الفصل الثامن

مؤيد الدين وهولاكو

أما ابن العلقمي فما كان يخلو بنفسه حتَّى صعد إلى الشرفة، والشمس قد مالت إلى المغيب، وتوسد فراشًا على مقعد يطل على دجلة، وقد تاقت نفسه إلى الوحدة والتفكير فيما هو فيه من مشاغل. فلما سمع أذان المغرب نهض للصلاة في مسجد بالقرب من منزله، وهو يتوقع أن يرى في الصلاة راحة. وليس للمؤمنين في ساعة القلق سبيل إلى الراحة والطمأنينة خيرًا من الصلاة والدعاء إلى الله أن يهديهم سواء السبيل وينقذهم من المخاطر.

أحس مؤيد الدين حاجته إلى الراحة فأسرع إلى المسجد وأخذ يصلي، فلما فرغ رأى شيخًا من الصوفية راكعًا بالقرب منه وسمعه يتمتم بالصلاة فلم يهتم به، ثم رآه يزحف نحوه، وكدرته وقاحة ذلك الصوفي وظنه مصابًا في عقله، فالتفت إليه شزرًا وزجره بلطف، فازدجر الرجل هنيهة وأظهر أنه يصلي، فعاد مؤيد الدين إلى صلاته ودعائه، واستغرق في التوسل إلى الله أن يهديه سبيل الرشاد.

ولما فرغ نهض وتحول نحو الباب فوجد أناسًا واقفين للسلام عليه، فحياهم ومشى، ولما وصل إلى المنزل إذا بذلك الصوفي واقف بجانب الطريق وبيده مسبحة وهو يتمتم كأنه يدعو، فلما دنا مؤيد الدين منه تقدم الصوفي المسبحة في يده وهو يبتسم وقال: «إني أستطلع الغيب وأنبئك بما تفعله يا مؤيد الدين.»

فلما سمع ذلك أجفل لأنه قيل له بلحن الأمر وفيه صيغة العجمة، فعلم أن مخاطبه غير عربي وأنه ليس من الفقراء المتسولين، وأنه لِأمر ذي بال تعرَّض له في الطريق على هذه الصورة، فألقى الرجل نظرة متفرِّس، وتأمل لباسه ووجهه، فرأى عليه قلنسوة الصوفية وجبَّة الصوفية وفي يده مسبحة الصوفية، لكن سحنته غير سحنتهم، ولحيته غير لحيتهم، فأجاب قائلًا: «من أنت يا رجل؟»

قال: «إني بصير بخفايا القلوب، قادر على تفريج الهموم، أكشف لك ما خفي عليك وأرشدك إلى الطريق السوي، وإن لم تصدقني فجرب.»

فأومأ إليه أن يتبعه، وأشار إلى البواب أن يُدخله إلى غرفته الخاصة، ودخل هو وقد شغل خاطره بهذا الدرويش، ومال كل الميل إلى الاسترشاد برأيه، وهو يعتقد الكرامة بأصحاب الكرامات، وتمنى أن يكون هذا منهم. وبعد قليل دخل الدرويش وقد أدخل إحدى يديه بكُمِّ الأخرى وقبض بالأنامل المطلقة على مسبحة أخذ يعد حباتها، فأشار إليه مؤيد الدين أن يقعد، وسأله إذا كان يحتاج إلى طعام فقال «لا»، فأومأ إلى الخادم أن يخرج ويغلق الباب وراءه ففعل. ثم نظر إلى الدرويش وتفرس في وجهه فلم يذكر أنه يعرفه، ولم يَرَ في وجهه سحنة التصوف، فقال له: «أرشدنا بعلمك يا شيخ.»

قال: «أرني يدك مفتوحة.»

ففتحها وأراه باطنها، فنظر فيها مليًّا ثم قال: «أنت تفكر في أمر عظيم الأهمية شديد الخطر عليك وعلى أهلك وسائر عشيرتك.» فأشار مؤيد الدين برأسه أن «نعم».

فأعاد الدرويش النظر إلى كف الوزير كأنه يقرأ كتابًا مخطوطًا، ثم رفع بصره إلى مؤيد الدين وقال: «إن المشكلة التي أنت واقع فيها يسهل التخلص منها إذا شئت.»

فقال: «وكيف ذلك؟» قال: «ينبغي أولًا أن تنظر إلى مصلحة نفسك وقومك، ولا تتقيد باعتبارات وهمية لا قيمة لها إلا عند ضعفاء القلوب. فهل أنت من هؤلاء؟»

فاستغرب مؤيد الدين اقترابه من الحقيقة بهذه السرعة، وأحب زيادة الإيضاح فاستلَّ يده من بين أنامل الصوفي وقال: «قل قبل كل شيء ما اسمك؟» قال: «اسمي رسول إلى مؤيد الدين.» ففرح لأن ظنه كان في محله؛ أي إن الرجل ليس صوفيًّا، فقال له: «من أرسلك؟» قال: «صديق نصوح يريد بك وبأهلك خيرًا، لكنك لا تعرف كيف تنتفع بالفرص التي تقع لك.»

فعلم مؤيد الدين أن الرجل رسول متنكر فقال: «أفصِح يا رسول الخير، من أين أنت آتٍ؟ لا تتهيب.» فقال: «إني رسول من خاقان عظيم لا يلبث أن يأتي بلادكم ويفتحها عنوة ولا قِبَل لكم بدفعه.»

فعلم مؤيد الدين أنه يشير إلى هولاكو التتري؛ لأنه جاءه منه غيرُ كتاب من قَبل يدعوه إلى مشايعته على الخليفة المستعصم ويَعِدُه ويمنيه، ولكنه هو يتردد، فتجاهل وقال: «من تعني؟» قال: «أعني مولاي الخاقان هولاكو، ألا تعرفه؟ قد كتب إليك مرارًا يدعوك إلى التخلص من هذا الخليفة الضعيف عشير النساء والمغنين وأنت لا تجيب، فأمرني أن آتيَك مرشدًا ناصحًا. ولا يخفى عليك أن مثلي لا يدخل هذا المدخل، ويتعرض لهذا الخطر، إلا إذا كان قد باع نفسه في سبيل الحق. فأنا أدعوك باسم مولاي أكبر السلاطين أن تكون معه على هذا الطاغية فتخلص أنت وقومك الشيعة من الظلم والعسف، وتكون لك المنزلة الأولى عند صاحب هذا البلد حينئذٍ، لا تكن ضعيفًا، ما لي أراك مطرقًا كأن نفسك تحدثك باعتبارات تقدر لها قيمة لا تستحقها، وكأنك تقول في سرك لا يليق بك أن تخلف ظن مولاك الخليفة فيك. لعله لم يخلف ظنك فيه؟ أنا هنا منذ أيام، وقد اطلعت على ما جرى بينك وبينه وبين ابنه، ورأيتك تتململ وتتذمر، وإنما ينقصك الحزم فتنقذ نفسك وأهلك وعشيرتك، وإلا فأنتم هالكون لا محالة.»

فأكبر مؤيد الدين هذا التهديد من رسول غريب ولكنه رأى في وجه ذلك الرسول هيبة وجرأة لا توجدان في عامة الناس، فقال: «أهدِ مولاك شكري لِمَا عرضه عليَّ، وقل له إن طلبه لا سبيل إلى إجابته، وقد رأيته يعرض بعجز هذه الدولة عن مقاومته، لقد أخطأ كل الخطأ؛ لأن جندنا لا يغلب من قلة ولا من ضعف، ونحن على ثقة من الفوز إذا نشبت الحرب بيننا وبينه.»

فضحك الرجل وقال: «أتيتُ إليك على أني منجم يقرأ الأفكار، وها أنا ذا اقرأ فكرك الآن من وراء ما تقول، إنك تقول غير ما تعتقد، أنا أعرف كل ما تحاول إخفاءه من اضطراب الجند وفساده، فأصغِ لهذا النصح، واعلم أننا لا نكلفك تعبًا ولا خطرًا، ولا نطلب منك أمرًا عظيمًا، إن البلد نحن فاتحوه لا محالة، فإذا توسطتَ معنا قَلَّلْت من القتل والفتك، لأننا نحب أن ينحصر الأذى في صاحبه المسبب لهذه الشرور، ولا ذنب لرعايا، وبخاصة الشيعة الذين قضوا الأجيال المتوالية وهم يتحملون أنواع العذاب من هؤلاء الخلفاء، ومن هذا المهذار. وقد يصعب عليك أن ترجع عما قلته الآن وزعمته في الدفاع عن مولاك المستعصم، فأنا لا أكلفك الرجوع الساعة، ولكنني أرشدك إلى الصواب وأترك لك الوقت الكافي للتفكير. وأما مولاي الخاقان هولاكو، فإنه فاعل ما يريده، ولا يلبث أن يأتيكم كتابه بالإنذار والتهديد، فإن لم تصغوا إلى مطالبه، حمل عليكم وفعل ما يشاء. وثقْ أنه الغالب الظافر، فإذا كنتَ تحب بلدك وأهلك فابعث إلى مولاي الخاقان كلمة بأنك على ولائه فتنجو وتكون لك الكلمة النافذة والصوت الأعلى … أظنني أطلت الكلام عليك فاعذرني.» قال ذلك ووقف ومده يده إلى جنبه واستخرج لفافة في أسطوانة من القصب وقدمها له وهو يقول: «وهذه رسالة من مولاي إليك لا تفتحها إلا بعد خروجي.» قال ذلك وخرج.

فدهش مؤيد الدين لِمَا شاهده من ذلك الرسول، وظل ينظر إليه حتَّى رآه خارجًا من باب الدار، وقد أثر كلامه فيه تأثيرًا شديدًا، وعاد إلى غرفته وفض الرسالة وأخذ يقرأ فيها.

اعلم يا مؤيد الدين أن الرسول الذي خاطبك هو الخاقان هولاكو نفسه، وقد بذل لك النصيحة فانتصح، ولا تطمع في تعقبه فإنك لا تجد إلى ذلك سبيلًا. وكان في وسعي أن تبقى على اعتقادك ولا تعرف من هو مخاطبك، لكني أحببت نصحك فانظر في أمرك. وابعث برسالتي إليَّ كما قلت لك قبلًا.

فأعاد مؤيد الدين قراءة تلك الورقة وقد تولَّته الدهشة وأوشك أن يكذِّب بصره وسمعه لغرابة ما شاهده، وأطرق هنيهة وهو يخاطب نفسه قائلًا: «هولاكو نفسه خاقان التتر، وفي خدمته مئات الألوف من الرجال لا يثق بأحد منهم في مهماته فيأتي بنفسه متنكرًا تحت هذا الخطر لكي يخاطبني، وكان في إمكانه أن يبعث رسولًا ولكن الهمة العالية والحرص على الملك يدعوانه إلى ذلك. لا ريب أن هولاكو يعرف أسرارنا كما نعرفها نحن، ويعرف عدد جندنا وعلاقة قوادنا بخليفتنا. يعرف كل شيء. أين ذلك من خليفتنا المشتغل باللهو والغناء عن أمور الدولة، ويهمه العثور على شوكار المغنية أكثر من دفع العدو عن بغداد؟ هذه علامات الزوال. هكذا كان حال الروم لما قام العرب لفتح بلادهم، كان خلفاؤنا وقوادنا العظام من الصحابة وغيرهم يتولون أمروهم بأنفسهم، لا يعولون على أحد ولا يشتغلون بغير الجهاد، وكانوا قليلين فغلبوا جيوش القياصرة والأكاسرة.»

ثم أطرق وتراجع وندم على ما خطر له وقال لنفسه: «لا، لا. إن الدولة العباسية باقية أبد الدهر، لا تزول من الأرض، وإنما هي في حاجة إلى الإصلاح، إلى خليفة آخر.»

وكان الليل قد أسدل نقابه، فوضع تلك الورقة تحت الوسادة وطلب العشاء، ثم ذهب إلى الفراش مبكرًا ليرتاح مما مر به في ذلك اليوم، وتوالت عليه الخواطر المتضاربة لكن ولاءه للخليفة ظل غالبًا على عقله. وكان ليله مأهولًا بالأحلام، ولم يَفُق في اليوم التالي إلا على ضوضاء طلبة المستنصرية وهم خارجون لصلاة الضحى.

وأحب البقاء في الفراش لأعمال الفكر فيما شغل خاطره. والإنسان في الصباح قادر على التفكير، وتفكيره أقرب إلى الصواب من سائر الأوقات، فلم يزدَدْ إلا ثباتًا على الولاء للخليفة والرغبة في إصلاحه، فارتاح باله لأنه استقر على رأي، وليس أتعب للإنسان من التردد بين رأيين، فنهض من فراشه وأخذ في لبس ثيابه، ولم يبقَ في ذهنه إلا مسألة شوكار. وكان يود أن يسلمها إلى الخليفة ويتخلص من القيل والقال لو لم يَحُلْ سحبان دون ذلك، وعذره مقبول؛ فخطر له أن يبعث في طلب سحبان ليكرر له الوصية بإخفاء مكان تلك الفتاة، لكنه توقع مجيئه من تلقاء نفسه.

مضى ذلك النهار ولم يبرح مؤيد الدين منزله التماسًا للراحة وقضاء بعض المهام الخاصة، وجاء الغروب وأقبل العشاء ولم يأتِه سحبان فهَمَّ بالذهاب إلى الفراش، وقبل أن ينزع ثيابه تذكر الكتاب الذي دفعه إليه درويش الأمس، ورأى أن يعدمه لئلا يقع في يد أحد فيجعله وسيلة للإيقاع به، فتذكر أنه وضعه تحت الوسادة، فافتقده هناك فلم يجده، فأخذ يبحث عنه في جيوبه فلم يقف له على أثر، فخفق قلبه لئلا يكون قد سمع حديثَهما أمس جاسوسٌ وسرق الكتاب وأخذه إلى الخليفة.

•••

وبينما هو في ذلك إذ سمع قارعًا يقرع الباب الخارجي بعنف، فأجفل ومكث ينتظر الخبر، وإذا بالبواب يدخل وهو يقول: «إن سحبان بالباب ومعه رفيق، هل يدخلان؟»

فاطمأن باله وارتاح إلى قدوم سحبان في تلك الساعة لعله يخفف عنه بعض الشيء، وأحب أن يعرف من هو رفيقه. ولم تمضِ لحظة حتَّى أقبل سحبان وهو يبتسم وألقى التحية، ثم تنحى وقدم رفيقه باحترام وأشار إليه أن يدخل، فنظر مؤيد الدين إلى ذلك الرفيق فإذا هو ملثم لا يظهر من وجهه إلا عيناه وما يحيط بهما، ورأى السواد غالبًا على لونه كأنه عبد حبشي ملثم، ورآه يمشي الهوينى، وسحبان واقف باحترام، فاستغرب مؤيد الدين ذلك فقال: «من هو رفيقك يا سحبان؟»

قال: «ستعرفه الساعة يا سيدي.» وتقدم حتَّى أقعد ذلك القادم على كرسي في صدر الغرفة، وأشار إليه أن يتفضل بإزاحة اللثام، ومؤيد الدين ينظر إليه من جانب المصباح، فأزاح الرجل اللثام، وحالَمَا وقع نظر مؤيد الدين عليه اختلج قلبه في صدره وصاح: «مولاي الإمام أحمد بن الظاهر؟ من أين أتيت به يا سحبان؟» وأكب على يده يقبلها، وكان الإمام أحمد أسمر اللون لأن أمه حبشية.

فضحك سحبان وقال: «أتيت به طوعًا لأمرك.»

فصاح مؤيد الدين: «ويلك! متَى طلبت إليك إحضار مولانا إلى هنا؟ كيف تأتَّى لك ذلك وهو محبوس وعلى قصره الحراس والجواسيس؟ إن شئونك كلها غريبة يا سحبان!»

قال: «إنك لم تطلب إليَّ إحضاره، لأنه لم يخطر لك استطاعتي ذلك. لكن الحديث الذي دار بيننا أمس يدل على أنك تحب أن تراه وتستوثق من رضاه.»

فقال: «صدقتَ، لم يخطر لي أنك تستطيع ذلك، وكيف أقدمت على هذا الخطر؟ لله أنت من شجاع مقدام! وإنما ينقصك التؤدة والتبصُّر.»

فقال: «ما ينقصني تكمله أنت بحكمتك ودهائك!»

وتوجَّه مؤيد الدين نحو الإمام أحمد، وكان يومئذٍ في إبان الكهولة وقد ظهرت السكينة عليه، وقعد بين يديه على وسادة باحترام ووقار وأخذ يرحب به. فتقدم سحبان وقال: «إني رجل متسرع، ولا أحب المطاولة أو التسويف، وأكره التردد، وقد أعجبني منك أمس ثقتك بمولانا الإمام أحمد، وأن رأيك فيه وافق رأيي وهذا دليل الصواب، والآن ها هو ذا صاحب الشأن لم أكلمه في شيء بعد، وإنما سعيت في إنقاذه من السجن.»

فقال: «وكيف استطعت ذلك، ما هذه الجرأة؟»

قال: «استطعته بمعونة الله، وعسى أن أستطيع ما هو أهم منه، وأرى هذا الإمام العاقل العادل خليفة يتولى أمورنا بدلًا من ذلك اﻟ…»

فتصدى الإمام أحمد للكلام قائلًا: «لا تقل شيئًا يا بني، إن الخليفة المستعصم بالله لا بأس به لولا تسلُّط ابنه على رأيه ورغبته في اللهو، وهذا ما يمكن ملاقاته، فلا تحولوا قلوبكم عنه …»

فقال سحبان: «نِعم الرجل أنت يا سيدي، أما خليفتنا فلا أمل لنا في إصلاحه، ولا بد من تغييره، ومولانا الإمام أحمد أولى بالخلافة منه لأنه أهل لها من كل وجه، وهو أخو المستنصر — رحمه الله — ولا يخفى عليك ما أتاه المستنصر من الأعمال الشاهدة بحسن السيرة والتقوى والرغبة في العمران …»

فقاطعه الإمام قائلًا: «لو علمتُ أنك جئت بي لأسمع منك ما سمعته لفضَّلت البقاء في سجني، إننا في طاعة أبي أحمد المستعصم ابن أخي. وإذا أخطأ فعلينا نصحه وكفى.»

فلم يستغرب مؤيد الدين حذر الإمام وإنكاره وما ظهر من تسرع سحبان، وإن كان يعتقد رغبته في الخلافة أكثر من رغبتهما، وإنما هي التؤدة والدهاء وحسن السياسة لا بد منها في مثل هذه الحال. فالتفت إلى الإمام وقال: «إن صديقي سحبان يعبِّر بعمله عن شعور كل مسلم، ولا سيما قومنا الشيعة العلوية، فإنهم قاسوا في أيام ابن أخيك هذا مر العذاب مما لا يمكن إخفاؤه، وإن كنتُ لا أرى التسرع في الأمر إلى هذا الحد وعلى هذا الشكل؛ لأننا لم نخطُ خطوة واحدة في سبيل ما نحن فيه.» والتفت إلى سحبان وقال: «أَخْرَجْنا مولانا الإمام من قصره، فأين نضعه الآن؟ وإذا عرف الخليفة غدًا أنه ليس في قصر الفردوس فلا يَتَّهم به سوانا والجند في يده يفتك كما يشاء.»

فقطع سحبان كلامه قائلًا: «لا تَخَفْ، إني أعود به إلى قصره الليلة، وقد دبرت ذلك بحيث لا يشعر به أحد. وإنما جئت به لتطلعه على غرضنا بناءً على قولك إنه يكفينا الآن إبدال خليفة بخليفة، واتفق رأينا على أن مولانا الإمام أحمد أَولى العباسيين بذلك.» والتفت نحو الإمام وقال: «وأرغب إلى مولانا أن يرفع كل حجاب بيننا وبينه ويكفينا مئونة المجاملة والحذر؛ فإني لا أحب إلا الصراحة. ونحن الآن نطلب من مولانا أن يجيبنا عن هذا السؤال. «إذا استطعنا قلب الحكومة وأردنا تنصيب خليفة، فهل يقبل الإمام أحمد أن تكون الخلافة إليه؟ وهل يَعِدنا خيرًا، ولا سيما من جهة الشيعة ومعاملتهم؟»»

وبرغم ما رآه مؤيد الدين من التسرع في عمل سحبان، فإنه وافقه على هذا الاقتراح ورأب الصواب فيه، وعلم أن المشروعات الكبرى تفتقر إلى الإقدام والحزم مثل حاجتها إلى التروي والتؤدة. فأطرق وهو ينتظر ما يقوله الإمام فإذا به يقول: «إن الخلافة يا أولادي إذا أتتني لا يمكنني التخلف عنها خوفًا على مصالح المسلمين، وإذا أبيت فإني أرتكب خطأً أو معصية، وإذا صرت خليفة فأول واجب عليَّ إجداء العدل وإنصاف المظلومين من آل بيت الرسول، صلوات الله وسلامه عليه.»

فقال مؤيد الدين: «بارك الله في مولانا، وإذا وفَّقَنا الله إلى ما نبغيه فإنما يكون لصالح المسلمين، ونشكر لمولانا قبوله القيام بتلك المهمة، وإنما آسَفُ لأن صديقي سحبان كلفك مشقة الخروج إلينا فضلًا عن الخطر.»

فتصدى سحبان قائلًا: «لا مشقة هناك ولا خطر، ويمكن بقاء الإمام خارج قصره عدة أيام ولا يشعر أحد بغيابه، لأني وضعت في مكانه رجلًا كثير الشبه به. استطعت ذلك بما بيني وبين قيِّم ذلك القصر من الصداقة، وهو راغب في قلب هذه الخلافة أكثر من رغبتنا؛ لأن هذا الخليفة وابنه لم ينجُ أحد من أذاهما. كن مطمئنًا يا صاحبي، وإذا كنتَ خائفًا من التجسس عليك فها نحن أولاء ذاهبون عنك الساعة.» وتحفز للوقوف، وهمَّ الإمام أحمد بأن ينهض، فنهض مؤيد الدين باحترام وقال: «إن مولانا الإمام قد شرف منزل مملوكه، وأطلب إلى الله أن يمن علينا بصيرورة الأمر إليه ويوفقنا إلى القيام بخدمته.»

خرج الضيفان وخرج مؤيد الدين لوداعهما، ولما عاد إلى غرفته عاد إلى التفكير في كتاب هولاكو وكيف أضاعه، وعاد إلى التفتيش عنه في كل مكان حتَّى كلَّ دماغه وتوالت عليه الأوهام والمخاوف، لعلمه أن يعون الجواسيس لا تنام عن استطلاع أخباره والوشاية به، فتولاه القلق، وذهب إلى فراشه فلم يستطع الرقاد وعاد يفكر في ذلك الكتاب وأين هو. وكان يعترض هذه الهواجسَ تفكيرُه في الإمام أحمد وسحبان وهولاكو وما هو فيه من القلق على قومه وعلى نفسه، وتعاظمت مخاوفه وهو تحت الغطاء؛ لأن الظلام يكبر الأوهام ويعظم الأشباح، وأفاق في الصباح وقد أخذ التعب منه مأخذًا عظيمًا.

وليس على الإنسان أشدة وطأة من التردد بين أمرين مهمين لا يدري أيهما يتبع، ويغلب أن يكون سبب التردد تنازعًا بين العقل والقلب، فمتَى غلب أحدهما انتهت الأزمة واستقر الرأي وهذا الخاطر. وكان مؤيد الدين يتنازعه عاملان: أحدهما يدعوه إليه عقله وهو أن فساد الحكومة ذاهب بالدولة إلى الخراب ولا يرجى صلاحها إلا بإبدال الخليفة، ولا يستطاع ذلك إلا بيدٍ قوية قاهرة مثل يد هولاكو، ويخامر هذا الحكم العقلي شعور قلبي فيه انتقام من ابن الخليفة وثأر للعلوين من أهل السنة. والثاني يدعوه إليه قلبه أو ضميره إذ يبكِّته على هذا العمل؛ لأنه خيانة لمولاه الذي أقسم على طاعته.

على أن ضياع كتاب هولاكو أحدث عاملًا آخر شديد الوطأة على قلب مؤيد الدين، إذ ترجح لديه أن يدًا أخذت ذلك الكتاب عمدًا، ولا يلبث أن يصل إلى عدوه الذي يتجسس عليه فيجعله حجة ضده ويتهمه بالمؤامرة مع أعدائه. ثم تذكر فحوى الكتاب فلم يجد فيه ما يبعث على تهمة المؤامرة لكنه يد على مخابرة جارية بين عدو البلاد ووزيرها.

فلما تصور ذلك خيل له أن الخليفة إذا علم به يأمر بالقبض عليه أو يقتله، ولا سيما إذا دخل ابنه أبو بكر في ذلك، فلا تبقى له حيلة في النجاة، فمن الحزم أن يتدبر الأمر ويتلافى الشر قبل وقوعه أو يستعد له على الأقل. وتذكر ما وعده به هولاكو من الحسنات إذا هو أطاعه وكتب إليه بالمجيء، فخطر له أن يبعث إليه في ذلك، فاشمأزت نفسه من هذا الخاطر، ثم اعترضه ما يهدده من الخطر إذا ظل ساكتًا فاشتد تحيره، فنهض من فراشه وأخذ يتشاغل بلبس ثيابه وهو غارق في التفكير، فغلب عليه الدفاع عن حياته وهم بالكتابة إلى هولاكو، فأمر قيِّم الدار أن يأتيه بغلام من عبيده، فأتاه بشاب أصله من رقيق تركستان وقد دخل قصر الوزير من عهد غير بعيد وليس فيه نباهة، فلما وقف الغلام بين يديه تفرس فيه، ثم أمر القيم أن يحلق له شعر رأسه ففعل. وجاء الغلام ورأسه كأنه صفحة بيضاء. وكان ذلك القيِّم قد رُبِّي في بيت مؤيد الدين وله إطلاع على مكنونات قلبه، وهو شديد الغيرة عليه، وقد أدرك غرضه من طلب ذلك الغلام على هذه الصورة. فلما عاد به ناده مؤيد الدين قائلًا: «ألم تفهم مرادي؟» قال: «نعم يا مولاي، إني رهين الإشارة.» قال: «إليَّ بالإبر والكحل وأغلِق الباب وراءك.»

فذهب وعاد بالإبر والكحل وأغلق الباب، وقعد على مقعد وأمر الغلام أن يجثو أمامه بحيث يصبح رأسه بين يديه. ثم تقدم مؤيد الدين وبيده ورقة قد كتب عليها كلمات قليلة، وأومأ إلى القيم أن ينقشها على رأس الغلام بالإبر وبذر عليها الكحل كما يفعل الوشامون، فتناول القيِّم الورقة وقرأ فيها: «تعالَ إلينا بقوتك وجندك.» فأدرك أنها رسالة إلى هولاكو، وكان من أشد الناس عداوة للخليفة وحاشيته؛ لأنه شيعي وقد أصابه شيء من أذاهم، فأخذ في نقش الرسالة على رأس الغلام، وهو لسذاجته كالبهيمة لا يفهم شيئًا، فلما فرغ القيم من ذلك نظر إلى مؤيد الدين وابتسم، فأشار إليه أن يحتفظ بذلك الغلام حتَّى ينبت شعره ويغطي تلك الكتابة، فإذا ظل على اعتزامه استقدام هولاكو أرسل الغلام إليه. ويكفي أن يقال لهولاكو إن هذا الغلام قادم من مؤيد الدين فيحلق رأسه ويقرأ عليه ثم يقتله. فإذا رأى العدول عن إرسالها استبقى الغلام عنده وشعره يكسو رأسه، لأنه لم يزل إلى تلك الساعة مترددًا، وضميره غالب على إرادته وهو يرجو أن تصلح الشئون بالمسالمة.

وأحس مؤيد الدين في تلك الساعة براحة، وعاد إلى شواغله وهي كثيرة، أهمها النظر في أمور الدولة. فركب بغلته إلى قصر التاج للنظر فيما جاء به البريد أو ما حدث من الأمور العامة، وكان يفكر طول الطريق في الكتاب الضائع ويراقب حركات القوم هناك ليتحقق ما كان من أمره، فلما لم يَرَ ما يبعث على سوء الظن اطمأن باله وعاد إلى منزله وقد ذهب قلقه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤