الفصل الخامس

بطل المستقبل

بينما كان السلطان عبد العزيز يستقبل وفود المهنئين أرجو القارئ الكريم أن يتبع فارسين قد أعمل كلٌّ منهما المهماز في شاكلة جواده وهما ينهبان الأرض نهبًا مسرعين نحو محلة «أورطه كي» أحدهما: شابٌّ في الثانية والعشرين من عمره أسمر اللون خفيف العارضين اسمه «صلاح الدين بك» من ياوران جلالة السلطان ونجل أحد قواد الدولة المتقاعدين، والثاني: شاب يافع شركسي الأصل اسمه «حسن» لا يُعرف له أصل ولا نسب ولا أهل إلا شقيقة فتاة ربتها والدة السلطان في حرمها، وقد ارتبط هذا مع صلاح الدين بك بمودة شديدة، وكان والده مقيمًا على هضبة بالقرب من قرية «أورطه كي» في بيت بسيط تحيط به حديقة فيها كثير من أشجار الفاكهة المختلفة.

فلما وصلا البيت قفز صلاح الدين عن جواده كالغزال، وأول سؤال وجهه إلى خادمه كان عن صحة والده الشيخ الجليل، ثم سار إلى السلاملك يصحبه صديقه حسن، فضمه والده حميد باشا إلى صدره وعانقه شديدًا، ثم أمره بالدخول إلى الحرم لتقبيل يدي والدته نعمت هانم، وكانت جالسة مع السراري تنتقي زهر الورد لطبخه بالسكر، وكانت منذ سمعت إطلاق المدافع تبشيرًا بقدوم السلطان تنتظر وصول ابنها بذاهب الصبر، فكانت ترسل كل هنيهةٍ إحدى جواريها تتفقد وصوله، وكان صلاح الدين هذا وحيدًا لوالديه، وموضوع حبهما، قد تلقى علومه في كلية فينا الكبرى، وانتقل منها إلى فرنسا حيث أكمل دروسه الحربية في مدرسة «سان سير»، فأخذ عن الفرنسيين ما اشتُهر عنهم من الظرف واللطف ورقة المعاشرة، ولم تطمح أنظاره إلا لخدمة وطنه وأمته، فانخرط في سلك دعاة الحرية والمصلحين، وكان ورعًا من غير تعصب جريء القلب بطلًا مقدامًا، وقد سُر جدًّا لما عرف أن جلالة السلطان قد انتقاه ليكون من ياورانه ورفيقًا له في رحلته الأوروبية، وقد علق على هذه الرحلة كبير أمل من التأثير على أفكار السلطان؛ ليدفعه إلى الصعود في معراج التمدن والحرية. فلما دخل الحرم أخذ يدي والدته يقبلهما بشوق، وقامت الجواري والسراري فرحات مسرورات يُقبلن طرف ثوبه، وأكثرهن كن يَعددن لرجوعه الأيام والساعات، وقد أملن جميعًا أنهن يحظين بالتفات منه، أما هو فاستقبلهن بلطفٍ، ثم تحول عنهن، وانطرح على الديوان بالقرب من والدته يقص عليها أخبار رحلة السلطان.

ولبث ساعتين يروي ظمأ اشتياقه، وإذا بجاريةٍ دخلت وأبلغته أن والده الباشا قد اضطر للخروج من أجل رد بعض زيارات، وأن صديقه حسن باقٍ وحده في السلاملك.

فهب صلاح الدين حالًا إليه يعتذر عن قصوره، فوجده واقفًا بالقرب من النافذة ينقر زجاجها بأصابعه تسليةً وإضاعةً للوقت، فتقدم إليه صلاح الدين وقال: أرجوك العذر لقلة أدبي … ولكن من غاب عن والدته شهرًا كان الشهر عنده دهرًا.

– أصبت … ثم تنهد، وقال: طوبى لمن له عائلة … أما أنا فإني يتيم وحيد أشعر بثقلي أين ذهبت وكيف اتجهت؟

– ما هذا القول يا حسن …؟ أتجهل محبة أصدقائك، واعتبارهم لك؟ والأصدقاء الصادقون هم كالأهل، بل خير منهم؛ إذ الإنسان له فيهم خيار الانتقاء.

إذا كان يحق للإنسان انتقاء أخٍ فأنت أخي الوحيد.

– عزيز علي يا حسن ألا يكون عندي شقيقة تثبت لك صدق قولك، ولكن أنت تعلم أني وحيد لوالدي.

– وأما أنا فلي شقيقة يا صلاح الدين أحبها حبًّا شديدًا، اجتزت وإياها منذ خمس سنوات بلادنا الشركسية يوم قادونا كالأغنام للبيع في الأستانة، فقدر النصيب أن اشترت والدة السلطان شقيقتي — مهرى — ووضعتها في حرمها … وهكذا حُرمت من مشاهدتها كل حين، ولا يسعدني الحظ بذلك إلا متى انتقل الحرم السلطاني إلى المصيف.

– ولكن سمعت اليوم من رئيس الخصيان أن جميع السراري قد ذهبن للاستحمام في البحر عند قصر «بكلربك» الذي هو قبالتنا.

– فأبرقت أسِرَّة حسن فرحًا، وقال: أحقيقي ما تقول؟ وكيف يمكننا تحقيق ذلك؟

– أمرٌ سهل لا يكلفنا كبير عناء … تعالَ نكتري زورقًا، ونذهب لتحقيق ذلك، فنسأل رئيس الخصيان إذا كانت شقيقتك بين السراري أو إذا كانت بقيت في السراي الهمايوني، وكيفما كان الحال نكون قد قضينا نزهة لطيفة.

– ما أكرم أخلاقك وألطف طباعك …! هيا بنا.

– هذا من واجباتي؛ فقد تركتك وحدك منذ ساعتين وأنا أتنعم بلذة مشاهدة والدتي، فوجب علي الآن التعويض، واكتريا زورقًا للحال واجتازا البوسفور، فوصلا في أثناء عشر دقائق إلى شاطئ آسيا إلى بيكلربك، وهي القرية التي بنى السلطان فيها قصرًا على شاطئ البحر في غاية من الظرف، فصعد الصديقان إلى باب السراي، فلما رأى الخدم والحشم صلاح الدين عرفوا من ملابسه أنه من ياوران جلالة السلطان، فسأل حسن أحد الخصيان عن مهرى هانم فأجابه أنها في السراي وأنه يمكنه مشاهدتها؛ فسُر كثيرًا، ثم التفت إلى صديقه صلاح الدين، وقد أخذته الحيرة بوجوده، وقال: ما العمل؟

– خفض عنك، فإني سأتمشى على هذه الطريق المحاذية لحديقة السراي حتى تشماليجة، ثم أعود إلى هذه الساحة أنتظرك في قهوتها فلا تضيع وقتك، واعلم أني أكون مسرورًا إذا كنت سهَّلت عليك هذا الاجتماع، وسأنتظرك بسرور مهما طال اجتماعك، ثم مد يده فصافحه، وتبع حسن الخصي وعاد صلاح الدين وحده متجهًا نحو الطريق التي سار إليها، فلما صعد إلى أعلى الهضبة وقف أمام بستان السراي يحيط به شجر الجوز الكبير وحائط رفيع لا يُرى منه إلا رءوس الأشجار، فوقف يسرح الطرف في ذلك المشهد البديع، وإذا به يسمع صوتًا رخيمًا مناديًا.

– مهرى هانم … مهرى هانم … تعالي التقطي الخوخ …

وسمع في الوقت نفسه هز شجرة صوت الثمار تتساقط على العشب الأخضر، فرمى بنظره إلى الشجرة فرأى غادة تركية قد تسلقتها كالسنجاب وقد تطاير منديلها الشفاف عن رأسها، فأبان وجهًا صبوحًا وعينين نجلاوين وشعرًا حالكًا مسترسلًا على أكتافها غدائر، وكانت أوراق الشجرة وأغصانها الملتفة حجابها الوحيد، ويظهر أن السبب في مناداتها لرفيقتها بصوتٍ عالٍ كان استلفاتًا منها لنظر صلاح الدين الذي لما سمع الصوت ورأى الغادة وقف مبهوتًا ذاهلًا من جمالها الفتان، وهي لما رأت مركزها الحرج حاولت عبثًا الاختباء وراء الأغصان والأوراق، ثم سمع صوتًا من أرومة الشجرة يقول: عائشة هانم لِم لا تلقين الخوخ؟

– لم يبقَ ثمرٌ في الشجرة.

– إليك هذا الغصن المدلى على الطريق، فقد رزح من كثرة الثمر، فمدت عائشة يدها اللطيفة إلى الغصن فهزته بعنف وتساقط الخوخ على الطريق أمام صلاح الدين، فهم بالتقاطه، وفي الحال فُتح باب صغير للحديقة، وخرجت منه فتاة تركية مسرعة لالتقاطه أيضًا، فلما رأت صلاح الدين أمامها صاحت مذعورة، وهرولت ناكصة على أعقابها تاركة الأثمار غنيمة باردة له، واغتنمت عائشة فرصة انحناء الرجل لالتقاط الثمر فانحدرت عن الشجرة بعجل، ولم يكَد صلاح الدين يُتم التقاط الثمر حتى مر به خصي، فنظر إليه نظرة المرتاب، وأراد الدخول إلى البستان، فوجد الباب موصدًا، ولم يفتح له حتى عرَّف بنفسه فقال بصوت عالٍ: مهرى هانم جاء أخوك حسن إلى السراي يريد مشاهدتك.

– ها أنذا … ها أنذا حاضرة.

فابتعد صلاح الدين قليلًا احترامًا، وإذا بالباب قد فُتح، وخرجت منه مهرى يتبعها الخصي ثم أقفل على مهل ريثما تمكن صلاح الدين من النظر إلى عائشة قليلًا، ووقفت هي تبسم له ابتسامة الممازحة، فتظاهر هو بأنه عابر طريق، فأخذ في مسيره قليلًا، ولكنه عوض أن ينحدر إلى القرية كما كان عزمه صعد إلى الأكمة ثانية، ومنعًا للريبة عرَّج إلى طريق ضيقة محاذية لسياج البستان، ولما ابتعد عن الطريق العامة تسلق شجرة توت كبيرة ملتفة الأغصان، فجعلها مرصدًا له يترقب من خلالها الشارد والوارد في الداخل والخارج.

والحب أول ما يكون مجانةً
فإذا تمكن صار شغلًا شاغلًا

دفعت الرغبة صلاح الدين إلى معرفة تلك الغادة الفتانة التي جذبت فؤاده من أول نظرة «وما الحب إلا نظرة بعد نظرةٍ»، وقد أحس في الحال بشعور غريب وعاطفة جديدة لم يلامسا بعد قلبه الخالي.

ولما صار في أعلى الشجرة رأى أن عائشة ليست وحدها في البستان، بل يصحبها أربع من رفيقاتها السراري، وقد جلسن جميعًا أمام جدول ماءٍ نمير تحف به أشجار بديعة الائتلاف والاصطفاف مكللة بآلاف من الفاكهة المتنوعة الأصناف، والنهر بفرط صفائه ورقة مائه ينم عما بأسفله من رمله وحصبائه، وكلهن يدخن التبغ اللذيذ، ويأكلن أنواع الفاكهة النادرة، ورأى في آخر الحديقة بيتًا خشبيًّا صغيرًا قد أخفته الأشجار الملتفة.

فرأى صلاح الدين من مرصده أن الغادة التي جذبت قلبه واختلبت لبه كانت تقف من حين إلى آخر على طرفي قدميها، فترمي بنظرها إلى الطريق الصاعدة أو تتطلع من خلال السياج كأنها تنتظر مرور شخص، ثم تعود فتجلس مقطبة الوجه، فعرف صلاح الدين أنه هو الشخص المنتظر، وكان يُسرُّ كلما رآها جلست عابسة الوجه مقطبة الجبين، ثم تولتها السآمة فقامت وتركت رفيقاتها لتجمع باقة زهر، وبدأت تتوغل في البستان تقتطف أنواع الزهور حتى وصلت إلى أسفل الشجرة التي كان مختبئًا فيها صلاح الدين، فأخذ للحال أثمار الخوخ التي التقطها من الطريق، ورمى بها أمام عائشة، فدُهشت لما رأت أن التوت قد أثمر خوخًا يتساقط على قدميها، فرفعت نظرها إلى الشجرة، فذُعرت مبهوتة لما رأت صلاح الدين جاثمًا كالطير في أغصان الشجرة، وصاحت صوتًا يتخلله الخوف والفرح اهتز له قلب صلاح الدين طربًا، فقفز من أعلى الشجرة، وصار في أقل من لمح البصر أمام قدميها، فصاحت به الفتاة: ما هذه الجسارة بك أفندي؟

ثم أخذت منديلها ولفت وجهها الجميل، ثم قالت: أمِن أجل ابتسامة تقتحم حدائق الناس وتتسلق الأشجار …؟ ابتعد حالًا وإلا ناديت والدتي … تأديبًا لك.

– مهلًا هانم أفندي … إني أعجب كيف يخرج هذا الكلام القاسي من هذا الفم الجميل … وليس مولاتي الذنب ذنبي؛ فإن جمالك الفتان هو الذي دفعني إلى هذه الجسارة، وإذا كان في وسعك منعي من العود إلى هذا المكان فليس في طاقتك منع قلبي من أن يهواك، وأن يكون بكليته لكِ.

– لا أفهم ما تقول … ولكن أرى أنك واهم … لست بجارية لأرضى بمثل هذا الحب.

– أصبتِ فيما قلتِ، وإنما أرجوك المعذرة؛ لأن جمالك قد أضاع صوابي، واسمحي لي أن أعرِّفك بنفسي … إنني أُدعى صلاح الدين، وحميد باشا المقيم في «أورطه كي» والدي، وشقيق مهرى هانم صديقتك يخبركِ عني طويلًا إذا رغبتِ المزيد، وأعلل النفس برؤيتك مرة أخرى.

فلم تجب الفتاة ببنت شفة، ولكن لمح صلاح الدين أن عينيها تضحكان سرًّا … فحياها التحية التركية قائلًا: أي والله هانم أفندي.

– أي والله.

ثم تسلق الحاجز وقفز إلى الطريق وهو يقول: لله درها ما أفتن جمالها! وأكملت عائشة مسيرها تقول في نفسها لله دره ما أنضر شبابه وأرشق عبارته!

وعاد صلاح الدين عند ذلك إلى القهوة فوجد صديقه حسنًا بانتظاره، فلما رآه ابتسم له قائلًا: قد رأتك شقيقتي الساعة.

– وكيف عرفتني؟

– كنت أريتها رسمك؟ وقلت لها: انظري هذا الأخ اللطيف الذي لي، وقد أعجبها جمالك وشبابك.

– هذا ولا شك لطفٌ منها.

– وأنت هل رأيتها؟

– كلا لم أتجاسر على رفع نظري إليها؛ فضلًا عن أنها كانت محجبة بيشمق كثيف.

– نعم، هذه إرادة السلطانة؟ إذ لا يخفاك أنها معاكسة للأفكار الجديدة.

– وهي أفكار السلطان أيضًا، فإنه عاد من رحلته الأوروبية أكثر تعصبًا من ذي قبل، وأشد استبدادًا.

فلم يجب حسن على هذا الكلام؛ لأنه كان من حزب تركيا القديم الكاره للأفكار الجديدة والإصلاحات الأوروبية.

وكان السلطان عبد العزيز يفضل سراي بيكلر بك على جميع قصوره بعد سراي «طلمه بغجه»، فكان ينتقل إليها مدة فصل الصيف تاركًا شئون الدولة ملقيًّا مهام المملكة على عاتق الصدر الأعظم عالي باشا الذي كان صارفًا جل اهتمامه في إخماد ثورة كريت.

وبينما كان السلطان محتجبًا في قصره معتزلًا أشغال الدولة التي كان مصوبًا إليها أولًا جل اهتمامه كان هوبار باشا محاصرًا سيرًا بالأسطول العثماني، وفؤاد باشا يقدح زناد فكره آناء الليل وأطراف النهار في سبيل مرضاة سفراء الدول في الأستانة، وكان مدحت باشا واليًا لولاية الطونة، فاستدعي إلى الأستانة، وقلد رئاسة شورى الدولة.

ولا يختلف اثنان في أنه لو سُلمت مقاليد الدولة في ذلك العهد إلى هؤلاء الوزراء الثلاثة لسلمت من العطب، وأمنت العثار، واستغنت عن السلطان عبد العزيز الذي كان قد بدأ فيه حب الأثرة والاستبداد، وصرح بأن ما أظهره قبلًا من الميل إلى الحرية والإصلاحات ليس إلا سياسة منه اكتسابًا للأميال وتهدئة للأفكار الثائرة.

ففي صباح شهر سبتمبر ١٨٦٧م (الواقع في ٤ شعبان) أمر السلطان أن يُسرج له جواد عربي يخرج عليه للنزهة، فسار وحده بين البساتين والحدائق صعدًا، يتبعه من بعيد أحد يورانه حتى وصل إلى أعلى الأكمة، فوقف في المكان الذي وقف فيه قبله صلاح الدين منذ شهرين يسرح الطرف في ذلك المنظر الجميل، وإذا به يسمع حديثًا همسيًّا داخل البستان، فدفعته الرغبة والريبة إلى معرفة المتحدثين ورؤيتهم، فدخل البستان من الباب الصغير.

•••

وكانت عائشة جالسة على العشب الأخضر متكئة على صدر رفيقة لها شركسية جميلة الوجه بهية المنظر، وأمامها امرأة عجوز راقدة في ظل شجرة.

فتنهدت الشركسية، ثم أكملت حديثها قائلة: نعم إني أحب السلطان، ولا أتجاسر على رفع نظري إليه، فإذا نظرته ارتجفت أعضائي … ثم أخذت يد رفيقتها، وقالت لها: ضعي يدك على قلبي فتسمعي دقات اختلاجه … ثم قالت: ما الذي جاء به إلى هنا يا ترى هذا الصباح …؟ وهو كسولٌ لا ينهض من رقاده حتى الظهر.

– لعله عرف بمجيئك إلى هنا، ويحتمل أن يكون قد جاء يبحث عنك.

– كفاك هزءًا وسخرية … أنت سعيدة بحبك لألطف شاب في تركيا فهنيئًا لك، أما أنا فقد تطاولت في حبي إلى ما وراء الآمال، وبنيت قصورًا شاهقة لأوهامي.

– لا … ألستِ بربة الجمال …؟ وأنت في حرم والدة السلطان، تتسنى لك رؤية السلطان كل يوم.

– نعم، فإني كل يوم «أشاهد معنى حسنه فيلذ لي»، ولكن نحن السراري والجواري نعد هنا بالعشرات والمئات وكلنا جميلات، وهو مع ذلك قليل الاكتراث بنا جميعًا وخصوصًا بي، مع أن نظري لا يقع عليه مرة حتى أنتفض «كما انتفض العصفور بلله القطر».

– ما أشد حبك وأعظم تعلقك مهرى …! بمثل هذا الحب تعلقت بصلاح الدين بك منذ شهرين، واشتد بكِ الوجد والهيام إلى درجة أن دبت في قلبي عقارب الغيرة، ثم صرتِ هائمة بحب السلطان، وسنرى إذا كان لهذا الحب دوام.

– ما الحيلة يا عزيزة … وقد حكم علينا الدهر بهذه المعيشة؛ فلا بد أن يتعلق قلبنا بشيءٍ سواء كان أهلًا له أو لم يكن … تذكرين القصة التي قصتها فاطمة قادين على مسامعنا … أتظنين أن تلك المسكينة أحبت ذلك الباشا السمين الغليظ الكبد الذي مات متخومًا؟

– فأجابت عائشة: وا حسرتاه … لقد كانت ولادتي سببًا لورودها حتفها، وهذا سيكون شؤمًا عليَّ كل أيام حياتي، ولم تتم عائشة هذا الكلام حتى صاحت مهرى هانم مذعورة؛ لأنها لمحت عيني رجل ينظر إليهن من خلال سياج الورد كأنه يتلصص لسماع حديثهن، وانذعرت القادين من رقادها الهني، فقامت تنظر من ذا الذي تجاسر أن يرسل نظره إلى الحرم السلطاني.

•••

وكان صلاح الدين يمر كل يوم من ذلك المكان، فيلقي من فوق السياج باقة من الزهر الجميل إلى عائشة مليكة قلبه، وكانت العجوز جاهلة أو متجاهلة حادثة الخوخ حتى كتمتها عن الجميع، ولم تخبر بها إلا رفيقتها مهرى هانم الشركسية.

أما صلاح الدين فكان قد أباح بسره إلى والدته نعمت هانم، وكشف لها عن لواعج غرامه، وكانت تعرف جميع عائلات الأستانة الكبيرة، فأخذت تسعى منذ ذاك العهد وراء معرفة أصل عائشة هانم التي هام ابنها بحبها، فقصدت جميع العائلات، فلم يهدها أحد إلى خبرها، فسارت إلى الحمامات، وهي — كما لا يخفى في الشرق — جرائد المدينة يقف الإنسان فيها على جميع الحوادث المحلية، وغاسلاتها يعرفن جميلات البلاد أصلًا وفصلًا، لكنها لم تستفد شيئًا. فكلف صلاح الدين صديقه حسنًا بأن يستعلم شقيقته مهرى هانم، فتجاهلت ولم تخبره أمرًا، وأخيرًا عزمت والدته على أن تقصد العجوز فاطمة قادين والدة الفتاة.

فقامت ذات يوم قاصدة سراي «بيكلر بك» متخذة حجة بسيطة، وسألت مقابلة الباش قادين؛ أي رئيسة الحرم، وكانت من أعز صديقاتها، فاقتبلتها بمزيد الأنس والترحاب، فكشف لها نعمت هانم غمتها، والتمست منها أن تسمح لمهرى هانم بمرافقتها إلى بيت عائشة هانم، فأجابتها الصديقة: ابقي هنا إلى ما بعد صلاة الظهر، حيث نتناول الطعام معًا، وسنخرج اليوم جميعًا إلى البستان، وهناك ربما يتسنى لك معرفة ما تريدين من مهرى، أو أننا نخرج بحجة النزهة إلى كرم العنب، فتذهبين إلى بيت عائشة وهي كما لا يخفاك جارتنا؛ فقبلت نعمت هانم هذه الدعوة بمزيد الشكر والامتنان.

ولم يكن مدعوًّا إلى تلك النزهة إلا نعمت هانم، فخرجن إلى البستان، وجلست السراري والجواري على شكل دائرة منتظمة، ولما كانت مهرى قد امتازت عنهن بمعرفة ضرب القيثارة وبالصوت الرخيم طلبن إليها جميعًا أن تطربهن.

وكانت جميع السلطانات في جهة أخرى من البستان يفرق بينهن وبين السراري فرقة من الخصيان. فلما فرغت مهرى من توقيع ألحانها صفقن لها وامتدحنها، واغتنمت نعمت هانم الفرصة فتقدمت إليها، وأطنبت في الثناء عليها، ثم أخذتها بيدها ممازحة، وساقت الحديث إلى صديقتها عائشة، فأجابتها مهرى بكل صراحة وحرية ضمير على ما تريد، لكن لم تلبث طويلًا حتى صمتت ولم تنبس ببنت شفة. فقالت لها نعمت هانم: لِمَ هذا الصمت يا حبيبتي؟ وأنت تعلمين بأن ابني هائم بحب تلك الفتاة، ويريدها زوجة له، أيوجد سر غامض في ذلك البيت؟

فأجابت مهرى متنهدة: نعم.

– أرجوك إذن يجب إطلاعي عليه؛ نعم، إن ابني لا يهمك أمره، ولكن لي الأمل ألا تخيبي رجاء والدة ابنها هو وحيدها وفلذة كبدها، فأستحلفك بحرمة والدتك ألا تخفي عني شيئًا؛ لأن عليها تتوقف سعادة صلاح الدين، وعليه تتوقف سعادتي وحياتي.

– لا أعرف لي أمًّا، فإننا نحن الشركسيات لا نعرف لحب العائلات والوالدات معنى، وأرجوك أن لا تلحي علي بالأسئلة؛ إذ لا يمكنني الجواب.

فصمتت نعمت هانم برهة حزينة كئيبة، وقد أثر فيها الكلام، فقالت لها مهرى: لا غرو أن أدهشك كلامي، ولكن متى عُلم السبب بطل العجب: إني غائرة من عائشة.

– كيف ذلك؟ إذن أنت تحبين أيضًا صلاح الدين.

– لا كنت قد أحببته قبلًا، وأما الآن فقد تخليت عنه لعائشة وحدها، وخلفه في قلبي آخر لا أبدله بأحدٍ في العالمين وروحي وحياتي فداه.

– أتحب عائشة يا ترى ذلك الآخر؟

– كلا هي لا تحبه … وإنما قد استلفتت أنظاره، وهذا كافٍ لإيقاد نيران غيرتي؛ لأنها متى عرفته لا تستطيع الثبات أمامه.

– إذن يوجد طريقة سهلة للتخلص منها، وهي أن يتزوج صلاح الدين بها، فيخلو لكِ الجو وحدكِ.

– لا … يجب تأجيل هذه الزيجة إلى أجل ما؛ حبًّا بصالح عائشة وصالحي.

– هذا لغزٌ معمي يعسر عليَّ حله … ولكن من يقدر يا ترى على معاكسة هذا الاقتران؟!

– أنا …

فكادت نعمت هانم تتميز غيظًا من هذه القحة، فصاحت بمهرى يظهر أنك قد نسيتِ كونك جارية، فتجاسرتِ على مثل هذا الكلام، ثم ذهبت إلى صديقتها الباش قادين وقصت عليها الحديث، وقالت لها: تحذَّري من هذه الفتاة.

– خففي عنك، فإني سأعيد إليها صوابها … ولكن اغتنمي الآن فرصة وجودك، فسيري إلى البستان المحاذي الخاص بعائشة هانم، واستخبري عما تريدين منها رأسًا … إذ لا أخالها تخفي على والدة محبها شيئًا.

فقامت نعمت هانم للحال مسرعة إلى البستان فدخلته، فلم تجد إلا جارية سوداء وبعض السيدات يتنزهن، فسألتها: من هي صاحبة البستان من الخواتين؟

– لا نعلم، فلم نجد فيه أحدًا لما دخلناه.

فرأت نعمت هانم بيتًا صغيرًا في آخر البستان، فقصدته، وقرعت الباب فوجدته موصدًا، فعادت بخفي حنين.

وإذا بها التقت برجلٍ طاعن في السن يظهر عليه من ملابسه أنه أحد الخدم، فسألها: ماذا تريدين هانم أفندي؟

– كنت أرغب في مقابلة عائشة هانم.

فنظر إليها الخادم نظرة المرتاب، وقال لها: لعلكِ تكونين من السراي؟

– كلا، لست إلا زائرة، وأنا مقيمة في «أورطه كي».

– أأنتِ والدة صلاح الدين؟

– نعم، أنا نعمت هانم.

– بارك الله فيكِ … خرجت مولاتي هانم أفندي ووالدتها هذا الصباح، ولا يرجعان إلا بعد خمسة عشر يومًا.

– جُزيت خيرًا.

– أرجوكِ أن تخبري صلاح الدين بك بذلك.

– لا بد … ولكن هل لك أن تفيدني عن سبب هذا التغيب؟

– لا أعلم.

فعادت نعمت هانم إلى السراي فوجدت الجميع في لهوٍ وزهوٍ ورقصٍ وطرب.

وفي ذلك المساء بعينه لما جاءت الباش قادين لافتقاد السراري في أَسِرَّتِهن وجدت سرير مهرى هانم فارغًا، لم يفرش بعد، فاستشاطت غيظًا، وقد وهمت أن مهرى خالفت النظام، لكن لما سألت الخصي قال لها: إن السلطان قد استدعاها.

فقلب هذا الالتفات الشاهاني حال مهرى من شيء إلى شيء؛ إذ بعد أن كانت جارية تتزلف إلى الخادم والخصي والجارية والرئيسة أصبحت في ليلةٍ واحدة الآمرة المطاعة يتزاحم من في السراي للتزلف إليها؛ لأنه إذا أسعدها الحظ فحملت يومًا تصبح حالًا من سلطانات آل عثمان …

ولم يعد أحد يذكر عائشة هانم بشيء، كأن سعد رفيقتها مهرى قد حجب سعدها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤