وبعد هنيهةٍ صاح صيحةَ انتصارٍ مُدوِّية، وأمسك بشظيَّةٍ مُثبَّتٍ فيها شيءٌ مُستديرٌ مائل إلى السواد كأنه حبَّةُ البرقوق في حلوى البودنج، وقال: «أيها السيِّدان، اسمحا لي أن أُقدِّم لكما لؤلؤة عائلة بورجيا السوداء الشهيرة.»

جلستُ أنا وليستراد صامِتَين مدة دقيقة، ثم اندفعْنا بعفويةٍ إلى التصفيق مِثلما يُصفِّق الجمهور للبراعة التي تُعرَض بها عُقدةُ إحدى المسرحيات. تورَّدت وجنتا هولمز الشاحِبتان خجلًا، وانحنى لنا انحناءَ كاتبٍ مسرحيٍّ مُحترفٍ لجمهوره الذي أظهر له التقدير. تلك هي اللحظات التي كان يتوقَّف في مِثلها قليلًا عن كونه آلةً للتفكير، ويُظهر حُبَّه البشريَّ للإعجاب والمديح. كان من الممكن لطبيعته المُتحفِّظة المُعتزَّة بنفسها بصورةٍ استثنائية هذه، والتي تنصرِف عن الشهرة وتزدريها، كان من الممكن لها أن تُفصِح عن مكنوناتها إذا ما قُوبلتْ بدهشةٍ عفويةٍ من أحد أصدقائه وبتعبيره عن إعجابه به.

قال هولمز: «أجل أيها السادة، إنها أشهر لؤلؤة في العالم اليوم، وقد كان من حُسن حظي، ونتيجةً لسلسلةٍ مُتواصِلة من التفكير الاستقرائي، أنْ تتبَّعتُها من غرفة نوم أمير كولونا في فندق ديكر — حيث فُقِدت — وحتى وصولها إلى داخل هذا؛ آخِرِ تمثالٍ من تماثيل نابليون الستة التي صنعتْها مؤسَّسة جيلدر وشركاه، بمقاطعة ستِبني. سوف تتذكَّر يا ليستراد تلك الضجَّة التي تسبَّبَ فيها اختفاء هذه الجوهرة الثمينة، وجهود شرطة لندن التي ضاعت سدًى في مُحاولة استعادتها. لقد استُشِرتُ شخصيًّا في القضية؛ لكنَّني عجزتُ عن إلقاء أي ضوءٍ عليها. وقد ثارت الشكوك حول وصيفة الأميرة، وكانت إيطالية الجنسية، وقد ثبتَ أنَّ لها أخًا في لندن، لكننا فشِلْنا في اكتشاف أي علاقة بينهما. كانت الوصيفة تُدعى لوكريشا فينوتشي، ولا شكَّ عندي أن بييترو الذي قُتل منذ ليلَتَين هذا هو أخوها. لقد كنتُ أبحث في ملفَّات الجرائد القديمة عن تواريخ القضايا، ووجدتُ أنَّ اللؤلؤة اختفتْ تحديدًا قبل يومين من القبض على بيبُّو بسبب قيامه بتعدٍّ ما، وهو ما وقع منه في مصنع جيلدر وشركاه؛ في الوقت نفسه الذي كانت تُصنع فيه هذه التماثيل. أنتما الآن ترَيان تسلسُل الأحداث بوضوح، لكنكما بالطبع ترَيانها بعكس الترتيب الذي رأيتُها أنا به. لقد كانت اللؤلؤة في حوزة بيبُّو؛ ربما يكون سرَقَها من بييترو، وربما كان شريكًا له، أو ربما كان هو الوسيط بين بييترو وأخته. لكن لا يهمُّنا أيُّ الاحتمالات هو الصحيح.

الحقيقة الأهمُّ هي أن اللؤلؤة كانت معه بالفعل، وفي تلك اللحظة — وعندما كانت في حوزته — طاردَتْه الشرطة. وهنا توجَّه إلى المصنع الذي كان يعمل فيه، وقد كان يُدرِك أنه ليس أمامه سوى دقائق معدودة ليُخفي فيها هذه الغنيمة الكبيرة القيمة، والتي كان من المُمكن أن يُعثَر عليها معه عندما تُفتِّشه الشرطة. كانت ستة قوالب جصِّية لنابليون موضوعةً لتجفَّ في الممر، وكان أحدُها لا يزال طريًّا. وعلى الفور، أحدث بيبُّو — وهو الحرفيُّ البارع — ثُقبًا صغيرًا في الجصِّ الرطب، ثم أسقط اللؤلؤة داخله، ثم بلمساتٍ قليلةٍ غطَّى الثُّقب مرةً ثانية. لقد كان مَخبأً رائعًا، لمْ يكن من المُمكن لأحدٍ اكتشافه. لكن، حُكم على بيبُّو بالسجن لمدة عام، وفي غضون ذلك تفرقتْ تماثيله الستة في أنحاء لندن. لكنه لمْ يستطِع أن يعرِف أيُّها يحتوي على كنزه، ولم يكن ليعرِف هذا إلَّا بتحطيمها، حتى رجُّ هذه التماثيل لمْ يكن ليُوضِّح له شيئًا؛ لأنَّ الجصَّ كان رطبًا فمن المُرجَّح أن تلتصِق اللؤلؤة به؛ وهذا هو ما حدَث بالفعل. لكنَّ بيبُّو لمْ ييأس، وقد أجرى بحثَه بقدرٍ كبيرٍ من المهارة والمُثابرة؛ حيث عرف مؤسَّسات البيع بالتجزئة التي اشترتِ التماثيل، وذلك عن طريق ابن عمٍّ له يعمل مع جيلدر. ثم نجح في إيجاد عملٍ مع مورس هدسون، وبهذا تمكَّن من اقتِفاء أثر ثلاثةٍ منها. لكن اللؤلؤة لمْ تكن هناك. ثم، بمساعدة أحد الأُجَراء الإيطاليين، نجح في اكتشاف مكان التماثيل الثلاثة الأُخرى. كان أولها في منزل السيد هاركر، وهناك تعقَّبه شريكُه، الذي اعتَبر بيبُّو مسئولًا عن ضياع اللؤلؤة، لكنه طعنَهُ في المُشاجرة التي وقعتْ بعد ذلك.»

قلتُ متسائلًا: «لو كان شريكه فلماذا كان يحمِل صورتَه؟»

«كانت وسيلةً لتعقُّب أثره في حال أراد الاستِعلام عنه من أيِّ شخصٍ آخر. هذا هو السبب المُمكن لذلك. في الواقع، لقد اعتقدتُ — بعد وقوع جريمة القتل — أن من المُرجَّح أن بيبُّو كان سيُسرع في تحركاته لا أنْ يُبطئ في تنفيذها. لقد خشِيَ أن تكتشِف الشرطة سِرَّه؛ لذا أسرَع قبل أن يسبقوه. بالطبع لمْ أكن أستطيع أن أزعُم أنه لمْ يجِد اللؤلؤة في تمثال هاركر، كما أنَّني لمْ أستطِع حتى أن أتأكَّد أنها كانت اللؤلؤة؛ لكن كان من الواضِح لي أنه كان يبحث عن شيءٍ ما، وذلك لأنه حمل التمثال وعبَرَ به المنازلَ الأخرى ليُكسِّره في الحديقة التي كان هناك مصباحٌ مُطلٌّ عليها. وحيث إن تمثال هاركر كان واحدًا من ثلاثة فإن الاحتمالات كانت بالضبط كما أخبرتُكما؛ بنسبة اثنين إلى واحد ضِدَّ إمكانية أن تكون اللؤلؤة في داخله. فقد كان ثمة تمثالان مُتبقِّيان، وكان من الواضح أنه كان سيسعى للوصول إلى التمثال الموجود في لندن أولًا. لقد نبَّهتُ سُكان المنزل، لنتجنَّب وقوع مأساة أُخرى، وها نحن قد حصلْنا على أسعد النتائج. في ذلك الوقت، بالطبع، كنتُ قد تأكَّدتُ أن ما كنَّا نسعى وراءه هي لؤلؤة بورجيا. ربطَ اسمُ القتيل كلَّ حدثٍ من الأحداث بالآخر. لكن تبقَّى تمثال واحد فقط؛ تمثال مدينة ريدينج، وكان لا بدَّ أن تكون اللؤلؤة فيه؛ لذا اشتريتُه من المالك في حضوركما، وها هو ذا هناك.»

جلسْنا صامِتَين مدة دقيقة، ثم قال ليستراد: «في الواقع، لقد رأيتُك تحلُّ عددًا كبيرًا من القضايا يا سيد هولمز، لكنني لا أظنُّ أني رأيتُ قضيةً أكثر احترافيةً من هذه القضية قط. نحن في مركز الشرطة البريطانية لا نحسُدك. لا يا سيدي، بل نحن فخورون بك للغاية، وإذا ما زُرتَنا غدًا فلن يكون هناك رجلٌ واحدٌ — من أكبر مُحقِّق وحتى أصغر شرطي — لا تُسعِده مُصافحتك.»

قال هولمز: «شكرًا لك! شكرًا لك!» وعندما انصرَف بدا لي أنه كان مُتأثرًا بتلك المشاعر الإنسانية الرقيقة أكثر من أيِّ وقتٍ مضى. لكنه عاد بعد دقيقةٍ إلى شخصيته العملية الفاتِرة مرةً أخرى. وقال: «ضع اللؤلؤة في الخزينة يا واطسون، وأخرِجْ أوراق قضية التزوير الخاصة باللورد كُونك سينجلتون. مع السلامة يا ليستراد. إذا واجهتْكَ أي مشكلة صغيرة فسيكون من دواعي سروري — إذا أمكنني — أن أُزوِّدك بإشارةٍ أو اثنتَين عن حلِّها.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤