الفصل الحادي عشر

ركن الدين في بغداد

وبينما هما في ذلك، إذ سمعا قرع الباب. وكان الباب بعيدًا عن غرفة الوزير، ولم يكن يهتم لسماع قرعه من قبل، أما الآن فإنه لشدة قلقه أصبح لا تفوته حركة مما يحدث في البيت، فتطلع نحو الباب، وإذا بغلامِ سحبان قد دخل وفي وجهه تغير، فقال له سحبان: «من أين أتيت يا غلام؟»

قال: «أتيت من المنزل يا سيدي.» قال: «ولماذا؟» قال: «لأن قادمًا غريبًا جاء يطلبك وألح على أن أوصله إليك حالًا، فجئت به لعلمي أنك في دار الوزير.» قال: «من هو هذا القادم؟ وأين هو؟» قال: «لم يشأ أن يخبرني عن اسمه، لكنه جاء معي وهو واقف في انتظار الإذن له.»

فالتفت سحبان إلى الوزير كأنه يستأذنه في إدخال ذلك الضيف، فقال الوزير: «أدخله.»

فعاد الغلام ومعه رجل حسن البزة عليه لباس السفر، وحالمَا وقع نظر سحبان عليه صاح: «الأمير ركن الدين؟! الأمير ركن الدين؟!» ونهض لملاقاته والترحيب به.»

ونهض مؤيد الدين وهو يقول: «مرحبًا بالأمير ركن الدين.» فمشى ركن الدين حتَّى دنا من الوزير فحياه وحيَّا سحبان، وجلس على كرسي قدموه له، وأخذ الوزير يرحب به قائلًا: «طالما سمعنا بالأمير ركن الدين بيبرس وأعماله في مصر، وكنت في شوق إلى رؤيته فمنَّ الله عليَّ بذلك.»

فقال ركن الدين: «ليس في ركن الدين ما يدعو إلى الإعجاب لأني لم أعمل عملًا، ولكن الإعجاب يجدر بالوزير مؤيد الدين بن العلقمي القابض على أزمَّة الدولة العباسية يدير شئونها.»

وتصدى سحبان للكلام قائلًا: «إن الأمير ركن الدين بطل عظيم.» ووجَّه كلامه إلى الوزير وقال: «ألم أقل ذلك عن بسالة هذا البطل وما بشأنها عند سفره من مصر.» فقال له: «هل تأذن أن نتكلم عن المهمة أتاه من المدهشات في محاربة الإفرنج وتخليص مصر من أيديهم؟ فعساه أن يساعدنا في تخليص بغداد من غير الإفرنج …» وضحك.

فلم يعجب مؤيد الدين تسرعه لكنه تغافل، وتغافل أيضًا ركن الدين لأنه مثل مؤيد الدين تكتمًا وحذرًا، فخجل سحبان من نفسه وأراد أن يغطي خجله فأثار موضوعًا جديدًا، فقال لركن الدين: «متَى وصلت إلى بغداد أيها الأمير؟ وكيف عرفت داري؟»

قال: «وصلت في هذا الصباح، وأما منزلك فقد عرفت منك في مصر أنه بالكاظمية. وأنا أعرف بغداد، فصرفت من كان معي وأحببت أن أدخل البلد متنكرًا، فوصلت إلى الكاظمية وسألت عنك فقيل لي إنك عند مولانا الوزير، فجئت لأراك وأراه لأني أعرفه بالسماع، فطلبت إلى خادمك أن يأخذني إليك وقد فعل.»

فقال الوزير: «لقد جئت أهلًا ووطئت سهلًا.»

وتذكر سحبان تعلق ركن الدين بشوكار وقلقه عليها وحديثه معه بشأنها عند سفره من مصر، فقال له: «هل تأذن أن تتكلم عن المهمة التي أنفذتني إليها من مصر؟ إن لمولانا الوزير اطلاعًا على شيء منها، وهو محب لك غيور على شئونك.»

فقال ركن الدين: «أظنك تعني شوكار. نعم، تكلم، وقد كنت أتوقع أن تكتب إليَّ بشأنها قبل الآن.»

فخجل سحبان لكنه بادر إلى الاعتذار قائلًا: «كان ينبغي أن أفعل ذلك، ولم أتأخر عن إهمال، لكنني حال وصولي إلى بغداد لقيت شوكار في المكان الذي كانت مخبوءة فيه، وأخبرتني أنها كتبت إليك، وقد عملت على إنقاذها فلم أوفق إلى ذلك حتَّى الآن. وما الفائدة من الكتابة بلا عمل؟ والوزير يعلم بما وقف في طريقنا من العراقيل.»

فقال: «والخلاصة أين هي الآن؟» قال: «هي في قصر الخليفة منذ أيام.» قال: «وأين كانت قبل ذلك؟ ومن خطفها؟» قال: «كانت عند أبي بكر بن المستعصم، وأبوه لا يعلم أنها عنده، وأخذ يبحث عنها. ثم تمكنَّا من اختطافها من بيت أبي بكر وأخفيناها في منزلنا، وهممتُ أن أفر بها إليك، فعلم بها ذلك الغلام وأخذها منا بقوة الجند. ثم علم أبوه أنها عنده فأخذها إليه، ولذلك حديث طويل يهمك منه أن شوكار لا تزال كما عرفتها في مصر تبذل نفسها في سبيل رضاك، ولا تفضل مكانًا في الدنيا على قربك. ولا شك أنها في بيت الخليفة رغم إرادتها. ولا بد من أخذها. تمهل، إننا في مشكلة شائكة ستقلب بغداد رأسًا على عقب، وسيصل دويها إلى مصر والأندلس وكل أنحاء العالم، وسيكون لها شأن عظيم، وإنما يستفيد منها العاقل الحازم.»

فخاف الوزير بعد هذه المقدمة أن يبوح سحبان بما حدث من المساعي وهو يحب كتمانه، فتصدى لمخاطبة ركن الدين قائلًا: «لا تعجب أيها الأمير من اضطراب حالنا، فخليفتنا مشغول باستجلاب المغنيات من أقاصي المملكة، عن الاهتمام بأمور الدولة والعدوُ على الأبواب لا يلبث أن يأتينا، وجندنا في اختلال و…»

فقطع ركن الدين كلامه قائلًا: «سمعت وأنا قرب بغداد أن هولاكو التتري زاحف بجند كثيف على هذا البلد، وأنه الآن على مقربة منها. ألم تستعدوا له؟»

فهز الوزير رأسه وقال: «كيف لا؟ بلغنا منذ أيام أن حملة من جند هولاكو وصلت إلى تكريت بقيادة باجو، وعبرت دجلة إلى البر الغربي، ونزلت تتطلب بغداد، وقد اختلفت آراؤنا في طرق الدفاع، ولم يستقر الرأي إلا بعد أن وصل جند التتر إلى دجيل وعددهم نحو ٣٠٠٠٠ فارس، فأمر الخليفة بإرسال عسكره لدفعهم بقيادة مجاهد الدين أيبك الداودار، ولكن عسكرنا قليل العدد والعدة، ولا ندري ما تكون النتيجة. على أني أخاف سوء العقبى لأننا غير متفقين في رأي، وخليفتنا ضعيف مستسلم لابنه وقائد جنده، وكلاهما على غير خبرة، ونخاف أن يكون الله قد أراد انقضاء هذه الدولة و…»

فتصدى سحبان قائلًا: «لا تخَفْ، بل توسل إلى الله أن تنقضي هذه المحنة، وهذا الأمير ركن الدين لا يخفى عليه شيء من أمرنا، وقد حادثته وأنا في مصر عن استرجاع خلافة الفاطميين.»

فاستاء مؤيد الدين من اندفاع سحبان في إبداء آرائه وقال: «لا أظن الأمير وافقك على ذلك، ونحن يكفينا الآن أن نبدل خليفة بآخر كما سبق الكلام.»

فاستحسن ركن الدين اعتدال ابن العلقمي في رأيه فقال: «هذا هو القول المعقول، وهو هين ميسور لمن يبذل المال بدون حرب. وأنا أضمن لكم ذلك متَى رجعت إلى مصر وتم الاتفاق بيننا على رأي نرضاه.» وهو يضمر أن يجعل أمر إبدال الخليفة مرتبطًا بصيرورة سلطنة مصر إليه؛ أي إنه يشترط على الخليفة الجديد قبل توليته أن يساعده في التسلط على مصر.

وأدرك مؤيد الدين غرضه فاستحسنه وندم على رسالته إلى هولاكو وتعريض الخلافة للتتر، لكنه ما زال يعتقد أن هولاكو لا يزيد على أن يخلع الخليفة المستعصم ويطلب سواه وهم يدلونه على الإمام أحمد فقال: «سننظر في ذلك ونرجو أن يعود بالخير.»

فعاد ركن الدين إلى الحديث عن شوكار وخبرها ووجَّه خطابه إلى سحبان وقال: «والآن ماذا تفعل شوكار؟ قل لي، فقد تركت بلدي وقومي وهم في حاجة إليَّ وجئت إلى هذه الديار من أجلها، فهل أعود دون أن آخذها معي؟ هذا لا يمكن.»

فقال سحبان: «لا بد من أخذها، وقد قلت لك إن ذلك ميسور لِمَا نرجو حدوثه من الانقلاب، ومع ذلك فإن الخصي عابدًا الذي حمل إليك رسالة شوكار وحمَّلتَه جوابك إليها مقيم عندي منذ أخذوا شوكار منا، وقد أوصيته أن يتتبع أخبارها. وكان قد جاءني منذ يومين بخبر لم أصدقه لبعده.» فقال ركن الدين بلهفة: «وما هو؟» قال: «أنبأني أن شوكار خرجت من قصر التاج، على أنها لو خرجت لجاءت إلينا، وقد أوصيته بالأمس أن يبذل جهده ويدقق البحث ويعود بالخبر الصحيح.»

فقال: «أين هو الآن؟» قال: «أظنه عاد إلى منزلنا في الكاظمية أو يعود الليلة. هل تريد الذهاب الآن للبحث عنه؟» قال: «نعم، هلم بنا، ومتَى فرغنا من أمر شوكار عدنا إلى أمر الخلافة، أو لعل الأمرين يتمان معًا.» قال ذلك ووقف واستأذن في الانصراف، ثم ودع الوزير وخرج معه سحبان.

•••

كان ركن الدين قد عرف بغداد في صباه، فلما جاءها هذه المرة وجد فيها تغيرًا كثيرًا. ومشى هو وسحبان في طريقهما إلى الكاظمية، وهي على مسافة بعيدة من قصر الوزير، فعبرا الجسر حتَّى صارا في الجانب الغربي من بغداد؛ حيث كانت البلدة التي بناها المنصور منذ خمسمائة سنة ونيف ولم يبقَ منها إلا آثار قد عفتها الأيام، وأقيم في مكانها الأسواق. وبينما هما سائران وركن الدين يتأمل فيما يمران به من الأبنية، رأيا جماعة من العامة يركضون نحو الجسر وهم في خوف شديد، وعرف سحبان رجلًا منهم فناداه إليه، فجاءه وقد غطى الوحل قدميه إلى ركبتيه، فسأله سحبان عن سبب هذا الركض فقال: «التتر يا سيدي، التتر!»

فقال: «ماذا تعني؟ أين هم؟» قال وهو يرتعد: «هم هنا، هنا في بغداد.»

فصاح فيه: «في بغداد؟ وأين جندنا؟ ذهبوا لمحاربتهم عند دجيل؟! أين الداودار؟ ما بالكم؟ تكلم.»

قال: «إن هؤلاء التتر من الجان، لا يقدر أحد أن يقف في طريقهم. كنت قرب دجيل يوم وصولهم إليه، وما ذاع أنَّ التتر قد أقبلوا حتَّى ذعر الناس وهربوا قاصدين المدينة بأولادهم ونسائهم في حالة يرثى لها، حتَّى كان الرجل يقذف بنفسه في الماء خوفًا منهم، وقد رأيت ملَّاحًا لم يرضَ أن يعبر برجل في سفينته من جانب إلى جانب إلا إذا أعطاه عدة دنانير، ورأيت امرأة دفعت للملاح سوارها ليعبر بها إلى الضفة الأخرى، ثم قالوا لنا إن جند الخليفة جاء لمحاربة أولئك العفاريت فسكن روعنا، لكننا ما لبثنا أن رأينا جندنا يتقهقر مدحورًا أمام التتر، والتتر يطاردونهم ويمعنون فيهم قتلًا وأسرًا. وأعانهم على ذلك ما حفروه في الليل من خندق وصلوه بالنهر، فكثرت الوحول في طريق المنهزمين، ولم ينجُ إلا من رمى نفسه في الماء وأنا منهم …» قال ذلك وأشار إلى الوحل على قدميه وهو يلهث.

وكان ركن الدين يسمع ذلك وشرر الغضب يتطاير من عينيه، فقال سحبان للرجل: «والداودار، أين هو؟»

قال: «رجع مع بقية الجند مدحورين مكسورين؛ ولذلك انكسرت قلوبنا. نعوذ بالله من التتر! يا لطيف!»

فقال: «وكيف رأيت هؤلاء القوم؟»

قال: «رأيتهم من الأبالسة يا سيدي، لا يمكن لجندنا أن يقف أمامهم، وإذا وقفوا أكلوهم أكلًا. أعوذ بالله! لم أرَ مثل هؤلاء الناس. لا، لا لم أرَ مثلهم عمري. اذهب يا سيدي من الطريق؛ لأني أظنهم الآن على مقربة من بغداد، أو لعلهم دخلوها. وبلغني أن فريقًا منهم نزل عند المارستان العضدي، وفريقًا آخر وصل إلى المبقلة تجاه الرصافة، ولم يبقَ بينهم وبين قصور الخلفاء إلا دجلة. سر يا سيدي، لا تعرض نفسك للسهام المتساقطة؛ فسهامهم تتساقط كالمطر. لا، لا، لم أرَ مثل هؤلاء الناس قط.» قال ذلك وجرى مسرعًا.

فالتفت سحبان إلى ركن الدين فرآه يهتز من الغضب، وقد احمرت عيناه وقطب حاجبيه، وودَّ لو أن فرسه تحته ليهجم على التتر، فقال له سحبان: «ما بال سيدي الأمير؟» قال: «ويلك يا سحبان! أهكذا يكون رجال الخلفاء؟ يهربون من وجوه التتر المتوحشين حتَّى يدخلوا دارهم؟ كم أتمنى أن يكون فرسي تحتي أو يكون رجالي معي لأريهم كيف يكون القتال!»

فضحك سحبان وأمسك بذراع ركن الدين وتحول به إلى زقاق ضيق ومشى وهو يقول: «إن إظهار البسالة لا يفيد؛ لأنها ضائعة لا مولاي. إن القوم ماتت نفوسهم وذهبت دولتهم، وكفى ما ارتكبوه من المظالم، ولو أراد الله نصرهم لأنار بصائرهم وهداهم الطريق الصواب، لكنهم يتخبطون في أعمالهم تخبط الأعمى، ولا يعلمون. دعهم إن الله أقدر منا على نصرتهم إذا شاء.»

وبينما هما في ذلك إذ رأيا سهمًا وقع أمامهما ذا شكل خاص لم يعهد سحبان مثله فيما يعرفه من السهام، فالتقطه وتأمله، فرأى عليه كتابة عربية فقرأها، فإذا هي: «إن الرؤساء العلويين — الشيعة — وكل من لا يقاتلنا، آمنون على أنفسهم وحرمهم وأموالهم.»

فدفع السهم إلى ركن الدين، فلما قرأه قال: «يلوح لي أن العلويين ينصرون التتر.»

قال: «إن العلويين مظلومون يا سيدي. أما كفاهم ما قاسوه من الضيم والعذاب أجيالًا؟ فإذا كانت الغلبة للتتر وأنصفوهم فلا حرج عليهم ولا علينا.» وهز كتفيه هز التنصل من التبعة.

فتحقق ركن الدين أن حماسته للعباسيين لا تجدي نفعًا، ولم يبقَ له من همٍّ إلا أن يعثر على شوكار ويخرج بها من بغداد ويرجع إلى إمارته ويسعى في نيل السلطنة بمصر. ولا بد له قبل كل شيء من لقاء عابد الخصي ليسمع منه خبر شوكار.

وجعل سحبان طريقهما في أزقة مهملة لا يتزاحم فيها الناس؛ لئلا يصدمهم الهاربون، حتَّى أقبل على المارستان العضدي، فرأيا ضفاف دجلة وما يليها تعج عجيجًا بالتتر وخيولهم وخيامهم وأعلامهم وأسراهم. فوقف سحبان على مرتفع وأومأ إلى ركن الدين أن يأمل أولئك القوم ويميز بينهم وبين البغداديين، وقال له: «أرأيت التتري وقوة بدنه وخشونة يديه، وكيف هو مشمر عن ساقيه، وعيناه تكادان تطيران من وجهه. إن بين هؤلاء الناس من قضى أيامًا وهو ساعٍ على قدميه لا ينام إلا لمامًا، ولا يأكل إلا القومز (لبن الخيل) كما كان البدوي في صدر الإسلام يكتفي بناقته يسافر عليها ويقتان بلبنها ويتفيأ ظلها ويستأنس بها. هكذا هؤلاء التتر مع أفراسهم. وقد يعدو التتري فيسبق فرسه؛ فأين ذلك من جند بغداد وقد ألفوا الراحة والرخاء، كما كان الروم في صدر الإسلام؟ هل نستطيع يا سيدي أن نقاوم القضاء؟ لكل أجل كتاب، والله يفعل ما يشاء، هلم بنا إلى الكاظمية لنرى عابدًا ونسمع خبر شوكار.»

فلم يَحَرْ ركن الدين جوابًا من الدهشة التي تولته مع ميله إلى معرفة خبر شوكار، فتجاوز المارستان العضدي والحربية إلى الكاظمية، فاختلف منظر الأهلين في عين ركن الدين عما رآه في سائر الأحياء. رأى أهل الكاظمية هنا مستبشرين مطمئنين، كأن فوز التتر فوز لهم، أو كان التتر دولة شيعية جاءت لنصرتهم. وهكذا الإنسان يحب من يأخذ بناصره مهما بعدت الروابط، ويكره من يسلبه حقه ولو كان أخاه. مرَّا في أزقة الكاظمية وأهلها فرحون. وحالما رأوا سحبان تقدموا للسلام عليه وتهنئته، فرد السلام وقد استحيا من التظاهر بالفرح إلى هذا الحد بين يدي ركن الدين.

وبعد قليل وصلا إلى بيت سحبان فدخلا وقعدا، وسأل سحبان عن عابد فجاءه، وحالما رأى ركن الدين تناثر الدمع من عينيه وأكب على يده يقبلها، فاستغرب ذلك منه وقال: «ما وراءك يا عابد؟ أين شوكار؟ ماذا جرى لها؟» فتماسك الخصي وقال: «بذلت جهدي يا مولاي في سبيل سيدتي شوكار كما وعدتك ولم أفارقها لحظة إلا هذه المرة، فإن الجند أخذوها رغم أنفى. لكنني أتعقب أخبارها كأني معها.»

قال: «وأين هي الآن؟» قال: «آخر ما عرفته عنها أنها في قصر التاج.» فقال ركن الدين: «هذا عرفته من أخي سحبان، وقد أخبرني أنك ذهبت للبحث عنها أمس، فماذا عرفت؟» فأطرق عابد وقد أُرتج عليه، فصاح ركن الدين فيه: «قل، قل يا عابد ماذا جرى؟» قال: «تنكرت أمس في زي الخدم حتَّى دخلت قصر التاج في جملتهم واجتمعت بكثير من أصدقائي الخصيان، واستطلعتهم خبرها فاختلفوا في الرواية، وفهمت من مجمل أحاديثهم أن شوكار يوم وصولها إلى قصر التاج أصابها صداع شديد، ولم تقدر أن تغني للخليفة، فباتت تلك الليلة عند صديقة لها من مصر اسمها سلافة.» فلما سمع ركن الدين اسمها ارتعدت فرائصه وصاح: «سلافة؟ سلافة هنا؟ أين سلافة؟» قال: «نعم يا سيدي، يقولون إنها كانت قيِّمَة قصور الملك الصالح بمصر، ولها نفوذ عظيم في قصر التاج لصلتها بقهرمانة القصور وأستاذ الدار، حتَّى الخليفة نفسه يحترمها.»

فأطرق ركن الدين، وتذكر سعي هذه الجارية في إبعاد شوكار عنه ليخلوا لها الجو معه، وكيف كانت مقابلته الأخيرة لها، وكيف هددته، مر كل ذلك في ذهنه في لحظة، وقلبه يخفق خوفًا من أذًى تلحقه بشوكار، فنظر إلى عابد وقال: «قل، وبعد ذلك ماذا جرى؟»

قال: «واختلفت الرواة فيما جرى بعد تلك الليلة، فقال بعضهم إن سلافة أخذت شوكار إلى قصر لها قرب باب كلواذي، وقال غيرهم إنها لم تأخذها، بل ظلت مخبأة في قصر التاج، وقال غيرهم غير ذلك.» وتغيرت سحنته كأنه يخفي شيئًا خطر له، ثم قال: «يظن بعضهم أن شوكار اختفت، لكنهم لا يعلمون أين هي، ولا كيف ضاعت.» فصاح ركن الدين: «لعل سلافة قتلتها؟»

قال: «لا، لا سمح الله. والمشهور عندهم أن سلافة أحب الناس إليها، وهي التي بذلت جهدها في راحتها، على أنهم لا يعرفون هل هي حية أو ميتة، لكنهم يعرفون أنها كانت تشكو صداعًا وأن سلافة قد احتضنتها ثم نقلتها إلى قصرها للاستشفاء، ولا يعلمون ماذا جرى بعد ذلك، فلعلها مقيمة عندها إلى الآن بحيث لا يراها أحد.»

في سلطنة مصر، وهو يرجح مصيرها إليه لضعف القائمين بها هناك، وتذكر حاجته إلى مصادقة الخليفة لتثبيت سلطته، فتمثلت له أهمية بغداد — مركز الخلافة الإسلامية — وكيف أن العالم الإسلامي على بكرة أبيه في مشارق الأرض ومغاربها لا غنى له عنها؛ فلا يثبت السلطان على عرشه إن لم يأتِه تثبيت من خليفة بغداد؛ لِمَا للخلافة في نفوس العامة من الاحترام الديني. ثم نظر في حال هذه المدينة وخليفتها على ضوء ما علمه في ذلك اليوم، فاستغرب سلطان الأوهام على الناس. ولكن رجال السيادة لا غنى لهم عن الأوهام ليسوقوا بها العامة إلى حيث يريدون. ولما وصل في تصوره إلى هنا، أطرق وقد خطر له خاطر رقص له قلبه طربًا رغم بعده عن المألوف، ولكن المرء إذا رغب في أمر أخذ يفكر فيه حتَّى يرى مستحيله ممكنًا؛ خطر له بعد ما شاهده من اضطراب أحوال بغداد، وما يحدق بها من الخطر، أن ينقل الخلافة منها إلى مصر، فتصير تلك الأهمية إلى مصر بدلًا من بغداد، وتصير القاهرة مركز العالم الإسلامي، لا يستغني عنها أمير أو سلطان، وإن استقل عنها بإدارة حكومته فهو في حاجة إلى خليفتها في تثبيته. ولو كان المفكر في ذلك سحبان لرقص فرحًا وتصور نفسه قد نقل الخلافة إلى مصر وصار هو سلطانًا يخطب رضاه سائرُ السلاطين، لكن ركن الدين كان ضعيف الثقة في المستقبل، إذا بدا له أمل في أمر يرغب فيه بحث عن كل ما يمكن أن يحول دون نيله، وهو أَمْيَل إلى تصديق أسباب الفشل. فلما خطر له أمر الخلافة تصور العراقيل الكثيرة التي تحول دونه، فعاد إلى التفكير في شوكار فهاجت أشجانه.

قضى في هذه الأفكار برهة جاءه في أثنائها عابد يدعوه إلى الطعام مرة وإلى الصلاة مرة أخرى، وبدل ثيابه حتَّى دنا الأصيل، فقيل له إن سحبان عاد من عند مؤيد الدين، وبعد قليل جاء سحبان والاضطراب بادٍ على وجهه، والغضب يتجلى في عينيه، فناداه ركن الدين وقال له: «ما وراءك؟ هل رأيت الوزير؟» قال: «لم أره.» قال: «ولماذا؟» قال: «لأنه ليس في منزله، وقد برحه بعد خروجنا من عنده.» قال: «إلى أين؟» قال: «بعثه المستعصم إلى هولاكو، والظاهر أن هذا الخليفة تحقق الخطر المحدق به، وهو يعتقد دهاء وزيرنا وتعقله فأنفذه إليه ليسترضيه.»

قال: «إلى هذا الحد بلغ الضعف من خليفتكم؟» فابتسم وقال: «ألم أقل لك ذلك من قبل؟ وإرسال وزيرنا في هذه المهمة أحسن رأي ارتآه المستعصم، لكن أخشى أن يكون قد جاء متأخرًا؛ وذلك لأن هولاكو كان قد اشترط نحو ذلك من قبلُ للكف عن العداء، وأشار به الوزير على المستعصم، ولكنه لم يُطِعْه؛ لأنه كان يسيء الظن به ويصدق ابنه أبا بكر، وهو شاب مغرور؛ فالظاهر أن المستعصم لما رأى جند التتر محاصرًا قصوره، وسمع دوي المجانيق ووقوع قنابلها على القصور، ورأى عجز جنده عن القتال لجأ إلى المسالمة، وقد أحسن لأن وزيرنا — حفظه الله — له دالَّة على هولاكو، فيشير عليه بما فيه خير الجانبين.»

فقال ركن الدين: «لم أفهم مرادك من دالة الوزير لدى التتر، وما هو الباعث عليها؟ هل كانت بينهما معرفة؟»

قال: «لا أخفي عليك يا مولاي أن بين الوزير وهولاكو مخابرة في هذا الشأن، أعني أن هولاكو خابره وطلب إليه أن يكون معه، ووعده خيرًا كثيرًا، وظل مؤيد الدين يتردد، وهو ينصح الخليفة ويخوفه، فلما يئس من إصلاحه خابر هولاكو خوفًا من أنه إذا جاء وفتح بغداد ينتقم منه ومن أهله وسائر الشيعة، أما إذا أظهر موافقته فإنه يراعي جانبه. ولم يفعل ذلك خيانة.»

ففهم ركن الدين من ذلك أن مؤيد الدين خان خليفته، ولو تنصل من ذلك وزعم أنها ليست خيانة. فقال في نفسه لا شك أن هذا من أكبر أدلة السقوط. ولم يبدِ رأيه في ذلك لكنه سأل سحبان قائلًا: «وما تظن الوزير يفعل الآن إذا اجتمع بهولاكو؟»

قال: «أظنه يتفق معه على خلع المستعصم وتنصيب الإمام أحمد أخي المستنصر، فإنه أجدر بني العباس بمنصب الخلافة، والمستعصم يخافه؛ ولذلك حبسه في قصره وأقام عليه الرقباء، فهذا الإمام قد عرفناه واجتمعنا به وخاطبناه في أمر الخلافة إذا صارت إليه، فوعدنا خيرًا. ولا شك أنه يسهل عليك سلطنة مصر ويساعدك عليها، فإنك أولى بها من سائر الأمراء.»

فعلم ركن الدين أن سحبان يرغبه في مظاهرته على المستعصم وفي تنصيب الإمام أحمد خليفة، لكنه يطمع فيما هو أكثر من ذلك: يطمع في نقل الخلافة إلى القاهرة. غير أنه لم يسمح لنفسه أن تتمكن منه هذه الخواطر خوفًا من فشلها، فاكتفى بموافقة سحبان على تنصيب الإمام أحمد بدلًا من المستعصم وقال: «وأين هو الآن؟»

قال: «كان محبوسًا في قصر الفردوس بجوار قصر التاج، ثم أحدقت الشكوك به فنقلوه إلى قصر عند باب كلواذي وأقاموا الحرس حوله، وأنا عارف مكانه، ومن أسهل الأمور عليَّ إذا تم اتفاقنا على خلع المستعصم أو قتله أن أُخرج الإمام أحمد من محبسه وأنادي به خليفة مكانه، ولا أجد من يخالفني؛ لأن الناس ملوا ضعف السياسة، ولا سيما إذا علموا أن هذا التبديل كان بإرادة الخاقان هولاكو قائد التتر. وكيف ترى يا سيدي؟»

قال: «أراك مصيبًا، ونِعم الرأي رأيك، وفقك الله إلى إتمامه.» لكنه حالما سمع اسم باب كلواذي تذكر ما سمعه من عابد عن سلافة وأنها أخذت شوكار إلى قصرها قرب هذا الباب، وعادت إليه هواجسه وعاد يفكر في شوكار: أحية هي أم ميتة، وهل سلافة لا تزال على كرهها لها. فالتفت إلى سحبان وسأله قائلًا: «سمعتك تذكر باب كلواذي ومحبس الإمام أحمد عنده، وأمس سمعت عابدًا الخصي يذكر هذا الباب وأن قصر سلافة عنده، فكيف ذلك؟»

قال: «إن كلواذي يا سيدي حي فيه باب من أبواب سور بغداد، سمي باب كلواذي، وبقربه قصور كثيرة كما تقولون في مصر باب زويلة وباب النصر وباب الفتوح، فقد أصبحت أسماء أحياء فيها قصور عديدة.»

وقضيا بقية اليوم وكلاهما يفكر في أمره، وأكبرُ همِّ ركن الدين الوصول إلى شوكار ومعرفة حالها وإنقاذها أو الانتقام لها، وبات وهو يحلم بها.

•••

وأصبح ركن الدين في اليوم التالي وقد مل الانتظار، لكنه توسم في بقائه هناك خيرًا ينفعه في مطامعه السياسية، على أنه كلما فكر في شوكار خفق قلبه ورأى أنه أساء إليها لأن ما أصابها من الأذى إنما كان بسببه. وبينما هو في ذلك إذ جاءه عابد وفي وجهه خبر، فقال له: «ما وراءك؟»

قال: «بالباب رسول من سلافة معه كتاب إليك.»

فلما سمع اسمها اقشعر بدنه وقال: «ليدخل.»

فدخل الغلام ودفع الكتاب إلى ركن الدين وتناوله فإذا فيه: «من سلافة إلى الأمير ركن الدين. علمت أنك في بغداد وأنا فيها، وعندي أمر يهمك أحب عرضه عليك، فإذا شئت تفضلت بالمجيء إلى قصري بباب كلواذي، وهذا رسولي يهديك إليه، والسلام.»

فلما قرأ الكتاب دفعه إلى سحبان ليرى رأيه فيه، فحذره من الذهاب، فقال ركن الدين: «لا بد من الذهاب لأرى هذه الداهية وأتحقق أمر شوكار، وماذا عساها أن تفعل بي. عار عليَّ أن أخافها وخنجري معي. لكن أين موقع قصرها من هنا؟»

قال: «هو بعيد، لا بد للذهاب إليه من المسير مسافة طويلة ثم عبور دجلة فوق الجسر الذي جئنا منه. إذا شئت المسير فهذا فرسي بين يديك، وهذا عابد يسير في ركابك فضلًا عن الرسول القادم من عندها.»

فوقف ركن الدين وقال: «أذهب الساعة» وتحول إلى غرفة منامه وأصلح هندامه وتسلح بخنجرين وتشدد، ثم خرج وركب الفرس، وسار عابد في ركابه والرسول يمشي بين يديه. ولحظ في أثناء الطريق أن أهل الكاظمية فرحون معتزُّون وقد اشتدت عزيمتهم وهاجت نقمتهم على جيرانهم من أهل السنة الذين كانوا يعتزون بالخليفة وحكومته. ولما خرج من الكاظمية رأى الناس في خوف شديد يجتمعون جلوسًا أو وقوفًا للمداولة في الأحوال الجارية، ويتلقفون الأخبار من أفواه المارة متناقضة متباينة.

وصل إلى الجسر فعبره إلى الرصافة، فرأى الناس هناك أقل قلقًا لقربهم من قصور الخلافة؛ حيث لا يسمعون غير ما يدعو إلى الثقة بقوة الجند ومناعة الحصون رغم ما كان يتساقط عليها من حجارة المجانيق حينًا بعد آخر، وهي حجارة صوانية كُروية الشكل، قطر الواحد منها نصف متر أو أكثر، يقذفه المنجنيق من معسكر التتر على أبراج السور أو على بعض القصور، وكانت الأسوار تجيب بمثلها، وهذه هي مدافع تلك الأيام.

وانتهى مسيره أخيرًا إلى ضفة دجلة الشرقية، فوقف الرسول والتفت إلى ركن الدين وأشار بأصبعه إلى قصر على ضفة النهر تحيط به حديقة حولها سور. دخل ذلك السور راكبًا، فتقدم الرسول لإعلان وصوله، وترجَّل ركن الدين وسلم زمام الفرس إلى عابد وأوصاه أن ينتظر وأن يكون على حذر، ومشى في الحديقة وقلبه يخفق تطلعًا إلى ما يكون من أمر سلافة، وصورتها لا تزال في ذهنه كما فارقها في المرة الأخيرة.

•••

وصل ركن الدين إلى باب القصر فرأى سلافة واقفة في انتظاره وقد لبست أجمل ما عندها من الحلي والثياب، وبذلت جهدها فيما تملك به قلبه. أما هو فقد كان مدرعًا بالتعقل وحب شوكار، فحياها فردت التحية ورحبت به ترحيبًا حسنًا، ودعته إلى قاعة مفروشة أحسن فرش فيها النمارق والستائر والطنافس، وأشارت إليه أن يقعد وهي تقول له وتبتسم: «من كان يظن أننا سنلتقي في هذا البلد؟»

فقال: «إن المصادفة تأتي بأعجب العجب.»

قالت: «الصدف! هل تظن أننا التقينا هنا صدفة؟»

قال: «نعم؛ لأني لم يخطر لي ببال أنك تجيئين إلى هنا.»

قالت: «هذا يصح عليك وأما أنا … أنا المسكينة الشقية فيخطر لي كل شيء، وأبذل راحتي وحياتي في سبيل لقاء ركن الدين. لم تخطُ خطوة في مصر وغيرها إلا عرفت بها وحسبت لها حسابًا.» ثم تنهدت، فتشاءم ركن الدين من هذه المقدمة، وأراد تغيير الحديث فقال: «أشكرك يا سيدتي على حسن ظنك بي. وصل إليَّ كتابك فجئت، لكنني أسألك سؤالًا أرجو الجواب عنه.»

قالت: «قل ما تريد.»

قال: «علمت أن شوكار جاءت إليك في هذا القصر، فأين هي؟» قال ذلك وهو يخاف أن يسمع خبر موتها أو قتلها، فتجلد وهو ينتظر الجواب، فأبطأت سلافة في الجواب وهي تنظر إليه نظر الاستغراب ثم قالت: «مسكينة!» فصاح فيها: «مسكينة؟! أين هي؟»

قالت: «ليست هنا، لعلك تذكر أني كنت ناقمة عليها، وقد قلت لك إني أحببت إبعادها رغبة في قربك، لكنني شعرت هذه المرة لمَّا لقيتها في قصر الخليفة، أنها لا تستحق العذاب لسلامة قلبها وطيب عنصرها …» وتنهدت وأظهرت سلامة النية وشدة الأسف.

فقال: «قولي ما بالها، أين هي؟ ماذا جرى لها؟» قالت: «قلت لك إنها ليست هنا.» قال: «فهمت أنها ليست هنا، فأين هي؟»

فنظرت إليه نظرة العاتب وقالت: «لله أنت! ما أكثر تسرعك! أتطمع في الملك وتوشك أن تناله، ولا تستطيع أن تصبر على سماع حديث قصير عن جارية؟! اسمع لأقص عليك خبر هذه المسكينة: رأيتها في أول يوم جاءت فيه إلى قصر التاج، وسررت بها، وقد ملأت قلبي، وندمت على ما فرط مني في حقها، واستأنست هي بي وقصت على حديثها معك وأنها لا تود البقاء بعيدة عنك ولو كان مقامها بقصر الخليفة، فأشرت عليها أن تحتال بالمرض، ولما لي من النفوذ في دار النساء وعند الخليفة تمكنتُ من إقناعهم بأنها مريضة وأنها في حاجة إلى تبديل الهواء، وفي اليوم التالي انتقلت أنا إلى هذا القصر وبعثت من يأتي بها إليَّ ولبثت في انتظار قدومها.» وسكتت وأظهرت أنها غصت بريقها، فقال ركن الدين: «وبعد ذلك هل أتت؟» قالت: «لا، لم تأتِ.» فصاح قائلًا: «إذن ماتت أو قتلت؟»

قالت: «احسب كما تشاء. إنها ماتت وانتهى أمرها.»

فنهض وقد ثارت شجونه وقال: «لا. إنها لم تمُت، إنك خبأتها في مكان.»

فضحكت وهي تنظر إليه باستخفاف وقالت: «بل ماتت يا ركن الدين، ويسوءني أنها ماتت، وقد أخبرني البحارة الذين حملوها إليَّ في القارب أنها غاصت في الماء رغم إرادتهم، ارجع يا ركن الدين إلى رشدك واستسلم لقضاء الله، ولا تعمل عمل النساء وتبكي على جارية، وبين يديك سلافة تعرض عليك نفسها، وهي فوق ذلك تعرض عليك منصبًا لم يحلم به أحد من سلاطين مصر.»

فرجح له موت شوكار، وكان في ريب من سبب موتها، وإن كان يرجح أن سلافة سعت فيه برغم تنصلها منه وإظهارها الميل إليها. فأسف أسفًا شديدًا وود أن يقتل سلافة، لكنه لم يتحقق أنها هي القاتلة. ومع ذلك أراد أن يعرف ما هو المنصب الذي تعرضه عليه، فرأى من الحكمة أن يسمع حديثها إلى آخره فقال: «مسكينة شوكار وا أسفاه عليها!»

فقالت هي: «مسكينة، لقد شق — والله — عليَّ موتها، ولكن ما الحيلة؟ لا بد لنا من التسليم للقضاء والقدر. والآن ألا تريد أن أخبرك بما انتدبتُك له؟» قال: «وما هو؟» قالت: «لنجلس ولنتحادث.» ومشت به إلى القاعة فقعدت، وقد سرها أنه أطاعها وأصغى لها، وبان البشر في محياها، وقالت: «لعلك عالم بالاضطراب المستحوذ على الدولة بسبب محاصرة التتر، وهذا هولاكو عند برج العجمي، ولم يصل إلى هنا إلا لضعف رأي الداودار قائد الجند. وقد غضب مولانا أمير المؤمنين عليه وأراد إبداله، وحادثني أستاذ الدار فيمن يليق بهذا المنصب ويرجى منه أن يردَّ شرف الجند العباسي ويدفع العدو عن أسوار بغداد، فلم يخطر ببالي سواك، وإن كنت لا تبرح بالي في أي وقت.» ثم ابتسمت وقالت: «ليس هناك من يستطيع أن ينقذ الدولة من هذا الضيق سواك، وأنت إذا صرت قائد جند بغداد، هان عليك أن تكون كما تشاء، وأنا أضمن لك سلطنة مصر أو غيرها كما تريد. إني أحبك وأتفانى في الحصول عليك، وأحب أن تقول لي إنك تحبني، أو على الأقل لا تحب سواي.» قالت ذلك بلحن الغرام.

فأطرق هنيهة واستجمع قواه، وأطرق يفكر فأصحاب المطامع طلاب منفعة قبل كل شيء. إنه أحب شوكار في بادئ الأمر شفقة عليها، ثم أحبها حقيقة بعد ما قاسته بسببه من الشقاء، وكان يود أن يجعلها سعيدة، أما الآن وقد ماتت فليس من الرجولة أن يموت في أثرها، وإن كان موتها قد شق عليه كثيرًا، ولم يطاوعه قلبه أن يحب التي كانت تبغضها وكانت سبب موتها. لكن ذلك لا يمنع أن ينظر فيما تعرضه عليه، لعل فيه ما يبلغه الأماني التي طالما تاقت نفسه إليها وحلم بها. وقد تأكد من قرائن كثيرة أن سلافة ذات نفوذ لدى الخليفة وأهله وحكومته، فخطر له أنها قد تفيده في مطامعه، فأراد مسايرتها مع حفظ مقامه، فقال: «لا أرى فيَّ الكفاءة لهذا المنصب يا سيدتي، ولا أشعر من نفسي بميل للتكلم في المناصب الآن. سننظر في ذلك في فرصة أخرى.»

فقالت: «هذا أمر لا يمكن تأجيله؛ لأن الدولة في حرب، وهذه قنابل المجانيق تصل إلى قصورنا صباح مساء، وأما كفاءتك فأنا أعلم الناس بها. لم يبقَ إلا أنه يشق عليك يا قاسي القلب أن تعترف بحبي لك! فكيف لو طلبت إليك أن تعترف بحبك لي؟ يا لله ما أقسى قلبك! اسمع، هذا أستاذ الدار قادم إليَّ لأني أسمع صوته بالباب يخاطب الحاجب. إنه أتٍ ليرى هل أقنعتُك بقبول القيادة، فبالله لا تخجلني بين يديه. أما اعترافك بحبك لي، فأتركه إلى ما بعد نيلك هذا المنصب وغيره مما ستراه مني.»

ثم دخل الخادم يستأذن لأستاذ الدار، فخفَّت إلى الباب لاستقباله، وأخذت ترحب به لما تعلمه من نفوذه لدى الخليفة، ثم دخلت به إلى القاعة وأشارت إلى ركن الدين وقالت: «هذا هو الأمير ركن الدين البندقداري الذي قهر الإفرنج وأرجعهم عن مصر. وقد ذكرت لك عنه ما يكفي. وأنا أباحثه الآن فيما انتدبتَني له.»

فنظر أستاذ الدار إليه وهش له، وقد أعجبه ما في طلعته من أدلة الشجاعة والذكاء وقال: «يسرنا أن يكون في الأمير ركن الدين ما يرضي مولانا أمير المؤمنين ويكشف عنا العار الذي سببه الداودار السابق بسوء تدبيره. هل تريد أن نذهب معًا إلى قصر التاج الساعة؟»

فأراد ركن الدين أن يعتذر من عجزه، فرأى أستاذ الدار ذلك تواضعًا وقال: «لا، لا نقبل منك عذرًا، هلم معي إلى أمير المؤمنين.» قال ذلك ومشى، فالتفتت سلافة إلى ركن الدين لفتة هيام، وأمسكت يده بحجة الوداع وضغطت عليها وهي تقول: «سرني النجاح في هذه المهمة، وعسى أن تفوز بإنقاذ الدولة من الخطر. وأما أنا، فإذا متُّ بعد هذا فحسبي أنك أطعتني في شيء عرضته عليك، وإن لم يكن فيه غير لوعتي وآلامي. وإذا التقينا بعد الآن كان لنا شأن آخر.»

ولكنه لم يَزِدْ أن حياها مودعًا، وانصرف في أثر أستاذ الدار، فركب كلٌّ منهما فرسه، ومشى عابد في ركاب ركن الدين إلى قصر التاج.

سار ركن الدين وهو غارق في تفكيره على أثر ما شاهده من سلافة وهو لا يفهم حقيقة حالها. على أنه فعل ما يفعله الرجل العاقل البصير. ولم يَلُمْ نفسه لسكوته عن الانتقام لشوكار؛ لأنه لم يحقق مصيرها وهل تعمدت سلافة أذاها، وإن كان ميالًا إلى اتهامها بناءً على سابق عهده بها. لكنها شغلته بأمر ذلك المنصب، ثم جاء أستاذ الدار فلم يَسَعْه إلا السير معه إلى الخليفة، وفي نفسه أن هذا كله لا يمنع من انتقامه لشوكار عند الوثوق من صحة القتل.

قطع مسافة الطريق وهو لا ينتبه لرفيقه الراكب إلى جانبه، ولا إلى اشتغال القوم بأخبار التتر، ولا سمع وقع قنابل المجانيق على المنازل؛ فقد كان ذلك بعيدًا عن طريقهم لا يسمعه إلا المنصت. ولكنه حالما وصل إلى قصر التاج وجد أهله في هرج واضطراب لكثرة ما تساقط حوله من حجارة المجانيق أو النبال المرمية عن الآلات. ووجه التفاته إلى أستاذ الدار ليقلده فيما يفعله من الرسوم المعتادة، فلما رآه ترجل عن دابته ترجل هو أيضًا وسار في أثره حتَّى أقبلا على باب مجلس العامة، فلاقاهما الحاجب، فأمره أستاذ الدار بالاستئذان له. وما عتم أن جاء الإذن فدخل والأمير ركن الدين يتبعه.

فألقى الأستاذ التحية على جاري العادة ثم قال: «يأذن لي مولاي أمير المؤمنين أن أقدم له الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري، وكنت قد ذكرت اسمه لمولاي، وأنه خير من يقوم بقيادة جند بغداد في هذا الوقت العصيب، وقد اشتهر بمهارته في الحرب وتدبير الجند، كما شهدت به سلافة القهرمانة.»

وكان الخليفة في تلك الساعة مطرقًا يفكر، وليس في مجلسه أحد، كأنه التمس الانفراد للتفكير، فلما سمع قول أستاذ الدار قال: «مرحبًا بالأمير ركن الدين.» وأشار إليه أن يقعد وقال له: «أصحيح ما يقوله أستاذ دارنا؟!»

قال: «ربما أثبت حسن ظنه ما مضى، أما الآن فلا أراني كفؤًا لهذه المهمة لأني من أصغر القواد.»

فأعجب الخليفة بتواضعه فقال: «بل أنت قائد باسل، وكلام القهرمانة سلافة مصدق عندي، ونحن الآن في حرب مع عدو غريب هو عدو كل مسلم؛ لأنه إذا فاز — لا سمح الله — في حربه معنا لا تنجو مصر من أذاه، فأنت مطالب بقهره للدفاع عن الخلافة ببغداد وعن السلطنة بمصر، وأنت فاعل إن شاء الله. ولو عرفتُ فضلك من قبل لما سلمت قيادة جنودنا إلى الداودار الذي ألبسنا العار، فعسى أن تكون الوسيلةَ لمحو هذا العار عن جيش بغداد.» قال ذلك وتنحنح وأظهر أنه لم يكمل حديثه بعدُ، فظلَّ ركن الدين ساكتًا.

ثم عاد الخليفة إلى الكلام قائلا: «أظننا أخطأنا لأننا لم نصغِ إلى رأي وزيرنا مؤيد الدين من أول الأمر، فلو أطعناه لما اضطررنا إلى إنفاذه الآن لطلب الصلح وتأجيل الحرب، ولا ندري إذا كان طلبنا يجاب. ولكن سامح الله أبا بكر أنه تعدى حقوق الأبناء وكدر قلبي على الوزير، فالآن انظر أيها الأمير، إني جاعل إمارة جند بغداد إليك، فإذا دفعت العدو كافأناك بما أنت أهله.»

فأجاب ركن الدين: «إن الدفاع عن دار السلام وأمير المؤمنين فرض على كل مسلم، وإني باذل روحي في هذا السبيل، وعسى أن يوفقني الله إلى القيام بحق الخدمة.»

•••

وبينما هم في ذلك إذ دخل الحاجب وقال: «إن الوزير مؤيد الدين بالباب.» فأشرق وجه الخليفة وبان التطلع في عينيه. وحالما دخل مؤيد الدين لم يصبر المستعصم عليه حتَّى يلقي التحية فصاح به: «قل ماذا جرى؟» قال: «كل خير يا سيدي. والتوفيق من عند الله.»

قال: «اقعد وحدثنا بما جرى.»

فقعد والعرق يتصبب من جبينه وأخذ في الحديث، فقال: «لقيت هولاكو خاقان التتر، وبينت له جرم اعتدائه علينا بلا حق، وأننا لا نخافه، لكنا نحب حقن الدماء، فأجابني جوابًا غليظًا. وبعد جدال طويل لم يقبل الكف عن الحرب إلا إذا ذهب مولانا أمير المؤمنين بنفسه إلى معسكره، وتعهد بالمحافظة على مقام مولانا والإبقاء على خلافته كما فعل بمن حاربهم من الملوك. وقد قال لي إنه لا يهمه تغيير الملوك والخلفاء وإنما يهمه ألا يهان جنده. وهو يعد رفض مولانا أمير المؤمنين نجدته على الإسماعيلية إهانة؛ لأنه كان يريد بذلك قطع دابر أولئك الأقوام لينجو العالم منهم. ثم حارب القوم وحده وغلبهم وبعث إلى مولاي يعاتبه فلم يرد عليه. وكنت قد أشرت على سيدي أن يبعث إليه هدية فمنعه بعض خاصته من ذلك. وبعث إلينا هولاكو أنه لم يعد يقبل هدية ولا يرضى إلا أن يذهب إليه الوزير أو الداودار فلم نفعل، فعد ذلك إهانة مكررة لا يقبل ترضية عليها إلا أن يركب مولانا أمير المؤمنين إليه، ويكون هناك معززًا مكرمًا مع رجال خاصته. وقد أخبرني أننا إذا أطعناه في ذلك فهو عازم على أن يزوج ابنته من مولانا الأمير أبي بكر.»

وكان الوزير يتكلم والعرق يتصبب من جبينه خجلًا من حمل هذه الرسالة إلى الخليفة. والخليفة مطرق يسمع ولا يتكلم ولا يبدي حركة، وكذلك كان ركن الدين، فلما فرغ مؤيد الدين من كلامه رفع المستعصم رأسه وتنهد وقال: «إنه لعزيز على نفسي أن أذهب إلى هذا التتري، وإني لأرجو أن نفوز عليه ونرده عن بلدنا بعد أن عهدنا بقيادة الجند إلى الأمير ركن الدين …» ولبث ينتظر جوابه.

فقال الوزير: «إن الأمير ركن الدين أهل لثقة أمير المؤمنين، وقد يأتي النصر على يده. لكنني أخاف أن يكون جندنا أضعف مما نظن ولا يبقى باب للصلح، وقد عرض علينا القوم صلحًا تحقن به الدماء، ومع ذلك فالأمر لمولاي.»

فقال الخليفة: «لكن هذا الطاغية يطلب أن أذهب أنا بنفسي إلى معسكره!»

قال: «كلا يا مولاي قد رضي أن يركب مولاي بأعوانه ورجال خاصته إلى فسطاط ننصبه لهم عند باب كلواذي مما يحاذي الشاطئ فيلاقيه هولاكو هناك وينقضي الأمر.»

فهان عليه القبول بعد هذا التسهيل، لكنه التفت إلى أستاذ الدار واستشاره في الأمر، فأشار بالقبول؛ لأنه رأى الخليفة مائلًا إلى السلم؛ ذلك كان دأبه إذا استشاره الخليفة فيجعل نصب عينيه أن يرضي إحساس مولاه؛ فإذا رآه مائلًا إلى رأي أشار عليه به، شأن المتملقين المتزلفين في كل زمان ومكان. وهؤلاء إذا كان الأمير أو الخليفة عاقلًا نبذهم، وإذا كان ضعيفًا أصبحوا من المقربين إليه فيفسدون حكومته ويعينون على سقوط دولته.

فاستقر رأي الخليفة على إجابة هولاكو إلى طلبه، والتفت إلى ركن الدين وقال: «قد سمعت ما أشار به وزيرنا، وقد طالما خالفناه ولم نَرَ في مخالفته خيرًا، أما الآن فالرأي أن نطيعه. وعلى كل حال فإننا نعد الأمير ركن الدين من كبار قوادنا، وعسى أن نوفق إلى مكافأته.» والتفت إلى الوزير وقال: «متَى نُصِبَ الفسطاط ذهبنا إليه.»

فأشار الوزير مطيعًا واستأذن في الانصراف وانفض المجلس. وأومأ الوزير إلى ركن الدين أن يوافيه إلى منزله.

فخرج ركن الدين وهو غارق في الهواجس، وقد ساءه تنازل الخليفة إلى هذا الحد. لكنه ركب إلى بيت مؤيد الدين — وعابد يرشده — ليستفهم عن الحقيقة، فلما وصل إليه رأى مؤيد الدين قد سبقه ورأى سحبان عنده، وكان قد جاء للاستطلاع بعد علمه بخروج الوزير إلى هولاكو.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤