الفصل السابع

صيرورة السرية سلطانة

لا غرو أن تشوق القارئ إلى معرفة الكيفية التي توصلت بها مهرى إلى صيرورتها محظية السلطان عبد العزيز … على أن السبب بسيط:

وإذا أراد الله نصرة عبده
كانت له أعداؤه أنصارا

والحظ إذا ساعد الإنسان أوصله إلى معارج العز والفخار، وهذا رفع مهرى هانم إلى مقام سلطانات آل عثمان بعد أن كانت إحدى جواري والدة السلطان. أما الواقعة فهي أن السلطانات رغبن في يوم قد صحا جوُّه واعتل هواؤه أن يتغذين في بستان بيكلربك، وصادف ذلك النهار أن خرج السلطان إلى نفس البستان، ودخل في أحد الكشكات الجميلة المتفرقة في أنحاء الحديقة، وقد التفت حوله الأشجار الكثيفة والرياحين والأزهار بأبهى مشهد وأحسن منظر.

ولم يكن السلطان في تلك الساعة مهتمًّا بتسريح طرفه في تلك المناظر البهجة التي يحق له أن يفاخر بها ملوك الأرض طرًّا. بل كان واقفًا وراء ستار حريري مرسلًا بنظره إلى الطريق كأنه ينتظر مرور شخص تهمُّه معرفته، فبعد أن انتظر قليلًا عيل صبره، فالتفت إلى خصيه ونديمه الخاص وقال: قد بكرنا بالمجيء فحرارة الشمس لاذعة، ولا أظنهما تخرجان الساعة.

– كلا بل قد خرجتا مثل هذه الساعة الاثنين الفائت.

– وهل أنت واثق أنهما غاية في الجمال والبهاء، وأنهما تحبانني؟

– نعم، إنهما غاية في الحسن ونهاية في الجمال، وإن إحداهما صرَّحت بهيامها بجلالتك.

– وهل أنت واثق من أنها صرحت بذلك عفوًا من غير قصد ولا أمل أن يسمعها أحد فينقل كلامها إلي.

– نعم، باغتها تبوح بسرها همسًا إلى رفيقتها دون أن تراني أو تشك بي.

– كنت أحب أن أسمع هذه النجوى بأذني، فقد سمعت النساء كثيرًا يقسمن بحبي، لكن لا أعرف إن كن يبحن بحقيقة ما يضمرن.

– ولكن هذه مولاي من حرم جلالة السلطانة الوالدة.

– وكيف لم ألمحها حتى الآن؟

– يصعب تمييز الجمال متى كثر … ولكن ها هي قادمة لتفتح الباب الصغير لصديقتها وجارتنا.

– فأطل السلطان فوجد عائشة قد دخلت وطوقتها مهرى بذراعيها فتعانقتا طويلًا، ثم دخلتا البستان سوية فنادى السلطان الخصيان أن يتبعوه، وكان كلما سار خطوة وقف يلهث من التعب؛ لشدة سمنه وضخامة جثته، لكنه كان على الرغم من ذلك باقيًا لذلك العهد جميل الصورة بهي الطلعة مهاب المنظر، فلما وصل إلى أمام الباب تقدم إلى الطريق، وعاد على أعقابه غاضبًا مذعورًا، فصاح الخصي: ما بال جلالتك؟

– لسنا وحدنا في القنص.

فتقدم الخصيان فوجدوا فارسًا مرتديًا حلة ياوران واقفًا ينظر إلى الفتاتين المتعانقتين، وكان هذا الفارس صلاح الدين، فلما أبصرته مهرى ورأت السلطان يباغتهما أيضًا أفلتت يدها من صديقتها، واحتجبت وراء غيضة ترتجف خوفًا، وما إن لمحت عائشة صلاح الدين حتى تقدمت إليه ومدت له يدها فقبَّلها مرارًا، ثم اتكأت على حصانه، وكشفت نقابها عن محياها الجميل تبسم له، وقد رقص فؤادها طربًا.

فوقف السلطان خمس دقائق ينظر إلى ذلك المشهد الحبي الذي لم يكن قد شاهده من قبل، ولربما أخذته الغيرة من صاحبه، وحسده على حبه وشغف قلبه بحبيبته، وقد لمحت مهرى ذلك فكادت تذوب غيرةً وحسدًا.

ثم أقفل السلطان الباب بعنف قائلًا: أهكذا تُثقَّف بناتنا المسلمات وأولئك الشبان الذين نرسلهم إلى أوروبا، هم الذين يحملون إلينا هذه العادات المذمومة، ويسمونها التقدم والمدنية فيدوسون شريعتنا المقدسة. قال هذا وسار في طريقه.

فتقدم خصي السلطان الخاص إلى مهرى، وكان قد شاهدها وانتهرها قائلًا: أتعرفين «إقبالَ» هذه؟

فانتفضت مهرى عند سماعها هذا الاسم (إقبال) وأجابت: لا أعرف ماذا تعني بقولك هذا؟

– منذ كم من الزمان هذه الفتاة مقيمة في بيكلربك؟

– لا أعلم بالتمام.

– أخطيبة صلاح الدين بك هي؟

– لا أظن.

– كيف لا تظنين، أنت صديقتها وخليلتها وموضع سرها، وتجهلين هذه الأمور كلها؟

فصمتت مهرى ولم تجِب بحرف. فقهقه الخصي وقال: من الحمق سؤالك؛ لأني عالم بكل شيء، ثم تركها وانصرف.

فوقفت مهرى مبهوتة تنظر إلى ما حولها مفكرة بما شاهدت وما سمعت، وظنت أنها في منام وقد تجاذب قلبها عاملان؛ الصداقة والغيرة؛ إذ إن كلمة واحدة منها كانت كافية لهلاك صديقتها أو لنجاتها، لكن غلبت الصداقة الغيرة، فاستدعت إحدى جواريها المخلصات لها، وقالت لها: أتحبينني يا زعفران؟

– لِم هذا السؤال مولاتي؟

– أريد منكِ القيام بخدمة هامة.

– مري بما تريدين.

– يجب أن تعديني بكتمان السر.

– ثقي واطمئني.

– يجب أن تكوني حريصة. ارتدي ملاءتك بالعجل، وخذي غرشًا بيدك، فإذا سألك أحد إلى أين تخرجين أجيبي أنك ذاهبة لمشترى حلوى.

– وبعد ذلك.

– فإذا وصلتِ إلى طريق بيكلر بك المؤدية إلى تشماليجة تيممين بستان فاطمة العجوز.

– والدة صديقتك عائشة.

– هي بعينها فتدخلين عليها، وتهمسين في أذنها قائلة: أرسلتني مهرى إليك لأخبرك بأن الخصي عليًّا عالم بكل شيءٍ، وبوجودك في بيكلربك.

– أهذا كل ما تريدين؟

– نعم، أتذكرين ما قلت؟

– نعم أذكره جيدًا.

– العَجَل العَجَل يا عزيزتي، وإذا صرتُ يومًا ما سلطانة …

فوقفت الجارية وقالت: ماذا تعملين لي …؟

– أتحفك بالهدايا والعطايا … العَجَل العَجَل.

•••

وبقي السلطان ذلك النهار بطوله مقطب الوجه، لا شيء يسرُّه ولا المملكة تشغله، فلما غابت الشمس وطلع القمر يرسل أنواره اللجينية على مياه البوسفور، وقد سكن الهواء، وساد السكون قام السلطان إلى شرفة قصره، واتكأ على الحاجز الحديدي مسرحًا طرفه في ذلك الفضاء، فانتعش فؤاده وارتاحت نفسه، وإذا به يسمع صوتًا حنونًا رخيمًا ساعده سكون الهواء على سماع إيقاعه وألحانه وكلامه جميعًا، فرقص له فؤاده طربًا واهتزت جوارحه، وكانت الأنشودة غرامية صادرة عن قلبٍ قرَّحه الحب وبرَّحه الشوق، فانتصب السلطان وكاد يقطع أنفاسه كي لا تفوته نغمة من أنغامه، ثم نادى خصيَّه وقال له: تعال واستمع. ما هذا الغناء في البستان؟

– لا بد أنه صوت جارية من جواري حرم والدة جلالتك، فقد دعت السلطانات هذا المساء للعشاء في البستان.

– اذهب وجئني بها فقد أعجبني غناؤها.

وانقطع الصوت، فقام الخصي مهرولًا إلى أعلى البستان امتثالًا لأمر مولاه، فوجد السراري جميعًا قد أحطن بمهرى إحاطة الهالة بالقمر، وقد ظللنها بالأزهار والرياحين لحُسْن غنائها، فلما أطل الخصي صِحْن به جميعًا تعال واستمع غناء مهرى، فأجاب: صوتها أرخم من بعيد.

– لا لا هو أرخم بكثير من قريب.

– تعالي مهرى لنذهب إلى ما وراء هذه الغيضة فيتحققن قولي، فصِحن جميعهنَّ لا بأس اذهبي يا مهرى، وسنبقى نحن هنا لنرى من المصيب.

فأخذ الخصي بيدها وسار بها قاصدًا الكشك الذي كان السلطان بانتظارها فيه، فلما ابتعدا قليلًا خافت مهرى من طروء أمر ما، فقالت للخصي بصوت مرتجف إلى أين تقودني؟

– جلالة «البادشاه» يرغب في سماع غنائك، فأفرغي الجهد في الإجادة، فلما وصل إلى أمام الباب دفعها أمامه، وقال: هذا هو الكناري يا مولاي.

فلم يتمالك السلطان من إخفاء إعجابه بجمال تلك الغادة الهيفاء، وقد صبغ الحياء وجهها فزادها جمالًا، وكانت القيثارة ترتجف بين يديها، فقال لها السلطان متلطفًا باسمًا ادخلي يا بنية … لا تخافي، وتناول الخصي وسادة من المخمل وطرحها وراء مهرى قائلًا لها: اجلسي وأنشدي نشيدك المشهور «ذهب العاشق»، فجلست مهرى وقد اصفرَّ لونها وشرعت تنظم أوتار قيثارتها بيدٍ مرتجفة، ولكن لما أرادت الغناء خانها جلدها، فأجهشت في البكاء فدهش السلطان، وقال: الله ما هذه الفتاة؟ وما معنى هذا البكاء؟

فقال الخصي: هذه هي مهرى الفتاة التي شاهدناها مع صديقتها هذا الصباح في البستان، ثم همس في أذنه: وهي الهائمة بحب جلالتك.

فحدق السلطان بها وزاد إعجابه بجمالها على إعجابه ببكائها، والنساء أشوق ما يكنَّ إذا بكين، ثم أخذ في ملاطفتها حتى ثاب إليها وعيها، فبدأت بنشيدها المذكور بصوت مطرب خارج من صميم فؤادها، فاهتزت له جوارح السلطان طربًا ورقص فؤاده فرحًا وأخذه الهوس، فتناول من خنصره خاتمًا كريمًا على فص من حجرٍ ماس كبير، وتناول مهرى وألبسها إياه بيده، فقبلت طرف ثوبه وهي لا تكاد تصدق ما هي عليه …

•••

وأخبر في الغد الخصي رفقاءه بهذه الحادثة، وختمها قائلًا: هكذا تصير السرية سلطانة …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤