الفصل الثالث عشر

مقدمة الثورة

بينما كانت الكتائب والفيالق تزحف من الولايات لإخماد ثورة البوسنة والهرسك كانت الاجتماعات السرية تتوالى في الأستانة ليلًا، ثم عدل المتآمرون عن الاحتجاب وراء ستار الليل والتعارف بالإشارات، وأخذوا يجاهرون بأفكارهم في المحافل والجوامع، وخشي بقية السكان من غير المسلمين في الأستانة من تلك المظاهرات التي لم يسبق لها مثيل في تاريخ تركيا، واشتد قلقهم كثيرًا، وكان السفطاء والأئمة يطيبون خواطرهم ويهدئون روعهم، مؤكدين لهم أنهم لا يريدون بأحد شرًّا، وإنما غايتهم تغيير الأحكام الجائرة بإصلاحات عادلة.

وقلق السفراء أيضًا، فجاءوا الصدارة يستعلمون عن سبب تلك الاجتماعات، وينددون بما لها من العواقب الوخيمة، فكان الصدر يجيبهم: لا تخشوا شيئًا، فهي مؤامرة على الحكومة فقط. فلم يهدأ بال الأوروبيين لهذا الكلام، وأخذوا يرحلون أفواجًا أفواجًا. وكان محمود باشا عارفًا بأن سخط الأهالي عليه عظيم، وأنهم يريدون عزله وعزل شيخ الإسلام معه. وعرف الوزراء الباقون ذلك، فالتمسوا من السلطان أن يبدل الصدر إرضاء للرأي العام الهائج، ولكن الصدر كان قد تمكن من إقناع السلطان بأنه إذا أقصاه وضع نفسه في أيدي أعدائه، وأصبحت حياته من ثم في خطر، فزاد السلطان به تمسكًا وثقةً، وكان سفير روسيا أشد عضدٍ له يشجعه على الثبات والاعتقاد به، وكانت سياسته هذه خشية من فقدان ثمرة أتعابه التي كان يعانيها منذ عشر سنوات وهي تعجيل انحلال تركيا. وكانت الثورات قد هبت من كل جهة لتقرض تركيا وتنخر عظامها بسرعة. وكانت ثورة واحدة في الأستانة يُذبح فيها بعض المسيحيين كافية لأن تتخذها روسيا حجة للزحف على تركيا بدعوى أنها حامية نصارى الشرق، وكانت الألسنة تلهج في جميع المحافل النصرانية يومئذ بأن الدولة الصديقة لتركيا على أهبة تامة من الزحف على الأستانة؛ لترفع عَلَمها فوق مآذن جامع أجيا صوفيا.

وهذا ما حدا بالسفطاء والأئمة والعلماء للقيام والسعي تغييرًا لتلك الأفكار. وقد أرادوا أن يضطروا حكومتهم إلى انتهاج سياسة جديدة وإجراء إصلاحات عامة، وكانت روسيا معاكسة لكل إصلاح حقيقي عدوة لكل نهضة، وقد نجحت فألفت لنفسها حزبًا عُرف يومئذٍ بالحزب الروسي تحت رئاسة الصدر الأعظم محمود باشا الذي لُقب باسم «محمودوف»، وكان معاكسًا له حزب تركيا الفتاة. وكان يرأس هذا مدحت باشا وحسين عوني باشا ورديف باشا، وكانت غايتهم إنهاض الدولة وحفظها من السقوط غنيمة باردة بين مخالب الدب الأبيض …

وهكذا بقيت تلك الأزمة تشتد يومًا بعد آخر، والأخبار تتوالى متناقضة، والأفكار قلقة حائرة، وقد توقفت الأشغال وتعطلت التجارة، ثم نقل البرق في ٧ أيار سنة ١٨٧٦ خبر ذبح قنصلي فرنسا وروسيا في سالونيك، واتهم الناس الحكومة التركية بمشاركة الذابحين. فقامت أوروبا لهذا النبأ وقعدت، وكان سبب تلك المذبحة أن امرأة بلغارية كانت قد اعتنقت الإسلام، لكنها لم تلبث طويلًا حتى ثقل عليها الاحتجاب، ولم تطِق معيشة الحرم، فعادت إلى سالونيك ملتجئة إلى قنصل روسيا. وعرف بعض الإروام موعد وصولها، فساروا إلى المحطة للقائها، وأنفذت الحكومة نفرًا من الشرطة أيضًا، فلما وصلت وكانت لا تزال على الزي الإسلامي أراد الشرطة أن تقودوها إلى الإمام؛ لتنزع عنده رداءها وتقر أمامه بارتدادها، فعارضهم الإروام وانتزعوها قوة واقتدارًا من بين أيديهم، وحملوها إلى دار رجل من ذوي قرباها بلغاري الأصل، وكان أيضًا وكيلًا لدولتي روسيا وأمريكا، فجرح في تلك المناوشة عند المحطة بعض الأتراك البلغاريين، وطار الخبر في المدينة فاستولى على سكانها القلق والجزع، وبلغ الهياج حدًّا عظيمًا بين المسلمين الذين قاموا يطالبون بالمرأة البلغارية بحجة أنها لا يحق لها سكنى بيت مسيحي ما دامت لم تنزع رسميًّا ثوبها الإسلامي.

وكان قنصلا فرنسا وروسيا شابين متصاهرين محبوبين في المدينة، فظنا أن خروجهما بين الجمع يهدئ ثائر الأفكار، فأخبرا الوالي بذلك، وخرجا إلى الجامع حيث كان قد اكتظ بالهائجين، فلما شاهد الثوار القنصلين زاد هياجهم فنزعوا القضبان الحديدية من النوافذ، وهجموا عليهما على الرغم من معارضة الوالي، وأخذوا يضربونهما حتى قتلوهما أشنع قتلة.

•••

وتجمع بعد تلك الحادثة ببضعة أيام خلق كثيرٌ من السفطاء، وذهبوا إلى جامع بشكطاش صباح يوم جمعة ينتظرون خروج السلطان إلى الصلاة؛ ليرفعوا إليه عرضًا بمطالبهم. فعرف السلطان خبر تجمعهم، فتمارض ولم يخرج ذلك النهار خائفًا على حياته، وحاول عبثًا إخماد لهيب تلك الثورة. أما السفطاء فعادوا على أعقابهم فشلًا من طول الانتظار، لكنهم انتشروا في الغد في الأسواق يشترون الأسلحة بفاحش الأثمان، فقلق الجميع لهذه التأهبات حتى إن بعض السفراء نقلوا عيالهم وأثمن مقتنياتهم إلى بوارجهم، ولكن لم يحدث في ذلك الليل ما شوش الأفكار، وعاد الجميع إلى أشغالهم كالعادة … وعند الساعة العاشرة من الصباح التالي تجمهر السفطاء مرةً أخرى وساروا إلى غلطه، فلم يقفوا فيها إلا ريثما استراحوا من عناء السير وانتظار بعضهم البعض، ثم وصلوا طلمه بغجه، فخرج للقائهم حسن بك ياور كبير أنجال السلطان يوسف عز الدين أفندي، وسألهم قائلًا: ماذا تريدون؟ فأجابوه بصوت واحد: نريد مقابلة السلطان. فأجابهم جلالته منحرف الصحة، وقد أمرني أن أبلغ عبيده الأمناء أن يصرحوا لي برغائبهم؛ لأرفعها إلى جلالته فصاحوا … لا، لابد من مقابلته … فأجاباهم حسن بك بصوت الحزم والشدة … قلت لكم: إن جلالته منحرف المزاج، فإذا شئتم صرحوا بما تريدون … فتردد السفطاء قليلًا، ثم تشاوروا مدة فيما بينهم، وقالوا بصوت واحد: نريد عزل الصدر الأعظم وشيخ الإسلام. فأجابهم حسن: سأرفع طلبكم إلى جلالته ودخل السراي … وبقي السفطاء خارجًا ينتظرون الجواب. فلم يمضِ ربع ساعة حتى عاد حسن إليهم باسمًا ابتسامة الغيظ والكدر، وقال: جلالته يبلغكم امتنانه من ثقتكم به، وقد أصغى لاستماع شكوى عبيده الأمناء، وهو يأمركم بالذهاب إلى الباب حيث يتبعكم الفرمان. فهلل السفطاء فرحًا وسرورًا، وصاحوا كثيرًا ليعش سلطاننا زمنًا مديدًا، وعادوا إلى إستانبول وهم لا يكادون يصدقون بنجاح مسعاهم …

ولم يكن السلطان مريضًا، بل كان في الحرم قلقًا مضطربًا حائرًا في أمره يتمشى تارةً ويقعد أخرى، ويضرب الفضاء بمجموع كفه حنقًا، وكانت والدته مع السلطانة مهرى تحاولان عبثًا تهدئة باله وتطييب خاطره، وتشجعانه على رد مطالب السفطاء.

فكانت والدته تقول: الساعة ساعة الحزم والثبات، فلا يسوغ الإصغاء إلى مطالب هؤلاء المجانين؛ لأنك إن أظهرت الضعف سقطت من عيون شعبك وهلكت …

والسلطان يجيبهما بصوت أنيسٍ: ولكن يقولون إن عنادي سيكون سببًا لهلاكي. فقالت له السلطانة مهرى معترضة: ولكن هذا قول الأعداء، وهل يعمل أحد برأي عدوه أو بقوله؟

فقالت له والدته: ألا تعلم أن محمود باشا هو أخلص الناس إليك، فإذا عزلته فعلى من تتكل من بعده …؟ فأجاب السلطان: ولكني لا أعرِّض بنفسي للهلاك من أجل وزيري، فكثيرًا ما يضطر الملوك التظاهر بغير ما يريدون اتباعًا لرغائب شعبهم …

ثم دخل خصي وقال: مولاي حسن بك بانتظار الجواب، فأجابه السلطان: قل له أن يجيبهم أن الفرمان سيتبعهم إلى الباب العالي قبل مضي ساعة من الزمن.

وهكذا أراد السلطان عبد العزيز أن يقوم بما وعد به، فأنفذ أحد حجابه إلى الوزراء يبشرهم بتعيين محمد رشدي باشا صدرًا أعظم، وتعيين خير الله أفندي الشيخ المشهور بحرية أفكاره شيخًا للإسلام. فقابل الجمهور هذه البشرى بمزيد الفرح والسرور والتهليل العظيم، وملئوا أحياء الأستانة هتافًا «بادشاه جوق بشا».

وقام الصدر الجديد إلى طلمه بغجه مسرعًا يحف به السفطاء من كل جانب؛ ليرفع واجب شكره وامتنانه إلى السلطان، فقابله ببردوة فأدرك الصدر حالًا أن السلطان كان مضطرًّا إلى تعيينه غير مختار. وقد أبى السلطان أيضًا أن يطل من شرفة القصر لاستقبال تهليل الشعب له، وهكذا عاد الصدر وانقلب السفطاء غاضبين حانقين.

وقد وهم السلطان عبد العزيز أنه قد أرضى الأمة بعزله الصدر الأعظم، وأن ذلك يعفيه من إجراء الإصلاحات؛ فأبقى جميع الذين كانوا صنيعة محمود باشا في الوظائف بنوع أن حزبه بقي مستلمًا شئون الدولة كعادته، وهذا هو الحزب الذي كان يحاول رجال تركيا الفتاة إبادته فوجدوه ثابت الأركان … وكان السلطان يوالي طلب الدراهم من الصدر الأعظم، وكانت الخزينة فارغة تمامًا والوزارة حائرة كيف تدفع للجنود ما تأخر لهم من رواتبهم القديمة بقطع النظر عن الجديدة؛ ولذا تعذر على الصدر إجابة طلب السلطان بالمال للاحتفال بتزويج إحدى شقيقاته ومشترى الأحجار الكريمة لها، وبلغ كدر السلطان من الصدر حده؛ لأن تلك كانت المرة الأولى التي تجاسر فيها صدر أن يرد طلب السلطان، فاستدعاه إليه ووبخه على ذلك بقارص الكلام، فعاد الصدر إلى مجلس الوزراء وأبلغهم ما جرى له، وأنه عازم على الاستقالة؛ فقام الوزراء لذلك وقعدوا، والتمسوا منه البقاء خوفًا من إثارة حرب أهلية تغتنمها روسيا فرصة لامتلاك البلاد، وقرروا أن ينفذوا من قبلهم ثلاثة من الوزراء الجريئين؛ لأجل إقناع السلطان بالعدول عن إسرافه وبذخه، وإجراء الإصلاحات.

فسار في صباح ٢٠ أيار كلٌّ من الصدر محمد رشدي باشا وحسين عوني باشا ورديف باشا، واستأذنوا السلطان بالدخول، وكان في ذلك النهار معكَّر المزاج لم تذُق عيناه طعم الكرى، وكان قد تواتر على مهرى ظهور الأشباح والخيالات الهائلة، فوجدوا السلطان مستلقيًا على كرسي وبيده سبحة من عنبر وعلى وجهه أمارات التعب والاكتئاب، فانحنوا إلى الأرض مسلِّمين، فلم يتنازل إلى تحريك شفتيه لرد السلام، فقدم لهم الخصيان كراسي، وجلسوا بكل خضوع منكسي الرءوس، وبقوا صامتين حتى وجه السلطان إليهم الخطاب، فالتفت إلى وزير الحرب شذرًا وقال: ما أخبار الحرب؟

فأجاب الوزير: مولاي لقد أظهرت جنود جلالتك بسالة غريبة، ولكن يظهر أن الهرسك أمنع من عقاب الجو … فالثائرون يقاتلون من وراء الصخور وقنن الجبال ومنعطفات الطرق، فلا يلتقون بجنودنا المظفرة حتى يفروا من أمامهم.

فقال السلطان: كلاب …

– نعم، ويجب إبادتهم عن آخرهم واستئصال شأفتهم، فإنهم هم سبب جميع مصائبنا.

فقطب السلطان وجهه وقال: وأي مصائب تعني …؟

فقال الصدر: مولاي، حالتنا المالية هي في أسوأ مركز، فالتجارة قد تعطلت والزراعة متأخرة والشقاء عامٌّ …

فقاطعه السلطان قائلًا: بلى، قد فكرتني وأنا أشقى سكان مملكتي منذ قطعوا عني دفع «الرانت» ألا يرد على الخزينة نقود هذا الأسبوع؟

فتردد الصدر ثم قال: بلى يا مولاي ستصلني ضرائب ولايتي أنقرة وإيدين وهما أحسن ولايات الدولة.

وأجاب السلطان: لا تنسَ إذن أن تدفع لي حالًا «كوبون الرانت» وهي قيمة زهيدة لا تزيد عن ١٨ ألف ليرة فقط، وكان قد تعهد لي محمود باشا لما عقد المعاهدة المالية التي خفض بها فائض الرانت أن يبقى ما يخصني على حاله …

فأجفل الصدر لهذا الكلام، ولكنه تمالك نفسه، وقال: نعم مولاي إن القيمة زهيدة جدًّا لسلطان عظيم كجلالتك، ولكنني بانتظار ستين ألف ليرة حال كونه يجب عليَّ أن أدفع ستمائة ألف ليرة؛ ولذا تراني مضطرًّا لإرسال ما أنتظره إلى الهرسك حالًا، فإن جنودنا هنالك حفاة عراة يتضورون جوعًا …

فقاطعه السلطان قائلًا: أنا أقول لك إني محتاج إلى المال …

فأجاب الصدر: فهمت أمر جلالتكم، وأكرر العرض بأن جنودنا تتضور جوعًا، وجرحانا يموتون من عدم الاعتناء بهم؛ لأننا لم نقدر على إرسال المستشفيات النقالة حتى الآن …

فقال السلطان غاضبًا: تلك حجج فارغة لم أسمعها من أحد من سلفائك.

فأجاب الصدر: إنني آسف لذلك يا مولاي، على أني أرى من الحكمة إخماد حنق الشعب بإرضاء الجيش.

فقال السلطان: لم يهتم أحد من قبلك في إرضاء هذا الشعب، وأنا أعرف الآن دواءه الوحيد وهو حز رقاب رؤسائه فتبرد حرارة بقية الأعضاء …

فقال الصدر: نعم، ولكن ذلك هواء قديم لا يجدي الآن، فضلًا عن أنه يستحيل إجراء ذلك.

فصاح السلطان مستفهمًا: أمستحيل؟ وأي متى حُرمت حق التصرف بأرواح عبادي وأملاك رعيتي؟

فأجاب الصدر بصوت ثابت: منذ عدتنا روسيا من الدول المتمدنة.

فصاح السلطان وكاد يتميز من الغيظ: هذه والله أفكار حزب تركيا الفتاة. فعض الصدر على شفتيه حنقًا، فقال حسين عوني باشا، ساعتئذ، مولاي إن الغاية من تشرفنا اليوم في أعتابك الجليلة هي عرض مسألة مهمة يتوقف عليها نجاح الدولة.

فقال السلطان: ما هي؟ فقال: الحرب الأهلية تتهددنا، فإن أكثر من عشرين ألف مسلم ينتظرون أقل سبب ليخضبوا الأستانة بالدم إذا لم تجَب مطالبهم.

فوقف السلطان عند هذا الكلام يرتجف غضبًا وقد شد على السبحة بيده ففرطها، فتشاور الوزراء بألحاظهم وصمموا على الثبات. فقال رديف باشا: الشعب يطلب عزل الولاة المتصرفين والمأمورين المذكورة أسماؤهم في هذه اللائحة، ثم قام ورفعها إليه …

فأخذها السلطان بعنفٍ وألقى عليها نظرة غضب، فوجد فيها أسماء جميع المأمورين الذين نصبهم محمود باشا الصدر السابق، وكان السلطان واضعًا ثقته فيهم، فلما فرغ من تلاوتها التفت إلى الوزراء وقال ساخرًا: أهذا كل ما تريدون؟ فأجابوه: نعم.

فقال السلطان: أجيبوا إذن هذا الشعب أني لا أجيب طلبه هذه المرة وقد أجبت طلبه المرة الأولى فطمع؛ ولذا لا أجيز عزل أحد من هؤلاء المأمورين، وسأبقي هذه اللائحة في جيبي؛ لأني عرفت بها المأمورين المخلصين لي، والآن يريد الشعب أن أضحي له أخصائي … لا وألف لا. قال هذا وانطرح على كرسيه يرتجف غضبًا.

فمد حسين عوني باشا يده متوسلًا قائلًا: مولاي تلك إصلاحات واجبة لخير الأمة … انظر حالة الدولة، الأعداء تحيط بنا من كل جانب، وعوضًا عن أن نفكر بالدفاع عن أنفسنا والذود عن حوضنا نقضي أيامنا وساعتنا بالنزاع والخصام. فقال الصدر: نعم يا مولاي هذه الإصلاحات لازمة لفلاح الدولة ولإحياء همة الأمة، وسيكون تأثيرها حسنًا في جميع الأنحاء.

فضحك السلطان وقال: إي حضرات الباشاوات، أما فرغتم بعد من إلقاء مواعظكم وإعطاء نصائحكم، والله لم يبقَ لي إلا أن أتلقى أوامركم وأسلمكم زمامي …

فقال الصدر: نحن نتكلم من أجل صالح الدولة وباسم الأمة.

فصاح السلطان غاضبًا: أنا الدولة وأنا الأمة، والحق لي وحدي في معرفة ما يوافقها، فأنتم؛ أنتم الذين زرعتم الخصام بيني وبين رعيتي توصلًا إلى مراكزكم، وأنا في غنى عن البحث لمعرفة أسباب الهياج، فقد كشفت أطماعكم لي عنها النقاب تتخذون الشعب حجة فتقولون كل مرة الشعب يريد كيت وكيت ويطلب كذا وكذا، فأي متى كان سلطان آل عثمان يتلقى أوامره من عبيده؟

فأجابه الوزراء: ولكن قد مضت تلك السنون وأهلها، والآن المركز حرج.

فقال السلطان: نعم، المركز حرج لأني لم أفتح عيني جيدًا، ولكن هذه اللائحة هي مفتاح الدسائس والمؤامرات، فأصدقاؤكم يرغبون في تجريدي من أصحابي … لا، انزعوا هذه الأوهام من رءوسكم، وإني أعلمكم في الختام بأني سأعيد محمود باشا إلى الصدارة، فإنه على الأقل لا يخشى من انتقام الشعب وحنقه.

فوقف الوزراء وكادوا يتميزون. فوقف السلطان حينئذٍ هائجًا مزبدًا وصاح بهم: اخرجوا أيها الخونة، فإن تجاسرتم على المثول أمامي لأحزَّنَّ رءوسكم حزًّا. فخرج الوزراء القهقرى وقلوبهم تتقد حنقًا وغضبًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤