الفصل التاسع

حمامتان

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا
ويأتيك بالأخبار من لم تزود

فقالت: أي ولدي العزيز؛ عدني ألا تتألم مما ستسمعه، وأن تعتصم بالصبر الجميل، وتستسلم إلى القدر متكلًا على الله المتعال … أنت تعلم أن لا شيء كان أحب لدي من أن تراني اليوم مقدمة لك حبيبتك قائلة: هذه يا صلاح الدين خطيبتك، قد عاشت في حرم والدتك، وبعنايتها ربيت، وهي لا تزال طاهرة نقية كالثلج … ولكن:

ما كل ما يتمنى المرء يدركه
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

ذهبتُ في غد سفرك إلى بايكوس، وبلغت فاطمة وعائشة امتثالك للأمر الشاهاني، وأمر بعثتك إلى باريس ورجوعك قريبًا منها … ولا أخفي عليك أني دُهشت لما شاهدت ذلك الجمال البارع الذي ازدانت به عروسك، وزدت بها حبًّا لما رأيتها تذرف الدموع السخينة عندما بلغها خبر سفرك الفجائي، واشتداد حزنها لغيابك وبعادك … وكنت أتردد إلى بايكوس المرة بعد المرة لا يصحبني إلا ظئرك (مينور) التي تعرف إخلاصها لنا، وأما صديقك حسن بك الشركسي فكان أولًا قليل التردد على بايكوس، ولا أعرف بأية صدفة التقى بعائشة يومًا من الأيام في «السلاملك»، أما هي فاحتجبت بسرعة، ولم يلحظها هو إلا لحظة واحدة كانت كافية لأن تشعل قلبه حبًّا وهيامًا بها، فأكثر حيئنذٍ من ترداده؛ وهذا هو السر عندي في تظاهره بصداقة أحمد، وكان يجيء كل مرة بحجة أنه مرسل من قبل شقيقته السلطانة مهرى للسؤال عن عائشة حاملًا لها الأزهار المختلفة والأثمار المتنوعة، ثم حمل إليها مؤخرًا بعض الحلي الثمينة، فأدركت فاطمة هانم السبب فرفضتها، وأظهرت له عائشة الجفاء بعد ذلك حتى اضطرته إلى الانقطاع عن الذهاب إلى بايكوس.

وكان المرض قد بدأ ينخر فاطمة هانم يومًا بعد يوم، وشعرت هي بدنو أجلها، فكانت تقول لي مرارًا: «آه … لو كان على الأقل صلاح الدين بك هنا!»

ثم جاءني أحمد في صباح شهر أغسطس مذعورًا، وقال: اشتد المرض على فاطمة هانم فأرجوك العجل. فهرولت إلى بايكوس مسرعة فوجدتها تحتضر، أما هي فجمعت قواها الخائرة لما أبصرتني، وحاولت أن تسند رأسها وقالت لي: عائشة … عائشة أرجوك العناية بها … احرصي عليها من عليَّة سلطانة … وانطرحت عائشة عليها تبكي وتنتحب، فقبَّلتها فاطمة قبلة لفظت بها روحها الكريمة. وللحال اجتمعت نساء الجيرة، وبدأنَ يصحنَ ويولولن، وعائشة تزيد في البكاء والنحيب، وقلت لظئرك أخيرًا أن تضع ملاءة وفراجية على فاطمة لأعود بها في الحال.

وفيما نحن على ما سمعت، وإذا بعربة وقفت أمام الباب، ودخل علينا خصي هائل في الكبر، وشق الجمع بيديه مناديًا: سمو السلطانة عليَّة … فلما سمعت هذا الاسم اضطربت حواسي، وخِفت من أمرٍ مفاجئ، واختبأت عائشة ورائي، واختفى أحمد وراء الجميع، فتقدم الخصي وهو عليٌّ اللعين إلى فراش الميتة، وقال: فاطمة هانم؛ سمو السلطانة علية شرفتك بزيارتها، فأجابته النسوة: هي ميتة.

فصاحت السلطانة مذعورة: ميتة …! إلى أين قدتني يا علي؟! تعالَ نخرج سريعًا فقد أخافني هذا الموت. أما الخصي فكان كالغراب الذي لا يلذ له إلا نهش لحوم الأموات، فأخذ يدير ألحاظه بين الحاضرين حتى وقع على أحمد فعرفه، فتقدم إليه غاضبًا وأمسكه بعنقه، وتقدم به إلى السلطانة قائلًا: هذا هو أحمد الخائن قد شاب شعره منذ ست عشرة سنة، ولكن لم يزل على خبثه، وأحمد الذي تعرف سكون جأشه في الملمات ضاع هداه في تلك الساعة أمام السلطانة، وموت فاطمة، وذلك المشهد الرهيب، فقالت السلطانة: نعم هو هو بعينه قد عرفته الآن، وهو الذي ساعد سيده على خيانتي، ثم سألته: أين بنت محمد باشا؟ وماذا فعلت بها …؟

فأجاب دون أن يرفع رأسه: قد ماتت.

فصاحت السلطانة: كيف ماتت وهي في زهرة شبابها، ومقتبل عمرها، وخطيبة صلاح الدين؟

– نعم ماتت، ولا أعرف كيف.

أما النساء الحاضرات فلم يفهمن شيئًا من هذا الحديث، وكان عليٌّ يحدق بنظره إلينا ليعرف أين عائشة؛ لأنه لم يرَها إلا مرة، وكان نقابها كثيفًا، فلم يعرفها، وكدنا نخلص من ذلك المركز الحرج. وقد أمَّلتُ أن كذبة أحمد تنجينا، ولكن لا نصير إذا لم ينصر القدر.

فإنه لما يئس من الحصول على نتيجة من أحمد تضايقت السلطانة وهمت بالخروج، ولكن لم تصل الباب حتى كان السلطان قد أنفذ رجلًا خرَّب جميع ما بنيناه من الآمال. فصاح الخصي: أهلًا وسهلًا بحسن بك، تعالَ وانظر ما حصد الموت.

فانحنى حسن تسليمًا للسلطانة، ثم قال: نعم، عرفت الساعة بوفاة فاطمة هانم، فهرولت مقدِّمًا خدماتي إلى عائشة هانم التي خان خطيبها عهدها.

فصاح صلاح الدين: يا للخيانة! فقالت له والدته: مهلًا يا ولداه، اسكت ريثما تعرف النتيجة، فلما رأيتُ وعائشة حسن بك عرفنا سوء المصير، ونظر إلينا أحمد نظر الأسيف البائس، ووقفت السلطانة تنظر ماذا يكون؟ فقال علي: إذن كذب هذا الخائن بقوله إن عائشة قد ماتت، فأجاب حسن: لا وألف لا، فقد أكد لي بعض الجواسيس أنهم شاهدوها بالأمس في هذا المكان، وهي لا تزال حية ترزق. فتقدم الخصي إلى أحمد ولكمه بجمع يده قائلًا: أما ترى كذلك أيها الخائن الماكر؟ فأجاب أحمد: لم أقل إلا الحق … فأجابه حسن بحنقٍ: كذبت وخسئت أين أخفيت عائشة، قل أين هي الآن وإلا قتلتك في الحال، وألقيتك في السجن حيث تلاقي من أنواع العذاب أشكالًا وألوانًا، فأجابه أحمد: افعل ما تشاء، فلا أعرف أين هي. فضحك حسن وقال: إني في غنًى عنك، ثم تقدم إلى الباب ونادى امرأة فاقتربت وإذا بها سنية خادمتنا التي طردتها منذ مدة، فقال لها: تعالي وأخبريني من هي مولاتك ومن هي عائشة. فلما سمعت النساء الحاضرات هذا الكلام استولى عليهن الرعب؛ فانذعرن وانفلتن من كل جهة، فحاولت الفرار وأمسكت بذراع عائشة لتتبعني. وإذا بالخادمة تقدمت إلينا وقالت مشيرة إليَّ هذه نعمت هانم وهذه عائشة وراءها. وللحال تقدم حسن إلى الباب ومنعنا من الخروج، فصعد الدم إلى رأسي، وكدت أتميز من الغيظ، فصحت بصديقك: ابتعد يا خائن، بأي حق تمنعني عن الخروج؟ فأجاب متظاهرًا بالاحتشام: لا أريد هانم أفندي منعك بل منع الهانم التي معك.

فقلت: هذه ابنتي وخطيبة ابني صلاح الدين بك وهي في حماي.

والويل لمن يمسها، فأجابني الخصي: سهي عن بالكِ هانم أفندي أن سمو السلطانة مشرفة هذا المكان، وأن عائشة هي ابنة إحدى جواريها ومن صلب زوجها محمد باشا، فهي إذن تخصها. فقلت: ولكن ستصير زوجة لابني، فقاطعني حسن الكلام ساخرًا ستصير ولكن لم تصِر بعد، فمتى عاد صلاح الدين بالسلامة يمكنكِ طلبها من سموها إذا سمحت بها.

فقالت عائشة حيئنذٍ: لا أريد الذهاب مع هذه السلطانة، فقد خضبت يديها بدم والدتي.

فأجابها الخصي: هي جنت على نفسها بخيانتها، فصحت حينئذٍ: سيجزيكم الله على أعمالكم، وشعرت من نفسي بقوة للنضال، ولكن أنَّى لنا ذلك ونحن امرأتان مع عجوز ضد رجلين، وقد تجمع خدم السلطانة فملئوا البيت لما سمعوا صياحنا، فالتفتت السلطانة إلي وقالت: تهديدك لا يفيدك، ثم أدارت وجهها إلى الخدم وقالت: احملوا هذه الابنة، فهجموا علينا كالذئاب الخاطفة، وحاول أحمد إنقاذنا، فأمسكوه وقيدوه، ونزعوا من بين يدي عائشة قهرًا وجبرًا، وأنا أصيح ولا معين، وأستغيث ولا مجير، أخيرًا خانتني قواي فأغمي علي، ولم أعُد أعي ما حدث، ولكن لما أفقت وصحوت من إغمائي وجدت نفسي وحيدة مع الميتة؛ فاستولى علي الرعب وقمت في الحال مهرولة إلى الطريق مسرعة إلى الشاطئ، وركبت، كَذَات جِنَّةٍ، زورقًا حتى وصلت إلى أورطه كي، وتولاني الحزن والكآبة، وذهب أبوك في الغد إلى السراي يريد الاستئذان بالدخول على السلطان، فلم يؤذن له وأشار عليه أصدقاؤه أن يترك المسألة ريثما تعود من غيبتك، وزد على ذلك أن لا أحد يتجاسر الآن أن يشكو من حسن بك وهو نديم السلطان وشقيق السلطانة مهرى التي امتلكت قلبه، واستولت على لبه، وهي الآمرة المطاعة. أما عائشة فقد تمكنت مع ذلك من الكتابة إلي وهي التي أخبرتني بأن أحمد مسجون في أيك سراي جزاء أمانته لمولاته، والذي أعرفه وأنا واثقة منه أن عائشة لا تزال على حبك وعهدك، وبانتظار رجوعك … ولكن فهمت أيضًا أن حسنًا سيقترن بها عن قريب جزاء خيانته … هذا ما جرى في أثناء غيابك يا ولداه، وهذا هو السبب الذي من أجله لم ترَ عائشة هذا المساء في هذا المكان.

فالتفت حميد باشا والده، وقال له: وماذا تقول في هذا كله؟ وماذا يحدث من جراء ذلك؟

فأجاب صلاح: أقول إن قطرة واحدة تكفي أحيانًا لأن يفيض الكأس، وأن عدالة الشعب يد قوية كافية لسحق الملوك وكئوس مسراتهم وبطرهم …

هي الدنيا تقول بملء فيها
حذار حذار من بطشي وفتكي
فلا يغرركم مني ابتسامٌ
فقولي مضحكٌ والفعل مبكي

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤