الفصل الثالث

عز الدين أيبك

مشت شجرة الدر — بعد أن توارى ركن الدين — نحو شوكار وهي تجر مطرفها وراءها، فنهضت لها احترامًا، وأطرقت شكرًا، وهي لا تدري أَأَحسنت إليها بذلك الوعد أم أساءت. ولم تستقر أفكارها لتحكم في الأمر، فابتدرتها شجرة الدر قائلة: «أرجو أن تكوني مسرورة من هذا النصيب يا شوكار.»

فرفعت بصرها والخجل يغشاه، فرأت شجرة الدر تنظر إليها نظر المداعب فأجابتها: «يظهر أن سيدتي ملَّت رفقتي؟» وضحكت.

فقالت شجرة الدر: «لا، لكنني نظرت إلى مستقبلك، فمن كانت في مثل ما أنت فيه من الجمال والعلم ورخامة الصوت يجب أن تنال نصيبًا حسنًا، وأنا على ثقة أن هذا الشاب الباسل من خيرة الشبان، وله مستقبل مجيد، فإذا أخطأ ظني فيه ولم يكن الرجل الذي أرضاه لك لا أزوجك به. لا تخافي؛ إني شديدة الغيرة على مصلحتك لأنك بمنزلة ولدي كما تعلمين. والآن ينبغي لنا أن نطلب الرقاد فقد تعبنا.»

فقالت شوكار: «ولكن التعب جاء بنتيجة تَرضَيْنها يا سيدتي؛ إن الرجل الذي كنا نشكو منه قد مضى لسبيله وعادت الأمور إلى مجاريها. فمن يا ترى سيتولى هذه السلطنة؟ أرجو ألا يعودوا إلى بيت أيوب مرة أخرى. إن هؤلاء قد مضت أيامهم ولكل أيام دولة ورجال.»

فأظهرت شجرة الدر أنها خالية الذهن من أمر المستقبل، وأنها تتوقع أن تعرف الحقيقة في الغد بعد مجيء عز الدين. فأكبت شوكار على يد سيدتها وقبلتها للوداع، فقبلت شجرة الدر رأسها.

وحالمَا خلت شجرة الدر بنفسها انصرفت من باب سري في الإيوان إلى قصرها وقد توسط الليل، فلما صارت في غرفتها كان الخدم قد أناروها، وهي في أجمل ما يكون من الرياش، وعلى جدرانها ستائر الديباج عليها الأبيات الشعرية أو الصور والنقوش بأزهى الألوان. وما كادت تدخلها حتَّى استلقت على سريرها واستغرقت في هواجسها، وجعلت تناجي نفسها قائلة: «قتلوا طوران شاه — لا أقامه الله — وقد قُتل بسعي عز الدين حبيبي.» ولما ذكرت اسمه تنهدت وقالت: «هو حبيبي لكنه سرير لا أظنه أمينًا في حبه. وهؤلاء الرجال لا يؤمَن جانبهم. ما لي وله؟! فليكن كما يشاء. ألم يخدمني في هذا الأمر؟ ليس بعد قتل طوران شاه إلا أن يعود المُلك إلى يدي. هكذا وعدني عز الدين، فهل تراه قد بر بوعده؟ فإذا صرت ملكه فأنا أول ملكة في الإسلام، وسأجازي عز الدين خيرًا لأنه أخلص في خدمتي.»

قضت هزيعًا من الليل في مثل هذه الهواجس، ولما نامت حلمت أنها تولت الملك وقبضت على صولجانه، وذلك لفرط رغبتها في الملك مهما يكلفها الوصول إليه، فأنها من طلاب السيادة بأية وسيلة كانت، وقد نبت ذلك في خاطرها منذ وَلَدَت للصالح ابنها خليلًا؛ لعلمها أنه سيكون وسيلة إلى تحقيق مطامعها، أو أنه يكون هو السلطان وهي الوصية عليه، لكنه توفي طفلًا.

وفي صباح اليوم التالي جاءتها الجارية الموكلة بتدبير غرفتها وقالت: «إن الأمير عز الدين أيبك ينتظر في الإيوان يا سيدتي.»

فنهضت وأصلحت من شأنها، وبذلت جهدها في الزينة لتظهر بين يدي حبيبها في أجمل حالاتها. وهذه طبيعة النساء على الإجمال، فكيف بمن تعلِّق على ذلك الحب غرضًا سياسيًّا مهمًّا؟ لبست ثوبًا مخططًا معتم اللون، وضفرت شعرها ضفائر قليلة أرسلت منها اثنتين إلى جانب وجهها، وغطت رأسها بغطاء مرصع بحجارة كريمة فوق الجبين له ذيل مزركش يغطي العنق من القفا حتَّى يسترسل على الظهر. وقد تقلدت عقدين أحدهما من اللؤلؤ والآخر من العقيق وغيره، وتمنطقت بمنطقة مشبكها من الذهب المرصع، وهي مع كونها على أبواب الكهولة لا يزال ماء الشباب يتلألأ في محياها، ولا تزال عيناها ترسلان السحر إلى قلوب الناظرين، فتتملكهم الهيبة والقوة، لا اللطف والوداعة، كما ينبعثان من عينَي شوكار.

وكان عز الدين أيبك يشعر بقوة تلك المرأة وسيطرتها على قلبه ويحبها حب تهيُّب واحترام لا حب شغف وتلهف. وزاده رغبة فيها ما كان يعلمه من منزلتها عند الملك الصالح وتقدمها في داره ونفوذها عنده. فتودد إليها وبادلته هي حبًّا بحب، ووافق ذلك هواها لأنها مع مطامعها الواسعة لا حول لها، وهي امرأة لا تطمع في قيادة جند تستعين بهم في نيل أغراضها، فرأت في ارتقاء عز الدين إلى منصب كبير أمراء المماليك فائدة لها، فأعانته على نيل ذلك المنصب في زمن الملك الصالح، وهو لم ينسَ هذا الجميل لها. ولما سنحت فرصة أخرى يخدمها فيها بقتل طوران شاه لم يضيعها، وإن كان قد فعل ذلك لمصلحته أيضًا.

فلما أتم عمله أمس أنفذ بعض الخبر مع ركن الدين واحتفظ ببقيته لنفسه ليتلذذ بسماع الإطراء والإعجاب بدهائه وبسالته. وجاء في ذلك الصباح على جواده مع جماعة من حاشيته وقواده، ولم يسترِحْ إلا قليلًا ثم جاء إلى الإيوان، وبعث إلى شجرة الدر لتوافيه.

•••

لم تمض هنيهة حتَّى دخل الغلام يعلن قدومها، فوقف لها عز الدين، ثم أكب على يديها كأنه يقبلهما، فأجفلت وأشارت إليه أن يجلس، وجلست هي على السرير وجلس هو بين يديها، وأمرت الخدم بالخروج، ولما خلت به قالت: «أهل بك يا عز الدين، قد بلغَنَا بلاؤك في إنقاذ البلاد من ذلك الغلام، جزاك الله خيرًا، إنها خدمة للمسلمين.»

قال بلهفة المحب الولهان: «إنما فعلت ذلك خدمة لسيدتي وحبيبتي شجرة الدر وطوعًا لأمرها.»

فأثَّر كلامه في خاطرها لأنها تحبه، فهاجت أشجانها وقالت: «إني أعرف هذا الجميل لك يا عز الدين، وليست هذه هي المرة الأولى التي برهنتَ فيها على صدق مودتك، فأنا أسيرة ودادك.»

قال: «يكفيني منك لفتة رضًا يا سيدتي، ولا سيما الآن بعد أن صرت ملكة المسلمين.»

فتظاهرت بالاستغراب وقالت: «ملكة المسلمين، ماذا تقول؟» قال: «أنت الآن ملكتي والقابضة على قلبي وستصبحين غدًا ملكة المسلمين وعصمة الدنيا والدين.» قالت: «وكيف ذلك؟ أفصِح.»

قال: «لما قُتل الملك المعظم أمس اجتمع الأمراء ودار الحديث على من يتولى السلطة بعده، واختلفت الآراء، فقلت لهم: إننا لا نحب أن نستقدم أحدًا من آل أيوب، وقد رأينا مصيرنا معهم، وشدد آخرون في أن يكون السلطان من البيت الأيوبي، فقلت لهم نعمل عملًا وسطًا؟ نحن إنما نحترم من الأيوبيين مولانا الملك الصالح — رحمه الله — ولا نأمن أحدًا من أهله، وهذه أم ولده خليل كانت من أعز الناس عنده، وهي عاقلة مدبرة، ومن أبناء جلدتنا وتغار علينا، فأرى أن نوليها هذا المنصب. فرضي القوم بذلك، واتفق رأيهم على أن تكوني ملكة مصر. ألا يحق لي أن أقبِّل يدك وأطلب رضاك؟»

قالت: «معاذ الله. أستغفر الله. إنك حبيبي وصاحب الفضل عليَّ؛ لأني لولاك لم أحصل على هذا المنصب. فإذا تم لي الملك فأنت صاحب النفوذ الأول فيه، فأدعوك مدبر الملكة. ومن هو أولى به منك؟»

فانشرح صدر عز الدين لهذا الوعد، وهو ما كان يتمناه وقد حصل عليه على أن يتدرج منه إلى ما هو أعظم. فأظهر الشكر وأنه لا يستحق هذا الالتفات ونحو ذلك من أسباب المجاملة.

أما هي فإنها عرفت لصديقها فضله، وأخذت تثني على علوِّ همته وغيرته، وأنها لا تثق إلا به، وقالت له: «إني لا أستغني عنك في تدبير المملكة.»

فقال: «أنتِ في غنًى عن تدبيري لكنني طوع إرادتك وما تأمرين.» وقَضَيا ساعة في الحديث، وكلٌّ منهما قد طار قلبه فرحًا بما ناله، ثم قالت: «ومن الحكمة أن نفرق المناصب على أصحابنا الذين معنا من الجند لتتأيد هذه الدولة، فماذا ترى؟»

قال: «دبرت كل شيء، ولا يخفى على سيدتي شجرة الدر أن جندنا مؤلف من أتراك وجركس وروم وأكراد وتركمان، وأكثرهم من المماليك المبتاعين. وإنما يهمنا نحن أن نقوي الأتراك؛ لأنهم جندنا الأصليون فنقدمهم في مناصب الدولة، وهم كما تعلمين طبقات من حيث المناصب، وفيهم أمراء المئين وأمراء الألوف، وكلهم من الفرسان الأشداء، وهم عضد الجند وقوته، فنفرق هذه الوظائف على كبار الأمراء الذين أخذوا بناصرنا في هذا العمل. ومناصب الدولة غير الجندية عديدة، أعظمها منصب أمير السلاح الذي يتولى حمل السلاح للسلطان في المجامع الجامعة، والداودار الذي يُبلغ الرسائل عن السلطان ويرفعها إليه ويستقبل من يحضر ويقدم البريد ويأخذ خط السلطان على جميع المناشير والتواقيع والكتب، والحاجب الذي يقف بين الأمراء والجند، وأمير جاندار الذي يسلم الزردخانة ويقتل من أراد السلطانُ قتله، والأستاذ دار وإليه أمر بيوت السلطان كلها، وغير ذلك من المناصب. فما الذي ترينه من أمر هذه المناصب؟ ثم لا بد من إرضاء الجند بالعطايا.»

قالت: «إني تاركة أمر ذلك كله إليك لأنك ستكون مدبر المملكة، فتُولِّي هذه المناصب من تثق بهم من رجالك وترى فيهم الإخلاص لنا، لكنني أطلب أمرًا واحدًا؛ وهو أن تنظر في أمر ركن الدين بيبرس الشاب الذي بعثت رسالتك معه. إنه من خيرة الأمراء فولِّهِ منصبًا بحيث يكون قريبًا منا.»

فلما سمع إطراءها ركنَ الدين أحس بالغيرة، ورغم ثقته به حدثته غيرته أن يطعن فيه — والغيرة تُعمي وتُصم — ولكنه رجع إلى صوابه ودهائه وقال: «إن ركن الدين من خيرة الأمراء، صدقتِ، وأرى أن توليه الداودارية، وبذلك يكون قريبًا منا.»

أحسَّت شجرة الدر بغيرة عز الدين — والمرأة أرق شعورًا من الرجل، ولكنها تجاهلت وأغضت لأنها لم يكن لها مطمع في حب أحد، وإنما هي تحب العُلى وتهوى السلطة وتبذل كل شيء في سبيلها، ثم قالت: «ومتَى يأتي الأمراء من المنصورة؟»

قال: «أظنهم يكونون هنا غدًا ليحتفلوا بتولية شجرة الدر ملكة على هذه الديار. ما أجمل هذا الاسم في فمي! وما ألطف وقعه في قلبي! فهل لِاسمي شيء من ذلك في قلبها؟» قال ذلك ونظر إليها نظرة عتاب.

فنظرت إليه وقد أدركت مراده وقالت: «سترى ثقتي وحبي، وستعلم مركزك بالفعل لا بالكلام. أراك تلمح وتستطلع كأنك تشكُّ في صدق مودتي. سامحك الله يا عز الدين.» وبان العتب في عينيها.

فاعتقد صدق قولها وقال: «معاذ الله يا سيدتي …»

فابتدرته قائلة: «لا تقل سيدتي، أنت حبيبي، أنت سندي، أنت موضع ثقتي وعليك اتكالي. كن واثقًا بذلك …»

قال: «إني واثق ولكن المحب كثير …»

فقطعت كلامه وقالت: «دعنا من ذلك فإنه مفهوم بيننا، وهلم إلى تدبير شئوننا، إني أسمع لغطًا في الدار.»

فأسرع عز الدين وهو يقول: «أظن الأمراء قد وصلوا من المنصورة، ولعلهم يطلبون تقديم تحياتهم لكِ.»

قالت مبالِغة في اكتساب قلبه: «وهل ترى أن أستقبلهم؟»

قال: «لا أرى بأسًا من استقبالهم إذا طلبوا ذلك؛ لأنهم أصحاب فضل في هذا الأمر، وقد رأيتُ منهم إذعانًا سريعًا لمَّا اقترحتُ أن تصير السلطنة إليكِ. ولكن، طبعًا سترسلين الستر بينك وبينهم، ولا سيما أنت الآن ملكة المسلمين.»

فنظرت إليه بطرف عينها وهي تبتسم وقالت: «إن عز الدين غيور، ولكن يسرني ذلك؛ لأن الغيرة دليل المحبة، على أني لم أكن أحتاج إلى تنبيه، وأنت تعلم أني لا ألقى أحدًا كما ألقاك.» قالت ذلك وأشارت إلى الخصي الواقف في خدمتها أن ينزل الستر. ولم يكد يفعل حتَّى جاء الحاجب يقول: «إن كبار أمراء الجند يلتمسون التشرف بمقابلة السيدة الجليلة.» وذكر الحاجب أسماء الأمراء بلباي الرشيدي وفارس الدين أقطاي وبيبرس ركن الدين البندقداري وسنقر الرومي. فقال عز الدين بالنيابة عنها: «فليدخلوا.»

دخل كبار الأمراء وحيَّوْا تحية طيبة، فاستقبلهم عز الدين بلطف، ثم تكلم الفارس أقطاي عنهم قائلًا: «إن الأمراء قادمون لرفع واجب التعزية إلى السيدة أم خليل في القضاء الذي نزل بطوران شاه، ولإبلاغها أن اختيارهم قد وقع عليها لتتولى أمور المسلمين، فعسى أن يقع ذلك لديها موقع الرضى.»

فأجاب عز الدين عنها قائلًا: «أن مولاتنا السيدة الجليلة قد بلغها بلاؤكم الحسن أيها الأمراء في سبيل مصلحة الدولة، وقد وقع القضاء على ذلك الملك فأسفت لما أصابه، ولكنه جنى على نفسه، رحمه الله.»

فقال الأمير سنقر الرومي: «إنه أَلْجَأَنا إلى ما أتيناه لأنه لم يجعل لنا يدًا في شئون الدولة، وإن مولاتَنا زوجَ مَلِكِنا المرحوم الملك الصالح أَوْلى الناس بهذا الأمر.»

فأجابتهم من وراء الحجاب: «إني شاكرة مروءتَكم وحُسْن ظنكم، ولا يسعني إلا الانصياع لما تم اتفاقكم عليه، وأنتم نخبة الأمراء أصحاب السيوف، وإنما أقبل هذا المنصب اعتمادًا عليكم وثقة بكم؛ لأني لا أستطيع عملًا إن لم تأخذوا بيدي.»

فصاحوا بصوت واحد: «نحن طوع أمر مولاتنا نفديها بأنفسنا، وغدًا نحتفل بتوليتها في القلعة، إن شاء الله.»

ثم تحولوا للخروج فرافقهم عز الدين وهو يقول لهم: «إن مولاتنا شجرة الدر كانت تحدثني قبل وصولكم مُثْنِيَةً على بسالتكم وشجاعتكم، وقد أعدَّت الهدايا للأمراء والرجال، وقالت لي إنها إنما ترضى بالسلطنة لأنكم اخترتموها لها.»

وقد صدقوه، وسَرَّهم ما سينالونه من الهدايا — وهي العطايا يعطيها السلطان عند توليته — وقد اعتزمت شجرة الدر أن تجعلها كبيرة؛ لعلمها بما يَعْتَوِر سلطنتها من العقبات؛ لأنها أول امرأة تولت ذلك في الإسلام.

وخرج عز الدين لوداعهم وهو يثني على هممهم ويمنيهم، ثم عاد إلى شجرة الدر يلفتها إلى الهدايا وقيمتها، ثم افترقا على أن يمضي لتهيئة الاحتفال.

•••

لم تطلع شمس ذلك النهار حتَّى علم أهل جزيرة الروضة بما نالته شجرة الدر، وأنها أصبحت سلطانة مصر. وقد وقع الخبر موقع الاستغراب عند كثيرين، وموقع الغيرة والحسد عند زميلاتها جواري الملك الصالح — وكل ذي نعمة محسود — وكانت أشدَّهن غيرة جارية كردية الأصل اسمها سلافة، كانت تفاخر سائر الجواري بأنها من قبيلة الملك الصالح، وكان هو يقربها حتَّى جعلها قيِّمة قصره، لكنها لم تلد منه كما ولدت شجرة الدر، فأصبحت هذه أقرب جواريه إليه. وكانت سلافة بارعة الجمال، لكنها قليلة الدهاء شديدة الغيرة سريعة النقمة.

وكانت مشهورة بجمالها الفتان، يتحدث أهل الروضة والقاهرة بحسنها وإن لم يرها منهم إلا القليلون. ومن بين الذين أتيح لهم رؤيتها تاجر بغدادي اسمه سحبان، كان يتردد إلى مصر ومعه الأقمشة الفارسية والهندية، وكان الملك الصالح يدعوه إليه ويبتاع منه ما يختاره لنسائه من الأنسجة الجميلة، ويطلب منه إحضار ما يحتاج إليه من مصنوعات العراق وفارس وغيرهما. فاتفق له وهو يعرض عليه بعض المنسوجات النسائية، وكانت سلافة حاضرة لتختار نوعًا منها، أن وقع بصره عليها فأخذت بمجامع قلبه، لكنه تَجلَّد وتَهيَّب، وشعرت هي بما جال في خاطره، وتجاهلت أنه أصبح بعد تلك المقابلة يغتنم الفرص لإبلاغها ما يكنه فؤاده من الحب لها بهدايا يبعث بها إليها على أيدي بعض الخصيان دون أية إشارة، فيظهر ذلك منه مظهر الإكرام للملك الصالح؛ لأنها قيِّمَة داره ورئيسة جواريه.

فلما توفي الملك الصالح ضعف شأن جواريه، فتوسَّم سحبان بابًا للنظر إلى سلافة نظر المحب الطامع بالقرب، فاحتال يومًا ببضاعة حَمَلَها إلى القصر كعادته، فلقيه أستاذ الدار وتَسَاومَا، ولم تتأتَّ له مشاهدة سلافة ولا مخاطبتها، وقد علمت هي بمجيئه وتجاهلت، وفي خاطرها أن تراه ولكنها لم تكن تعرف سبيلًا إلى ذلك، ولا حاجة لها إليه لأنها لم تشعر بالميل إليه.

فلما علمت بما صارت إليه شجرة الدر في ذلك اليوم، وأنهم سيحتفلون في الغد بتوليتها ملكة، وأن ذلك إنما جرى بسعي عز الدين أيبك — ولم تكن تخفى على سلافة علاقته الودية بشجرة الدر — هبَّت نيران الغيرة في قلبها، وأصبحت تتقلب وتتعذب كأنها على قطع الجمر، وأخذت تفكر في إيقاع الأذى بشجرة الدر، لا لسبب غير الغيرة، فإنما لذَّتها أن ترى تلك النعمة قد زالت عنها. ذلك هو داء الحسد العضال، وبين مَرْضَاه من يفضِّل أن يشترك هو نفسه في الأذى الذي ينوي إيقاعه بمحسوده على أن يراه رافلًا في نعمته.

ضاقت سلافة ذرعًا بطول التفكير وهي جالسة في غرفتها، فأرادت التشاغل ببعض الشئون، فتنقَّبَت والْتَفَّت بملاءة من الحرير، وخرجت من قصر النساء من ممر يؤدي إلى حديقة تابعة لذلك القصر، فيها الأشجار والجداول والرياحين والأزهار، كان الملك الصالح قد تعوَّد أن يقعد فيها صباحًا. وجاءها أحد خصيان القصر مسرعًا يعدو وهو يقول: «إن الشيخ سحبان جاء بأنسجة جديدة.»

فلما سمعت اسمه أجفلت، لكنها أحست بانفراج كربها قبل أن تفكر في كيفية ذلك — وهو تنبؤ نسائي مبني على مجرد الشعور بلا برهان؛ فإن المرأة تأتيها الفكرة أولًا ثم تفكر في برهانها. فالتفتت سلافة إلى الغلام وقالت: «أين هو؟»

قال: «هو في فناء القصر، وقد ذكرك بالتخصيص، وقال إن بين أقمشته أشياء تسرك.»

فقالت: «لا أرى أن أعود إلى هناك، دعه يدخل إلى هذه الحديقة من بابها الخارجي لأرى بضاعته.» قالت ذلك وأصلحت من شأنها وتنقبت بطرف الملاءة، وأصبح قلبها يخفق، ولم تكن تشعر بشيء من ذلك في مقابلاته السابقة.

وبعد هنيهة دخل الغلام من باب الحديقة وهو يقول: «هذا الشيخ سحبان يا سيدتي»، ورجع.

وكانت جالسة على كرسي بين الأزهار فالتفتت نحو الباب فرأت الشيخ سحبان كما كانت تراه قبلًا بقلنسوته الفارسية وجبَّته السوداء ولحيته القصيرة الخفيفة وعينيه البراقتين، لكنها تفرست فيه هذه المرة فرأت في وجهه معنًى لم تلحظه من قبل، فلما دخل حياها فردَّت بمثل تحيته، وأشارت إليه أن يتقدم وقالت: «أين الأقمشة؟»

فتقدم وقال: «إنها لا تزال في القصر مع الجمال، فإذا أَذِنْتِ باستجلابها إلى هنا فعلتُ.»

قالت: «لا بأس، دعها الآن هناك، تفضل اجلس.» وأشارت إلى حجر منحوت كالكرسي، فجلس عليه وهو يصلح قلنسوته، فقالت له: «لم تكن عادتك إذا جئتَ بأقمشة أو نحوها أن تطلب سلافة باسمها.»

قال: «وهل ساءك ذلك يا سيدتي؟»

قالت: «كلا، لكني لم أفهم السبب لتغيير عادتك معي.»

قال: «غيرت عادتي جريًا مع التغييرات الكثيرة التي انتابت أهل هذا القصر في هذا العام.»

فتصاعد الدم إلى وجنتيها، وبانت البغتة في عينيها، وتذكرت ما هي فيه فقالت: «صدقتَ، إن التغيير كثير. رحم الله الملك الصالح، إنه كان حرزًا لهذه الدولة، فلما مضى اضطربت أحوالها.» وظهرت في مآقيها دمعة أوشكت أن تسقط.

فقال سحبان: «نعم، رحمه الله، ولكن ما العمل؟ هذا قضاء مبرم يا سيدتي، والدنيا دول.» قالت: «أعلمتَ ماذا جرى؟»

قال: «إذا كنتِ تعنين ما صارت إليه شجرة الدر، فقد علمتُ.»

قالت: «نعم، إياه أعني، وكيف تراه يا سحبان؟»

فاستأنس بمناداتها له باسمه بلا لقب وقال: «أرى؟ ماذا أرى؟ أرى أمرًا أقل ما يقال فيه أنه لم يسبق له مثيل في الإسلام.»

فابتسمت وقد أشرق وجهها، وقالت: «أرأيت مثل هذه البدعة قط؟» قال: «لا. لكنني …» وبلع ريقه كأنه يحاذر أن يبدي رأيه.

فقالت بلهفة: «قل، ولكن ماذا؟ قل.»

قال: «ولكن، كيف توصلتْ هذه الجارية إلى هذا المنصب؟ لا أدري.»

قالت: «ألا تعرف عز الدين أيبك التركماني أمير الجيش؟»

قال: «نعم أعرفه، قد فهمتُ مرادكِ يا سيدتي، نعم فهمت الآن. عرفت الفرق بين السيدة سلافة الكردية والمحظية شجرة الدر التركية.»

فتوسمت من عبارته ما يوصلها إلى الموضوع الذي تريد الخوض فيه فقالت: «وما هو الفرق؟»

قال: «الفرق أن هذه وفت بالأمانة في حق مولاها، وأن تلك أشركت سواه في حقه.»

فأظهرت أنها تعارضه وقالت: «لا، لا تقل ذلك، إنها أم ولده خليل. لا، لا تقل ذلك.»

فأدرك سحبان أنها تتظاهر بالاعتراض، فقال: «قد قلت يا سيدتي. إني أتردد على هذا القصر منذ عدة أعوام، وقد رأيتُ سلافة مرارًا وعيناي شاخصة إليها، وفي كل مرة أحاول أن أكسب منها لفتة فلا تفعل، ولم أرَ غيرها يحرص هذا الحرص. أستأذنك يا سيدتي في هذا التصريح. وأما سواك فمع كونها أم ولده فإن علاقتها مع عز الدين أيبك مشهورة، ومع ذلك فهي الآن ملكة المسلمين، ولا بد لكلٍّ منا أن يصدع بأمرها.»

فصاحت فيه: «أنها لن تكون ملكة وإذا صارت فإلى أجل قصير.»

ثم رأت أنها قد تورطت بالتصريح بما في نفسها، فتراجعت والتفتت إلى ما يحيط بها، وتشاغلت بزهرة قطفتها من شجرة إلى جانبها وهي مُطْرِقة وقد علت الحمرة محيَّاها.

فتوسم سحبان في ذلك المنظر فرجًا، فقال بصوت منخفض: «يا سيدتي لا ينبغي لنا أن نطيل الحديث بلا جدوى. إذا كان لا بد لامرأة من أهل هذا القصر أن تحكم فأنت أَوْلى من سواك؛ لأنك أرقى درجة من سائر نسائه، وأنت من عصبة الملك الصالح، رحمه الله، ولكن …»

فقطعت كلامه قائلة: «لا، لا أريد أن أحكم. إن النساء لم يُخلقن للحكومة يا سحبان؛ ولذلك قلتُ لك إن شجرة الدر لا ينبغي أن تبقى في السلطة طويلًا، والآن أقول لك لا ينبغي أن تبقى أبدًا.» قالت ذلك وبان الغضب في عينيها.

وأدرك هو أنها تستحثه على مساعدتها في هذا الأمر فقال: «إذا كنت ترين فيَّ مكانًا لثقتك فإني رهين إشارتك. أفصحي لي عمًّا ترينه.» فغلب عليها الحياء، والوردة في يدها، فجعلت تتشاغل بنشر أوراقها بين أناملها كما يفعل المضطرب الأفكارِ وهو لا يدري، فابتدرها سحبان قائلًا: «إذا كنتِ لم تفهمي مرادي بعد فإني أتجاسر وأفصح عما يكنه ضميري لك يا سيدة الملاح … إني أسير هواك منذ عرفتك، وكلما زدت إعراضًا عني أيام الملك الصالح ازددتُ إجلالًا لأخلاقك الفاضلة. وأما الآن وقد مضى ذلك الملك إلى سبيله، فهل ترين في سحبان ما يستحق التفاتك وثقتك؟»

فازدادت حياءً، وتوردت وجنتاها، وشعرت بخفقان قلبها، وأوشكت أن تنسى الأمر الذي كان شغلها الشاغل في ذلك الصباح. ثم التفتت إلى ما حولها فلم تَرَ غير الأشجار والرياحين، ولم تجد ما تتشاغل به عن الجواب ريثما تعمل فكرتها. وأدرك سحبان ما دار في خَلَدها فتَحفَّز كأنه يريد النهوض، فمدت يدها نحوه وأشارت إليه أن يمكث، وظلت ساكتة وهي تعض شفتيها وتمسح جبينها وتُصلح نقابها، فقال لها: «دعيني أنصرف الآن، فربما كان وجودي معك سببًا للقيل والقال.»

فنظرت إليه نظرة اخترقت أحشاءه وقالت: «وأيُّ قيل وقال؟ إني لا أخاف أحدًا، وأما وجودك هنا فإنه لازم لي.»

فهش لها وضحك كأنه نال أمرًا لم يكن يتوقع الحصول عليه وقال: «إذا كان وجودي هنا لازمًا لك فإني رهين أمرك.»

•••

اعتدلت سلافة في مقعدها والجد بادٍ في عينيها، ولو كشفت عن وجهها لظهرت دلائل العزم والإصرار حول شفتيها، وقالت: «هل أنت صادق فيما تقول؟»

قال: «جربي يا سيدتي. بعد أن تُسمعيني كلمة منك يطمئن لها قلبي. ألا ترين فيَّ الرجل الذي يستحق رضاك؟»

فأشارت برأسها وعينيها وقالت: «بلى! والدليل على ذلك أني سأعرض عليك أمرًا خطيرًا لا يجوز أن يطَّلع عليه أحد على وجه الأرض.» وسكتت.

فقال: «تفضلي يا سيدتي.» قالت: «وسأكلفك بمهمة لا تخلو من الخطر.»

قال: «روحي فداك. لا أبالي أن أموت في سبيل رضاك.»

فقالت: «أنت من أهل بغداد تسافر إليها كل عام، أليس كذلك؟»

قال: «أسافر إليها متَى شئت.» قالت: «ولماذا لا تمكث هناك؟»

قال: «لا بد من الجواب عن هذا السؤال؟» قالت: «نعم.»

قال: «إن هذه الجلسة التي سمح الزمان بها على قصرها جعلتني أشعر أن قلبينا متَّحدان من عهد بعيد. فأْذني لي أن أخاطبك بجسارة وصراحة.» قالت: «هذا ما أريده منك.»

قال: «لا أقيم في بغداد لأني شيعي، والخلفاء العباسيون يكرهون الشيعة ويطاردونهم، ولا سيما في بغداد، فإنه لا تمضي سنة لا يقاسون فيها تعديًا أو اضطهادًا أو نهبًا أو قتلًا، ففضلت الرحيل عن ذلك البلد، وإن كنت في غنًى عن التجارة، ولكنني جعلتها سبيلًا للأسفار. وإذا سافرت إلى بغداد فلا أمكث فيها إلا ريثما أبتاع البضاعة وأعود.»

قالت: «هل تعني أن الخليفة المستعصم الحالي يطارد الشيعة؟»

قال: «أكثر الخلفاء العباسيين فعلوا ذلك، والمستعصم هذا من أشدهم وطأة علينا، فقد قاسينا في أيامه الأمرَّين.» قال ذلك والغضب يتجلى في وجهه.

فأطرقت وبان التردد في عينيها وسكتت، فقال: «ما لي أراك تترددين؟ قولي ما يخطر لك.» قالت: «أخاف أن يكون في قولي تعب عليك.»

قال: «لا لذة في الحب إن لم يرافقه التعب.»

ولمَّا ذكر الحب اختلج قلبها في صدرها وقالت: «أنت تطلب ذلك باسم الحب يا سحبان؟» قال: «إذا كنت تأذنين.»

قالت: «نعم. انظر يا سحبان، إن هذه الجارية التركية لا ينبغي أن تبقى ملكة إلا ريثما تصل أنت إلى بغداد وتعود منها.»

ففهم مرادها وقال: «لك عليَّ ذلك. وهل تريدين أن أذهب بهذه المهمة من عند نفسي أم أكون رسولًا منك؟»

قالت: «بل تكون رسولًا تحمل كتابًا مني إلى بغداد، ولا يصل الكتاب حتَّى يأتي الجواب بخلعها لا محالة.»

قال: «لمن تريدين أن يسلَّم الكتاب؟» قالت: «سلمه إلى قيِّمة قصر النساء هناك، إنها صديقتي، ولي معها مودة. هل تفعل ذلك؟»

فنهض وقال: «أفعله الساعة. هاتي الكتاب.» ومد يده إلى منطقته واستل منها دواة مغروسة فيها واستخرج القلم منها ودفعه إليها، وأخذ من جيبه ورقة بيضاء دفعها إليها، فتناولت الورقة والقلم وهي تتفرس في وجه سحبان وهو ينظر في عينيها. بقيا لحظة على هذه الحال كأنهما يتفاهمان بالعيون، ثم قالت سلافة: «إن هذه هي المرة الأولى التي تَخَاطَبْنا فيها، ألا تَعدُّ ذلك تسرعًا مني؟»

قال: «جسي قلبك، فمن القلب إلى القلب دليل. وإذا كنت في ريب من صدق خدمتي، أقسمتُ لك بما تريدين.» وهمَّ أن يقسم ولكنها أمسكت بيده وقالت: «لا حاجة إلى اليمين.»

وكانت هذه هي المرأة الأولى التي تلمس فيها يدها يده منذ تعارفا، فأحس كلاهما بالقشعريرة وهي دليل التَّحابِّ، ولا تحدُث عند كل تلامس بين الجنسين، وإنما تقع بين اثنين في قلبيهما استعداد إلى الاتحاد. أو بالتعبير العلمي «بين كهربائيتهما تجاذب» ويزيد هذه القشعريرة ظهورًا قلةُ الاختلاط بين الجنسين والمبالغة في التحجب، ويلوح للباحث في نواميس الحب وظواهره أن أسبابه تقوى أو تضعف على حسب الأمزجة والأشخاص، أو كان الواحد متمم للأخر، فإذا التقى اثنان من هذا النوع شعرا بالتجاذب لأول مرة، على أن للجمال المادي والمعنوي قواعد أجمعَ الناس عليها، يغلب في أصحابها أن يلفتوا أنظار الناس ويجتذبوا قلوبهم.

فلما أحسَّت سلافة بتلك الرعشة اتخذتها دليلًا على صدق مودة سحبان، وتناولت الورقة وأخذت تكتب، وكانت بارعة في الخط والإنشاء؛ لأن السلاطين كانت لهم عناية في تعليم الجواري الكتابةَ واللغةَ والأدبَ. ولما فرغت من الكتابة أقفلت الكتاب ودفعته إليه وقالت: «هذا سري قد عهدت به إليك، إذا أفلحت فقد برهنت لي على ما تقول.»

فتناوله وقال: «أستودعكِ الله.» ومشى وهو يلتفت إليها حتَّى خرج من الحديقة، وظلت هي بعده واقفة تفكر فيما فعلته، فخالج ذهنها ندم على تسرعها، لكنها راجعت ما رأته وشاهدته منه، وتذكرت تاريخ معرفتها به، فلم تجد ما يوجب الحذر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤